مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)

 

وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطّلع الى اله موسى وإنّي لأظنّه كاذبا... الصرح: البناء العالي الذي لا تستره أبنية البلد فيبقى ظاهرا وان بعد عنك. والصراحة: الظهور والوضوح. والاسباب جمع سبب: كل ما يوصلك الى مقصود. فمراده أن يطّلع على طرق السماء بحثا عمّن يدّعي موسى أنّه اله، وبهذه المناسبة أضاف الاله اليه. وهو بذلك يوهم السامعين أنّ موسى عليه السلام يدّعي أنّ إلهه في السماء بمعنى الأجرام العلويّة، وان كان لم يصدر منه كلام يدل على ذلك. ولعلّ الوجه في تمكّنه من هذا الايهام هو ما تستدعيه حالة الطلب والدعاء من رفع اليد الى السماء، او الاشارة اليها حين التعبير عن الله عزّ وجلّ، فانتهز فرعون هذه النقطة لإيهام ذلك.

وربما يستغرب من قوله (وإنّي لأظنّه كاذبا) من جهة أنّ المتوقّع منه أن يؤكّد على ذلك ولا يعبّر بالظّنّ. ولكنّ ذلك ايضا مكيدة منه، فهو لم يبتدئ بالحكم عليه بصورة قطعيّة حتى يوهم أنّه بصدد البحث واقعا، وأنّه لا يحكم الّا بالحق الواضح الصريح.

ويبدو أنّ هذا القول صدر منه بعد انصرافه عن قتل موسى عليه السلام، ففيه نوع تراجع عن موقفه السابق حيث عزم على قتله، فهو هنا يظهر أنّه يريد مواجهته عليه السلام بنوع من المنطق، وان كان منطقا فرعونيا.

وقد ورد هذا المعنى في سورة القصص/38 ايضا (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) ولم يكن فرعون جاهلا كما ربما يتوهّم بل كان يعلم أنّ موسى عليه السلام على حق لقوله تعالى في سورة الاسراء/102 (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ..).

ويبعد ايضا أن يكون ذلك للتمويه على السامعين وهم الملأ من قومه فإنّهم كانوا يعلمون انّ من يعنيه موسى عليه السلام ليس موجودا محصورا في مكان من السماء، وكانوا يعلمون أخبار الامم السالفة وأقوال أنبيائهم، ولا أقلّ من أنّهم كانوا يعلمون أنّ الصّرح مهما علا وارتفع فانه لا يبلغ الجبال فكان بإمكانه الاستغناء بها.

ولذلك قال بعض المفسرين: لعلّه أمر ببناء رصد ليرصد الافلاك والنجوم. و هو بعيد جدّا وان مال اليه العلامة الطباطبائي رحمه اللّه.

والظاهر أنّ هذا الكلام لم يكن الّا استهزاءا منه برسالة السماء، وزيادة منه في الطغيان والتمرّد. ولذلك اقتصر القرآن في الردّ عليه أنّه قد زُيّن له سوء عمله وصُدّ عن السبيل، ولكنه في نفس الوقت يمكن أن يقصد به التمويه على السذّج البسطاء من الناس، ونحن نجد الى يومنا هذا أنّ الطغاة كثيرا مّا يردّون على منطق المعارضة، ويفسّرون ويأوّلون جرائمهم وأعمالهم الفاسدة بوجوه لا يقبلها العقل، ولا يصدّقها أكثر الناس، ولكنهم لضعف منطقهم وعدم تمكنهم من الاتيان بوجه منطقي واضح يكتفون بذلك مكابرة حتى لو لم يصدّقهم أحد

وكذلك زيّن لفرعون سوء عمله وصُدّ عن السبيل... هذه الجملة تبيّن أنّ ما فعله فرعون كغيره مما يصدر من البشر تحت السيطرة والتقدير والتدبير، فكل ما يعتبر طغيانا على الله تعالى انما هو طغيان بلحاظ قصد الانسان وسوء سريرته، والّا فلا يمكن لشيء أن يخرج عن سلطانه، وأن يعمل خارج نطاق إرادته تعالى. فما فعله فرعون كان بتزيين من الله، سواء اُسند التزيين اليه تعالى او الى الشيطان فإنّه ايضا من اللّه لأنّه باذنه تعالى. وقد نسب التزيين والتسويل ــ وهما واحد ــ في القرآن بصورة عامّة تارة الى اللّه تعالى واخرى الى الشيطان وثالثة الى نفس الانسان.

ولكن الشأن في أنّ هذا التزيين من اللّه تعالى او باذنه انما هو جزاء لطغيان الانسان وإصراره على مجابهة الحق بالباطل، وليس جزاءا وضعيا، وانما هو امر طبيعي، فإنّ الانسان اذا أصر على مجابهة الحق بالباطل ليتمّ له متابعة الاهواء والشهوات، لا يتم له ذلك الا بمحاولة التعتيم على نفسه وخداعها، فأوّل من يسوّل له هو نفسه الامارة. وهكذا يستمرّ في ذلك حتى يطبع على قلبه ويختم، نتيجة اصراره، فلا يتقبّل الا الباطل الذي زُيّن له. وبذلك يتمّ ايضا صدّه ومنعه عن سبيل الحق، وهو الذي سدّ على نفسه الطريق بسوء اختياره.

وهكذا كان فرعون فلم يستطع لكثرة ما حاك حول نفسه من حبائل الشيطان ان يرجع الى صوابه ويسلك سبيل الحق مع أنّه كان يعرفه حق المعرفة. 

وما كيد فرعون الا في تباب... التباب: الخسران. والكيد: المكر. ويظهر منه أنّ محاولة فرعون المذكورة انما كان يقصد به المكيدة بالحق وأهله بغيا وعدوانا. وهذا من حمق الانسان حيث يقابل ربّه ويبرز عضلاته أمام جبّار السماوات والارض، ولكن كل كيد من هذا القبيل مصيره الخسران في الدنيا والاخرة.

وقال الذي آمن يا قوم اتّبعون أهدكم سبيل الرشاد... يبدو من كلام هذا الرجل العظيم أنّ خطابه بالامر بالمتابعة موجّه الى سائر القوم ولم يخاطب فرعون اذ يستبعد أن يأمره بالمتابعة والسبب في ذلك أنه يئس من التأثير في قلبه، كما يظهر ذلك ايضا من تكراره نفس التعبير الذي عبّر به فرعون في خطاب قومه من أنّه يهديهم سبيل الرشاد، فالظاهر أنّه وجّه الخطاب الى الملأ من قومه فحسب.

ولعله كان يعلم انه لا يظهر هذا الكفر والعناد الا مع العلم بما هو الحق فعلم انه يواجه شيطانا مكابرا فأعرض عنه ووجه خطابه الى القوم لعل فيهم من بقي فيه بصيص أمل للنجاة والاهتداء، ولم يكتف بذلك بل أمرهم بالاعراض عن فرعون، وهذا هو معنى قوله اتّبعون، اي لا تتبعوا فرعون بل اتّبعوني. وحيث قال فرعون فيما سبق (ولا اهديكم الا سبيل الرشاد) ردّ عليه المؤمن بأنّ سبيل الرشاد هو ما أتّبعه وهو سبيل الانبياء والمرسلين لا سبيل الفراعنة والطواغيت.

يا قوم إنّما هذه الحياة الدنيا متاع وإنّ الآخرة هي دار القرار... فصّل المؤمن بيان سبيل الرشاد، وهو الاهتمام بالآخرة، وأن لا ينظر الانسان الى الدنيا الا باعتبار كونها متاعا مؤقّتا وممرّا وطريقا الى الآخرة، وأنّ مستقر الانسان هو حياته الأبديّة في تلك النشأة. والمتاع ما ينتفع به الانسان لمدة محدودة.

وأوضح أنّ ميزة الحياة هناك هي الجزاء على ما عمله الانسان في الدنيا، فعليه أن لا يخصّص حياته للتّمتّع بما في هذه الحياة، بل لا يتمتّع منها الا بمقدار الضرورة، ويكون غاية اهتمامه بما يترتب على عمله من النتائج في الآخرة.

فمثل البشر في هذه الحياة كمثل قافلة نزلوا في مكان للراحة وأخذ الزاد للاستمرار في المسير، فينادي فيهم المنادي ان لا تشغلوا انفسكم بالتلذذ بمباهج هذه الروضة الخضراء، ولا تهتمّوا بما حولكم من المغريات، بل اجعلوا همّكم في جمع أكبر مقدار ممكن من الزاد والماء، ولكنّ أكثر القوم لا يجلب اهتمامهم الا المناظر الخلّابة، والتّمتّع بمباهج الحياة، ولا ينتبهون الا على صوت المنادي بالرحيل، فيحاولون ان يجمعوا لهذا السفر الشاق الطويل زادا وماءا، وأنّى لهم ذلك فالركب لا ينتظرونهم.

وهكذا الحياة الدنيا بالنسبة الى الآخرة ليست الا متاعا، ولكنها في نفس الوقت مكان العمل لتلك الحياة الابدية التي هي المستقرّ.

من عمل سيّئة فلا يجزى الا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنّة يرزقون فيها بغير حساب...

بيان لنتيجة عمل الدنيا في الآخرة، وأنّ جزاء السيئة سيئة مثلها فلا يضاعف جزاء العمل السيّئ، وأمّا العمل الصالح فلا حدّ ولا حصر لجزائه.

وقوله (بغير حساب) يمكن أن يكون متعلقا بـ (يرزقون) فالمعنى أنّ جزاءهم في الجنّة غير محدود، في مقابل مجازاة السيّـئة بمثلها.

ويمكن أن يكون متعلقا بقوله (يدخلون) والمراد أنّهم لا يتحمّلون أذى المحاسبة، بل يدخلون الجنّة بغير محاسبة لأعمالهم. والاول اقرب.

ونبّه بقوله (من ذكر او اُنثى) على أمر غريب في ذلك المجتمع، بل حتّى في مجتمع نزول القرآن، بل في كثير من المجتمعات المتخلّفة المعاصرة حتى الذين يدّعون الاسلام، حيث نجد أكبر الظلم على المرأة. وأمّا رسالة السماء منذ البدو فلم تفرّق بين الرجل والمرأة في كسب المنزلة والثواب لدى اللّه تعالى. والقرآن يصرّح ويؤكّد على هذا الامر في موارد كثيرة.

ويبقى هنا سؤال وهو أنّه ما المراد بكون جزاء السيّـئة مثلها؟ والسيّـئة ربّما تكون عملا قبيحا، وربما يكون اعتقادا كالشرك، او قولا بغير علم، فكيف يكون الجزاء مثل ما عمل والحال أنّ الجزاء هناك نار حامية وامثالها وليس مثلا للعمل؟! ومن جهة اخرى فالعذاب هناك خالد أبدي ولا يشبه العمل الذي أتى به الإنسان في لحظة.      

والجواب أنّ الامور تنكشف هناك وتتجلّى على حقيقتها، فالعمل يبدو هناك على ما هو عليه في الواقع من الفظاعة والقبح. والجزاء إنّما يكون مثله على واقعه الفظيع الذي يبدو هناك، وليس مثله على ما هو عليه في الدنيا، فانه ربما لا يستقبحه الانسان، بل ربما يستحسنه ويتباهى به.

فمثلا القول بأنّ اللّه تعالى له ولد ليس في الدنيا الا قولا عابرا، وربّما يعتقد القائل حينما يعلن ذلك أنّه يدعو الى حقيقة دينية، وانه يباشر عملا رساليّا جليلا، فيتقرّب به الى اللّه تعالى مع أنّه في واقع الامر فظيع جدا. واللّه تعالى يقول (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا) مريم: 88 ــ 91.

يا قوم ما لي أدعوكم الى النجاة وتدعونني الى النّـار... يبدو من هذا المقطع أنّه يئس من قومه ايضا، ويبدو أنّهم بدلا من أن يقبلوا كلامه ونصحه ردّوا عليه بدعوته الى التمسّك بعقائد الآباء ونحو ذلك مما تشتمل عليه الشعارات الزائفة، فأراد أن يتمّ الحجّة عليهم ويتركهم في ضلالهم يعمهون.

ومع ذلك لم يترك خطابه الاول حيث ناداهم مرة اخرى بأنّهم قومه: ياقومِ اي (يا قومي) مالي ادعوكم الى النجاة وتدعونني الى النار؟ فهو يريد أن يوبّخهم لأنّهم يدعونه الى طريق مظلم لا نهاية له الا الهلاك والخسران، ولكنه لا يبدأ كلامه بذلك بل يعبّر عن ذلك بما يستوجب التأنيب ويثير الاستغراب.

أليس غريبا أن يدعوهم الى النجاة وهم يدعونه الى النار؟! وهم بالطبع لم يدعوه الى النار ولكنه حيث ينتهي الى النار فكأنّها دعوة اليها. 

تدعونني لأكفر باللّه واُشرك به ما ليس لي به علم... بيان للجملة السابقة فإنّها مجملة لم يتبين منها ما هو الموجب للنجاة، وما هو الموجب للوقوع في النار. واعتبر الدعوة الى عبادة غير الله تعالى كفرا لأنّ عبادة غيره لا معنى له الا اعتبار ربّ غيره تعالى، ومقتضى ذلك أن تنسب بعض النعم الى غيره تعالى، وهذا كفران بنعمه. وأما الشرك فاكتفى في بيان بطلانه أنّه اعتقاد بالالوهية من دون مستند. ولا حاجة الى دليل لبطلانه، مع أنّ الدليل عليه واضح.

وأنا أدعوكم الى العزيز الغفّار... وشتّان بين الدعوتين!! ولعل ذكر الاسمين الكريمين للتنويه على أنّه تعالى عزيز وغالب على أمره، فهو ليس بحاجة الى عبادتكم ولكنّه في نفس الوقت غفّار للذنوب، فان عدتم الى رشدكم وتركتم عبادة غيره وتوجّهتم اليه تاب عليكم.

لا جرم أنّ ما تدعونني اليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة... (لا جرم) تركيب يفيد أنّ ما بعده أمر قطعيّ لا شكّ فيه. واختلف في جذور هذا التركيب، وأحسن ما قيل: إنّ (لا) نظيره في (لا اقسم) يفيد نفي ما سبقه او ما يتوهم بخلافه، ثمّ الجرم بمعنى أنّه قطعي لانّه في أصل اللغة بمعنى القطع.

ومهما كان فمراد الرجل المؤمن من هذه الجملة واضح، وهو انّه لا شكّ ولا ريب في أنّ ما تدعونني اليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة.

قيل: المعنى أنّه لا يدعو الى نفسه لانه جماد وهذا خاصّ بالاصنام. وقيل المراد انه ليس هناك رسول يدعو اليه.

ويمكن أن يكون المراد أنّه لا ينبغي ان يدعى لأمر الدنيا ولا لأمر الآخرة، فالمراد أنّه لا يستجيب دعوة أحد لأمر من امور الدنيا ولا الآخرة.

وأنّ مردنا الى اللّه... بعد أن نفى أيّ فائدة تعود الى الانسان في متابعة من يدعون اليه بيّن أنّ السعادة إنّما هي في تأمين الحياة الاخرى الابدية والتي هي عاقبة أمر الانسان ومستقبله المحتوم. وحيث إنّ مردّنا ومرجعنا الى اللّه تعالى فلابد من امتثال أوامره لنحظى بالحياة السعيدة لديه.

وأنّ المسرفين هم اصحاب النار... لعل التعبير بالاسراف باعتبار أنّ الذي يدعو الى غير اللّه تعالى ويعتبره شريكا له في الربوبية قد أسرف وتجاوز عن الحدّ في التوجه الى غير اللّه حتى اعتبره شريكا له في الربوبية.

والجملة بمقتضى ضمير الفصل تدلّ على انحصار أصحاب النار في من تجاوز الحدّ، والوجه في ذلك إمّا أنّ كل ما يوجب دخول النار تجاوز عن حدّ العبودية وعصيان لامر الله تعالى أو لأنّ أصحاب النّار هم الخالدون فيها فلا يشمل العصاة من المؤمنين.

فستذكرون ما أقول لكم واُفوّض أمري الى اللّه إنّ اللّه بصير بالعباد... في الجملة تهديد وإنذار واضح بأنّهم سيلقون ما يشير اليه من عذاب اللّه في الحياة الاخرى، ويتذكّرون نصحه ووعظه، ولكن بعد فوات الأوان.

ثم أعلن بقوله (وافوض امري الى اللّه) أنّه لا يخاف تهديدهم وبطشهم لأنّه يفوّض أمره الى اللّه تعالى، وهو يضمن له السعادة، فان كانت سعادته في استشهاده بايديهم فانه مستعدّ للتضحية، وان اراد اللّه انجاءه من ايديهم فانه قادر على ذلك.

والتفويض مرحلة من الايمان باللّه تعالى تفوق التوكّل فكأنّه ترك الامر لا يهتمّ به وهو واثق أنّ ما يحصل له هو الخير كله، وليس معنى ذلك أنّه لا يعمل بما يجب عليه من حفظ النفس ودفع الضرر، كما أنّ المتوكّل ايضا يفعل ذلك، وانّما لا يهتمّ ولا يحزن بالنسبة الى ما لا دخل لإرادته فيه ولا يمكنه عمل تجاهه. ثم علل تفويضه ذلك بأنّه واثق من أنّ اللّه تعالى بصير بالعباد وبما يحتاجون اليه وبما يصلح شأنهم، وهم عباده فلا يريد لهم الشر، فلا حاجة الى اي محاولة بعد تفويض الامر اليه.

فوقاه اللّه سيئات ما مكروا... يتبين من الآية أنّ القوم أرادوا به شرّا. وهو ما يبدو ايضا من تفويضه الامر الى اللّه تعالى. والفاء في أوّل الجملة تفيد التفريع، وأنّ ذلك كان نتيجة تفويضه أمره الى اللّه تعالى، فوقاه الله شرّ ما أرادوا به من سوء. بل يبدو أنّهم أرادوا به وجوها من العذاب حيث أتى بلفظ الجمع (سيئات ما مكروا).

روى الصدوق رحمه الله بسنده عن الامام الصادق عليه السلام (عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع... (الى ان قال) وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: (وافوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) فاني سمعت الله جل وتقدس يقول بعقبها: (فوقاه الله سيئات ما مكروا..).

ولكن ورد في بعض الروايات تفسير آخر للوقاية. فقد روى الكليني في الكافي بسنده عن ايوب بن الحرعن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عزوجل: (فوقاه الله سيئات ما مكروا) فقال: أما لقد بسطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه.

وروى مثله البرقي في المحاسن. وفيه (لقد سطوا عليه). وفي التفسير المنسوب الى علي بن ابراهيم (وقوله: فوقاه الله سيئات ما مكروا.. يعنى مؤمن آل فرعون فقال ابوعبدالله عليه السلام والله لقد قطّعوه إربا إربا ولكن وقاه الله ان يفتنوه في دينه).

وربما يستفاد ذلك ايضا من تعبير الآية حيث إن مفادها أنه تعالى وقاه سيئات مكرهم ومكائدهم لا كل ما مكروا به فتدل الآية على أنّهم تفننوا في تعذيبه بوجوه من العذاب وكان غرضهم الاول ان يفتنوه عن دينه فوقاه الله ذلك. والله العالم.

وحاق بآل فرعون سوء العذاب... وفي المقابل حاق بآل فرعون ومنهم هو نفسه سوء العذاب. وحاق يحيق اي نزل به عاقبة فعله او مكره، قال تعالى (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ..) فاطر: 43. وقيل: بمعنى أحاط به وعليه. فلعله ــ بناء على ذلك ــ مأخوذ من الحوق وهو بمعنى الاحاطة فقلب ياءا. وسوء العذاب بمعنى انه أسوأ ما يكون منه ثم بيّن ذلك في الآية التالية.

النار يعرضون عليها غدوا وعشيا... الالف واللام للعهد اي النار المعهودة وهي جهنّم، وهي مأواهم يوم القيامة، ولكن يعرضون عليها غدوا وعشيّا لمزيد من التنكيل والنكاية، جزاءا لاصرارهم على الكفر بعد أن أتمّ اللّه عليهم الحجة بوجوه عديدة، ومنها كلام صاحبهم هذا وهو منهم.

والعرض بمعنى إظهار شيء لاحد ليراه إمّا لشراء او زواج او أيّ غرض آخر. والغرض هنا إراءة الجزاء والمقرّ النهائي، والتعبير من باب القلب فإنّ النار تعرض عليهم ليروها دون العكس. ولعلّ الوجه فيه تصوير جهنّم وكأنّها موجود شاعر تطلب الكفار وتتوعّدهم نظير قوله تعالى (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ق: 30.

والآية مما تدل بوضوح على مرحلة من التكوين هي عالم البرزخ، كما ورد في قوله تعالى (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) المؤمنون: 100. وهناك آيات كثيرة تدل على ذلك بالنسبة للأخيار والأشرار، فمن الاول قوله تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران: 169، ومن الثاني هذه الآية بقرينة مقابلة العرض على النار لما يحدث يوم القيامة من الامر بإدخالهم أشدّ العذاب مما يدلّ على أنّ العرض قبله.

ولعل المراد بقوله (غدوا و عشيا) الاستمرار والتكرار لا خصوص الصباح والمساء فانهما من شؤون هذه الحياة. ولكن ورد في بعض الروايات أنّ ذلك انما يعذّبون به في الحياة الدنيا، فلو صحّ كان المراد بالغدوّ والعشيّ الصباح والمساء حقيقة. ولكن الرواية مرسلة، ووردت في تفسير علي بن ابراهيم. واستناد الكتاب اليه غير ثابت.

ومهما كان فالعرض على النار نوع من العذاب. ويبدو من مجموع الآيات أنّ عذاب البرزخ ليس لكل الناس، بل خاص بأمثال آل فرعون حيث يعرضون على النار. وأمّا عامّة الناس فيرون أنّهم انما بقوا بين الموت والحشر مدة قليلة كما تدل عليه آيات كثيرة كقوله تعالى (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) النازعات: 46.

وورد في الكافي عدة احاديث بعضها معتبرة سندا بهذا المضمون (لَا يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ إِلَّا مَنْ مَحَضَ الْإِيمَانَ مَحْضاً أَوْ مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً والآخَرُونَ يُلْهَى عَنْهُمْ).

ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب... اي يقال: (أدخلوا) والقول هناك كما قلنا مرارا بمعنى الفعل. وفرعون داخل بنفسه في الآل. ويبدو من التعبير أنّ عذابه وعذاب من كانوا معه من أشدّ العذاب يوم القيامة، فالأشدّيّة على ما يبدو بالقياس الى سائر أنحاء العذاب في ذلك اليوم لا بالقياس الى عذاب الدنيا او البرزخ.