مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ... تأتي هذه الجملة ايضا في سياق الترغيب في بذل المال والنفس في سبيل الله فالذي يمنع الانسان من التقدم في هذا المضمار هو حب الدنيا والاخلاد اليها وهذه الآية تنبهه على عدم الركون اليها فانها ليست الا لعبا ولهوا وكل ما نعمله من الاعمال الخاصة بهذه الحياة يدخل في هذين العنوانين وهذا هو مقتضى الحصر المستفاد من (انما) فانها تفيد الحصر اذا اقتضته القرينة او مطلقا والسياق هنا قرينة عليه ولا يراد به حصر كل ما يحدث في هذه الحياة في اللهو واللعب اذ من الواضح ان الاعمال الصالحة التي يأتي بها الصالحون من البشر ويقصد بها وجه الله تعالى ليس منهما فالمراد حصر كل ما يطلب به شؤون هذه الحياة من دون ارتباط بالآخرة فيهما.

واللعب هو الاشتغال بما لا يترتب عليه مصلحة وانما الداعي اليه الوهم كألعاب الاطفال ويقابله الجد. واللهو كل ما يشغل الانسان عن أمر أهم وحيث ان المهم هو الحياة الابدية والسعادة فيها فالاشتغال بأي أمر آخر لا يفيد في الآخرة يعتبر لهوا اي اشتغالا بأمر سخيف عن الامر المهم. واذا قيست الاعمال التي يقصد بها الدنيا الى اعمال الآخرة نجد انها في الواقع لا تترتب عليها مصلحة بل توجب تفويت المصلحة الواقعية، والاشتغال بها ليس الا لهوا وابتعادا عن الامر المهم، فالذي ياخذ الحياة بمأخذ الجد هو الذي يعمل لآخرته فحسب حتى ما يعمله من اعمال الدنيا ايضا يقصد بها الآخرة والا فهو لهو ولعب.

وهذا يشمل حتى الاعمال المفيدة للمجتمع البشري كالتطور العلمي والخدمات الطبية اذا لم يقصد بها التقرب الى الله تعالى فان غاية ما تفيده هذه الاعمال هو اطالة عمر انسان او عمر الانسان بصورة عامة وتأمين متطلباته في الحياة الدنيا ورفع مستواه المعيشي ونحو ذلك مما يهتم به البشر في هذه الدنيا وكل ذلك ليس امرا مهما اذا قارنّاها بالعمل من أجل الآخرة والسر في ذلك أن الحياة هي تلك الحياة وهذه الحياة ليست الا ممرا ومعبرا والانسان فيها كمسافر تمنح له فرصة يسيرة ليتمكن فيها من جمع اكثر ما يمكن جمعه من الزاد لتلك الحياة كما قال تعالى (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[1] وقال تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي).[2]

 ومن هنا فان كل ما يعمله الانسان في سبيل تطوير العيش في الحياة الدنيا يعدّ في نظر من يلاحظ الحياتين لعبا ولهوا اي لا هدف له اصلا او الهدف منه الاشتغال والالتهاء بامر تافه عن الامر المهم كمن يترك شأنا هاما من شؤون الحياة الدنيا كالدفاع عن النفس والاهل والوطن ويشتغل بالخمر والميسر ونحوهما فان هذا لا يقبل له عذر عند العقلاء.  

وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ... استدراك عن دور هذه الحياة في سعادة الانسان فالنشاط فيها وان كان كله لعبا ولهوا الا ان الانسان اذا آمن بربه واتقى فانه يحصل على أجر عمله في الحياة الابدية فلا يكون ما عمله في هذا السبيل لعبا ولا لهوا. ولا يطلب الله تعالى من الناس أن يبذلوا أموالهم في هذا السبيل حتى يشق عليهم فالله أعلم بحالهم ويعلم أن بذل المال شاقّ عليهم ولا يكلف الله نفسا الا وسعها. ولكن يقع السؤال عن أن بذل المال واجب شرعا في الزكاة والخمس والنفقات الواجبة والكفارات والهدي وما يستوجبه حفظ الثغور وغير ذلك فكيف التوفيق؟ ويلاحظ أن الآية الاخيرة تصرح بالدعوة الى الانفاق في سبيل الله تعالى فهذه قرينة واضحة على أن المراد هنا معنى لا ينافي وجوب بذل المال في هذه الموارد.

وقد اختلف المفسرون في تأويل الآية ورجح الاكثر أن المراد أنه تعالى لا يسألكم جميع أموالكم وقالوا انه هو الظاهر من اضافة الجمع الى ضمير الخطاب في قوله (اموالكم) ولكن الظاهر أن الاضافة لا تدل على الاستغراق فيصدق (أموالكم) على بعضها ايضا.

وربما يقال ان قوله تعالى في الآية التالية (فيحفكم) يدل على ذلك لان الاحفاء بمعنى المبالغة في الطلب فكما يصدق مع الالحاح في السؤال حتى لو كان المطلوب قليلا يصدق مع المبالغة من جهة كثرة المطلوب.

ولكنه لا يقتضي أن يكون المطلوب جميع الاموال اذ تصدق المبالغة حتى مع كونه كثيرا شاقا على المكلف.

ويبقى على هذا الوجه الاشكال من جهة أن مفهوم الآية بناءً على هذا التأويل هو انه تعالى يسأل مع عدم الايمان او التقوى فان الجملة الشرطية لها مفهوم. والتزم بهذا المفهوم بعضهم وقال ان الكافر يؤخذ منه جميع أمواله ولعل المراد به عدم حرمة ماله على المسلم. ويردّه ان هذا ليس هو المفهوم من الآية بل مفهومها أن الله تعالى يطلب منه جميع ماله وهذا غير صحيح.

هذا مع أن المفهوم يشمل المؤمن غير المتقي لان مفهوم الآية بناءً على هذا التأويل هو (وان لم تؤمنوا وتتقوا يسألكم جميع أموالكم) فيشمل الحكم من آمن ولم يتق الله. ولكن يمكن دفع الاشكال بأن المفهوم انتفاء مجموع الامرين في الجزاء ايتاء الاجر وعدم السؤال فيكفي في صدقه ان الكافر وغير المتقي لا يعطى أجرا.

هذا مع أن المطالبة بجميع الاموال أمر مستغرب جدا وغير محتمل فيبعد جدا أن يمنّ الله تعالى على المؤمنين المتقين بنفيها.

وقال بعضهم ان المراد ليس هو الجميع بل المبلغ الكثيرالذي يكون دفعه شاقا عليهم. ولكنه بعيد اذ يقتضي أن يكون المراد من أموالكم بعضها من دون نصب قرينة في نفس الجملة على تحديد البعض والمفروض عدم امكان ارادة البعض بقول مطلق فيشمل أقل شيء ممكن لكونه خلاف الواقع.

والاقرب في معنى الآية ما ذكره بعضهم من أنه تعالى لا يسألكم شيئا من أموالكم كأجر للرسالة بل هو الذي يؤتيكم الاجر على أعمالكم دون أن يسألكم مالا وانما تدعون لتنفقوا في سبيل الله تعالى لمصلحتكم ولحفظ ثغوركم ومع ذلك فان الله تعالى يؤتيكم الاجر على ذلك لكون القصد ان يكون في سبيله تعالى فيكون نفي المطالبة بمال كأجر للرسالة مقدمة للمطالبة بالمال لمصلحتهم.

إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ... الضمير يعود للاموال. والاحفاء هو المبالغة في الطلب كما مر والظاهر أن المراد به هنا الايجاب والله تعالى أعلم بحال خلقه فهو يعلم أنه اذا أوجب مالا عليهم يدفع للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليصرفه على نفسه وفي مصالحه الخاصة يبخل غالب الناس عن دفعه ويشقّ عليهم ذلك وتبرز منهم الاضغان والاحقاد كما نجده في موارد مشابهة. ويظهر من التعبير التنديد بهم من جهة البخل أولا ثم من جهة ضعف ايمانهم بحيث يحقدون على ربهم او على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم اذا طولبوا بالمال وهذا شأن أبناء الدنيا والمطلوب من المؤمن ان لا يتعلق قلبه بزخارفها فضلا عن أن يقدمها على حبه لله وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ... (ها) للتنبيه وكررت للتأكيد و(أنتم) مبتدأ خبره (تدعون) و(هؤلاء) بدل عن المبتدأ ولعل الابدال لدفع توهم شمول الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وآله وسلم او للتأكيد. وقيل (انتم) مبتدأ و(هؤلاء) خبره والاشارة الى من ذكر وصفه في الآية السابقة والجملة التالية مستأنفة. ولعله أتى بفعل (تدعون) مبنيا للمجهول تعظيما للداعي أو للاشارة الى أن المناط هو المدعو اليه وهو الانفاق في سبيل الله ولا يهم دور الداعي. والجملة في مقام الاستشهاد لما ورد في الآية السابقة من انهم لو امروا بالانفاق للرسول صلى الله عليه وآله وسلم لبخلوا وخرجت اضغانهم فيقول ها انتم تدعون للانفاق في سبيل الله وللمصلحة العامة فمنكم من يبخل فكيف لو دعيتم الى الانفاق كاجر للرسالة؟! وقيل انه استشهاد لبخلهم في انفاق الجميع.

فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ... من حسن أدب القرآن أنه لم ينسب البخل هنا الى أكثرهم او اليهم على سبيل الاجمال بل نسبه الى بعضهم تحقيرا لشأنه واعلاما بأن الغالب ليسوا كذلك. وحيث كان الهدف من انزال الكتب وارسال الرسل هو تربية الانسان والرفع من شأنه فالدين يحاول أن يأخذ بيد هذه الفرقة القليلة ايضا ويزيل عنهم داء البخل فان شح النفس مانع من الكمال قال تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[3] ولولا ذلك لامكن أن يؤخذ المال من الناس قهرا كما تفعله الانظمة الحكومية البشرية ولكن نظام الرسالة تحاول هداية الانسان الى الطريق الصحيح فيبين له أن الانفاق في هذا المجال انما هو لمصلحتك الشخصية فكما تنفق على نفسك في المأكل والمشرب فعليك أن تنفق لحفظ دينك وبلدك وعرضك. ولذلك فان من يبخل عن الانفاق في هذا السبيل انما يبخل عن نفسه ويضر نفسه والانفاق في هذا الوجه أهم من الانفاق في سبيل المأكل والملبس ونحوهما. هذا مضافا الى أنه يضر نفسه ضررا بليغا حيث يخسر السعادة الابدية في الدار الآخرة ويمنع نفسه من تحصيل رضوان الله تعالى وثوابه الجزيل.

وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ... هذا تأكيد على أن الهدف من هذا الحث والترغيب هو تربية الانسان ليبلغ الكمال المنشود والله تعالى هو الغني بقول مطلق اي لا يمكن فيه أي حاجة وفقر. وغناه لا حدّ له وله ملك السماوات والارض والخلق كلهم فقراء والفقر ميزتهم فكل مخلوق محتاج الى غيره فالانسان مثلا لا يمكنه أن يعيش بنفسه فهو محتاج الى طعام وماء وغيرهما كما هو محتاج الى غيره من الناس بل كل ممكن الوجود فقير في وجوده الى علل وجوده وكل الموجودات مفتقرة الى الله تعالى في كيانها وبقائها.

وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ... قيل انه معطوف على ما سبق من قوله تعالى (وان تؤمنوا وتتقوا..) وأن التولي بمعنى الاعراض عن الايمان وعلى هذا فيكون المراد به الارتداد عن الدين ومثله قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).[4]

ولكن يمكن أن يكون عطفا على قوله (تدعون لتنفقوا..) وتعبيرا آخر عن البخل في الانفاق في سبيل الله تعالى اي وان تعرضوا عن الاطاعة في الدعوة الى الانفاق فالله تعالى يستبدل قوما غيركم اي يهلككم ويأت بقوم آخرين يؤمنون به وليسوا اولئك من قبيلكم بل يطيعون ربهم ويقومون بواجبهم في حفظ ثغور المسلمين. والاستبدال على هذا يمكن ان يكون اشارة الى نتيجة طبيعية للامساك عن الانفاق في سبيل الله تعالى لانهم اذا أمسكوا عن ذلك فهم عن بذل النفس أبخل والنتيجة ستكون غلبة الكفار عليهم في شتى المجالات فاما أن يهلكوا في الحرب معهم أو يبقوا فاقدين لهويتهم الدينية مغلوبين على أمرهم فيبعث الله قوما آخرين يرفعون راية الاسلام ويدافعون عن حريمه ويقومون بوظيفة الابقاء على الرسالة الخالدة وايصالها سالمة الى الاجيال المتأخرة.

ويبقى السؤال في أنه هل تحقق هذا الشرط فحرموا من هذا المقام وحاز به آخرون أم أنه مجرد انذار وترهيب وأنهم قاموا بالمسؤولية بأحسن وجه وان أتى الله بعدهم بقوم لهم تلك الصفات المذكورة في سورة المائدة؟

وقد ورد في حديث في كتب العامة وصفوه بانه صحيح أنّ المراد بهذا القوم الفرس ونحن ننقله عن روح المعاني قال (والمراد بهؤلاء القوم أهل فارس فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في «الأوسط» والبيهقي في «الدلائل» والترمذي وهو حديث صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } الخ فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونون أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الايمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس).

وفي تفسير مجمع البيان عن ابي عبدالله عليه السلام أنه قال (قد والله أبدل خيرا منهم الموالي) وهذا يدل على أنهم تولوا ولم يقوموا بالواجب فأبدل الله بالفعل خيرا منهم وهم الموالي اي غير العرب والمراد بهم الفرس كما يظهر من روايات عديدة منها ما ورد في تفسير قوله تعالى (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).[5]

ولعل المراد اعراضهم عن أداء الواجب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث تركوا نصرة الامام الذي عينه خليفة عليهم بعد أن بايعوه في حياته. بل تركوا نصرة أهل بيته في مقابل أعدائه القدامى حتى قتلوا واستبيحت أموالهم وكرامتهم.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

 


[1] العنكبوت: 64

[2] الفجر: 23- 24

[3] الحشر: 9/ التغابن: 16

[4] المائدة: 54

[5] الجمعة: 3