مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحيصٍ... القرن مأخوذ من قرن الشيء بالشيء اي جمعهما فالمعنى كل مجموعة من البشر او الزمان فيقال القرن لمجموعة من السنين كمائة سنة وكل مجموعة من البشر وهو المراد هنا والضمير في قوله (قبلهم) يعود الى مشركي مكة والغرض التهديد والتحذير لمنكري الرسالات وقد ورد نظيره في موارد عديدة من الكتاب العزيز وكان كثير من الاقوام السابقة أشد بطشا وقوة وحضارة من مشركي مكة كما تدل عليه آثارهم الباقية وقد اُبيدوا بالعذاب الالهي لتكذيبهم الرسل. والبطش قيل هو أخذ الشيء بقوة وقهر وغلبة ولا يبعد أن يكون بمعنى اعمال القهر والغلبة سواء صدق الاخذ ام لم يصدق. والتنقيب: الحفر، فهو والتنقير بمعنى واحد والتنقيب في البلاد بمعنى السير فيها اما من جهة أنه يستلزم غالبا الكشف عن أمور جديدة فكأنه حفر ووصل الى مخابئ واما من جهة أن السير كان قديما بالابل ونحوه وهي تحفر الارض باخفافها والغرض هنا أنهم لم يكتفوا بمواطنهم بل نقبوا في البلاد لبسط سيطرتهم او طلبا للمزيد من المال واسس الحضارة.

والظاهر أن قوله (هل من محيص) خطاب منه تعالى لمشركي مكة اي هل لكم من محيص من امره تعالى فلو كان هناك مهرب من العذاب لكان لتلك الامم ولما هلكوا ولا بادوا وبادت حضارتهم. والمحيص: المحيد والمهرب، اي لا مهرب لكم من عذاب الله تعالى كما لم يكن لهم. وقيل انه تكميل للجملة السابقة اي بحثوا في البلاد هل لهم مهرب من عذاب الله تعالى وهذا يبتني على امهالهم بعد نزول العذاب وهو بعيد.

إِنَّ في‏ ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهيدٌ... (الذكرى) اسم مصدر من التذكير كما في العين. اي في ما مر من الآيات او في ملاحظة احوال الامم السالفة تذكير للانسان فتدل الآية على أن ما يحصل عليه الانسان من ملاحظة الآيات والعبر تذكرا وليس تعلما جديدا في اشارة الى ان الانسان بطبعه وفطرته يعترف بربوبية الله سبحانه وهو أساس الرسالات وانما يغفل عنها بتوغله في شؤون الحياة الدنيا وفي شهواته ولذاته. وهذا مما أكد عليه القرآن الكريم في اكثر من مورد ومن الآيات التي تدل على كون الانسان مؤمنا بفطرته قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).[1]

ثم ان التذكير يختص بمن كان له قلب او سمِعَ ما يوجب التذكر من غيره والمراد بالقلب القوة العاقلة للانسان لا العضو الذي يضخ الدم فانه ليس له دور في الفهم والتعقل وقد كثر استعمال القلب في هذا المعنى في القرآن الكريم. ولا يقابله من لا عقل له اي المجنون والسفيه فانه خارج عن مورد الكلام بل يقابله من لا يدرك الامور المعنوية ويلاحظ أن اكثر الناس شديد التعقل والادراك في مرحلة الفهم وشديد الاهتمام ايضا في مقام العمل واخذ الحيطة الى حد الوسوسة لما يخص حياته في الدنيا وسعادته وصحته بل تمكنه من جمع قدر اكبر من المال ونحو ذلك من الشؤون الدنيوية ولكنه ضعيف الادراك بل فاقده في الامور المعنوية وما يتعلق بالغيب وبالآخرة ونجد كثيرا ممن يسمون بالعلماء لهم نبوغ وفطنة خارقة للعادة في درك ما يخص شؤون الدنيا ولكنهم لا يتجاوزون عنها ولا يتفطنون لوجود الخالق الحكيم المدبر للكون فيالهم من اغبياء نوابغ؟! فمثل هذا وان كان له قلب بمعنى ما يتعقل به ولكنه لا يتعقل ما وراء الحس فكأنه لا عقل له.

وفي محل الكلام اي الاعتبار بالعبر الباقية من الامم السالفة نجد المجتمع البشري اليوم يهتم أشد الاهتمام بالاحتفاظ بآثارهم ويصرف الاموال الطائلة لصيانتها والحث على زيارتها ولكن ليس في ذلك اي اعتبار بما جرى عليهم بل ربما يهتم بشأن آثارهم باعتبار انها تدل على حضارة قديمة وتمدن بائد ومفاخر للآباء السالفين وأمجاد للملوك القدماء ولكن القرآن يحرّض على السير في الارض لملاحظة آثار الامم السابقة والاعتبار بما جرى عليهم من عذاب الله تعالى.

ومن لا يدرك الامور المعنوية بنفسه يمكن ايضا أن يتأثر ويعتبر اذا ألقى السمع وهو شهيد. والمراد بإلقاء السمع هو الإصغاء بدقة فكأنه ألقى سمعه تحت اختيار القائل ويشترط في ذلك أن يكون شهيدا اي شاهدا وحاضرا فربما يستمع الانسان ويسمع القول ولكن قلبه مشغول بغيره فلا يؤثر فيه ما يتلى عليه. والترديد بين الصنفين بلحاظ ان المعتبر بالعبر قد يكون عالما بنفسه متفطنا لما يستخلص من الآثار من عبر وقد يكون متعلما يستمع الى العلماء بدقة وتنبه وأما اذا لم يعقل بنفسه ولم يسمع لتنبيه العلماء المخلصين فمصيره الهلاك كما قال تعالى (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[2] وقال امير المؤمنين عليه السلام (النَّاسُ ثَلَاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَأُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ).[3]

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما في‏ سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ... مرّ الكلام حول هذه الحقيقة في تفسير سورة (فصلت) وقلنا ان المراد بالأيام مراحل تكوين العالم كما هو واضح. واللغوب: التعب. والآية تردّ على المشركين حيث ينكرون المعاد استبعادا له فالله تعالى يقول ان خلق الكون من العدم في ستة مراحل من التكوين أعظم بكثير ولم يمسه تعالى من هذا الخلق تعب ولا نصب لان القدرة الالهية لا حد لها فلا يمكن ان يكون شيء أهون عنده من شيء. ويردّ ايضا على اليهود حيث قالوا ان الله تعالى خلق السماوات والارض في ستة ايام واستراح يوم السبت واستلقى على عرشه فأوّلوا الايام بايام الاسبوع ونسبوا اليه تعالى التعب. وهو كلام مضحك لأن اليوم بهذا المعنى لا يمكن ان يتحقق قبل خلق السماوات والارض وهذا من علائم التحريف في التوراة فان الذين جمعوها بعد دهر من ضياعها لم يكونوا يحفظون منها الا امورا مبهمة فيضيفون اليها ما يفسرها حسب نظرهم.

وقال بعض المفسرين ان هذه الآية مدنية بقرينة الرد على اليهود وهذا لا وجه له حتى لو فرض كونها ردا عليهم بالخصوص فهناك آيات كثيرة نزلت في مكة بشأن اهل الكتاب كقوله تعالى (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[4] على ما مر الكلام في تفسيرها. وكان اهل مكة ايضا يعلمون اخبارهم وعقائدهم وكانوا يختلفون اليهم ويتحاكمون لديهم.

فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ... تفريع على بطلان عقائد المشركين واستبعادهم للمعاد وتطييب لخاطر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتهديد للمشركين فان الامر بالصبر هنا يعني ايكال امرهم الى الله تعالى فهو لهم بالمرصاد ولذلك عقبه بالامر بالتسبيح والحمد. ونظيره قوله تعالى (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى).[5] ويبدو أن الغرض التنبيه على أن العنصر الاساس لتحقيق المقاومة أمام ضغوط النفاق والكفر هو الالتجاء الى ذكر الله تعالى وتسبيحه وعبادته وقد تكرر ذلك في الكتاب العزيز منها قوله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).[6] وهذا الامر لا يختص بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بل يشمل كل الدعاة والمصلحين وكل من يواجه ضغوط الكفر والنفاق في نشاطه الديني.

والباء في قوله (بحمد ربك) للمصاحبة اي سبحه مع الحمد فالتسبيح اي تنزيهه تعالى من كل ما لا يليق بشأنه الكريم من العجز الذي اعتقده المشركون والتعب الذي توهمه اليهود ومن غير ذلك وليكن ذلك مصاحبا لحمده والثناء عليه بما يليق بذاته المتقدسة. والظاهر ان ذكر الازمنة المختلفة اشارة الى استمرار الذكر والتنزيه والثناء وقيل انه اشارة الى اوقات الصلاة فقبل الطلوع وقت صلاة الصبح وقبل الغروب وقت الظهرين وقوله من الليل اشارة الى العشاءين وأدبار السجود أي أدبار الفرائض والمراد بها النوافل.

ولكنه تأويل بعيد فالتعبير عن وقت الظهر بل العصر ايضا بما قبل الغروب بعيد فان وقتهما وان امتد الى الغروب الا ان مبدأه الظهر ولا يقال له قبل الغروب بل التعبير بما قبل الطلوع عن صلاةالصبح بعيد ايضا والنوافل ليست كلها بعد الفرائض ويقوى الاشكال في سورة طه حيث أضاف الى آناء الليل أطراف النهار فالاقرب ما ذكرناه.

وورد في رواية ان المراد به الذكر قبل الطلوع والغروب روى الصدوق رحمه الله في الخصال بسند مجهول عن اسماعيل بن الفضل قال (سالت اباعبدالله عليه السلام عن قول الله عز وجل "فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" فقال فريضة على كل مسلم ان يقول قبل طلوع الشمس عشر مرات وقبل غروبها عشر مرات "لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير..) الحديث.[7] وهو وان كان واردا في اية سورة طه الا ان العبارة الى هنا فيهما واحدة ولكن السند ضعيف كما قلنا نعم هناك روايات اخرى ايضا حول الذكر في هذين الوقتين من دون ذكر الآية ولم اجد ما يصح سنده ولم يظهر من الرواية انها بصدد تفسير الآية.  

و(من) في قوله (ومن الليل) للتبعيض اي وسبحه شطرا من الليل ولعل المراد غير حال النوم ومثله قوله تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ)[8] حيث يؤمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بالتسبيح والحمد طول اوقات قيامه اي غير حال النوم وشطرا من الليل اي قبل ان ينام وبعد قيامه فالمراد الاستمرار طول الوقت بذكره تعالى وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فقد كان ذاكرا لله تعالى مع كل قول وفعل وفي كل حال من حالاته.

و(أدبار) جمع دبر بضمتين او بضمة فسكون بمعنى آخر الشيء ولا يبعد ان يكون المراد بالسجود الصلاة كما يعبر عنها بالركوع ايضا وكما يعبر عن جزء منها بالركعة كل ذلك من باب تسمية الشيء باسم جزئه المهم وهذا امر بالتسبيح بعد الصلاة وينطبق ذلك على التعقيب بعدها وقد ورد التأكيد عليه في الروايات الشريفة. وقرئ (إدبار) بكسر الهمزة بمعنى الانتهاء فيكون واقعا موقع الظرف اي وقت الانتهاء من الصلاة.

ولكن ورد في بعض الروايات تطبيق الآية على نافلة المغرب منها ما رواه الكليني بسند صحيح عن ابي جعفر عليه السلام حديثا وفي ذيله (قلت وادبار السجود؟ قال ركعتان بعد المغرب)[9]

 


[1] الاعراف: 172

[2] الملك: 10

[3] نهج البلاغة باب الحكم : 147

[4] الشورى: 15

[5] طه: 130

[6] الحجر: 97- 99

[7] الخصال ص452

[8] الطور: 48- 49

[9] الكافي ج3 ص444 باب صلاة النوافل