مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)

السورة من السور المكية بشهادة مضامينها حيث تتناول العقائد، وتردّ على المشركين، وتستشهد بما جرى على الامم السالفة، وغير ذلك مما تتميز بها السور المكية.

ص والقرآن ذي الذكر... (ص) من الحروف المقطعة كسائر ما ورد في مفتتح مجموعة من السور، وقد مر الكلام فيها فلا نعيد. والجملة بعده للقسم، وقد مرّت نظيرتها في سورة يس. والذكر يحتمل فيه ارادة كونه مذكورا مشهورا قد ذاع صيته في البلدان وتناقلته الركبان، ويحتمل ان يراد كونه مذكّرا للبشر بما لا ينتبه اليه بنفسه ــ وان دلّه اليه عقله وفطرته ــ نتيجة توغّله في شؤون الدنيا وملذاتها فالقران يذكّر الانسان بربه، ويذكّره بمستقبله المجهول المحتوم، ويذكّره بما يسعده ويشقيه في عالم الخلود.

بل الذين كفروا في عزة وشقاق... (بل) للاضراب. وربما يستغرب بدوا انه اضراب عن اي شيء مع ان الجملة السابقة لم تتم اذ لم يذكر المضمون الذي اقسم عليه بالقران.

والجواب أنّ هذا من الحذف اعتمادا على القرينة حيث يعلم المعنى مــن نفس الاضراب، فيمكن ان يكون المحذوف (انك لمن المنذرين) نظير ما ورد في سورة يس من قوله تعالى: (انك لمن المرسلين) خصوصا بملاحظة التاكيد على الانذار في هذه السورة وتكرره، ويمكن أن يكون المقدّر ما يدلّ على أنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم على حقّ في دعواه.

و(بل) هنا تفيد معنى آخر ايضا وهو دفع ما ربما يستغرب من توصيف القرآن بأنّه ذو ذكر بناءا على أن المراد أنه يذكّر الانسان بربّه، وذلك لانه لم يتمكن من تذكير المشركين في مكّة مع أنهم عارفون باللغة، فالاضراب يفيد أنّ السبب في عدم تذكّرهم هو الاعتزاز والشقاق لا لنقص في تذكير القرآن.

والمراد بـ (الذين كفروا) مشركو مكة. والآية تبيّن السبب في كفرهم وانكارهم وهو العزّة والشقاق، فالعزّة في الاصل بمعنى الصلابة والشدّة، والمراد هنا التزمّت وعدم الانصياع للحق. والناس في مواجهة الافكار المطروحة مختلفون، وطبيعة الجفاء والبداوة المتأصّلة في القوم كانت تقتضي التشدّد وعدم المرونة. وقد قال تعالى عن بعض الناس الذين وصفهم بانهم ممن يعجبك قوله وهو ألدّ الخصام: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ..) البقرة: 206، فهو يعلم ان ما يفعله اثم ولكنه يعتزّ به لمجرد انه منتسب اليه، ولا يعجبه قبول النصح حتى لو وجد في ذلك ضررا بليغا. وهكذا يجرّ الانسان حمقه وكبره وخيلاؤه الى الهاوية.

ومثل ذلك من يعتـزّ برأيه ويأبى قبول الحق من غيره وان تبين له انه الحق كما نجده في اكثر المحاورات. ولذلك قال بعض علماء الاخلاق انه قلّ ما أمكن الوصول بالجدل والحوار الى نتيجة يتفق عليها الطرفان.

واما الشقاق فهو المخالفة كأنّ كلا من الطرفين في شقّ غير شقّ الآخر. والاتيان بـ (في) في قوله (في عزة وشقاق) يفيد أنهم متوغّلون دائما في العزّة والشّقاق لا يفارقونهما كأنه ظرف محيط بهم. والسبب في توغّلهم في الاعتزاز هو الكبر الذي عرف به العرب، وأمّا شقاقهم مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فمنشؤه التعصّب وهو ايضا مما عرفوا به، وهو مأخوذ من العصبة اي القوم والعشيرة التي تؤوي الانسان وتساعده. وما اكثر من اهلكته العصبية ونصرة القوم والاقرباء على الباطل. والعصبية تعود في جذورها الى حبّ الذات فان الانسان يعجبه ما يضاف اليه ويختصّ به.

ويمكن أن يكون ذكر الأمرين (العزّة والشّقاق) لاختلاف القوم في ما يمنعهم من الايمان بالحق، فبعضهم كانت تمنعه العزّة كالأكابر والرؤساء، وبعضهم تمنعه العصبية فقط كالأتباع والمستضعفين.

كم أهلكنا من قبلهم من قرن... الآية تهدّدهم بأنّ السابقين ايضا منعتهم العزّة والشّقاق عن الإيمان وقد أهلكهم اللّه تعالى بذنوبهم وأنزل عليهم عذاب الاستئصال الذي لا يبقي شيئا. والقرآن يؤكّد على أنّ البشر متماثلون في سجاياهم وشؤونهم الاجتماعية غالبا فالعزّة والشّقاق داءان موروثان ابتليت بهما المجتمعات البشرية طيلة التاريخ. والقرن هنا المجموعة من الناس ويطلق ايضا على المجموعة من الزمان.

فنادوا ولات حين مناص... المراد بالنداء الاستغاثة، ولعل التقدير نادوا ربهم ان آمنّا كما هو دأب الانسان حين نزول البلاء، ولكن لا تنفع الاستغاثة والايمان بعد نزول العذاب، كما ان فرعون لم يقبل منه، وجاءه الخطاب (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ...) يونس: 91، كما أن التوبة لا تقبل اذا نزل الموت، قال تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ..) النساء: 18، فلا يغترّنّ الانسان بربه وما امهل!!!

ولات حين مناص.. (لات) حرف نفي بمعنى (ليس) ويعمل عمله، واسمه محذوف، اي ليس هذا الحين حين مناص. و(مناص) مصدر ميمي من النوص وهو الفوز والنجاة.

وعجبوا أن جاءهم منذر منهم... (منهم) اي من بني نوعهم. وقد تكرر في القران الكريم نقـل هذا الاستغراب من الامم السابقة وهو ان يكون الرسول من البشر، فهذا ايضا مما تناقلته الامم. ويمكن ان يكون المراد من قومهم،

وهذا ايضا من غرائب طباع الانسان انه لا يؤمن ببني نوعه، كما أنّ الناس غالبا ما ينقادون لعالم او مصلح من غير بلدهم، ويميلون اليه أكثر مما يميلون الى عالم او مصلح من بلدهم. وهذا من جهل الانسان حيث انه يستصغر ابن البلد الذي نشأ بينهم ويحتقره حيث شاهد منه طول حياته بالطبع ما هو مقتضى البشرية من نقائص وعيوب، ولم يشاهد ذلك من الغريب فيتوهم انه مصون من ذلك بينما ينبغي له ان يحذر منه حيث لا يعلم سوابقه.

وهكذا لا يؤمن الانسان برسول من البشر لما يجد فيه من نقص هو مقتضى البشرية، ويتوقع ان يكون الرسول من الملائكة، ولا يتفطن أن ما يعتبره نقصا كالاكل والشرب والنكاح هو كمال للانسان ولا يعاب عليه، كما قال تعالى: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ..) الفرقان: 7.

ومن جهة اخرى يجهلون مناط اختيار اللّه تعالى للرسالة فيتصورون ان كل ما يتصف به هذا البشر المختار للرسالة موجود فيهم بل اكثر منه، وذلك لانهم اكثر اموالا واولادا، وأشرف محتدا ونحو ذلك من الاعتبارات، وحيث يعلم انه بنفسه لا يستحق الرسالة فلا يستحقه هذا بطريق اولى، وانما يجب ان يكون الرسول ملكا يمكنه ان يرتبط بالسماء.

وقال الكافرون هذا ساحر كذاب... وهذه ايضا تهمة قديمة اتفق المشركون عليها في مواجهة الرسالات، والسبب انه مقالة العاجز وهم متماثلون في العجز. واختلف في معنى السحر بالاصل، فقيل: إنّه من الخداع باعتبار أنّ الساحر يخدع الناس بإراءتهم الشيء خلافا لما هو عليه. وقيل: إنّه من صرف الشيء عن وجهه وإنّ منه قوله تعالى: (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) المؤمنون: 89، أي تصرفون، والساحر يصرف الامور عن وجهتها الحقيقية. وقيل غير ذلك.

وهناك بحث في أنّ السحر هل هو أمر واقعي أو تخييلي. والّذي يظهر من الكتاب العزيز أنه مجرد تخييل. قال تعالى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) الاعراف: 116، ومعنى ذلك أنّ سحرهم لم يتجاوز الاعين. وأوضح منه قوله تعالى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) طه: 66، ولا ينافي ذلك ترتب امور واقعية على ذلك كالخوف او تفرق الزوجين.

ومهما كان فان المشركين كانوا يتهمون الانبياء بالسحر إمّا بدعوى أن ما يظهرون من المعجزات ليست الا من قبيل السحر كما قال فرعون وأتباعه، وإمّا بدعوى أنّ تأثيرهم في الناس إنما هو من السحر ولذلك يفرّقون بين الازواج وبين الآباء والابناء، وهذا ما ادّعاه المشركون في مكّة بالنسبة للرسول الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلّم.   

وقد ورد في التاريخ أنّ المشركين اجتمعوا حول الوليد بن المغيرة وتباحثوا ماذا يسمون ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ليتمكنوا من تفريق الناس وتنفيرهم عنه، فقالوا نقول: كاهن. قال: لا واللّه ما هو بكاهن لقد راينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا نقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا نقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا نقول: ساحر. قال: ما هو بساحر لقد راينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا ابا عبد شمس؟ قال: واللّه ان لقوله لحلاوة، وان اصله لعذق، وان فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلّا عرف أنّه باطل، وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر، جاء بما يفرق به بين المرء وأبيه وأخيه وعشيرته.[1]

وروي هذا الكلام بوجوه اخرى.

ومهما كان فهو يدل على أنّ هذه مؤامرة دبرت بليل، ولم يكن الاتهام بالسحر والجنون نابعا من قناعة بل ولا من شك وارتياب.

واما الاتهام بالكذب فكانوا باجمعهم يعلمون يقينا أنّه بعيد عنه كبعد السماء من الارض بعد ان عاش بين ظهرانيهم اربعين سنة لم يصدر منه ما يعاب عليه حتى لقبوه بالصادق الامين.

أجعل الآلهة إلها واحدا... نعم هذا هو عيبه. والجعل هنا بمعنى الاعتقاد والاعتبار. والاستفهام للاستنكار، وإنّه لمستنكر في تلك العقلية المتجمدة أن ينكر احد الوهية الاصنام الذي دأب على عبادتها الآباء والأجداد، ومستنكر ايضا أن يكون للكون اله واحد. هذا وهُـم يعتقدون باللّه وانه الخالق للكون الا ان الالوهية اي المعبودية لا تتبع الخلق، وانما تتبع مخاوف الانسان ومطامعه، فالذي يمكنه ان يحقق الأمانيّ ويبعّد عن الانسان كابوس الشر هو ذوات غيبية تمثّلها الاصنام.

وهكذا يحاول الانسان الجاهل ان يحقّق آماله ويجتنب محاذيره باسباب مجهولة بعد ان خابت ظنونه وآماله من الاسباب الطبيعية. ومثله رجوع الناس السذج الى السحرة والمشعوذين واصحاب الطلاسم اذا عجز عن علاجهم الاطباء. ومهما كان فهو هنا يستنكر ما يقبله العقل السليم من نفي الوهية الحجارة والتماثيل ويستغرب منه.

إنّ هذا لشيء عجاب... والعجاب مبالغة في العجب والغرابة. و(هذا) إشارة الى نفي الوهية آلهتهم وحصر الالوهية في الاله الواحد.

وانطلق الملأ منهم أن امشوا... الملأ الجماعة من أشراف القوم وعِلْيتهم يقال لهم ذلك لأنهم يملأون عيون العامة مجدا وعظمة. وهذه العظمة وان كانت زائفة الا انها تؤثر في قلوب البسطاء من الناس. والمراد أنهم ابتعدوا عن المكان الذي اجتمعوا فيه مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهم يقولون: امشوا واصبروا..

روى الكليني قدس سره عن أبي جعفر عليه السلام قال: أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا فادعه ومره فليكفّ عن آلهتنا ونكفّ عن إلهه، قال: فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فدعاه فلما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لم ير في البيت إلا مشركا فقال: السلام على من اتبع الهدى ثم جلس فأخبره أبو طالب بما جاؤوا له فقال: أَوَهل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم؟ فقال: أبو جهل: نعم وما هذه الكلمة؟ فقال: تقولون: لا إله إلا الله، قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا هرّابا وهم يقولون: (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) فأنزل الله تعالى في قولهم: (ص * والقرآن ذي الذكر - إلى قوله - إلا اختلاق). [2]

و عليه فالمراد بالانطلاق خروجهم من المكان المذكور. و(ان) في (ان امشوا) تفسيرية تفسر وتبين ما قالوه، ولم يصرح قبله بما يدل على القول ولكن الانطلاق مضمّن ذلك فالمعنى انطلقوا وهم يقولون امشوا واصبروا.. والامر بالمشي كناية عن الاعراض عما يقوله الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وعدم التأثر به فكأنّهم خافوا تاثيره على بعضهم وهذا ما كانوا يحذرونه دائما ويؤرق كبراءهم وخبثاءهم كأبي جهل.

واصبروا على آلهتكم... أمر بالتعصب. ولذا اضافوا الآلهة اليهم اذ انه يعود ــ كما قلنا ــ الى حب الذات. والتعبير يوحي بأنهم شعروا بالضعف والتزلزل يدبّ في قلوب بعضهم فدعوهم الى الصبر في سبيل الابقاء على المجد التليد!!!  

ان هذا لشيء يراد... الظاهر أن (هذا) اشارة الى الصبر على الآلهة. والمراد أن هذا أمر يريده المجتمع القبلي او يريده الكبراء او نريده جميعا. وهذا ايضا يدلّ على شعورهم بالضعف والتزلزل وكل هذا التاكيد فيما بينهم ينمّ عن ما دبّ في قلوب بعضهم او جميعهم من الشك والتردد. ويلاحظ ان شيطانا كابي جهل لو لم يكن بينهم لآمن كثير منهم.

ويمكن ان يكون (هذا) اشارة الى ما احدثته الرسالة الالهية من انقسام في المجتمع. والمراد أن هذا أمر يريده الخصم، والغرض التنديد به والتحذير منه بانه يريد بمجتمعنا الشر او انه يريد ان يتسلط علينا، نظير ما ورد في القرآن من حكاية كلام فرعون وملائه (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِيالْأَرْضِ..) يونس: 78.

ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ان هذا الا اختلاق... الملّة: الطريقة. والظاهر أنّ المراد بالملة الآخرة العصر الحديث في ذلك الزمان فيكون بمعنى أنّ هذا من الافكار القديمة البائدة. ومثل ذلك قولهم: ان هذا الا اساطير الاولين. والاختلاق: الكذب.

وقيل: ان المراد بالملة الآخرة آخر الآباء فيكون من التقيّد بتقاليد الآباء، والحذر من كل جديد. ويردّه انه لا وجه حينئذ للتركيز على وصف التأخّر بل ينبغي ان يركّز حينئذ على كل ما توغّل في القدم.

وقيل: إن المراد بها النصارى فهم آخر ملة من امم الانبياء وهم لا يقولون بالتوحيد بل التثليث. ولكن هذا الاحتمال غير صحيح أوّلا لأنه لا خصوصية في تأخّرهم وهم يركّزون على الملة الآخرة. وثانيا ان القائلين لا يقبلون التثليث ايضا. وثالثا أن مرادهم باسم الاشارة كما ذكرنا هو نفي عبادة الاصنام فهذا هو الذي يندّدون به ويقولون انهم لم يسمعوا به في الملة الآخرة. فالاولى ما ذكرناه ولعله هو مراد العلامة الطباطبائي رحمه اللّه.

أأنزل عليه الذكر من بيننا... استفهام انكاري، والانكار فيه يبتني على احتقار الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم. وهذا ايضا مما كررته الاقوام السابقة والجبابرة، فنجد فرعون يستصغر موسى عليه السلام ويقول: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) الزخرف: 52.

والمشركون ايضا احتقروا الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من ان ينزل عليه الوحي وهم يظنون ان فيهم من هو اولى بذلك. ولذا قالوا (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الزخرف: 31، والعظمة عندهم بالمال والاولاد، واللّه تعالى اعلم حيث يجعل رسالته. وما قالوا ذلك الا حسدا على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

وقد ظهر ذلك بوضوح في كلماتهم مثل ما حكي عن ابي جهل أنه قال: (تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، اطعموا فاطعمنا، وحملوا فحملنا، واعطوا فاعطينا، حتى اذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ واللّه لا نؤمن به ابدا ولا نصدّقه). اذن فالحسد كان هو المانع من ايمانهم لا الشك والتماس الدليل.

وعبّروا عن القرآن بالذكر جدلا بمعنى انه لو فرض كونه ذكرا فلماذا لا ينزل على من هو اولى به على ما يظنون او عبّروا به استهزاءا.

بل هم في شكّ من ذكري... أضرب عن قولهم السابق حيث استنكروا نزول الذكر على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأن كفرهم أكثر من ذلك فهم يرتابون في كل ما يذكّر باللّه او ما يسند الى اللّه تعالى من ذكر اي ما يذكّر الانسان. وهو بمعنى التشكيك في رسالة السماء رأسا.  

بل لمّا يذوقوا عذاب... الباء في (عذاب) مكسورة لحذف الياء اختصارا ولتوافق أواخر الآيات، فهو في الاصل (عذابي). و(لمّا) يدل على انه واقع لا محالة وانما يتأخر لزمانه المناسب. والظاهر أنّ الاضراب بلحاظ أن شكّهم لا يستند الى عدم ادراك للحقائق بل هو من جهة عنادهم واستكبارهم وعدم تخوّفهم من العذاب، وأنّهم سيستمرون على ذلك الى ان يذوقوا العذاب وهم ذائقوه لا محالة.

أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب... (ام) منقطعة اي بل هل عندهم.. وهو ردّ على استنكارهم نزول الوحي على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بان هذا من رحمة ربك، وبيده خزائن الرحمة لم يفوّض امرها الى احد، فهل هذه الخزائن تحت تصرفهم فيقسمونها حيث يشاؤون ويمنعونها من يشاؤون؟! والاستفهام للانكار.

وهذا نظير قوله تعالى (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الزخرف: 32، فالرحمة كلها بيده تعالى حتى الرزق المادي انما يتوزع حسب ارادة اللّه تعالى تبعا للقابليات الموزعة بين الناس، فكيف بالرسالة وارتباط الانسان بالسماء وتلقي الوحي؟! وكيف يمكن ان يفوض اللّه تعالى امرها الى احد؟! .

واضيفت الرحمة الى الرب والرب الى ضمير الخطاب للاشارة الى ان ذلك مقتضى تربية خاصة وعناية خاصة بك، فاللّه تعالى يختار رسله من بين عباده ويتولى شؤونهم من قبل تكوينهم الى زمان النبوة، كما قال تعالى خطابا لموسى عليه السلام: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ..) طه: 39-40.

ولعل توصيفه تعالى في هذه الجملة بالعزيز الوهاب لانه بعزته يستحيل ان يؤثر فيه شيء، فهو يفعل ما يشاء ويحكم مايريد ولا يفوّض امر الربوبية الى احد، بل لا يمكن ذلك كما قال تعالى: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) الكهف: 26، فان الربوبية لا تقوم الا بمن له هذه الصفات العليا ليكون محيطا بكل أجزاء الكون، قائما على كل نفس بما كسبت. ولكونه تعالى وهّابا يهب ما يشاء لمن يشاء فلا غرو اذا وهب النبوة لمن يحتقره الناس جهلا بمعدنه.

ام لهم ملك السماوات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسباب... وهذا اضراب آخر وانكار آخر اي ليس لهم ملك السماوات والارض وما بينهما، ولو كان لهم ذلك لتمكنوا من منع نزول الوحي عليك فان ذلك لا يمكن الا لمن له الملك والسلطة في الكون يتصرف فيه كيف يشاء. ومن الواضح أنهم لا يملكون ذلك.

والارتقاء: الصعود. والاسباب جمع سبب اي ما يتوصل به الى المقصود، والمراد بها هنا طرق السماء. والجملة جزاء لشرط مقدر اي ان كان لهم ملك السماوات والارض فليصعدوا معارج السماء ويمنعوا نزول الوحي، وهو افتراض المستحيل. والامر بالارتقاء للتعجيز، او للتهكّم لوضوح عدم تمكنهم.

وانما ذكر السماوات والارض وما بينهما لان عملية نزول الوحي من السماء الى الارض انما تتم عبر التصرف في كل الكون فالوحي من السماء اي خارج نطاق الطبيعة ومما لا تصل اليه افهام البشر فكيف بايديهم وقدراتهم المادية؟! والرسول على الارض، والوسائط ــ وهم الملائكة ــ بين السماء والارض.

ولا ينبغي أن يتوهم أن المراد بالسماء الاجرام الكونية التي نشاهدها فوقنا فيخطئ الوهم في معنى البينية ايضا، بل السماء فوق عالم الطبيعة فوقية معنوية لا محسوسة، والبينية ايضا تناسب هذا المعنى.

جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب... هذا تحقير لهم بعد مطالبتهم بما لا يستطيعون وهو الارتقاء في الاسباب. والمعنى انهم ليسوا الا جندا حقيرا مهزوما متفككا تشكل من احزاب مختلفة جمعتهم معاداة الرسل كما كان الذين من قبلهم وسياتي ذكرهم.

وقوله (جند) خبر مبتدؤه محذوف اي هم جند.. و(ما) للتحقير والتصغير. و(هنالك) اشارة الى البعيد، وفيه ايضا معنى بعدهم عن مراكز القدرة والتصرف في الكون فليسوا في مكانة يمكنهم الارتقاء في الاسباب، ثم وصفهم بانهم مهزومون قبل ان يحاربوا فهم مهزومون نفسيا، ومهزومون في المناظرة والجدل، ومهزومون في كل ما يحتاج الى قوة لانهم يعادون اللّه تعالى وهو مصدر كل قوة فليس لهم الا الهزيمة والهلاك.

ثم التعبير بانهم من الاحزاب اما انه اشارة الى انهم ليسوا جماعة واحدة تجمعهم دين او عقيدة، وانما جمعتهم العصبية مع اختلاف اهوائهم ودوافعهم، وانهم انما تجمعوا لهدف واحد وهو معاداة الرسل والحفاظ على تقاليد الآباء التي يرون فيها مصالحهم المادية، فليس وراءهم هدف سام يدعوهم الى المواجهة، واما ان يكون اشارة الى انهم من الجماعات المعادية للرسل فيكون الالف واللام للعهد. ويؤيد الثاني الآيتان التاليتان.

 

[1] الدر المنثور في تفسير الآية 90 من سورة الحجر

[2] الكافي ج2 ص649