مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)

 

إنّ الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم... الظاهر أنّ هذا نداء من قبل الملائكة او غيرهم بإذن الله تعالى يوم القيامة. ومعنى النداء أنّه إعلان بذلك وليس مجرد خطاب. وفيه تأكيد بتقدير القسم حيث يدل عليه اللام في قوله (لمقت الله). والمقت: شدة البغض. ويظهر منه أنّه ردّ فعل لما أبدوه من مقتهم لانفسهم ذلك اليوم، إمّا بمعنى أنّ كل أحد منهم مقت نفسه حيث يدعون بالويل والثبور، ويندمون على ما قدموا من اعمال، او بمعنى أنّ ضعفاءهم يمقتون المستكبرين وكذلك العكس، بل كل منهم يمقت الآخر كما قال تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الزخرف: 67.

والسبب واضح، فإنّ الناس في هذه الدنيا ايضا كذلك، وإنّما الاقنعة تخفي البغضاء والشحناء، بل حتى الذين يحبّون بعضهم بعضا كالآباء والامهات بالنسبة لاولادهم وبالعكس انما يحبّونهم لعدم الاطّلاع على ما يدور في خلدهم، وما تنطوي عليه ضمائرهم. وهذا من لطفه تعالى بعباده وجزيل نعمه حيث ستر العيوب، ولو كان كل أحد يعلم ما في ضمير الآخر لم يحبّ أحد أحدا. واما هناك فتسقط الاقنعة، وتبلى السرائر، وتنكشف الضمائر، فيبرز العداء، ويبغض كل منهم أحبّ أصدقائه، وألصق أقربائه، إلا المتقين حيث ينزع اللّه ما في قلوبهم من غلّ اخوانا على سرر متقابلين.

وهذه الحقيقة ايضا مما أكّد عليها القرآن في مواضع شتى وبصور مختلفة، كقوله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) عبس: 34 ــ 37.

ومهما كان فهناك إعلان ونداء يوم القيامة بأنّ مقت اللّه تعالى للكافرين أكبر من المقت الذي بينهم، او مقت كل واحد نفسه. وهذا من أدهى الدواهي فانّ اللّه أرحم الراحمين وهو رؤوف بعباده فاذا اشتد مقته على احد وكان أشدّ المقت فليس هناك عذاب أشدّ منه.

وهذا المقت يبرزه اللّه تعالى يوم القيامة بوجوه شتى، كما قال تعالى بالنسبة لمن يكتمون الحق الذي علموه من اللّه، واشتروا بعهد اللّه ثمنا قليلا في سورة البقرة/174 (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وفي سورة آل عمران/77 فيهم ايضا (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فالاعراض المعبّر عنه بعدم التكليم وعدم النظر من وجوه ابراز مقته تعالى.  

اذ تدعون الى الايمان فتكفرون... قيل: إنّ هذه الجملة تعليل لشدّة مقته تعالى لهم. ولكنه خلاف الظاهر اذ لو كان تعليلا لكان الأنسب ان يقول اذ كنتم تدعون.. لأن المفروض أن هذا إعلان ينشر يوم القيامة، وهم لا يدعون هناك الى الايمان. والظاهر أنّه ظرف لشدّة مقته تعالى ايّاهم، ومعناه ان اللّه تعالى مقتهم حين دعوا الى الايمان فكفروا بربهم. وأتى بفعل المضارع للدلالة على استمرارهم على الكفر مع استمرار الدعوة.

قالوا ربّنا أمتّـنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل الى خروج من سبيل... يظهر من ابتداء الكلام بدون حرف العطف أنّ هذا جواب او ردّ فعل للنداءالسابق. وهذا القول سواء كان قولا واقعيا أو أيّ نحو من إبراز الضمائر محاولة يائسة للخروج من المأزق العظيم الذي صنعه الانسان بعمله، فهم يستغيثون ربّهم بأن يخرجهم من النّار.

وهو يحتمل أمرين:

الأمر الأول: أنّهم يطلبون الرجوع الى الدنيا. وهذه المحاولة والتمنّي مما تكرّر في القرآن الكريم. منها ما تلوناه في سورة الزمر/58 قال تعالى: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). ومنها قوله تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) السجدة: 12.

وفي هذه الآية شبه آخر بما نحن فيه، حيث إنّهم يفرّعون طلب الارجاع على انكشاف الأمر لهم فيقولون (ربنا أبصرنا وسمعنا..). وهنا ايضا يفرّعون طلب الخروج على تكرّر الإماتة والإحياء ممّا يوجب إدراكهم بإمكان البعث، والاحياء بعد الموت. الامر الذي كانوا ينكرونه، وتبعا لهذا الانكار كانوا لا يعترفون بذنب. والآن بعد تكرّر الاماتة والاحياء آمنوا بذلك، فاذا رجعوا الى الدنيا لن يعودوا الى الذنوب.

ويمكن أن يكون تقديم قولهم (ربنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين..) لبيان أنّ تكرّر الإماتة والإحياء يعطينا الأمل في إمكان الإعادة الى الحياة الدنيا لنكرّر الامتحان.

الأمر الثاني: النجاة من العذاب ولو لمدّة محدودة، نظير ما يأتي في نفس هذه السورة في الآية 49 حيث يقول سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ). وبناءا على هذا الاحتمال فتقديم قولهم (ربنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) لتفريع الاعتراف بالذنب على ما ذكرنا في الوجه السابق، ليكون وسيلة لطلب الخروج.   

والظاهر أنّ المراد بالاماتة مرّتين والاحياء مرّتين إماتتهم من الحياة الدنيا واضفاء الحياة البرزخية عليهم، ثم إماتتهم من تلك الحياة وبعثهم بحياة اُخرى يوم القيامة، قال تعالى (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) المؤمنون: 100.

وقيل: إنّ المراد الموت قبل الحياة حيث كان الانسان جنينا لم تلجه الروح، ثم إحياؤه في الدنيا، ثم إماتته من الدنيا وإحياؤه يوم القيامة. وقالوا إنّ التعبير بالاماتة عن الموت قبل الحياة بمعنى إيجاده ميتا.

ولكنّه ــ على فرض صحة التعبير عنه بالإماتة وهو بعيد جدّا ــ لا يلائم ما قصدوه في الدعاء من ذكر هذه المقدمة، فإنّ الظاهر أنّ ذكرها مقدمة لتفريع الاعتراف بالذنب، ثمّ طلب العود الى الحياة الدنيا او الخروج من النار، والاعتراف بالذنب إنّما يترتّب على ما يشعر به الانسان من توارد الإماتة والإحياء مرّتين بعد حياته في الدنيا، وأمّا الموت الاصلي اي حالة ما قبل ولوج الروح فلا دخل له في ذلك.

ومن هنا يتبين انّ هذه الآية لا تقاس بقوله تعالى في سورة البقرة/28 (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) حيث يقصد بذلك بيان آياته تعالى وعموم رحمته ونعمته.

ثم انّ تنكير الخروج والسبيل يدل على غاية الاستئصال واستبعاد الخروج، فهم يتمنون ايّ سبيل لايّ كيفية من الخروج مهما استلزم من فداء وتضحية، كما قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..) الزمر: 47.

ذلكم بانه اذا دعي اللّه وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا... الظاهر أنّ قوله (ذلكم) إشارة الى الحالة التي أصابتهم حيث يتمنّون الخروج ولا خروج، فالخطاب يؤنّبهم بأنّ السبب شرككم، واستهواؤكم للشرك بحيث اذا دعي اللّه وحده كفرتم وأنكرتم، وانما كنتم تؤمنون بدعوة فيها شرك، فهذا نظير قوله تعالى (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الزمر: 45.

والآية تدلّ على أنّ كفرهم ليس لعدم قناعتهم بالحجج والبينات، وإنّما يعادون كل ما فيه سمة التوحيد، وتنشرح صدورهم بالشرك لمتابعتهم الهوى، كما تدلّ على أنّ ذلك منهم سجيّة مستمرة، ولذلك أتى بفعل المضارع. وفي هذا إعلان لمعاداة اللّه تعالى فحيث كنتم كذلك فجزاؤكم اليوم الخلود في النار، وعدم الخروج منها.

فالحكم لله العليّ الكبير... اي حيث كانت سجيّـتكم في الدنيا إعلان المعاداة لله تعالى فجزاؤكم الخلود في النار لأنه حكم الله فيكم ولا مردّ له لأنه حكم الله... فهذه الجملة علة للجزاء الواقعي المقدر. وذكر الوصفين للاشارة الى السبب، فانّ علوّه وكبرياءه يقتضيان اختصاص الحكم به، وأن لا حاكم في الكون غيره. فالمعنى أنّ مجازاتكم بالخلود في النار حكم من الله العلي الكبير، ولا مردّ له لأنه هو العلي الكبير.

ومرجع العلوّ والكبر الى صفة ثبوتية واحدة، لأنّ العلوّ والكبر ليس بالمعنى الماديّ، بل بمعنى أنه تعالى أعلى وأكبر من أن تناله الأوهام.