مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

 

ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا... لعلّ مناسبة الآيات لما سبق التنديد بالذين كفروا حيث أمروا جهّالهم بأن يلغوا حين تلاوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم للقرآن، وهو يدعو الى الله تعالى. والجملة استفهام في معنى الانكار اي لا أحد أحسن قولا...

ومهما كان فالآية تحثّ على الدعوة الى الله تعالى مع العمل الصالح، لانّ الدعوة اليه تعالى هو أحسن القول، وأحسن ما يصدر من الكلام، وهو وظيفة الانبياء والرسل. والسبب في كونه أحسن القول واضح، لأنّه مضافا الى كونه عبادة لله تعالى بذاته يتسبّب في هداية الناس، وإيصالهم الى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة بالايمان بالله تعالى.

والقول هو ما ينطق به الانسان لابراز ما في ضميره، وبه ينشر البشر علومه ومعارفه، وبه امتاز البشر على ما عداه من الحيوان، وهو الموجب لتكامله وتطوره، ولولاه لبقي كل انسان يعيش تجاربه، وجاء مَن بعده ليبدأ من نقطة الانطلاق، فما كان لهذا الركب أن يصل الى ما وصل اليه. وحيث إنّ أهمّ المعارف والعلوم وأشرفها وأوجبها هو معرفة الله سبحانه فالقول المشتمل على الدعوة اليه هو أحسن الاقوال، وأبلغها فائدة، اذ لا سعادة للبشرية الا باللجوء الى الايمان بالله تعالى وطلب مرضاته.

ولكن هذه الدعوة انما تفيد وتؤثر اذا كان الداعي بنفسه مؤمنا بمحتواها ايمانا عميقا يتجلّى في عمله، والا لكان تأثيره سلبيا، ومنفّرا للناس عن الدين، كما نجده بوضوح في حياتنا.

ولذلك عطف عليه قوله تعالى (وعمل صالحا) فالدعوة الى الله انما يكون أحسن القول اذا انضمّ اليه العمل الصالح.

وقال إنّني من المسلمين... قيل: إنّ المراد ليس هو القول باللفظ بل الاعتقاد، وإطلاق القول على الاعتقاد شائع.

وقيل: إنّ المراد أن يكون مسلما أمرَه لله تعالى فيدل على لزوم كونه مخلصا في دعوته حتى يكون قوله أحسن القول.

ولكن يبقى في الآية التركيز على قول خاص، وهو إعلان أنّه من المسلمين، فليس مفاده مجرد كونه مسلما، سواء بالقول او الاعتقاد.

والذي يبدو لي أنّ المراد التواضع واعتبار الداعي نفسه أحد المسلمين لا يمتاز عليهم بشيء، وهذا أمر هامّ جدّا لتأثير الدعوة في المجتمع. والانبياء كانوا يتحلّون بهذه الصفة الحميدة، فلم يعتبروا انفسهم أفضل من الناس لأنّهم داعون الى الله تعالى، بل كانوا يتواضعون للجهّال من الناس فضلا عن فضلائهم.

وناهيك في ذلك تواضع الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم وأخلاقه الحميدة، وعمق تأثيرها في قلوب الاعداء وكفار قريش فضلا عن المؤمنين.

والآية وان قيل باختصاصها بالرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم إلّا أنّ من الواضح أنّ الحكم فيه عامّ لجميع الدعاة، وفي مقدمتهم الانبياء والرسل والأئمة عليهم السلام ومن بعدهم العلماء والمصلحون.

ولا تستوي الحسنة ولا السيئة... (لا) الثانية زائدة للتأكيد. والمعنى واضح. والغرض الحثّ على حسن التعامل مع الآخرين. والخطاب وان كان للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولكنّ الحكم عام يشمل الناس جميعا، وفي جميع مجالات الحياة، ويتأكّد الأمر بالنسبة للدعاة بصورة عامة، حيث إنّ الآية وردت ضمن بيان الدعوة الى الله تعالى، وأنه أحسن القول فلزم بيان كيفية المواجهة مع أعداء الدعوة.

والمراد بالحسنة والسيئة هنا ما يحدّده العرف في مجال التعامل مع الآخرين، ويختلف باختلاف الحضارات والازمنة والامكنة، فكل ما يستحسنه الطبع السليم في هذا المجال حسن ما لم يمنع عنه الشرع، وكل ما يستاء منه الطبع السليم سيّء اذا لم ينطبق عليه عنوان آخر يوجب حسنه. وللمفسرين اقوال شتى في تحديدهما بما لا دليل عليه.

ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم... اي اذا لقيت ما لا يرضيك في مواجهتك مع الآخرين فادفعه بالتي هي احسن.

وفيه ثلاثة احتمالات:

الاول: أن تلاحظ ما يمكن ان تفعله كردّ فعل في مقابل عمل الخصم فتختار منها أحسنها، فان تردّد الامر مثلا بين أن تقول له (شكراً) وان تدفع له مالا فادفع له المال.

والثاني: أن لا يكون ردّ فعلك إساءة اليه بدلا عن إساءته، بل عامله بما يكون أحسن من عمله، فيكفي الاعراض وعدم التعرض له.

والثالث: أن يكون المراد بالاحسن ما فيه حُسن لا الاحسن من غيره.

والظاهر هو الاول، اذ التعبير بالاحسن لا يناسب اذا اُريد كل ما يقابل الاساءة، اذ الاساءة لا حسن فيها ليكون هذا احسن منها. واما الثالث فهو خلاف ظاهر الصيغة.

وعليه فالمطلوب هو مقابلة الاساءة بالاحسان لتحصل المفاجأة غير المترقبة (فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) والولي هو الصديق. والحميم مأخوذ من الحُمّة بمعنى الحرارة كناية عن غاية قربه وإشفاقه. ولكنه لم يقل إنّ العدو ينقلب صديقا حميما بل يعاملك معاملة الصديق الحميم حيث أتى بحرف التشبيه (كأنّ) والتشبيه يقتضي التغاير.

وهذا أمر غالبيّ، وهناك قلّة من الناس لا ينفع معهم الا المقابلة بالمثل بل الاسوأ. ولذلك لما عفا الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عن كفار قريش في فتح مكة وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، استثنى بعض الطغاة وأمر بقتلهم أينما وجدوا.     

وما يُلقّاها الا الذين صبروا وما يُلقّاها الا ذو حظّ عظيم... الضمير يعود الى ما سبق اي مقابلة الاساءة بالاحسان. والغرض أنّ هذا أمر صعب على الانسان ويتوقف على صبر وكظم للغيظ، وحظّ عظيم من الخلق الرفيع.

ولا يبعد أن يكون المراد بما ورد في الآية الكريمة الاشارة الى عاملين مؤثرين في تحقّق هذه الحالة للانسان:

أحدهما: ترويض النفس بالصبر، و كبح جماحها عند الغضب. وهذا من أصعب الامور كما هو واضح، فالاتصاف بالسجايا الحميدة كلها يحتاج الى رياضة نفسية شاقّة ومريرة، ولكنّ السيطرة على النفس عند الغضب والمفاجئات من أصعبها، بل لعله أصعبها على الاطلاق. ولا يحصل ذلك الا بتوفيق وتسديد من الله تعالى.

ولذلك عبّر عنه بالتلقّي، وأتى بالفعل مبنيا للمجهول، وفاعل التلقية هو الله تعالى. وفي ذلك إشارة واضحة الى أنّ هذه الصفة نعمة يتلقّاها الانسان من الله تعالى.

الثاني: العوامل الوراثية والتربوية. فإنّها تؤثّر بعمق في تكوّن النفس الانسانية، وتخلّقها بالخصال الثابتة. وعبّر عن ذلك في الآية الكريمة بالحظّ العظيم، نظرا الى أنّها امور خارجة عن اختياره، ولكنها تؤثر في تكوين شخصيته.

والحظّ: النصيب المقسوم وهو ما يحصل عليه الانسان بتقدير من الله تعالى من دون أن يتعب نفسه. ومن الواضح أنّ هذا ايضا لا يحصل الا بتوفيق من الله تعالى، ولذلك عبّر عنه ايضا بالتلقي، وأتى بالفعل مبنيا للمجهول.

وليس معنى ذلك أنّ الانسان مغلوب على أمره، وليس له دور في الاتصاف بالسجايا الحميدة او الخبيثة، بل هو قادر على التغلّب على كل هذه العوامل، وعلى تكوين شخصيته وفق مراده، ولكنه أصعب عليه بالقياس الى من ساعدته الظروف الوراثية والتربوية، سواء في البيت او المدرسة او المجتمع. 

وإمّا ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله... الاستعاذة من العوذ وهو اللجوء. ومعناه أن يلجأ الى الله تعالى، ويلوذ به بالدعاء وطلب الإعاذة.

وقد اختلف في معنى النزغ. ويبدو من موارد الاستعمال أنّ النزغ هنا بمعنى التسويل والوسوسة. وأمّا الدخول للافساد بين القوم كما فُسّر به فلا يناسب المقام، وإنّما يناسب مثل قوله تعالى (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ..)[1] وقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي..)[2] حيث إنّ النزغ فيهما تعلّق بما بين شخصين أو اشخاص بخلافه في ما نحن فيه.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله رجّح تفسيره هنا بالنخس وتقليب الامور بالوسوسة في قلوب الكافرين حتى لا تنجح محاولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، نظرا لعدم إمكان تفسيره بالوسوسة اذ ليس للشيطان عليه سلطة.

ولكنه غير صحيح، اذ ليس النخس بمعنى الاضرار وتقليب الامور، فلو كان الخطاب للرسول فالنخس ايضا تأثير من الشيطان في نفسه الشريفة.

والصحيح كما أشرنا اليه أنّ الخطاب عامّ لكل مخاطب وقارئ او هو خاصّ ويقصد به غيره او يقصد العموم. وشموله له صلى الله عليه وآله وسلّم لا ضير فيه اذ لا يوجب سلطانا عليه، لأنّ الشيطان يلقي في اُمنيّته ــ كما في الآية ــ وينسخ الله ما يلقي الشيطان، فعدم سلطانه من جهة نسخه تعالى إلقاءاته، لا من جهة عدم وسوسته.

ومهما كان فالظاهر أنّ المراد بوسوسة الشيطان في الآية تحريضه على مقابلة السيئة بالمثل بل ربما الأسوأ. ومثل هذا التعبير يدلّ ايضا على أنّ ما يشعر به الانسان في مثل هذا الحال من الميل الى المقابلة بالسوء انما هو من وساوس الشيطان ونزغاته.

والآية تعالج ذلك بالاستعاذة بالله تعالى والدعاء والابتهال. ولا شكّ في أنّه أمر يهدّئ الاعصاب، ويفسح المجال للحكمة والتفكير الهادئ. وذكر الله تعالى يكفي للاستقرار والهدوء (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) فالعلاج ناجع باذن الله تعالى حتما، إن كان الدعاء عن صدق نية وتوجّه.

ولذلك ورد في الحديث النبوي قوله صلى الله عليه وآله وسلّم لرجل اشتدّ غضبه على غيره (اني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال له الرجل: أمجنونا تراني، فتلا الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عليه الآية: وإمّا ينزغنّك...).[3]

إنّه هو السميع العليم... تعليل للامر بالاستعاذة بأنّه تعالى هو السميع فيسمع استعاذتك، و هو العليم فيعلم بصدق نيتك، فيمنعك من تأثير إلقاءاته، او يعلم حالك وما ينفعك في هذا المجال.

والتعبير يدلّ على حصر الوصفين فيه تعالى لمكان الالف واللام وضمير الفصل، والوجه فيه واضح فإنّه تعالى هو السميع العليم على الاطلاق وبالذات فحسب، وأمّا غيره فيسمع ويعلم جزئيا وهو غير مستقل في ذلك بل يسمع ويعلم باذنه تعالى.



[1] الاسراء: 53

[2] يوسف: 100

[3] الدر المنثور في ذيل الآية.