مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبي‏ مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَديدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحاريبَ وَتَماثيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى‏ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهينِ (14)

 

مجموعة آيات تذكر نعم اللّه تعالى على بعض عباده، وتحثّ العباد على الشكر، وتدافع عن بعض انبيائه في قبال ما اُلصق بهم من تُهم في الكتب المحرفة عن كتب السماء، وتؤكّد على عدم اللجوء الى الجن، ومن يدّعي علم الغيب من أتباعهم.

ولعلّ وجه مناسبتها لما سبق ــ كسائر الموارد التي يذكر فيها أقوال المشركين والمناوئين للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ــ هو ذكر بعض الامثلة الواضحة من تأييده تعالى لرسله السابقين، ليكون تسلية له صلى اللّه عليه وآله وسلّم وللمؤمنين، وتخويفا وتحذيرا للمشركين.

وكذلك عرض المجموعة التالية من الآيات لما حدث من سلب النعمة عن قوم سبأ ففي كل ذلك عبرة للمخاطبين من الفريقين.  

ولقد آتينا داود منا فضلا... الفضل: الزيادة. والمراد كل ما يعطى لاحد مما لا يستحقه على المعطي. وكل ما يعطيه اللّه تعالى احدا فهو فضل منه تعالى، اذ لا يستحق عليه احد شيئا. ويمكن أن يكون المراد بالفضل هنا فضله عليه السلام على سائر الناس أي آتيناه نعمة زائدة على ما أنعمنا به على غيره.

وقوله (منّا) تشريف وتكريم زائد يدل على عناية خاصة به عليه السلام، وذلك لأنّ كل شيء منه تعالى، سواء كان خيرا او شرا، حقيرا او جليلا. مع أن قوله (آتينا) يغني عنه لو لم يكن يقصد به اظهار عناية خاصة.

يا جبال أوّبي معه والطير... هذا بيان لذلك الفضل الذي أنعم الله تعالى به على داود عليه السلام بحكاية الخطاب التكويني الذي حقّق تلك النعمة، وهي قوله تعالى (يا جبال أوّبي معه والطير). فالجبال والطير امرت تكوينا ان تردّد تسبيح داود ومناجاته للّه تعالى. وداود مشهور بمزاميره ودعواته وزبوره.

قال تعالى: (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلينَ) الانبياء: 79 فالظاهر أن الجبال كانت تردّد تسبيحه، وكذلك الطير.

والتأويب هو الترجيع. والواو للمعية والمصاحبة، اي الجبال مع الطير تسبّح مع تسبيح داود عليه السلام.

وأوضح منه قوله تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) ص: 17 ــ 19.

وألنّا له الحديد... نعمة اخرى هي إلانة الحديد له، ولم يذكر أنّه كان بصورة الاعجاز أم بوجه آخر، فينطبق على ذلك، كما ينطبق على تعليمه كيفية إلانة الحديد بالنار بصورة طبيعية.

ولكن قوله تعالى (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) الانبياء: 80 يؤيد المعنى الثاني، فان حثّ الاجيال المتأخرة على الشكر على هذه النعمة لا يناسب الا اذا كانت الصنعة في عصرهم على غرار الصنعة التي علمها اللّه داود عليه السلام، كما أن قوله تعالى (لتحصنكم من بأسكم) يقتضي ذلك ايضا.

أن اعمل سابغات وقدّر في السرد واعملوا صالحا اني بما تعملون بصير... الظاهر أنّها مفسرة للالانة، ولكن بتضمين معنى القول كأنه قال (ألنّا له وقلنا) فكانت الالانة بمثابة أمره بعمل الدروع. وكان المحارب قبل ذلك يلبس من الحديد او نحوه صفحة ثقيلة فعلّم اللّه تعالى داود عليه السلام كيف يصنع الدرع فيخفّ حمله، ويقي المحارب من الضربة. وذلك بعد ان ألان له الحديد اما بالاعجاز او بالتعليم .

ثم انّ ما حكاه تعالى في هذه الآية ليس تعليم صناعة الدرع بوجه خاص، بل هي امور عامّة لابد من مراعاتها في كل عمل.

و(السابغات) صفة للدروع المقدرة، اي اعمل دروعا سابغات، اي كاملات تامات. وقيل: (واسعات).

والسرد: نسيج الدرع، اي حلقاته. ويقال له الزرد ايضا.

والتقدير يمكن ان يكون بمعنى التضييق بان تكون الحلقات متراصّة ليكون الدرع قويا متينا، او لئلا ينفذ فيه الرمح والنبل. ويمكن ان يكون التقدير بمعنى مراعاة التناسب بين الحلقات. ومهما كان فهو امر بالاتقان في العمل وفي حديث مشهور: (رحم اللّه امرأ عمل عملا فاتقنه) ولم أجد له مصدرا معتمدا.

ثم عقبه بحكم عام في نفس السياق: (واعملوا صالحا..) وهو خطاب لآل داود او لأمته. وليس المراد بالصالح الاعمال الصالحة كما فسّر به، بل الصالح بمناسبة المقام هو ما يصلح للاستعمال، فهو حكم عام بالاتقان في الصنع.

ومن الملفت للنظر انه تعالى هدد العاملين بقوله (اني بما تعملون بصير) اي لو فرض أن صاحب العمل والمستأجر لم ينتبه لخيانة الاجيرفي عمله، فان الله تعالى بصير بذلك، ويحاسبه يوم القيامة.

ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر... لعل التقدير (وسخرنا لسليمان الريح). والظاهر انه عليه السلام كان يستخدم الريح للانتقال من مكان الى مكان، او لنقل الاشياء. وكان مسيرها في الصباح بمقدار مسيرة شهر، وفي المساء ايضا مسيرة شهر بالوسائل العادية في ذلك العهد. والتعبير بمسيرة شهر تعبير متعارف، ومعناه واضح لدى عرف المخاطبين.

والحاصل ان الريح كانت تحمله وتنقل امتعته صباحا وتعود به مساءا، أما أنه كيف كان الحمل يتحقق.. هل كان يجلس على بساطه وتحمله الريح، او كان يركب في سفينة والريح تذهب به حيث يشاء وبتلك السرعة الهائلة، او كان بطريق آخر؟ لا نعلم ذلك، ولم يرد في خبر معتبر، فالاولى السكوت عنه، والاكتفاء بما دلت عليه الآيات.

وقد فسره بعض المفسرين بان الريح كانت تذهب به شهرا وتعود به شهرا. وهذا غريب لانه ليس امرا يمنّ به عليه خاصة.

وقد ورد ذكر هذه النعمة في قوله تعالى (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا..) الانبياء: 81، فهذه الاية تحدّد المقصد بانه بيت المقدس او مطلق بلاد الشام، كما قيل.

ولكنه تعالى عمّمه في قوله (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ) ص: 36، ولعل المراد بالآية الاولى المقصد الذي تذهب اليه الريح ليبدأ سليمان عليه السلام منه سفره لانه كان يقيم في الارض المباركة.       

واسلنا له عين القطر... القطر هو النحاس. و(أسلنا) من الاسالة اي جعل الشيء سائلا. وهنا ايضا يمكن ان يكون الانعام عليه بصورة الاعجاز بان اوجد له عينا تنبع بالنحاس المذاب، او بصورة طبيعية كما لو اخرج النحاس من فوهة بركان. ويمكن أن يكون المراد انه تعالى علّمه كيف يذيب النحاس، وان كان التعبير بالعين يناسب المعنى الاول باحد وجهيه.

ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه... وهذه نعمة اخرى خاصة به عليه السلام وهي تسخير الجن، وهو على ما يعلم من القران موجود ذو شعور ومكلف، ولكنه غائب عن انظارنا لا يمكننا رؤيته. قال تعالى (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الاعراف: 27، ويظهر من الايات ايضا ان له من القدرة ما لا يقدر عليه الانسان، كما يظهر من هذه الايات.

وفي سورة النمل ان عفريتا من الجن ابدى استعداده لنقل العرش من سبأ قبل ان يقوم سليمان عليه السلام من مقامه.

ولا يبعد ان يكون بعض غرائب المباني الباقية من العهود البائدة التي لا يمكن انجازها حتى بالوسائل الحديثة من صنع هذا الكائن الغريب.

ومهما كان فقد سخر اللّه تعالى لسليمان من الجن من يعمل بين يديه اي امامه وبمشهد منه، وانما كانوا مسخرين له باذن من اللّه تعالى وليس باستقلال من سليمان عليه السلام.

وهذا التقييد لا بد منه في كل مورد يتوهم منه الاستقلال.

ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير... الزيغ: الميل عن الاستقامة كما في المفردات.

ويظهر من الآية ان اللّه تعالى وكل بهم من يعذبهم اذا تخلفوا عن امره، ولكنه تعالى نسب الأمر الى نفسه حيث كانوا مأمورين بالعمل بما يأمره سليمان عليه السلام، فأمره تعالى هو اطاعة أمر سليمان عليه السلام.

ويظهر من الاية ونظائرها ان منهم من كان يحاول ذلك فينزل عليه العذاب.

والسعير: النار الملتهبة. والظاهر أن المراد به العذاب في هذه الدنيا، ولا وجه لما قيل بانه في الاخرة، اذ ليس ذلك وازعا لهم في هذه الحياة.

ويظهر من موضع آخر ان بعضهم كانوا مكبلين، قال تعالى: (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) ص: 38، والاصفاد: الاغلال.

والظاهر انه المراد ايضا بقوله تعالى (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) الانبياء: 82.

والمذكور هنا من اعمالهم ما يتعلق بالبناء، وصنع التماثيل، والاواني الضخمة التي تناسب الملوك والعظماء، واضيف الى ذلك في سورتي ص والانبياء الغوص، قال تعالى (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) ص: 37، (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ..) الانبياء : 82.

وهناك فرق اخر بين التعبير هنا وما ورد في سورتي ص والانبياء، فهنا عبّر عنهم بالجنّ وفيهما عبر عنهم بالشياطين، وهم اشرار الجن.

ومنه يعلم الوجه في تعذيبهم وحبسهم في الاغلال، ولا يعلم المراد بالاغلال اذ يبعد ان يكون المراد ما نفهمه منها، فلا بد ان يكون ذلك شيئا يقيّدهم وتسلب حريّتهم كما يقيّد الانسان بالاغلال.

يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات... المحاريب جمع محراب، قيل: انّ المراد بها آلات الحرب لان المفعال اسم الآلة. ويرى اكثر المفسرين أن المراد بها المساجد او محاريب المساجد، وهو أشرف موضع منه اي موضع الامام، أو المراد بها الغرف، كما استعمل في ذلك في بعض الاشعار، ولعل قوله تعالى (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) ص: 21 من ذلك، اذ التسور بمعنى الصعود واجتياز السور.

وقيل: ان المحراب صدر البيت. واختلفوا في انه هل هو الاصل، وسمي محراب المسجد باسمه للمناسبة كما في معجم مقاييس اللغة، او أن العكس هو الصحيح كما رجحه الراغب في المفردات.

والتمثال يطلق على تماثيل الحيوان وغيره، قالوا ان المراد بها تماثيل الانسان والحيوان وانها لم تحرم في تلك الشريعة، ولكن ورد في بعض رواياتنا أنها لم تكن تماثيل الحيوان والانسان بل تماثيل الشجر ونحوه.

والجفان جمع جفنة: وعاء للطعام. والجوابي جمع جابية بمعنى الحوض لانه مجمع الماء، وجبى بمعنى جمع، فالمراد انهم كانوا يصنعون له اوعية طعام كبيرة كالاحواض. وقدور راسيات اي ثابتات لكبرها وضخامتها.

وقد يثار سؤال حول حياة سليمان عليه السلام حيث انه وان كان ملكا الا أنه نبي في نفس الوقت فكان جديرا به أن يتزهد في الدنيا وزخارفها فلماذا اهتمّ بصنع التماثيل والمباني الضخمة والصرح الممرد من قوارير؟ ولماذا سخّر الجنّ وأكرههم على أن يعملوا له ما يشاء؟ أليس هذا مشابها لما يعمله جبابرة الملوك مع الانس؟

والجواب أنّ كلّ ذلك كان من الله تعالى فهو الذي سخّر له الجنّ او شياطينهم خاصة ولعل ذلك كان جزاءا لهم على اعمالهم وشرورهم. والظاهر أنّ كلّ ما بدا منهم من أعمال في البناء ونحوه كانت آيات رسالة سليمان عليه السلام فان الله تعالى يجعل معجزة كل رسول ما يناسب زمانه وحضارة البشر في عهده وفي بيئته.

وحيث كان إبداع البشر في ذلك الزمان والمكان في هذه الشؤون جعل الله معجزة رسوله أن صنع من ذلك ما لا يمكنهم صنعه من دون أن يستخدم البشر، كما كانوا يفعلون، فيكون علامة واضحة على أن ما صنع لم يتمّ له الا بأمر من الله تعالى اعلاما لرسالته.

اعملوا آل داود شكرا... قيل: ان المراد اعملوا الشكر فيكون مفعولا به، والمعنى اشكروا يا آل داود. ولكن الظاهر أن شكرا مفعول لاجله، والمعنى اعملوا يا آل داود ما هو مطلوب منكم شرعا من عمل عبادي او اجتماعي بداعي الشكر للّه تعالى، حيث أنعم عليكم بهذه النعم الجسيمة.

ويفهم من العبارة أمران: الاول: أن لا يكون العمل بداع غير داعي الشكر للّه تعالى، والأمر الآخر أن الشكر يجب أن يكون عمليا ولا يكتفى بالشكر اللساني كما هو الغالب، وكلما عظمت النعمة عظم الشكر العملي المناسب لها.

وقليل من عبادي الشكور... هذا التعقيب يؤكد على الأمر الثاني في الجملة السابقة فان الشكور صيغة المبالغة وهي تناسب ان يكون الشكر عمليا، فالمراد بهذه الجملة ان الغالب في الشاكرين من العباد هو الشكر اللساني، واما الشكر العملي فقليل. وهو المطلوب من آل داود عليه السلام.

فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته الا دابة الارض تأكل منسأته... المراد بدابة الارض: الأَرَضَةُ وهي ــ بالتحريك ــ دودة بيضاء شبه النملة تأكل الخشب، وهناك نوع منها تأكل غيره ايضا على ما قيل.

والمنسأة: العصا، سميت بها لانها تستعمل لتأخير الاشياء عن مواضعها. والنسء: التأخير.       

تذكر الآية قصة موت سليمان عليه السلام وهو واقف او جالس على شرفة او ما يشابهها، والجن يعملون بين يديه ولم ينتبهوا لموته، فاستمروا في عملهم الشاق الذي عبر عنه بالعذاب المهين، وبقي سليمان عليه السلام على حاله الى ان جاءت الارضة واكلت عصاه، فوقع على الارض فعلموا بموته.

فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين...  لما سقط سليمان عليه السلام تبينت الجن اي علمت من نفسها انها كانت تخطئ في معرفة نفسها وانها ما كانت تعلم الغيب والا لم تلبث في العذاب المهين والعمل الشاق بعد موته، او ان الجن تبين أمرهم وانكشف للناس الذين كانوا يظنون انهم يعلمون الغيب. و(ان) تفسيرية تفسر التبين اي تبينوا من هذه الجهة، وهي انهم لا يعلمون الغيب، خلافا لما يظن الناس وما زالوا يظنون.

والآية تنبه على أمر مهم يمكن به تفنيد دعوى علم الغيب من كل من يدعيه عن غير طريق اللّه تعالى، فانك تجد ان هذا المدعي تحيط بداره الشرطة ويقبض عليه ويلقى في السجن. ولو كان يعلم الغيب كما يدعي او يدعى له لَعَلِمَ بهم قبل ان يصلوا الى داره، فهو يخبر الناس البسطاء عن اعماق بيوتهم، وقلوبهم، وما كان منهم في الماضي البعيد، وما سيكون في المستقبل، وهو لا يعلم بما يهدّده من خطر على بضعة امتار.

وهكذا الكلام في المدعين للسحر الذين يزيلون الجبال بسحرهم حسب دعواهم ولكنهم لا يتمكنون من الافلات من قبضة شرطي مسلح !!!.

ثم انه ورد في بعض الاحاديث انه عليه السلام بقي متكئا على عصاه سنة كاملة. وقيل: شهرا، وقيل غير ذلك. وهذا امر مستغرب اذ كيف لم يعلم الناس والحاشية بموته، وكيف صدّقت الجن بقاءه هذه المدة الطويلة.

ولكن الذي يظهر من الآية انه بقي وقتا طويلا اذ يستبعد اكل الارضة للمنسأة في يوم واحد او اقل، كما ان لبث الجن في العذاب ظاهر في كونه مدة طويلة نسبيا.

ولا استغراب في ذلك فلعله عليه السلام كان جالسا على كرسيه ومتكئا على عصاه. كما أنه لا وجه لاستغراب أن الحاشية والجن كيف كانوا يفسرون بقاءه مدة طويلة دون حراك ودون اكل واستراحة وذلك لأنهم كانوا يشاهدون منه الغرائب والمعاجز ما لا يمكن صدوره من غيره فلعلهم كانوا يحملون ذلك ايضا على هذا المحمل ويعتبرونه من معاجزه.  

ونستخلص من الآيات ان داود وسليمان عليهما السلام كانا نبيين أنعم اللّه عليهما من النعم ما لم ينعم به على انسان آخر، وقد أكّد القران على نزاهتهما وطهارتهما، وعلمهما الغزير، وتعبدهما، وتقواهما. كل ذلك ردا على ما ورد في التوراة المحرفة من رميهما بالفسق والكفر والتجبر.

والقرآن مهيمن على الكتب السماوية قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ...) المائدة: 48. وهذا مما يفنّد دعوى القائلين أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم استقى معلوماته في تنظيم القرآن من التوراة.