مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

 

اربع آيات تذكر حال الكفار ومنكري الآخرة والرسالات الالهية حين نزول العذاب في الدنيا بشهادة قوله تعالى (كما فعل بأشياعهم من قبل) وهو واضح.

وقيل: حين الموت، وقيل: يوم القيامة.

والغرض من هذه الآيات التنبيه على أن الانسان يؤمن في وقت لا ينفعه ايمانه.

ولو ترى اذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب... خطاب للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أو لكل من يتلو او يسمع. والجواب محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا. والمفعول محذوف ايضا، اي لو تراهم. والضمير يعود الى المشركين المناوئين للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم.

واذ ظرفية زمانية اي حينما يفزعون من العذاب الذي أحاط بهم فلا يستطيعون فرارا ولا يفوتون من أخذ ربك.

ثم عبّر عن سرعة الأخذ بأنه من مكان قريب، وهذا تأكيد على عدم امكان الفوت، والانسان يمنّي نفسه بامكان الفرار من بطش اللّه تعالى، او امكان التوبة اذا شاهد الانسان علامات الموت او العذاب. وهذه الآيات ونظائرها تفنّد هذه الأماني، فالبطش يكون من مكان قريب لا يمهل الانسان، وليس هناك قرب وبعد بالنسبة الى الله، وليس هناك موضع خارج عن سلطان اللّه سبحانه. وانما هذا تعبير عن سرعة الاخذ.

وقالوا آمنّا به وأنّى لهم التناوش من مكان بعيد... في هذه الآية يبيّن المحاولة اليائسة للرجوع (وقالوا آمنا به) اي باللّه تعالى، او بالقرآن، او بالرسول، او بالرسالة، او باليوم الآخر، أو بالعذاب، أيّا كان فهو إيمان بعد نزول العذاب ومشاهدته، بل احاطته بهم نظير ايمان فرعون بعد الغرق.

عجيب أمر هذا الانسان العنود وتسويفه ومجابهته للحق! ولو آمن فرعون حين رأى البحر قد انفلق لموسى وشعبه ــ وهي آخر آية شاهدها ولعله أعظم آية وأبعدها من التهم ــ لنفعه ايمانه، ولكنه حاول أن يجرّب حظه التعيس مرة أخرى، فلقي ما لقي، فقال حين أحاطت به الامواج بأمر باريها وأدركه الغرق: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فأتاه الجواب: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) يونس: 90 ــ 91.

وهنا ايضا يأتي الجواب (وأنّى لهم التناوش من مكان بعيد). والتناوش هو التناول والاخذ. والمراد أنّهم لا يصلون الى الايمان فقد بعدوا عنه لأنّ مكان الايمان هو الدنيا. وذلك لان الايمان الذي ينفع هو الايمان بالغيب وقبل ان ينكشف الغطاء، واما بعد ذلك فلا يعد ايمانا وانما هو درك للواقع وتسليم له، والمطلوب من الانسان ان يؤمن بالغيب حتى يصل الى الكمال البشري.

والتعبير مضافا الى ما يشتمل عليه من الدقة كما اشرنا اليه يشتمل على الطباق والجناس فآيتان ختمتا بكلمة (قريب) وبعدهما آيتان ختمتا بكلمة (بعيد) والآيات الثلاث ختمت بلفظ مكان قريب ومكان بعيد بالرغم من الاختلاف في المراد.

وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد... جملة حالية اي انهم لا يمكنهم الايمان ذلك اليوم والحال أنهم فوّتوا على أنفسهم الايمان في موضعه حيث كفروا باللّه وباليوم الآخر وبالرسالة قبل ان ينزل عليهم العذاب، فهو نظير قوله تعالى (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطيعُونَ * خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) القلم: 42-43.

وقوله تعالى (ويقذفون بالغيب) عطف على (كفروا) وأتى بالمضارع للدلالة على الاستمرار فقد أصبح ذلك عادتهم وديدنهم.

و(يقذفون) اي يرمون ويرجمون بما لا يعلمون عنه شيئا، فينكرون ما هو غائب عنهم، ولا تصل اليه افهامهم وحواسهم، ولا يدركونه باي نحو من الادراك.

ومضافا الى ذلك يرمون بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا، حيث انهم لم يكشف عنهم الغطاء ولم يخرجوا عن حصار المادة.

قال تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) يونس:39 فلو كانوا يسكتون عما لا يعلمون لهان الامر. ولكنهم يكذّبون وينكرون من دون علم.

وحيل بينهم وبين ما يشتهون... وهذا هو غاية العذاب لعشاق الدنيا وبهرجتها، حيث انهم لا يرون للحياة معنى الا مزاولة الشهوات ومتابعتها والركض وراءها، ولا يبذلون جهدا في الحياة الا في سبيلها، وحين ما يحين الموت او ينزل العذاب ينتهي في لحظة واحدة كل شيء وكل ما عقدوا الآمال عليها.

ما أعظم هذا التعبير وأدقه لبيان حال الانسان المنكر للآخرة (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) وهذا لا يختص بالمشركين المناوئين للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فهذا عذاب كل من يسير على هذا السبيل ولا يجد للحياة معنى الا متابعة الشهوات.

كما فعل بأشياعهم من قبل... والأشياع أي الاشباه. قال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) القمر: 51، والمراد بهم الاقوام السابقة فان الخطاب لمشركي مكة.

والمشايعة المتابعة، وكما يصدق ذلك على الاتباع يصدق على المتبوعين وعلى المشتركين في التبعية عن مبدأ واحد. وهذه الجملة كما مرّ تدل على أن المراد بالعذاب في هذه الآيات العذاب الدنيوي الذي أحاط بالأقوام السابقة.

انهم كانوا في شك مريب... الريب: الشك، والشك المريب مبالغة في الشك كأنه شك يستوجب شكا، فالمعنى أنّهم كانوا في تردّد وشكّ مزعج كما يقال ليل أليل وشعر شاعر.

هذا وقد ورد في عدة روايات عن الفريقين ان الآية تشير الى جيش السفياني الذي يظهر في آخر الزمان ويخسف اللّه بجيشه في البيداء. ولعل هذا من باب ذكر بعض مصاديق الآيات. واللّه العالم. والحمد للّه رب العالمين.