مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

 

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبيلِ اللّه إِنَّ الَّذينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبيلِ اللّه لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)

 

ينبغي التنبيه قبل البحث عن معنى الآيات ان القرآن الكريم يصحّح اخطاء العهدين (التوراة والانجيل) في موارد كثيرة بطريق ايجابي، وهو ذكر الكلام الحق ونقل الحدث على ما هو عليه من دون الاشارة الى أخطائهما، وقد قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ..) المائدة: 48، وقال ايضا: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) النمل: 76.

ومن الاخطاء الكبيرة نقلهم لقصص الانبياء على أساس الاقاويل والقصص المنتشرة. ومن المعلوم ان التوراة الاصلية لم تكن الا مجموعة من الاحكام والشرائع. واما التواريخ المذكورة فيها فهي من صنع علمائهم اضافوها الى التوراة. وهذا واضح لانها لا تتعلق بعهد موسى عليه السلام ولا من كانوا قبله بل بالمتاخرين جدا.

ومما ذكر في هذه الكتب المضافة ان داود عليه السلام كان ملكا ولم يكن نبيا وورد فيها من قصته ــ على ما في تفسير الميزان ــ ما ملخصه انه هوي امرأة احد قواد جيشه يسمى اوريا فزنى بها وحملت منه، ثم بعث الى امير الجيش ليجعل ذلك القائد في مقدمة الجيش حتى يقتل، ثم تزوج بامراته وولدت له سليمان، ثم أرسل اللّه أحد انبيائه اليه، فقال له كان في المدينة غني له غنم وبقر كثير وفقير ليس له الا نعجة واحدة فجاء ضيف الى الرجل الغني فذبح له نعجة الفقير. فقال داود: يجب ان يقتل الغني ويؤخذ منه اربع نعاج للفقير. فقال له النبي انت هو الرجل ثم هدده بعذاب من اللّه، واشار بذلك الى ظلم داود لاوريا.

والظاهر ان اختلاف قبائل بني اسرائيل هو السبب في اختلاق هذه القصص وامثالها. ومن المخزي ان بعض روايات المسلمين ايضا من هذا القبيل ولكنهم خففوا من الاتهام فقالوا انه هوي المراة فطلب من زوجها وهو من قواده ان يطلقها ثم تزوجها فارسل له اللّه ملكين يتحاكمان اليه بما ورد في هذه الآية لينبهه على عدم انصافه لقائده الذي لم يكن له الا امراة واحدة وكان لداود جمع من النساء والجواري.

وهذا ايضا كذب وافتراء ينزه عنه الانبياء مع ان الآيات كما سيأتي لا توافق هذا التفسير وان اصر عليه مفسرو العامة غالبا، بل عدّ بعضهم التفسير الصحيح من كلام الجهلة. وهذا غاية الجهل.

واما في رواياتنا فالقصة هكذا على ما رواه الصدوق قدس سره في عيون اخبار الرضا عليه السلام في حديث طويل يردّ فيه عليه السلام على ما يتهم به الرسل، الى أن يقول:

(وأما داود عليه السلام فما يقول من قبلكم فيه؟ فقال على بن محمد بن الجهم: يقولون: ان داود عليه السلام كان في محرابه يصلي فتصور له ابليس على صورة طير احسن ما يكون الطيور فقطع داود صلاته وقام لياخذ الطير فخرج الطير الى الدار فخرج الطير الى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير دار اوريا بن حنان فاطلع داود في اثر الطير بامراة اوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها وقد اخرج اوريا في بعض غزواته فكتب الى صاحبه ان قدم اوريا امام التابوت فقدم فظفر اوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب إليه ثانية ان قدمه امام التابوت فقدم فقتل اوريا فتزوج داود بامراته.

قال: فضرب الرضا عليه السلام بيده على جبهته وقال: انا لله وانا إليه راجعون! لقد نسبتم نبيا من انبياء الله الى التهاون بصلاته حتى خرج في اثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل! فقال: يا بن رسول الله فما كان خطيئته؟

فقال: ويحك! ان داود إنما ظن ان ما خلق الله عز وجل خلقا هو اعلم منه فبعث الله عز وجل إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا: (خَصْمانِ بَغى‏ بَعْضُنا عَلى‏ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى‏ سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه فقال: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ) ولم يسال المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه. ألا تسمع الله عز وجل يقول: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) الى آخر الاية.

فقال: يابن رسول الله فما قصته مع اوريا فقال الرضا عليه السلام ان المرأة في ايام داود عليه السلام كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده ابدا واول من اباح الله له ان يتزوج بامراة قتل بعلها كان داود عليه السلام فتزوج بامراة اوريا لما قتل وانقضت عدتها منه فذلك الذي شق على الناس من قبل اوريا... الحديث) [1]

وقد وقع مثل ذلك للرسول الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث تزوج بزينب بنت جحش بعد طلاق زيد اياها مع انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان قد تبنّاه. وقد مر في تفسيره ان القصد من هذا التشريع انما كان محاربة الطقوس والعادات الجاهلية، وهو ترتيب الاثر على التبني فاراد المشرع الحكيم ان يقتلع تلك العادات من جذورها فامر رسوله ــ وهو المعصوم والمشهود له في شبابه وقبل نبوته بالعفاف والتقوى ــ ان يتزوج زوجة متبناه لئلا يبقى ادنى شبهة في قلوب المؤمنين.

وهكذا ينبغي ان تواجه الاخطاء المتأصّلة الاجتماعية التي ضربت بجذورها في اعماق النفوس.

ولكنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يسلم من اتهام الوضاعين، وهم هنا لم يتبعوا الاسرائيليات بل قاموا بدور الاسرائيليين بانفسهم وهم يدّعون الاسلام. وقد مرّ البحث حوله في تفسير سورة الاحزاب.

ومن مثل هذا الحديث الذي نقلناه يظهر دور الأئمة الاطهار سلام اللّه عليهم في الدفاع عن الثقافة الاسلامية الواقعية، وتطهيرها من الاكاذيب الملصقة، والذبّ عن حريم العصمة والرسالة. وكم له من نظير في التفسير والفقه مما يوضح ان احاديث الائمة عليهم السلام مهيمنة على السنة المنقولة عن طرق القوم تماما كهيمنة كتاب اللّه العزيز على الكتب السماوية المحرفة. 

وفي رواية رواها الصدوق ايضا عن علقمة ( وفيها): قال: فقلت للصادق عليه السلام : يا ابن رسول الله إن الناس ينسبوننا إلى عظائم الأمور وقد ضاقت بذلك صدورنا. فقال عليه السلام: يا علقمة إن رضا الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط فكيف تسلمون مما لم يسلم منه أنبياء الله ورسله وحججه عليهم السلام؟ ألم ينسبوا يوسف عليه السلام إلى أنه همّ بالزنا؟ ألم ينسبوا أيوب عليه السلام إلى أنه ابتلي بذنوبه؟ ألم ينسبوا داود عليه السلام إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها؟ وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها؟... [2]

وهل أتاك نبأ الخصم اذ تسوّروا المحراب... الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، او لمن يسمع او يقرأ الآية. والاستفهام للتنبيه، وجلب الاهتمام الى النبأ. والخصم في الاصل مصدر كالخصومة ويطلق على من يخاصم غيره مفردا او جماعة. واذ ظرف للنبأ. والتسور الصعود على السور، والمراد هنا سور المحراب اي جدرانه كما يقال التسنم للصعود على السنام او كل عال مجازا. والمحراب فسر بالغرفة والمكان العالي في البيت، ولعل المراد به مكان العبادة كما في قوله تعـالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ..) آل عمران: 37، وقـوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ..) مريم: 11.

اذ دخلوا على داود ففزع منهم... ظرف ثان للنبأ، والفزع على ما في المفردات انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشي‏ء المخيف، فالمعنى ان الفريقين المتخاصمين تسوروا المحراب حين ما كان داود مشتغلا بالعبادة ويفترض ان يدخلوا عليه من الباب. ولعل الدخول عليه كان ممنوعا لاشتغاله بالعبادة. ولعلهم ارادوا بذلك التنبيه على كونهم ممن لا يمنعهم مانع.

وبما مرّ يتبين ان هذا الفزع ردّ فعل طبيعي، ولكن يحتمل انه فزع خوفا من ان ينالوه بسوء حيث دخلوا عليه من دون استئذان في وقت لا يسمح لاحد بالدخول.

قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض... (خصمان) خبر لمبتدأ محذوف، اي نحن خصمان. وجملة (بغى بعضنا..) وصفية. والبغي في الاصل هو الارادة والقصد فاذا عـدي بـ (على) كان بمعنى الاعتداء وقصد ما لا يحق له من غيره.

ولا تنافي بين ضمائر الجمـع في (تسوروا، دخلوا، قالوا) وضمير التثنيـة فـي (خصمان) اذ يمكن ان يكون المراد الفريقين المتخاصمين، فيظهر من العبارة ان كل فريق او احدهما كان يتشكل من اكثر من واحد.

فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا الى سواء الصراط... من الملفت للنظر ان المتخاصمين كانوا شديدي اللّهجة فامروا داود بأن يحكم بينهم بالحق ولا يجور. والشطط هو البعد والمراد البعد عن الحق. وسواء الصراط وسط الطريق، فان الطرق البرية في تلك الازمنة لم تكن محددة فاذا كان الانسان يسير على حافته احتمل فيه ان يضيع الطريق الاصلي ويقع في متاهة بخلاف من يسلك وسط الطريق فانه يضمن عدم الضياع فكني بوسط الطريق عن الموقف الصحيح في كل موضوع.

ويمكن ان يكون وسط الطريق اشارة الى الاعتدال وعدم الانحياز الى احد الجانبين في الخصومة.

وهذه الفظاظة في الخطاب مقصودة ولعل الهدف منها المزيد من الابتلاء والفتنة فان مثل ذلك ربما يكون مهيّجا لغضب القاضي وحافزا لتطرّفه. ولعل الدخول بتلك الكيفية الموجبة للفزع ايضا يقصد به ذلك، فالحاصل انه عليه السلام ابتلي بعدة امور تستوجب تسرعه في الحكم. وهكذا امتحان اللّه وتأديبه لأنبيائه عليهم السلام.

ان هذا اخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب... هكذا عرضت القضية على داود عليه السلام. وقوله (اكفلنيها) اي اجعلني كفيلا لها. وهذا كناية عن التمليك لان مالك الحيوان كفيل بحفظه وصيانته.

وقوله (عزني في الخطاب) قيل: اي غلبني في الاحتجاج. ولكن يمكن ان يكون بمعنى التشدد والصلابة لما مر مرارا من ان العزة بمعنى الصلابة. والغرض انه أصرّ على ذلك بقوة لئلا يتوهم انه طلب منه بلطف فان ذلك لا يستدعي المخاصمة.

ويبدو هنا تساؤل، وهو انه اذا فرض ان المتخاصمين كانوا في الواقع ملائكة فكيف يعبر بالاخ ولا اخوة بينهم، والملائكة معصومون من الكذب؟ والمفسرون أوّلوا ذلك بان المراد الاخوة في الدين ونحوها.

ولكن الاشكال اوسع من ذلك حيث ان القصة كلها غير واقعية فلا بد من التوجيه بما ورد في التفاسير ايضا من ان ذلك على سبيل الفرض والتقدير نظير ما يذكر حين عرض مسالة ما على الفقيه: رجل كان كذا وكذا... وبناءا على ذلك فلا حاجة الى تأويل الاخوة بما ذكر لانها ايضا مجرد فرض.

قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه... بناءا على ما مر من تفسير اهل البيت عليهم السلام كان هذا الجواب تسرعا منه عليه السلام في الحكم والقضاء فلم يسأل المدعي البينة على دعواه ولم يستوضح من المدعى عليه ما استوجب طلبه، وهذا هو موضع الفتنة والابتلاء، والدرس الذي اراد اللّه سبحانه وتعالى ان يلقنه بطريق عملي لكي يعلم من نفسه موضع الضعف.

وهذا أمر هام جدا في مجال التربية فان مجرد القاء التعليمات لا يغني عن ذلك مهما كانت الدراسة عميقة ومفصلة، بل المهم في تربية القضاة وغيرهم التدريب العملي. ومن ذلك وضع القاضي في حالة حرجة يستوجب ابرازه لحالته الطبيعية التي لا يتكلف فيها، فان هذا هو موضع الضعف في الانسان، وانت تجد الرجل مؤدبا و متقيدا بالسنن الاجتماعية وما يستلزمه منصبه وموقعه الاجتماعي الا في الحالات الحرجة التي تبعث الانسان على ابراز كوامنه فيتبين طبعه الاصلي.

واللّه تعالى يريد ان يؤدّب نبيه ليكون مثلا في القضاء العادل، ولا يكفي في ذلك تعليمه وانزال الوحي بما يجب ان يفعل ويترك، بل لا بد من تنبيهه على موضع ضعفه ليكون على بصيرة مما يجب ان يفعله في الموارد الحرجة، وما يمكن ان يصدر منه في هذه الحالات عن غير قصد.  

وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض... هذا حكم عام. والظاهر أنه من تتمة كلامه عليه السلام أراد به التنبيه على أنّ ما صدر من خصمك غالبا ما يحدث في موارد الاختلاط، نظير ما يحدث بين الزوجين والاخوين والشريكين والصديقين.

الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم... لم يكتف بالايمان فليس الايمان بنفسه وازعا عن البغي خصوصا في موارد الاختلاط، بل لا بدّ من ملكة قوية تمنعه، وهي لا تحصل الا بالايمان والعمل الصالح وهي ما نسميه بالعدالة. ثم بيّن انهم قليل جدا.. و(ما) هنا زائدة تفيد التاكيد على القلة.

وظنّ داود أنّما فتنّاه فاستغفر ربه وخرّ راكعا وأناب... الخرور هو السقوط مع صوت، ومنه خرير الماء. واما الركوع فقيل انه بمعنى السجود وهو ما يقتضيه التعبير بالخرور. وقيل انه مجاز عن الصلاة لانها تشتمل عليه، والانابة هي الرجوع الى اللّه تعالى.

 والفتنة الامتحان. ويقال ان المراد بالظن هنا العلم لانه علم بذلك بعد ان تبين له ان الخصمين انما كانوا من الملائكة. ولعله علم بذلك بعد غيابهم عن بصره فورا كما قيل.

ولكن الظاهر ان الظن بمعناه وليس معنى الظن الاحتمال الراجح بل الاعتقاد الحاصل من الشواهد من دون استناد الى حس او دليل قطعي وان اوجب الاطمئنان. ويقابله العلم المستند الى الحس او الدليل القطعي.

وهنا ايضا انما تبين الامر له عليه السلام بملاحظة الشواهد والقرائن فهو ظنّ وان لم يحتمل فيه الخلاف، مع ان احتماله ايضا غير بعيد الا انه احتمال ضعيف جدا لا يعتنى به. بل حتى لو كان احتمالا قويا في ذاته فان الظن بمثل ذلك يكفي لنبي كداود عليه السلام ان ينبهه ويستوجب الاستغفار.

وينبغي ان نراجع هنا انفسنا ونعتبر من هذا الدرس ونلاحظ أننا نرى الشواهد القوية القطعية على مفاسد اعمالنا وتبعاتها حيث ان اللّه تعالى بلطفه وهدايته ينبهنا على ذلك، ومع ذلك نغمض العين عن كل تلك الشواهد القطعية ونتـشبث باقل من الحشيش لكي لا نحمل انفسنا عناء المجاهدة وترك الملذات.

واما داود عليه السلام فما ان تبين له حتى استغفر ربه وخرّ راكعا واناب... استغفر ربّه لا من ذنب بل لانه لم يقم بما هو الصحيح في القضاء بين الناس، لا ما ذكره مفسرو العامة انه افتتن بامراة اوريا، حاشاه.

ويدلّ على ذلك قوله تعالى بعد ذلك: (يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق...) من دون أن يفصل بين هذه الجملة والجملة السابقة بالواو، مما يدل على ان ذلك انما ورد كنتيجة للامتحان المذكور فلا بد من كونه امرا مناسبا له، ولو كان الامر كما قالوا لخوطب بالنهي عن متابعة الشهوات.

فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى وحسن مآب... الغفران لا يستوجب كون ما اتى به محرما بل يكفي ان يكون غير مناسب لمقامه، ولما ينبغي ان يكون عليه الانبياء عليهم السلام، فان حسنات الابرار سيئات المقربين. والغفران هو الستر، ومنع ترتب الآثار السيئة على العمل، حتى لو كان العمل واجبا شرعيا وترتّب عليه أثر سيّئ في الدنيا كما قام به موسى عليه السلام.

ولذلك عقّبه بكل تاكيد ان له قربا وزلفى لدى اللّه تعالى. فقد أكّده بـ (إنّ) ولام القسم. وتنكير الزلفى للتعظيم مما يدل على عظم منزلته عليه السلام وقربه لدى اللّه تعالى. والمآب المرجع اي انه يرجع الى اللّه تعالى يوم القيامة باحسن وجه.

ويمكن أن يكون المراد بالمآب المأوى الذي يرجع اليها أي الجنة.

يا داود انا جعلناك خليفة في الارض...لعل جملة الخطاب هنا بتقدير (وقلنا له..) او انه حكاية لما خوطب به في ذلك المقام. وقد مرّ انه يحكي عن نتيجة الامتحان. ويتبين منه أنّ الفتنة انما كانت في طريقة حكمه بين المتخاصمين.

ومن الواضح أنّ المراد بالخلافة خلافة اللّه. ولا وجه لحمله على خلافة الانبياء السابقين. ولعل الداعي الى هذا التاويل استغراب كون الخلافة للّه تعالى، لانه على وجه الحقيقة غير ممكن اذ يتوقف على زوال المستخلف او بعده عن الموقف واللّه تعالى على كل شيء رقيب وحفيظ.

والجواب ان الخلافة للّه تعالى ورد في الكتاب العزيز للانسان بوجه عام قال تعالى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً..) البقرة: 30وقال ايضا: (وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ في‏ ما آتاكُم‏..) الانعام: 165، على أحد الاحتمالين في معنى (خلائف)، وغير ذلك.

ولعل التعبير بالخلافة في الانسان من جهة ما اوتي من عقل واختيار، فهو يفعل في الارض ما يشاء في اطار العوامل الطبيعية فهو اختيار محدود ولكنه اختيار على كل حال. ولعله لذلك استنبط الملائكة انه يفسد في الارض ويسفك الدماء.

واما خلافة داود عليه السلام فالظاهر بقرينة التفريع الآتي انه في الحكومة والقضاء بين الناس. ومنه يعلم اهمية هذا المنصب بذاته، وانه منصب الهي لا يقوم به الا نبي او وصي نبي او من اوكلوا اليه ذلك كما في الحديث، بل هو في الاصل للّه تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للّه) الانعام: 57، فمن هنا اعتبر داود خليفة له تعالى.

فاحكم بين الناس بالحق... اي بالامر الثابت وهو شريعة السماء وحقوق الانسان حسب ما نزل به الوحي. والحكم بين الناس هو القضاء او الولاية العامة.

ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه... الظاهر منه اتباع القاضي والحاكم هواه في الحكم بين الناس ويبعد حمله على اتباع هوى الآخرين. قالوا: ان الخطاب ليس متوجها اليه لانه نبي معصوم لا يتبع الهوى والمراد نهي غيره ممن يتصدى للقضاء.

وقال بعضهم: ان متابعة الهوى في مثله تتحقق بمثل ما حصل له في الامتحان السابق وهو التسرع في الحكم مما لا ينبغي ان يصدر منه، وفي غيره ربما تتحقق بالحكم بالجور والميل الى احد الطرفين.

والصحيح ان العصمة لا تنافي ان يخاطب بالنهي عن المحرمات والامر بالواجبات، بل لا معنى للعصمة لولا الخطاب اذ لولاه لم يكن معنى للمخالفة والذنب، المفروض عصمته منه، وقد خوطب الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بل كل الرسل بأشدّ منه، قال تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرين)‏ الزمر: 65 والآية لا تقبل اي تأويل.

ثم علل الحكم بان متابعة الهوى يضل الانسان عن سبيل اللّه. وليس بالطبع كل ما يهواه الانسان منافيا للسير في سبيل اللّه تعالى، ولكن المراد ان متابعة الهوى خصوصا في القضاء بين الناس يستدرج الانسان الى الضلال، فان القاضي عليه ان يتّبع الحق سواء وافق هواه ام خالفه، وسبيل اللّه هو الحق، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ..) الحج: 62.

ان الذين يضلون عن سبيل اللّه لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب... (ما) مصدرية اي بنسيانهم يوم الحساب. والمعنى ان الضلال عن سبيل اللّه يجرّ الانسان الى العذاب الابدي وذلك بسبب نسيانه ليوم الحساب. والمراد بالنسيان لازمه وهو عدم الاهتمام به لا النسيان حقيقة.

وهذه الجملة تعلل ضرورة تجنب الضلال عن سبيل اللّه بارجاعه الى وازع ذاتي وهو استلزامه للعذاب الشديد، وهو العلة الذاتية التي تدعو الانسان الى طاعة اللّه تعالى، فان وجوب كل طاعة يستند الى وجوب اطاعة اللّه، ووجوب اطاعته تعالى يستند الى علة ذاتية ولذلك يعتبر كل أمر بوجوب اطاعته ارشاديا.

وفي الآية الكريمة اشكال، وهو أنّ مقتضى الآية الملازمة بين الضلال ونسيان يوم الحساب، وأن الضلال لا يتحقق الا بذلك، وأن سبب العذاب هو نسيان يوم الحساب لمكان الباء، ولازم ذلك ان الذي يكون معتقدا لذلك اليوم وحذرا منه ومتنبها له لا يضل السبيل ولا يستحق العذاب، مع انا نجد في الناس من يعتقد بالآخرة ويتقي ربه ويحذر العذاب الابدي ولكنه لم يهتد الى دين الحق او المذهب الصحيح وضلّ عن سبيل اللّه بمعناه الواقعي. 

وربما يقال: ان سبيل اللّه عام يشمل كل هذه السبل. وهذا مما يصرّ عليه بعض المثقفين الذين يدّعون التعمق في الدين. ولكنه كلام باطل فان القرآن زاخر بما يدل على ان سبيل اللّه واحد كقوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ..) الانعام: 153.     

والجواب عن الاشكال أنّ مورد الآية الذين يضلون عن سبيل اللّه تعالى بمتابعة الهوى، وهو لا يكون الا بنسيان يوم الحساب اي عدم الاهتمام به، ولا ينطبق على من ضل السبيل لعدم تمامية الحجة عليه لنقص في عقله او لامور اخرى كتأثير المجتمع والتربية والدعايات المضادّة. وليعلم أن الغالب في دافع من يتّبعون المذاهب الفاسدة هو متابعة الأهواء اما ابتداءا أو بقاءا.

 

[1] عيون الاخبار ج2 ص 192

[2]الامالي ص164