مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه أَرُوني‏ ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللّه يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَليماً غَفُوراً (41)

 

قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون اللّه... الآية الكريمة تؤكد على توحيد الربوبية، وأن اللّه الذي خلق السماوات والارض هو ربها ورب كل شيء، فاعبدوه ولا تعبدوا غيره. ويخاطب المشركين الذين يتوهمون ان الاصنام بما انها مثل للارواح العليا فهي الرب وهي المعبود وهي شركاء اللّه في ربوبية الكون.

 والاستدلال في الآية يبتني على ان الرب هو الخالق، لان الربوبية من التربية، فهي ليست الا تربية المخلوق، وتنميته، وتكميل خلقه، وتطويره، فهو في حد ذاته مرحلة من الخلق واكمال له، فيسأل المشركين أرأيتم شركاءكم؟ وهذا التعبير تمهيد وتوطئة لتوجيه السؤال المتعلق بالشركاء كقوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ الَّذي تَوَلَّى * وَأَعْطى‏ قَليلاً وَأَكْدى‏ * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى...) النجم: 33-35 ومثله كثير‏. واضافة الشركاء اليهم باعتبار انهم يعتقدون مشاركتهم للّه تعالى في الربوبية، وتكفي في الاضافة أي نوع من الارتباط.

ثم انه وصف الشركاء بانهم يدعونهم من دون اللّه تعالى، وهذا من غرائب امرهم فهم يدّعون مشاركة هذه الاصنام للّه تعالى في الربوبية، ولكنهم حين الدعاء والتضرع والعبادة يدعونهم من دون اللّه، اي لا يدعون اللّه وانما يدعون اصنامهم لانهم يزعمون ان الخير والشر بأيديهم.

أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السماوات... السؤال الموجّه اليهم له ثلاث مراتب: ففي المرتبة الاولى يسألهم: أروني ماذا خلقوا من الارض؟ والظاهر أن تقديم أروني في هذه المرحلة من جهة أنه سؤال عن أمر محسوس، فلو كان لهم مخلوق في الارض لرأوه، ولو رأوه لأمكنهم إراءته لغيرهم. ولا يبعد أن يكون المراد بالارض العالم المادي بأجمعه لا خصوص الكرة الارضية وما عليها.

وفي المرتبة الثانية يسألهم: أم لهم شرك في السماوات؟ و(أم) هنا منقطعة فهو اضراب واستفهام، اي ان لم يخلقوا شيئا من الارض فهل لهم شرك في السماوات؟ ولا يبعد أن يكون المراد بها عالم الامر وما وراء الطبيعة. وبذلك يكون هذا السؤال مرحلة متقدمة بالنسبة للاولى. ولم يعبر هنا بالخلق لانه في مرحلة الامر والتدبير العلوي، وليس المراد أنهم خلقوا شيئا من السماوات، بل ألهم أي مشاركة في عالم الامر والتدبير؟ ولذلك أتى بالنكرة (شرك) أي أدنى مشاركة.

والسؤال في هاتين المرتبتين يبتني على أنهم يعلمون شيئا من ذلك، فيمكنهم اراءة شيء من المخلوقات في الطبيعة يمكن اسناد خلقه الى الاصنام، او الى ما تمثله الاصنام من عالم آخر كما يزعمون.

أم آتيناهم كتابا فهم على بيّنة منه... يأتي بعد ذلك السؤال في المرتبة الثالثة، وهو أنه اذا لم يكن لكم علم بذلك فهل نزل عليكم كتاب من عند اللّه تعالى يخبركم بشيء من ذلك فانتم على بينة منه؟ وقوله (منه) للتعليل، اي فهم على بينة من امرهم بسبب ذلك الكتاب.

والبيّنة صفة لموصوف محذوف أي حجة بينة وواضحة او جادّة بيّنة وطريق بيّن. وكونهم على حجّة بمعنى أنهم يمشون في طريقهم مستندين عليها، وكونهم على طريق بيّن بمعنى أن طريقتهم واضحة لا شبهة فيها. والآية تدلّ على أن الامور الاعتقادية التي ترتبط بالربوبية لا يمكن أن يستند فيها الى الظنون، بل لا بدّ من كون الحجّة بيّنة واضحة.

بل ان يعد الظالمون بعضهم بعضا الا غرورا... (بل) للاضراب، ونفي ما سبق أي لا يمكنهم اراءة شيء مخلوق للاصنام او ما تمثله الاصنام، ولا يمكنهم القول بانهم يشاركون اللّه تعالى في خلق الكون وتدبيره، ولم ياتهم كتاب من اللّه تعالى، اذن فما يتواعدون به من شفاعة الاصنام، وأنّ الخير بأيديهم ليس الا غرورا وخداعا. وهذه طبيعة البشر اذا لم يصل الى الحقيقة او لم تعجبه، تشبّث بالاماني والآمال الكاذبة، فتجده يخدع بها نفسه وغيره، ومن هنا تنشأ العقائد والمذاهب الفاسدة.

ولعل المراد بالبعض الذي يعد، الكبراء والرؤساء، وبالموعودين العامة. ويمكن أن يراد بهما الجميع بمعنى أن كل واحد منهم يعد الآخر باعتبار أن هذا من عقائدهم التي يتوارثونها ويتداولونها ويدافعون بأجمعهم عنها.

ان اللّه يمسك السماوات والارض ان تزولا ولئن زالتا ان امسكهما من احد من بعده... يحتمل ــ كما في الميزان ــ ان تكون الآية الكريمة احتجاجا على توحيد الرب والاله بدليل احتياج العالم الى الخالق في بقائه، حيث ان الوثني يقبل وحدة الخالق وانه اللّه تعالى، والكون كما يحتاج في حدوثه الى الواجب المبدع كذلك يحتاج في بقائه الى ايجاد بعد ايجاد. والامساك بناءا على هذا بمعنى الحفظ.

والمراد بقوله تعالى (ان تزولا) اي كراهة ان تزولا ويمكن ان يكون الامساك بمعنى المنع ــ كما قيل ــ فالتقدير يمنعهما عن أن تزولا، والمراد بالزوال الفناء والانعدام. وبناءا على هذا الاحتمال فالمراد بقوله تعالى (ولئن زالتا..) الاشراف على الزوال، اذ لا معنى للامساك بعد الزوال.

ويحتمل ان تكون الآية احتجاجا على توحيد الرب بصيانة السماوات والارض من الانحراف وتغيير المسار، فكل كوكب يسير وفق المنهج المخطط له، وفي الفلك الذي حدد له، ولا شك ان الزوال عن هذا المسار المحدد يسبب الكارثة النهائية للكون، فاللّه تعالى هو الذي حفظ الكون بالامساك على كل كوكب في مساره المحدد، وكثيرا ما تنبأ المنجمون بارتطام كوكب او صخرة فضائية بالارض تحدث به نهاية الحياة على هذا الكوكب، ولكن لم يحدث ما تنبأوا به بفضل اللّه ورحمته.

وبناءا على هذا الاحتمال لا حاجة الى تاويل قوله تعالى (ولئن زالتا..) بل يبقى على ظاهره فالمراد ان السماوات والارض اذا زالتا وانحرفتا عن مسارهما فلا احد يمسكهما ويعيدهما الى المسار الصحيح. وهو استدلال على ربوبية الكون بان الخالق هو الذي يقدر على ذلك لا غيره، فهو رب الكون الحافظ له. وهو استدلال واضح.

ويؤيد هذا الاحتمال قوله تعالى (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) سورة الحج: 65. فان المصرح به هنا امساك السماء عن السقوط على الارض.

والسماوات وان كان في بعض الموارد يراد بها ما وراء الطبيعة، ولكن لا يبعد ان يراد بها هنا الكواكب الاخرى غير الارض، وان كان الحمل على المعنى الاول ايضا لا ينافي ما ذكر، باعتبار ان العوالم الاخرى ايضا لها مسار محدد نحو الكمال، واللّه تعالى يحفظها من الانحراف.

و(من) في قوله تعالى (من احد) زائدة تفيد تأكيد شمول النفي، فليس هناك احد يتمكن من حفظ السماوات والارض الا ربّ العالمين.

والظاهر ان الضمير في قوله (من بعده) يعود اليه تعالى. وليس المراد البعدية الزمانية فيستغرب التعبير، بل هو بمعنى (غير) كقوله تعالى (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللّه وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) الجاثية: 6. وقوله تعالى (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) يونس: 32.

انه كان حليما غفورا... ظاهر الجملة التعليل فلا بد من كونه تعليلا لبعض ما ذكر في الجملة السابقة. والظاهر انه هو نفس امساك السماوات والارض، فالمعنى ان اعمال العباد وان اقتضت ان لا يمسكهما اللّه تعالى كما قال سبحانه (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا) مريم: 90 ــ 91 الا انه لحلمه، وتاخيره العقوبة، وغفرانه للعباد يمسكهما، ويؤخرهم الى اجل مسمى، فيكون بذلك مطابقا لآخر آية في هذه السورة المباركة، ومثله قوله تعالى (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) الحج: 65.