مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَريبٍ... يحتمل في قوله تعالى (واستمع) ان يكون للتنبيه فليس له مفعول والخطاب للانسان او لكل من يسمع او يقرأ او للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذا الاحتمال فالجملة التالية مستأنفة ومضمونها الامر الذي يجب التنبه له بقوله (واستمع) وعليه فالظرف (يوم يناد..) متعلق بما يدل عليه قوله (ذلك يوم الخروج) اي يخرجون يوم ينادي المنادي. والمجموع جواب للمشركين المنكرين للمعاد والذين يسألون عن موعده.

ويحتمل أن يكون التقدير واستمع للنداء فيكون الظرف متعلقا بالاستماع والمعنى كن متأهبا لسماع النداء يوم ينادي المنادي وذلك لان الاستماع انما يؤمر به حين يقرب النداء والغرض بيان أن النداء قريب زمانا وان توهمه الانسان بعيدا وعليه فقوله (ذلك يوم الخروج) جملة مستقلة. ويحتمل بعيدا وان اختاره العلامة الطباطبائي رحمه الله أن يكون الاستماع مضمنا معنى الانتظار فيكون اليوم مفعولا اي انتظر يوم النداء مستمعا له.

واختلف في المنادي انه جبرئيل أو اسرافيل او ملك آخر او هو الله سبحانه ولا طائل تحت هذا الاختلاف فالمهم هو أن هذا النداء قريب زمانا ومكانا والمراد به نفخة الصور الثانية التي تحيا بها الخلائق كما قال تعالى (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)[1] أما أنه قريب زمانا كما يفهم من هذه الآية ومن قوله تعالى (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا)[2] فلأن الانسان اذا مات فقد قامت قيامته لان الزمان مطوي في تلك النشأة واذا قام الناس فان أمثلهم طريقة من يقول (ان لبثتم الا يوما)[3] وليس هذا وهما وخطأً بل هو حقيقة وان كنا نستغرب طي الزمان ولكنا نشعر به في هذه الحياة ايضا في عالم الرؤيا فالانسان لا يحفظ من رؤياه الا ما يجده في اللحظة الاخيرة التي يكون فيها بين اليقظة والمنام وربما تكون ثانية او اقل منها وهو يرى مشهدا طويلا ربما يستمر ساعات وقد لا يكون وهما وخيالا بل رؤيا حقيقية تحكي عن أمر واقع مغيب عنه في نفس الوقت او في المستقبل.

وأما أنه قريب مكانا فهو ما صرح به في هذه الآية ومعنى ذلك أن الصوت يسمعه كل أحد قريبا منه وليس ذلك لعلو الصوت بل منشأ الصوت قريب من كل أحد كما هو صريح الآية فالمكان ايضا مطوي والفواصل قليلة او منعدمة. والنداء يوجه الى الارواح التي هي نفس النفوس البشرية حقيقة لانه النداء الثاني الذي يعقب النداء الاول وهو الموجب لصعوق من في السماوات والارض كما قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ).[4] فلم تبق الا الارواح.

يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ... وهذا بدل عن يوم ينادي.. وقوله (بالحق) بمعنى أنهم يسمعونه واقعا وليس خيالا ووهما ولعل الصيحة صيحة انفجار يتعقبه نشوء الكون الجديد كما أن الصيحة الاولى يحتمل أن تكون صيحة انفجار يهدم النظام الكوني القائم. والآية تنبه على أن البشر يسمعون الصيحة فهم موجودون وأحياء لهم أسماع وان لم يكن لهم آذان وأجسام ولكنهم في عالم آخر وبحياة اخرى نجهل كيفيتها ومقوماتها.

ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ... اي يوم الخروج من القبور وربما يكون هذا تعبيرا يراد به عود الارواح الى الاجسام والبدء بحياة اخرى. والغرض الرد على السؤال عن التوقيت كما ورد في القرآن مكررا أنهم يقولون (متى هذا الوعد).

إِنَّا نَحْنُ نُحْيي‏ وَنُميتُ... هذه الجملة ترفع الاستغراب عن الاحياء بعد الموت فان الاحياء والاماتة أمران مستمران وهذا ما يدل عليه فعل المضارع. وتعاقب الاحياء والاماتة لم يتوقف لحظة في الكون فالارض تموت وتحيا وما عليها من نبات تموت وتحيا وكذلك الانسان والحيوان بل كل خلية. والحياة لا تختلف في الخلية الواحدة عنها في مجموعة الخلايا المكونة لجسم نبات او حيوان او انسان ونحن نعاصر دائما موت الملايين من خلايا أجسامنا وتكوّن خلايا حية بدلا عنها وكل ذلك من الله تعالى كما أكد عليه بالضمير المنفصل (انا نحن) بل كل شيء وكل حركة وسكون منه تعالى الا أن التأكيد على ذلك في الاحياء والاماتة لغرابتهما وعدم وصول الانسان الى مبادئهما الطبيعية.

وَإِلَيْنَا الْمَصيرُ... المصير هو المرجع والمآل اي ان مرجع الانسان الى الله تعالى فالكل راجع اليه قهرا ليحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون وليبين لهم الحق من الباطل ويرفع عنهم الغشاوة وليجزي كلا بعمله ويضع كل أحد موضعه اللائق به. والانسان كغيره من الخلق لم يخرج عن سلطانه تعالى ولم يستغن عن رحمته لحظة واحدة فالرجوع ليس بمعنى أنه يرجع الى سلطانه بل بمعنى أنه يصل الى مرحلة من الكون لا تحكم فيها القوانين الطبيعية ويسلب فيها الانسان اختياره ويكشف عنه الغطاء فيلقى ربه ويدرك حقائق الكون ادراكا واقعيا مباشرا لا بتخلل الحواس والصور وهناك يتحقق قوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).[5]

يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً... يمكن ان تكون (يوم) ظرفا للجملة السابقة (والينا المصير) ويمكن ان تكون بدلا عن (يوم يسمعون) فتكون بدلا بعد بدل وقوله (تشقق) مضارع اصله (تتشقق) حذفت احدى التاءين. وقرئت ايضا بتشديد الشين وذلك لقلب التاء شينا وادغامها فيها. والمراد بتشقق الارض عنهم خروج الناس منها وهو تعبير كنائي عن احياء الموتى اذ ليسوا كلهم في قبور فملايين الملايين من البشر لم يبق لهم اثر الا ان هذه الاجزاء موجودة على الارض او في باطنها والله تعالى هو العالم بكيفية الاحياء.

و(سراعا) حال من ضمير عنهم اي مسرعين والظاهر انه جمع سريع. وقيل مصدر بمعنى اسم الفاعل ولم نجده في كتب اللغة. وقد ورد هذا التعبير ايضا في قوله تعالى (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)[6] ومثله التعبير بالمهطعين قال تعالى (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)[7] وقال ايضا (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ..)[8] والاهطاع الاسراع في ذل وانقياد وكذلك قوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)[9] اي يسرعون. والسؤال انما هو عن المراد بالاسراع هل هم يركضون؟ ولماذا الركض؟ يحتمل ان يكون المراد سرعة الاجابة وانهم لا يلوون على شيء ولا يتريثون ولا ينظرون يمينا او شمالا بل يسرعون نحو الداعي كما قال تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ..)[10] وكذلك قوله تعالى (الى نصب يوفضون) وقوله (مهطعين الى الداع) وقوله (مقنعي رؤوسهم لا يرتد اليهم طرفهم) والحاصل انهم مسيّرون لا خيار لهم يساقون قهرا نحو الداعي وهو ربهم كما قال (الى ربهم ينسلون) وهم أذلّاء لا يرتد اليهم طرفهم.

ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسيرٌ... الحشر: الجمع بسوق وازعاج. واليسير: السهل. وهذا الحشر يوم القيامة امر غريب حقا. عدد هائل من البشر تواتروا على هذا الكوكب في قرون متمادية لا يعلمها الا الله تعالى يجمعهم في ذلك اليوم ولكنه امر سهل عليه تعالى لانه على كل شيء قدير وليس شيء اسهل عليه من غيره فنسبة الاشياء والامور اليه واحدة. وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر فهو يسير على الله تعالى وليس امرا هينا بذاته.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ... تهديد للكافرين وتسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمراد بما يقولون انكارهم للبعث وتكرارهم للسؤال (متى هذا الوعد؟) يقولونه استهزاءً واستعجالا. ولعل المراد بالآية انه تعالى أعلم بنواياهم حينما يسألون.

 وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ... (الجبّار) مبالغة في الجبر اي قهر الآخرين وإجبارهم على ما يريد. الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حيث كان يتألم من عدم قبول الناس للهداية وهو امر طبيعي فهو يرى اي مستقبل اسود ينتظرهم فيحزن ويتأسف حتى نزل فيه قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[11] بخع نفسه اي قتلها غيظا. وهكذا سائر الانبياء عليهم السلام وقد تكرر في القرآن تسلية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأنك لا تستطيع إجبارهم على الهدى ولكنه امر ممكن والله قادر على ذلك ولو شاء لآمن من في الارض جميعا ولكنه لا يجبرهم على ذلك والسبب واضح فان الله تعالى أسكن الانسان على هذا الكوكب ليمتحنه ولا يكون ذلك الا ان يختار طريقه بكامل حريته ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.   

فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعيدِ... الفاء للتفريع حيث انك لا تستطيع الاجبار فعليك أداء الدور المطلوب منك في هذا الامتحان وهو التذكير وهو من الذكر اي استحضار ما في حفظ الانسان من معلوماته السابقة والتذكير أن يجعل غيره يذكر ما نسيه وينبهه عليه. وأمره أن يذكّرهم بواسطة القرآن ففيه كل ما يحتاجه الانسان في هذا السبيل مما كانت مستودعة في فطرته فنسيه بسبب توغله في شؤون الدنيا. والوعيد مصدر كالوعد ولكنه اختص في الاستعمال بالشر والتهديد وكذلك الايعاد يقال اوعده اي هدّده.

وهذا التذكير وان حصل للجميع الا انه في الواقع ليس الا لمن يخاف وعيدي والكسرة على الدال بدل عن ياء المتكلم. وهذا العنوان لا يختص بالمؤمن فالعرب وهم المخاطبون بالقرآن كانوا يعترفون بالله ويعتقدون بانه الخالق الرازق ويخافون بطشه وقد رأوا ما صنع باصحاب الفيل وغيرهم فهم يخافون وعيد الله تعالى ولكنهم لا يعترفون بالقيامة فيجب تنبيههم على أن الخطر الاعظم هو ما يحدث في ذلك العالم وهذه الغفلة تصيب المؤمن ايضا فنرى كثيرا منهم يخاف عذاب الله تعالى في الدنيا ولا يخاف الآخرة حتى ان بعضهم يعبد الله من اجل الدنيا ولو لم يعترف به فالانسان يغفل عن دواعيه الواقعية ولذلك نجد اكثر الناس يهتمون بالفطرة دون زكاة المال لانهم سمعوا من الوعاظ ان الفطرة تحفظهم الى فطر اخر مع انه غير صحيح وهم يشاهدون انه لا يوافق الواقع ومع ذلك يهتمون بها رجاء تاثيرها في حفظهم الى فطر اخر ويهتمون بالصدقة دون الخمس لكثرة ما ورد من انها تدفع البلاء وهكذا دأبهم في سائر الامور فهؤلاء يخافون الله تعالى ولا يخافون عذابه يوم القيامة.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطيبين الطاهرين

 


[1] الزمر: 68

[2] المعارج: 6- 7

[3] قال تعالى (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) طه: 104

[4] الزمر: 68

[5] غافر: 16

[6] المعارج: 43

[7] ابراهيم: 43

[8] القمر: 8

[9] يس: 51

[10] طه: 108

[11] الكهف: 6