مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئينَ فيها يَدْعُونَ فيها بِفاكِهَةٍ كَثيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)

 

هذا ذكر وان للمتقين لحسن مآب... اي ما مرّ من الاشارة الى سيرة الانبياء ذكر للناس يذكّرهم بلزوم متابعتهم والعمل بسنتهم. ثم بيّن أنّ المتقين وهم الذين يتّبعون الانبياء ويقتدون بهم يرجعون الى اللّه تعالى يوم القيامة رجوعا حسنا لهم فيه كل الخير. والمآب المرجع، وهو مصدر. ويمكن أن يكون بمعنى المسكن. ويعبّر عن المسكن بالمآب لأنّ الانسان يرجع اليه اينما ذهب، ومثله المأوى.

ويحتمل ان تكون الاشارة بـ (هذا) الى القرآن الكريم لا خصوص ما مرّ من الآيات، فتكون الجملة منفصلة عما سبق تماما وان ارتبطت به في المعنى والغرض.

وقيل: المراد ان ما مر من الكلام ذكر للانبياء واشادة بهم. واختاره العلامة الطباطبائي رحمه اللّه. وهو بعيد لعدم الفائدة في التنبيه عليه.

وقيل: ان جملة (هذا ذكر) بمنزلة اعلام الانتهاء من موضوع والورود في موضوع اخر كما هو ديدن المؤلفين فيقولون: هذا باب او فصل واما كذا... وهذا ابعد ما قيل.      

جنات عدن... بدل عن حسن مآب او عطف بيان، فالمراد ان مرجعهم الحسن هو جنات عدن. والعدن بمعنى الثبات والاستقرار كما يقال معدن ذهب مثلا اي انه مستقر فيه وثابت، لا كالموضع الذي يوضع فيه وينقل، وكما يقال ان فلانا معدن العلم اي انه ثابت فيه بالتعلم والدراسة وليس كمن يتلقن امرا عابرا. فالمراد ان هذه الجنات مكان استقرار وثبات وليست كجنات الدنيا يتنعم الانسان فيها اياما ثم ينتقل عنها الى غيرها ثم الى مثواه الاخير.

مفتّحة لهم الابواب... حال من الجنات. والالف واللام بدل عن الضمير اي مفتحة لهم ابوابها، و(الابواب) نائب الفاعل مرفوع بـ(مفتحة).

وهذا كناية عن الترحيب بهم، ولا يقصد المعنى الحقيقي اذ لا يمكن الدخول الا من ابواب مفتوحة فلا حاجة الى ذكره، فالمعنى ان الدخول مع ترحيب واكرام. ويدل على ذلك اتيان الفعل من باب التفعيل الدال على التأكيد ولا وجه لتأكيد الفتح بالمعنى الحقيقي. وكذلك تخصيص الفتح بانه لهم فليست الابواب مفتوحة بالاطلاق وانما هي مفتحة لهم خاصة مما يدل على انه كناية عن أمر آخر وهو الترحيب بهم واكرامهم.

متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب... بيان لحالهم هناك ورغد عيشهم، وأنهم مخدومون فهم لا يبذلون جهدا في الوصول الى لذّاتهم بل يصلون اليها وهم متّكئون على أرائكهم، ويدعون ما يشاؤون وليس ما يتناولونه من طعام لدفع الجوع بل للتفكّه والتلذّذ.

ولعلّ قوله (شراب) اشارة الى خمر الجنة. وهم لا يشربون لرفع العطش اذ لا عطش هناك ولا جوع وانما يشربون للتلذذ.

ووصف الفاكهة بالكثرة والتنوع وهو حال الابرار. واما المقربون فلهم فيها من كل فاكهة زوجان كما في سورة الرحمن وغيرها. وهذا يؤيد ما قلناه من ان المراد بالمتقين اتباع الانبياء، ولا يناسب ما ذكره بعضهم من ان المراد بهم الانبياء عليهم السلام حيث سبق ذكرهم.

وعندهم قاصرات الطّرف أتراب... وصف لازواجهم من الحور العين. وقد مرّ في سورة الصافّات ان الطرف هو الجفن ويعبر عن النظر بالطرف لانه يستوجب تحريك الجفون، فالمراد بقصر الطرف على الظاهر أنّهنّ لا ينظرن الى غير ازواجهنّ فيقتصرن في النظر عليهم. وهذه صفة يحبّها الرجل في امرأته.

ويمكن ان يكون المراد أنّهنّ لا ينظرن الى احد، وهذه ايضا صفة ممدوحة في المرأة إمّا باعتبار أنّ طبيعة المرأة تقتضي أن تكون مطلوبة لا طالبة، او باعتبار أنّ هذا أمر مطلوب لدى المجتمع العربي او بحسب التقاليد الدينية بوجه عامّ فهي تقتضي أن لا تنظر المرأة هنا وهناك بحثا عن الرجل. وهذه ايضا صفة يستحبه الرجال الغيارى من النساء.

والأتراب جمع ترب بكسر التاء، وأصله بمعنى التّساوي بين شيئين كما في معجم المقاييس، فالمراد أنّهنّ متساويات في السنّ وفي ما يبدو عليهنّ منه.

وقد اختلف كلام المفسرين في تحديد الغرض من الاشارة الى ذلك مع تكرّر ذكره في الكتاب العزيز. والظاهر أنّه اشارة الى عدم عروض التغيّر والشيبة عليهنّ فإنّ ما يكدّر صفو العيش هنا حينما يلاحظ الرجل زوجته الشابّة الجميلة هو العلم بانه لا يستمر وانه ليس الا سنين حتى تتغير، هذا ان لم يحدث حادث يعجّل التغيّر. فالأتراب يشير الى ان كلّ نساء الجنة في سنّ واحد فلا تغيّر هناك ولا تقادم في السنّ.

هذا ما توعدون ليوم الحساب... اشارة الى النعم المذكورة. والخطاب موجّه الى المتقين والمناسب للسياق ان يقال هذا ما يوعدون. ولعلّ الوجه في مخاطبتهم مزيد العناية بهم واكرامهم وتشريفهم بخطاب ربهم. ولعلّ الغرض من هذه الآية التنبيه على تعيين موعد جزاء المتقين لئلا يتوهم من الآيات السابقة أن حسن المآب لهم في هذه الدار الفانية.

ان هذا لرزقنا ما له من نفاد... النفاد: الفناء. فهو وعد بالخلود والابدية، وهو ما يتوق اليه الانسان. وما من نعمة في هذه الدنيا الا وينغّص لذتها العلم بزوالها بعد حين، ولا يعلم الانسان ذلك الحين فلعله قريب منه وهو غافل عنه، فكم من متنعّم في لذّاته باغته الموت؟! وكم من حفلات عرس تبدّلت الى عزاء وهي في قمّة التنعّم واللذّة؟! واما النعيم هناك فلا ينغصّه شيء ولا يخاف المؤمن ان تنفد نعمه فهي رزق اللّه الذي لا ينفد.

ويحتمل في الآية ان يكون عدم النفاد صفة لهذا الرزق الخاص، فالمعنى أنّ هذا رزق لا ينفد وليس كرزق الدنيا. ويحتمل أن يكون المراد أن هذا هو رزق اللّه الواقعي ولذلك فهو لا ينفد كما قال تعالى (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللّه باق) النحل: 96، ومعنى ذلك أن ما في هذه الدنيا لا يعتبر رزقا بالقياس الى ما هناك وانما هو متاع كما لا يعتبر ‏الحياة الدنيا حياة، قال تعالى: (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ) بل هي لهو ولعب كما قال تعالى: (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ..) العنكبوت: 64.