مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)

 

أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشدّ منهم قوّة وآثارا في الارض... مقدّمة لبيان قصة مؤمن آل فرعون وربطها بالخطاب الموجّه الى مشركي مكّة، فبعد بيان آيات التوحيد والمعاد ودعوتهم الى الايمان، حذّرهم من مغبّة الكفر والعناد والكيد برسل اللّه تعالى، وذلك بدعوتهم الى ملاحظة حال الاقوام السابقة، والاعتبار بما جرى عليهم من العذاب نتيجة كفرهم بالرسالات، مع انّهم كانوا أقوى من هؤلاء وأكثر آثارا في الارض. ويدلّ على حالهم وقوّتهم وحضارتهم الآثار الباقية منهم، وكانت في ذلك العهد كثيرة وقريبة من الطرق التي كانوا يجتازونها في أسفارهم.

وقوله (وآثارا) اي (واكثر آثارا) ففيه تقدير استغني عنه بقوله (اشد منهم قوة) نظير قول الشاعر (متقلدا سيفا ورمحا) اي وحاملا رمحا.

ومهما كان فالقرآن يدعوهم الى السير في الارض لا للتنزه والتفرج والتمتع بمشاهدة الحضارات البائدة كما هو السائد في عصرنا، بل للاعتبار بها ومقارنة حالهم بحال الامة الحاضرة، والتنبه لما يقرّبهم الى الله في ذلك، فإنّ يد القدرة مشهودة بارزة في ما بقي من الآثار خصوصا في ذلك العهد.

فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق... أخذهم أي أهلكهم. و(واق) مخفف (واقي) من الوقاية اي الحفظ. و(من) زائدة اي ما كان لهم اي شيء يحفظهم من بأس الله تعالى. والتركيز على الذنب بعنوانه العام مخيف جدا، فهناك من الاقوام من دمّر اللّه عليهم بيوتهم لارتكابهم الآثام كقوم لوط. وعلى كل حال فان اللّه تعالى اذا اراد بقوم سوءا فلا مردّ له، وليس هناك شيء في الكون يحفظ الانسان ويقيه من بأس اللّه تعالى، لانّ كل ما يلوذ به ويعوذ مخلوق له ومربوب ومطيع لامره.

ذلك بأنهم كانت تاتيهم رسلهم بالبينات فكفروا... (ذلك) اشارة الى الأخذ والعذاب، والمعنى أنّ السبب في استحقاقهم لعذاب الاستئصال أنّهم كانت تاتيهم رسلهم بالبينات فكفروا بالرسالات، فلو كان قوم لم يبعث فيهم رسول لا يعذبهم اللّه عذاب الاستئصال، وانما يعذبهم بعد بعث الرسول و تكذيبه، قال تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الاسراء: 15. والغرض من ذلك التنبيه على أنّ السنة الالهية واحدة والقانون واحد فاحذروا ربكم.

ثم إنّ الرسل لم يكتفوا بمجرد تبليغ الرسالة، بل أتوهم بالبيّنات ولم تكن بيّنة واحدة. والبيّنة هي الامر الواضح والموضح، والتبيّن هو الوضوح والانكشاف، فالامر كان مكشوفا لدى الاقوام ليس فيه لبس، وإنّما منعهم من الايمان باللّه ورسالاته كبرهم وطغيانهم، وركونهم الى الدنيا وملذاته.

فأخذهم اللّه إنّه قوي شديد العقاب... التعليل يرفع عن العيون كل غشاوة، ويبطل الاماني الكاذبة، فاللّه تعالى يقوى على كل ما يريد. يشهد على ذلك الآيات الكونيّة التي لا تحصى، وهو شديد العقاب. وقد مر بعض الكلام في توضيحه في اول السورة.<