مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة ق مكية بشهادة آياتها حيث تتناول التنديد بكفر المشركين وانكارهم للقيامة مع الاشارة الى ادلتها والتحذير من عواقب الكفر وما لحق بالامم السالفة ثم ذكر بعض حقائق تلك المرحلة من الكون مما هو غريب عن ذهن الانسان والتأكيد على قدرة الله تعالى في خلق الكون واعادة الحياة للانسان.

ق... (ق) من الحروف المقطعة وقد مضى بعض الكلام حولها في تفسير سورة يس.

وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ... قسم بالكتاب العزيز. واللّه تعالى يقسم في مواضع كثيرة بكتابه وبكثير مما خلق. والقسم إنشاء علاقة إعتبارية بين ما يراد بيانه او الالتزام به، وبين عزّة ما يقسم به وكرامته كما هو واضح من الأقسام العرفية، حيث يقسم الإنسان بحياة إبنه او أبيه ونحو ذلك.. وقسم اللّه تعالى أيضا لا يشذّ عن هذا الامر وكرامة ما يقسم به الله تعالى من جهة استناده اليه وتعلقه به، وهو يختار من بين ما يقسم به ما يناسب الامر المقسم عليه وهنا يقسم بالقرآن للتأكيد على الرسالة والرد على اعتراض المشركين وان لم يصرح.

والمجد بلوغ الغاية في الكرم والشرف والعظمة فالمجيد المطلق هو الله تعالى وقيل ان توصيف القرآن به لانه كلام المجيد وهو بعيد بل هو بنفسه ايضا مجيد لكونه بلغ النهاية في العظمة من بين انحاء الكلام وفي الكرم كما وصفه تعالى به حيث قال (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)[1] والكرم بمعنى كون الشيء قيّما ولذلك توصف به الاحجار الكريمة والقرآن فوق كل كريم ولا يمكن لاحد ان يحدد له قيمة. وبلغ النهاية في الشرف لانه كلام الله تعالى.

ومهما كان فهو قسم حذف جوابه ونظيره ما وقع في اول سورة ص ويمكن أن يقدر جوابه باحد الوجوه التالية او غيرها:

1- ان تكون الجملة المقدرة (لا اقول الا الحق) او ما يفيد معناها وهذه هي الجملة التي يطلب من الشاهد ان يقولها امام القاضي فلا يبعد ان تكون الاقسام التي وردت في القرآن الكريم من دون ذكر المقسم عليه كلها من هذا القبيل فحذفت الجملة اعتمادا على وضوحها.

2- ان تكون الجملة (انك لمن المنذِرين) او ما يفيد معناها مثل ما ورد في اول سورة يس (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)[2] وذلك بقرينة ان الكافرين أظهروا عجبهم من كون المنذر منهم بناءً على ان الجملة التالية تدل على العجب من جهتين ولكنه بعيد.

3- ان تكون الجملة ما يدل على حشر الناس يوم القيامة بقرينة استغرابهم ذلك كما هو مفاد الجملة التالية.

بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ... اضراب عن الجملة المقدرة جوابا للقسم فان قدرنا الجملة الاولى فمعنى الاضراب أنهم لا يشكون في أن ما يقوله الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم هو الحق ولكنهم استغربوا الانذار ولكنه ليس عجيبا كما سياتي. وان قدرنا الجملة الثانية فمعناه انهم لم يكذبوه في رسالته وانما عجبوا من هذا الانذار. وان قدرنا الجملة الثالثة فمعناه انهم لا يمكنهم انكار القيامة بدليل اذ لا سبيل الى هذا الانكار وانما هم يستغربون تحققها لخطأ منهم كما سياتي بيانه في الآيات التالية.

والضميران في (عجبوا) و(منهم) يعودان الى كفار مكة وان لم يذكروا سابقا الا ان السياق يدل عليهم وهم مذكورون في الجملة التالية. والانذار: الاعلام بما يُحذر منه والمراد انذارهم بالحشر يوم القيامة وهو منشأ التعجب كما صرح به في الجملة التالية. وقوله (منهم) يمكن ان يكون بمعنى من جنسهم فيكون منشأ آخر للتعجب لانهم كانوا يستغربون كون الرسول بشرا مثلهم ويظنون انه يجب ان يكون من جنس الملك كما يرويه القرآن الكريم من الاقوام السابقة ولكن الاقرب ان يكون المراد من قوله (منهم) اي من قومهم فلا يكون موردا للتعجب بل يكون التنبيه عليه لمزيد من التنديد بهم حيث كان المفروض ان يهتموا بانذاره لانه لا يريد بهم الا الخير خصوصا بملاحظة انهم عرفوا منه الصدق والامانة.

فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ... الفاء للعطف اي قالوا ذلك نتيجة لاستغرابهم. واتى بالاسم الظاهر اي (الكافرون) بدلا عن الضمير ليدل على مرجع الضمير وللتنبيه على أن السبب في انكارهم وإبدائهم للاستغراب هو الكفر اي ستر الحق فهم يدركون انه الحق من ربهم ولكنهم يكفرون به تعنتا حيث انهم عرفوه أمينا صادقا ولم يسمعوا منه كلاما يدل على نبوغ في العلم او الادب طيلة اربعين سنة فلا يبقى مجال للشك في أن ما يأتي به انما هو من الله تعالى. وقولهم (هذا) اشارة الى الانذار المذكور في قوله (منذر).

أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ... هذا بيان لوجه استغرابهم او ما يظهرونه وجها لذلك تمويها على السذج من الناس. والرجع: الرجوع. والمراد بالبعد الاستبعاد العقلي والمعنى واضح ومتكرر منهم وممن قبلهم وبعدهم والرجوع في الواقع غريب على الانسان الذي لا يؤمن بالله وأما الذي يعتقد بان الله تعالى هو خالق الكون لا ينبغي ان يستبعد ذلك والوثنيون كانوا يعترفون بذلك فالذي خلق الكون من البدو ولم يكن شيئا وانما ابدعه بارادته لا يستبعد منه ان يعيد خلقه بعد الفناء. وقد حذفت جملة الجواب اي أئذا متنا وكنا ترابا نرجع ولعل الوجه في حذفه التنويه على انه لغرابته لا يمكن التصريح به.

قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ... جواب عن الاستغراب المذكور وهو أن الله تعالى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض فهو يعلم بما تأخذ الارض من اجزائهم ويحولها ترابا ويعلم اين هي. والكتاب اي المجموعة وكتب بمعنى جمع فلا يجب ان يكون مكتوبا بالمعنى المتعارف والحفيظ مبالغة في الحفظ فالمراد ان كل الاجزاء المنتشرة بل وصورة الانسان الشخصية معلومة ومحفوظة لديه تعالى ويمكنه الاتيان بها واعادة صنعها وبث الحياة فيها متى شاء. ولعله أتى بفعل الماضي (قد علمنا) ولم يقل نعلم مع أنهم لم يتحولوا ترابا آنذاك للتنبيه على ان علمه تعالى ازلي. وفي الآيات هنا اربعة وجوه من الاستدلال على امكان المعاد هذا اولها وهو استدلال بالعلم الالهي ردا على استبعاد المعاد من جهة تشتت الاجزاء وتفرقها. والوجه الثاني ما يستفاد من قوله تعالى (افلم ينظروا..) وما بعده من ان خالق الكون قادر على خلق مثله. والوجه الثالث يفيده قوله تعالى (كذلك الخروج) فان احياء الموتى لا يختلف عن احياء الارض بعد موتها وهو متكرر طيلة القرون. والوجه الرابع يفهم من قوله تعالى (افعيينا بالخلق الاول..) حيث يفيد ان بدء الخلق وابداعه لم يعجز الله تعالى فكيف يعجزه اعادته؟!

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ... اي ليس استغرابهم وانكارهم مستندا الى شك واقعي او بحث علمي بل هم أدركوا أن الذي جاءهم هو الحق من ربهم ولكنهم كذبوا بالحق لغرض في نفوسهم وحقد وحسد واذا قاوم الانسان الحق الصريح الواضح اختلطت عليه الامور فهو يتخبط في موقفه لا يستقر على فكرة واحدة وطريق واحد وهذا هو المراد بالمريج فان المرج هو الخلط. وكان الخلط والتناقض واضحا في مواقفهم تجاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فتارة يقولون انه ساحر او كاهن وتارة يرمونه بالجنون وتارة يتهمونه بالكذب والافتراء مع اعترافهم بانه الصادق الامين طيلة حياته بينهم وتارة يقولون ان القرآن شعر وتارة يقولون انه كلام عادي ولو شئنا لقلنا مثل هذا وتارة يعترفون بانه لا يشبه كلام الشعراء وانما هو سحر مفترى يسحر الناس بتأثيره وغير ذلك من انحاء التخبط.

 


[1] الواقعة: 77

[2] يس: 2- 3<