مباحث الالفاظ القسم الأول
المبحث الاول
المبحث الثاني
المبحث الثالث
في مفاد الجمل الخبرية والموضوع له فيها
المشهور بين متاخري المنطقيين ان مدلول الهيئة في الجمل الخبرية هو وقوع النسبة اولا وقوعها فهو اذن امر موضوعي وليس نفسيا. وفي قبال ذلك مذهب جماعة من القدماء وهو ان المدلول امر نفسي وهو الحکم بوقوع النسبة اولا وقوعها. وذهب بعض المتأخرين الی ان المدلول امر نفسي الا انه قصد الحکاية. ولابد من البحث والتمحيص لتعيين ما هو الحق.
الذي يظهر في بادي الامر أنّ مدلول الجملة هو محکيّها وهو نفس وقوع النسبة او لاوقوعها. الا أن هناك مناقشات حول هذا القول هي السبب في اختيار بعض الاصوليين ان المدلول هو قصد الحکاية.
المناقشة الاولی: ان البحث حيث کان عن مدلول الجملة فلابد اولاً من تحقيق معنی الدلالة. وهي عبارة عن کون الشيئ بحيث يحصل من العلم به العلم بشيء آخر. فيطلق علی الاول الدال وعلی الثاني المدلول. وعليه فلابد من تشخيص المدلول في الجملة الخبرية علی ضوء هذا التعريف.
والعلم المأخوذ في التعريف اما تصور واما تصديق. فاذا قيل: زيد قائم فالعلم الحاصل اما علم تصوري واما علم تصديقي. ولا يمکن الالتزام بالاول لان المفيد للعلم التصوري هو خصوص الجمل التي تستعمل في تعريف الاشياء وهذه الجملة ليست کذلك فلا تفيد تصوراً غير حاصل. فلابد من ان يکون العلم الحاصل هنا علماً تصديقياً وهو عبارة عن الاذعان بنسبة ما.
وتلك النسبة التي يحصل العلم بها من العلم بجملة (زيد قائم) لا يمکن ان تکون هي النسبة الواقعية بين زيد وقائم اذ لا يکفي مجرد سماع هذه الجملة في إفادة العلم بتحقق النسبة خارجاً بل کثيراً ما لا يوجب الظن به بل قد يکون حين سماع الجملة قاطعاً بالخلاف. اذن فلا يمکن ان يکون مدلول الجملة هو وقوع النسبة اولا وقوعها. فلابد من ان يکون المدلول امراً نفسياً وهو عبارة عن قصد الحکاية.
نعم يبقی في المقام ان للجملة محکياً وهو عبارة عن نفس الواقع وليس امراً نفسياً ولکنه خارج عن حدود مدلول اللفظ بل هو ما يقصد حکايته. وقصد الحکاية هو المدلول. وما اشتهر من ان الجملة الخبرية تحتمل الصدق والکذب انما هو بلحاظ المحکي. واما بلحاظ المدلول فلا تحتملهما لما ذکرناه من انه عبارة عن قصد الحکاية.
فتحصل ان القول بان المدلول للجملة الخبرية هو وقوع النسبة اولا وقوعها ناش من الخلط بين مدلول القضية ومحکيها.
والجواب عن هذه المناقشة ان الدلالة لها معنيان:
المعنی الاول: ما ذکر من انها عبارة عن کون الشيء بحيث يحصل من العلم به العلم بشيئ آخر.
المعنی الثاني: کون الشيء بحيث يکون إخطاره مستلزماً لاخطار امر آخر أو يکون بنفسه إخطاراً لامر آخر بوجه، علی الاختلاف السابق في حقيقة العلقة الوضعية.
وهذا المعنی کما يتحقق في المفردات يتحقق في الجمل ايضاً. فکما ان اخطار کلمة (زيد) مستلزم لاخطار معناه او هو اخطار له بوجه کذلك اخطار جملة (زيد قائم) مستلزم لاخطار معناها وهو وقوع هذه النسبة او هو اخطاره بوجه. وهذه الدلالة يعبر عنها بالدلالة الانسية. وليست من باب حصول العلم بشيء بسبب العلم بآخر حتى يناقش فيه بما مر وليس هنا تصديق بالنسبة بل إن مجرد اخطار الجملة في الذهن يستوجب مجرد اخطار وقوع النسبة او هو هو بوجه فلا اشکال في تحقق هذا الاخطار باخطار الجملة ولا اشکال ايضاً في انه مدلول الجملة الا ان الکلام في ان المدلول بالدلالة الوضعية هل هو هذا المدلول او هو عبارة عن قصد الحکاية اي الامر النفسي؟
لا ريب في ان هذا المدلول لا يتوقف علی قصد الحکاية بل هو يحصل حتی من السماع عن غير ذي شعور ولکنه قد يصاحب قصد الحکاية کما يصاحب اموراً نفسية اخری کالحکم بوقوع النسبة اولا وقوعها.
وهنا لابد ان نتذکر ان الوضع کما ذکرناه عبارة عن العمل التمهيدي الذي يصدر من الواضع لايجاد العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنی وذلك بعد مرورهما بمرحلتي التلازم او الهوهوية. ولا تختلف في ذلك الالفاظ المفردة والمرکبة کالجمل فهيئة الجملة ايضاً کالمفرد لابد من مرورها بالمرحلتين حتی تتحقق العلقة الوضعية بينها وبين المعنی.
هذا بالنسبة الی المدلول الذي ذکرناه واما بالنسبة الی قصد الحکاية فيتوقف حصول الدلالة علی امور اخر من احراز عدم کون المتکلم خاطئاً او ساهياً او هازلاً او غافلاً واحراز کونه في مقام التفهيم ونحو ذلك من المقدمات التي لابد من احرازها اما بالوجدان او باصل عقلائي حتی يحکم بانه قصد الحکاية.
فهذا الاستکشاف يتم عقلاً بمعونة المقدمات المذکورة وتبعاً للوضع المتحقق ابتداءاً بين اللفظ والمعنی وذلك باعتبار ان التلفظ کسائر ما يصدر من الفاعل المختار لابد له من علة غائية ودافع نفسي وحيث ان جميع الدوافع المحتملة قد انتفت بالوجدان او بالاصل بقي منحصراً في قصد الحکاية عن الواقع.
فتبين ان الوضع ليس علة تامة للدلالة الانسية ولا لقصد الحکاية اذ تتوقف الدلالة الانسية علی المرور بالمرحلتين المذکورتين ويتوقف احراز قصد الحکاية علی المقدمات المذکورة مضافاً الی المرحلتين السابقتين. الا ان النسبة الی الشيء تکفي فيها ادنی ملابسة وارتباط ولا شك في ان الامرين يرتبطان بالوضع کما ذکرنا ولکن اقربية الدلالة الانسية هي التي استوجبت لدی الباحثين ان يسمونها الدلالة الوضعية بل قد تبين مما ذکرناه سابقاً ان العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنی تتمثل في هذه الدلالة.
واما الدلالة علی قصد الحکاية فمن الاجدر بها ان تسمی دلالة عقلية لاستکشافها عن طريق العقل. والوضع وان کان دخيلاً فيها الا انه من المقدمات البعيدة. وانما تتحقق هذه الدلالة بملاحظة کون التكلم بما انه فعل من الافعال الارادية يتوقف علی تصور الشيئ والتصديق بفائدته والعزم اليه الی غير ذلك مما يتوقف عليه العمل الارادي ومنها الغاية. والجدير بالذکران الغاية لا تنحصر في قصد الحکاية فقد يستکشف بملاحظة المناسبات والقرائن ان قصد المتکلم هو تشويق المخاطب وترغيبه او انذاره وتخويفه او اغراؤه او تسليته او نحو ذلك من الدوافع للکلام.
وان ابيت الا عن تسمية قصد الحکاية بخصوصه مدلولاً وضعياً للالفاظ من بين الغايات المحتملة فهو مجرد اصطلاح لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يؤثر في الدراسات العلمية.
المناقشة الثانية: انه قد ثبت ان حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام. ومن الواضح ان الالتزام لا يمکن ان يتعلق بامر غير اختياري. ووقوع النسبة اولا وقوعها في الخارج خارج عن اختيار المتکلم فلا يمکن ان يکون مضمون التعهد: (التزم بالتلفظ بکذا ان وقعت النسبة مثلاً).
والجواب عنها اولاً: ان حقيقة الوضع کما تمخضت عنه المباحث السابقة ليست هي التعهد والالتزام.
وثانياً: ان متعلق الالتزام فيما نحن فيه – علی تسليم کون الوضع هو التعهد – امر اختياري وهو التلفظ والامر غير الاختياري في مضمون التعهد المذکور هو ما علق عليه الالتزام ولا مانع من کونه امراً غير اختياري کما اذا نذر احد اوتعهد او حلف ان يفعل کذا اذا امطرت السماء مثلاً ونظير ذلك کثير في العهود والنذور وما شابهها.
وثالثاً: ان هذا الدليل لا يعيّن کون المدلول قصد الحکاية بل يمکن ان يعدّ مدلول الجملة الخبرية الحکم بالوقوع واللاوقوع فهو ايضاً امر اختياري فيکون مضمون التعهد (اتلفظ بهذا اللفظ اذا اردت الحکم بالوقوع او اللاوقوع).
المناقشة الثالثة : ان هناك کثيراً من الجمل الخبرية الاسمية فاقدة للنسبة اساساً فلا معنی حينئذ لدعوی کون مدلولها وقوع النسبة اولا وقوعها. فما اشتهر من ان القضية تحتوي علی موضوع ومحمول ونسبة وقوعاً اولا وقوعاً او حکماً باحدهما من الاخطاء المشهورة. ومن هنا يتبين الخطأ فی ما اشتهر ايضاً من ان العلم ان کان اذعاناً للنسبة فتصديق والا فتصور. وما اشتهر ايضاً من تثليث القضايا الحملية وترکبها من موضوع ومحمول ونسبة ولننقل نص العبارة:
قال السيد الخوئي ايده الله في هامش اجود التقريرات (واما هيئة الجملة الاسمية فهي غير موضوعة للنسبة الخارجية کما هو المعروف لعدم وجود النسبة في کثير من الجمل الاسمية کما في قولنا (الانسان ممکن) او (موجود) و(شريک الباري ممتنع) ونحو ذلك. ودعوی اعمال العناية في جميع ذلك خلاف الوجدان (الی ان قال) فالصحيح ان مدلول الهيئة في الجمل الاسمية انما هو ابراز قصد الحکاية عن ثبوت المحمول للموضوع او نفيه عنه فهو مصداق للمبرز خارجاً بالجعل والمواضعة ...)([12]).
واساس انکار النسبة في الامثلة المتقدمة علی ضوء ما تقدم منه في حقيقة المعنی الحرفي حيث ردّ القول بوضع الحروف للنسب مفسراً اياها بالوجود الرابط ومنکراً له هو ان النسبة والوجود الرابط تعبيران عن شيء واحد وانه مختص بربط الاعراض بالجواهر وتقوّمها بها. وعليه فلا نسبة بين الامکان والانسان اذ ليس الامکان من الاعراض بل هو من الامور الانتزاعية. قال السبزواري في منظومته (وجودها في العقل بالتعمل) والضمير في قوله (وجودها) يعود الى الامکان والوجوب والامتناع. وعليه فلا يمکن ان تقع طرفاً للنسبة. وکذلك في حمل الوجود علی زيد اذ ليس الوجود من الاعراض. وهکذا الامتناع في جملة (شريك الباري ممتنع) اذ هو من الامور الانتزاعية کما ذکرنا.
ويمکن ان يکون اساس انکار النسبة هو ان تحقق النسبة خارجاً متوقف علی وجود المنتسبين في الخارج بحيث يکون کل منهما منحازاً ومتميزاً عن الآخر فتکون النسبة وسيلة الربط بينهما. والامکان والامتناع ليستا من الامور الخارجية. والوجود وان کان امراً خارجياً الا انه غير منحاز عن الموجود. وما يقال من ان الوجود عارض المهية فهو کذلك في عالم الذهن والتصور والتحليل العقلي والافهما متحدان في الهوية وعالم الخارج.
وقد ذهب بعض آخر الی انکار النسبة ايضاً ولکن في خصوص القضايا الحملية غير المأولة اي التي لا تحتوي علی الحروف واما القضايا المأولة التي تحتوي علی الحروف فهي تتضمن النسبة باعتبار ان الحروف تحکي عن النسب الا انها ليست من الحمليات ولننقل نص العبارة.
(ان القوم قد قسموا الحملية باعتبار الاتحاد في المفهوم والماهية أو الاتحاد في الوجود فقط إلى الحمل الأولي الذاتي والشايع الصناعي وقسموا الثاني أيضا باعتبار كون الموضوع مصداقا حقيقيا لما هو المحمول نحو قولنا البياض أبيض، أو مصداقا عرضيا له كحمله على الجسم إلى الحمل الشايع بالذات والحمل الشايع بالعرض فلا بدّ لنا من النظر إلى الخارج المحكي أولا ثم إلى الهيئات التي جعلت آلة للحكاية عنه فنقول: الحق خلو صحيفة الوجود عن النسبة والربط والإضافة في جميع هذه الموارد لبداهة امتناع دعوى النسبة في محكي الأوليات والبسائط بحسب نفس الامر فان الحد عين المحدود وتفصيل نفس حقيقته فلا يمكن فرض إضافة واقعية بينهما في وعاء تقرر الماهية وكذا الحال في الهليات البسيطة فإنه لا يعقل تحقق الإضافة بين موضوعها ومحمولها والا لزم زيادة الوجود على الماهية في الخارج وغيرها من المحاذير كما أنه لا يعقل في حمل الشئ على نفسه أو حمله على مصداقه الذاتي وكذلك ما يكون كمصداقه الذاتي مثل قولنا: الوجود موجود، أو الله تعالى موجود، فتبين ان محكيات تلك القضايا الكثيرة خالية عن الإضافة والنسبة. هذا حال الخارج واما القضايا اللفظية والمعقولة فلا شك في كونها مطابقة للخارج فلا تحكي الا عما اشتملت عليه صحيفة الوجود بلا زيادة ولا نقصان لأنه لا معنى لاشتمالها على الإضافة والنسبة بلا حكاية عن الخارج ومع الحكاية عن الخارج تصير كاذبة غير مطابقة للواقع ونفس الامر.
فتلخص من جميع ذلك أنه لا وجود للنسبة فيها لا في الخارج ولا في القضية المعقولة ولا في القضية اللفظية ولا المفهومة منها واما الشايعات من الحملية التي لا يحمل فيها المحمول على مصداقه الذاتي مثل زيد أبيض فالمختار فيها انها أيضا لا تدل الا على الهوهوية لأنا ان قلنا بكون الذات مأخوذا في المشتق فحالها حال الحمل الشايع بالذات لعدم تعقل النسبة بين الذات وبين الموضوع خارجا، وان قلنا ببساطة المشتق وان الفرق بينه وبين مبدئه هو اللابشرطية والبشرط لائية فبما ان اللابشرط لا يأبى عن الحمل وعن الاتحاد مع الغير يكون الموضوع في هذه الموارد متحدا مع المحمول وتتحقق الهوهوية التي هي المقصود، والقضية حاكية عنها وكونها عرضية الحمل انما هو بالبرهان الدقيق كموجودية الماهية بالعرض.
فاذن لم يبق من الحمليات الموجبة ما يتوهم اشتمالها على النسبة سوى الحمليات المؤولة مما يتخلل فيها الأداة نحو قولنا: زيد في الدار وزيد على السطح، وهي ليست حمليات حقيقية ولذلك تتأول بكائن أو حاصل، و دلالتها لفظا على النسبة الخارجية مما لا اشكال فيه كما أن الإضافات لها نحو تحقق في الخارج إذ هي بشهادة التبادر تحكي عن النسبة بين الأشياء بعضها مع بعض ولفظة (في) وما أشبهها تدل على نحو إضافة وحصول بينهما هذا حال الموجبات في الحمليات).[13]
ولابد من دراسة وجهتي النظر کلاً علی حدة.
اما وجهة النظر الاولی فان کانت مستندة الی الوجه الاول وهو تفسير النسبة بالوجود الرابط وتخصيصه بربط الاعراض بالجواهر فالجواب عنه قد مر في بيان حقيقة المعنی الحرفي وقلنا ان النسبة غير الوجود الرابط وانهما موجودان بالعرض لا بالتبع فراجع.
وان کانت مستندة الی الوجه الثاني وهو تقوم النسبة بالمنتسبين خارجاً ولزوم وجود هما متميزين في الخارج فهو يبتني علی وجود النسبة بالتبع وقد بينا فيما مرّ انها موجوده بالعرض والمجاز.
وسيأتي ــ کما مر ايضاً ــ ان ما يتصوره الذهن ويکثّره في مرحلة الادراك لا ضرورة في کونه مطابقاً للخارج وتوهم ان الذهن مرآة أمينة ينعکس فيها الواقع بجميع حذافيره فهو مبالغة واضحة في الاعتماد عليه وقدمرّ توضيح الکثرات الادراکية التي يبدعها الذهن.
واما وجهة النظر الثانية فالظاهر انها هي عين القول بوجود النسبة فانّ القائل بوجودها لا يقصد الا النسبة الهوهويه وليس المراد بها معنیً مستقل يربط بين الموضوع والمحمول. قال المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية (ان مفاد الوجود الرابط ثبوت شيء لشيء ومفاد النسبة الايجابية الحكمية كون هذا ذاك..).[14]
وتفصيل الجواب عن ذلك يظهر بالتحقيق عن حقيقة الحمل والبحث عنه مفصلاً له محل آخر ومجمل القول فيه:
ان الحمل عبارة عن عمل نفسي يتحقق بعد تصور شئيين والحکم باتحادهما وتحقق الهوهوية بينهما. ويتوقف ذلك علی تحقق جهتين في طرفي الحکم: وحدة بينهما من جهة وکثرة وتعدد من جهة اخری، فلولا الوحدة لم يصح الحمل الذي هو عبارة عن الحکم بالوحدة والهوهوية. ولولا الکثرة لم يصح الحمل ايضاً اذ لا معنی لحمل الشيء علی نفسه وقد ذکرنا ان الحمل حکم باتحاد شيئين فالتکثر مفروض في مفهوم الحمل. ولا تنافي بين الکثرة والوحدة المفروضتين لاختلاف اللحاظ فيهما.
اما في موارد الحمل الاولي الذاتي اي الحکم باتحاد الموضوع والمحمول مفهوماً فالکثرة بلحاظ الاجمال والتفصيل. والذهن بماله من قوة الابداع والاختراع، والتجزئة والتحليل يفصل الموضوع کالانسان مثلاً ويحلله الی جزء مقوم مشترك بينه وبين سائر ما يشارکه من الحقائق المختلفة وهو الحيوان والی جزء مختص به يقوّم حقيقته وهو الناطق ويحملهما عليه فمفهوم (الانسان) متحد مع مفهوم (الحيوان الناطق) الا انه يغايره باللحاظ الاجمالي والتفصيلي. والکثرة هنا ادراکية. ولکنها تعتمد علی واقع خارجي حسب وجهة النظر الفلسفية القديمة وتنبع منه فلابد من افتراض كون الانسان واجدا بحقيقته علی الجزءين المقومين واما الوحدة بين المفهومين فواقعية.
واما في موارد الحمل الشايع اي الحکم باتحاد الموضوع والمحمول وجوداً فان کان في الهليات البسيطة کما في جملة (زيد موجود) فالتجزئة والتکثير من الذهن ايضاً وهي تعتمد علی الخارج ايضاً الا انها تختلف في کيفية الاعتماد وحدوده.
وقد بيّن في الفلسفة ان الوجود عارض المهية في التصور الذهني. فالواقع الخارجي يحلله الذهن الی ماهية شخصية يعبّر عنها بزيد وعارض عليه وهو الوجود وذلك بتجريد الواقع الخارجي عن الوجود حتى في الذهن. ولکنهما في الواقع شيء واحد والاختلاف وان وقع في الفلسفة بين اصالة الوجود واصالة الماهية الا انه لا شك في انهما معاً ليسا متأصلين والحقيقة الخارجية امر وحداني واحد الامرين من الوجود والماهية ينتزع منها والآخر متأصل حسب اختلاف النظريتين المعروفتين.
اذن فالکثرة في مثل هذا الحمل ادراکية الا أنها تنبع من الخارج ايضاً والماهية وان کانت اعتبارية بناءاً علی اصالة الوجود الا ان منشأها في الخارج فهي ليست کأنياب الاغوال.
واما في موارد حمل المشتقات نحو (زيد قائم) فالکثرة والوحدة فيها تختلفان باختلاف المسالك في حقيقة المشتق. ولعلّ اقواها القول بانه امر انتزاعي منشأه الذات التي ثبت لها المبدأ. وکل امر انتزاعي لابد له من منشأ للانتزاع ومصحح له وهو متحد مع منشأ انتزاعه في الوجود الخارجي وانما تنشأ الکثرة بابداع الذهن وتجزئته للذات المتصفة بالقيام مثلاً الی ذات وقائم. واما مصحح الانتزاع فهو امر خارج عن وجود زيد بناءاً علی ما هو المعروف من کون الاعراض موجودة بوجود آخر متقوم بالجواهر ولذا لا يحمل مصحح الانتزاع علی الذات فلا يقال زيد قيام.
اذن فالکثرة هنا ادراکية ومنشأها خارجي ايضاً الا ان فيها نوع من الابداع الذهني وليس بالاجمال والتفصيل ولولا هذه الکثرة لم يصح الحمل ولذا قيل ان المتحصل لا يحمل علی المتحصل فلابد في الحمل اما ان لا يکون الموضوع متحصلاً واما ان لا يکون المحمول متحصلاً اذ لا معنی للحکم باتحاد امرين واقعيين متحصلين في الخارج.
واما في موارد الحمل التي ليس للموضوع والمحمول فيها واقعية في الخارج اصلاً کجملة (اجتماع النقيضين ممتنع) فمنشأ انتزاع الممتنع المحمول في القضية هو واقع اجتماع النقيضين في نفس الامر. والمراد من نفس الامر ذات المفهوم بلا لحاظ امر آخر معه كما قال السبزواري (بحد ذات الشيئ نفس الامر حدّ) ووعاء نفس الامر هو وعاء الملازمات الواقعية بين المفاهيم التي لا تتقيد بالوجود الخارجي ولا الذهني کتلازم الاربعة للزوجية فان الزوجية معنى ينتزع من نفس ذات الاربعة بلالحاظ وجودها الخارجي او الذهني.
وکذلك سائر الملازمات الرياضية فاذا قلت( 5 × 5 = 25) فوعاء هذه الملازمة هو ذات الملزوم (5 × 5) وذلك لان ( 25 ) وهو اللازم صورة اخرى للملزوم (5 × 5). وهکذا التعاندبين الوجود والعدم والسلب والايجاب.
اذن فالتکثر هنا ادراکي ايضاً وليس وهميّا ولکنه لا يعتمد علی الوجود الخارجي بل علی وعاء نفس الامر وواقع الشيء الذي هو منشأ الانتزاع، فللتکثير مصحح في نفس الامر وان لم يکن خارجياً.
ومن هنا تبين انه لا يتوقف صدق القضية وکذبها علی مطابقة ما يدرکه الذهن بتمام شؤونه وتجلياته مع ما في الخارج فالذهن له قابلية الابداع والتکثير في المجالي والتصورات الا ان مناط الصدق ان يعتمد التکثير علی امر واقعي في الخارج او في نفس الامر. فقولنا (الله عالم) و(الله له العلم) و(الله هو العالم) ونحوهما من القضايا المعبّرة عن واجديته تعالی لصفة العلم تکثرات ذهنية لواقعية واحدة.
فتحصل ان القول بان الجملة الخبرية مرآة لوقوع النسبة اولا وقوعها صحيح في نفسه الا انه قد يکون مع قصد الحکاية وقد لا يکون معه کما في القصص الخيالية التي يقصد بها التأثير النفسي في ابناء المجتمع فالمرآتية محفوظة فيها ايضاً الا انها فاقدة لقصد الحکاية والحکم بالوقوع.
في مفاد الجمل الانشائية
مورد الکلام هو مفاد الجمل الانشائية سواء ما کان منها مفيداً للانشاء بمقتضی الهيئة الخاصة وما کان منها مفيداً له بمقتضی الادوات التي تحوّل المضمون الخبري الی مضمون انشائي کادوات التمني والترجي والاستفهام ونحوها.
المشهور في بيان الفرق بين الجمل الخبرية والانشائية ان مفاد الخبر هو وقوع النسبة اولا وقوعها ــ کما مر ــ وانّ دور اللفظ هو تمثيل هذا المعنى. واما الانشاء فهو ايجاد للمعنی سواء کان بالفاظ التحويل کادوات التمني والترجي او بالفاظ العقود والايقاعات او بالفاظ انشاء الاحکام التکليفية او الوضعية. فنسبة اللفظ الی المعنی نسبة ايجادية.
قال المحقق الخراساني (وأمّا الصيغ الإنشائيّة فهي ــ على ما حقّقناه في بعض فوائدنا ــ موجِدةٌ لمعانيها في نفس الأمر أي قُصِدَ ثبوت معانيها وتحقّقها بها وهذا نحوٌ من الوجود، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتّبة عليه شرعاً وعرفاً آثارٌ، كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات).[15]
ويقصد بقوله في بعض فوائدنا ما ذكره مفصلا في كتابه فوائد الاصول قال فيه (فاعلم انّ الإنشاء هو القول الّذي يقصد به إيجاد المعنى في نفس الأمر لا الحكاية عن ثبوته وتحقّقه في موطنه من ذهن أو خارج، ولهذا لا يتّصف بصدق ولا كذب بخلاف الخبر فانّه تقرير للثّابت في موطنه وحكاية عن ثبوته في ظرفه ومحلّه فيتّصف بأحدهما لا محالة. و المراد من وجوده في نفس الأمرية هو ما لا يكون بمجرّد فرض الفارض لا ما يكون بحذائه شيء في الخارج)[16] الى اخر ما ذكره مما يدل بوضوح على انه سنخ من الوجود الاعتباري الذي يترتب عليه بعض الآثار عرفاً او شرعاً احياناً اذن فالمعنی في الانشائيات نوع من الامور الاعتبارية يحققه اللفظ.
ولکن هذه الوجهة لم تعجب بعض المتأخرين فناقشوا في نظرية کون الانشائيات اموراً ايجادية مع الغفلة عن تصريح بعضهم بانه نوع من الوجود الاعتباري.
وحاصل المناقشة ان المراد بالوجود لو کان هو الوجود الخارجي فهو واضح البطلان اذ لايمکن ان يکون اللفظ من مبادي تحقق الماهيات في وعاء الخارج او نفس الامر وان کان هو الوجود الاعتباري فمن المعلوم ان الاعتباريات امور تحققها النفس بلا توسيط آلة فانها من ابداعياتها. ودور اللفظ هنا ليس الا دور المبرِز للمعنی المنشأ في النفس. واما تحقق تلک المعاني فهو في مرحلة سابقة علی الابراز.
ومما ذکرنا يظهر ان المراد هو الاحتمال الثاني فلابد من ملاحظة هذه المناقشة التي من اجلها أعرضوا عن نظرية کون الانشائيات اموراً ايجادية.
وهنا اتجاهان في قبال هذه النظرية المشهورة:
الاتجاه الاول: ان الجمل الانشائية لا تتضمن الا ابراز اللفظ للامور النفسية سواء کانت صفة نفسية او عملاً نفسياً عدا قصد الحکاية. وقد اختار هذا الاتجاه العلامة الحائري([17]) والمحقق الايرواني مع اختلاف ما في التقرير الآتي. وقد مر عن بعضهم القول بان قصد الحکاية هو المبرز في الاخبار وهو يقول بان الانشائيات ابراز لصفة او عمل نفسي ايضاً الا انه غير قصد الحکاية. وهذا هو الفارق بين الخبر والانشاء. فالتمني المنشأ صفة نفسية تحصل بالاعتقاد بالنفع في شيء مع عدم احتمال تحققه والترجي مثله الا انه مع احتمال تحققه وکلمتا (ليت) و(لعل) مبرزتان لهذه الحالة النفسية. وکذلك ادوات الاستفهام لحب الاستطلاع وطلب الفهم الکامن في النفس.
الاتجاه الثاني: ما اختاره المحقق الاصفهاني وهو ان الانشاء والخبر مشترکان في کونهما في مقام ايجاد المعنی بالوجود اللفظي کما مرتوضيحه فالاستعمال اللفظي ايجاد للمعنی بالوجود اللفظي الذي هو وجود للمعنی بوجه وبالعرض والمجاز. انما الفرق بين الخبر والانشاء ان الاول مقترن بقصد الحکاية دون الثاني. والتقابل بينهما قد يکون تقابل العدم والملکة کما في جملة (بعت) القابلة للانشاء والاخبار وقد يکون تقابل السلب والايجاب کادوات التمني والترجي المتمحضة للاستعمالات الانشائية.
ولکي نتمکن من دراسة هذه الاتجاهات الثلاث دراسة دقيقة لابد لنا من تقديم مقدمة حول بيان الرابطة بين الانشائيات والاعتباريات نظراً الی ما اختاره المشهور من کون الانشاء ايجاداً لامر اعتباري:
في النسبة بين الانشائيات والاعتباريات ثلاث احتمالات: العموم والخصوص المطلق، العموم والخصوص من وجه، التساوي.
ولتوضيح ذلك لا بد من ان نتذکر ما ذکرناه في المدخل العام للاصول من ان الاعتباريات امور فرضية تخترع للتأثير في المشاعر والا حاسيس البشرية اما علی وجه فردي او اجتماعي واهم انواعها قسمان:
1_ الاعتبارات المتأصلة القانونية التي لا تتضمن عناية وتجوزاً بحسب النظر العرفي. فيجدها العرف ذات تقرر خارجي بل قد يعدّها من الاعراض کالملکية والزوجية والحلية والحرمة والنجاسة والطهارة والميتة والمذکی والولاية والزعامة ونحو ذلك من الاعتبارات القانونية وکثيراً ما تشتبه بالاعراض الخارجية لدی الخواص فضلا عن العوام.
2_ الاعتبارات الادبية . وهي التي تتضمن عناية وتجوزاً وذلك باعطاء حد شيء لشيء آخر بداعي التأثير في الاحساس استمداداً مما للشيء الاول من تأثير نفسي. کاعتبار الوجه الحسن شمساً او قمرا والرجل الشجاع اسداً فالعناية واعطاء حد شيء لشيء اخر واضح في مثل هذا الاعتبار. بخلاف القسم الاول الذي يشبه الوجود الخارجي.
واما الانشائيات فيمکن ان يقال ان النسبة بينها وبين الامور الاعتبارية هي العموم من وجه. فمورد افتراق الانشائيات موارد ابراز الصفات الواقعية النفسية کالتمني والترجي وطلب الفهم ونحو ذلك فهذه الامور صفات واقعية لا تقبل الاعتبار.
ومورد افتراق الاعتباريات موارد الاعتبارات الادبية. فقولنا رأيت اسداً يرمي يتضمن اعتباراً مع العناية الا انه اخبار لا انشاء وهکذا سائر المجازات والکنايات نعم قد يراد بالجملة الخبرية مفاداً انشائياً بلحاظ المراد الجدي لا الاستعمالي نحو: (يعيد صلاته) و(لا يعيد صلاته) حيث يراد بهما الامر والنهي بحسب المراد الجدي ولکنهما کسائر المجازات مستعملان في نفس المعنی الحقيقي وهو هنا الاخبار.
واما مورد الاجتماع فکثير نحو:( بعت دارى بکذا) حيث يتضمن انشاءاً لامر اعتباري وهو الملکية.
هکذا يمکن ان نقرر النسبة بين الانشائيات والاعتباريات فان امکن انکار موردي الافتراق انقلبت النسبة تساوياً لتمحضها في مورد الاجتماع الذي هو مناط التساوي وان امکن انکار احدهما فقط کانت النسبة عموماً مطلقا. فلابد من ملاحظتهما:
أما مورد افتراق الانشائيات فالظاهران مفاد ليت ولعل ونحوهما هو ايجاد التمني والترجي ونحوهما بالوجود الاعتباري لا ابراز الصفة النفسية فهذه الامور مما له فردان حقيقي واعتباري فالفرد الحقيقي لکل منها هو الصفة القائمة بالنفس والفرد الاعتباري هو ما يتحق بالانشاء.
وذلك نظير الميتة حيث ان لها فرداً تکوينياً وهو ما مات حتف انفه وفرداً اعتبارياً وهو ما فقد في ذبحه احد شرائط التذکية کل حسب مذهبه. وکذلك القذر والنظيف لهما فردان تکوينيان وهو ما يستقذره العرف والطبع البشري وما لا يستقذره وفردان اعتباريان وهو النجس والطاهر کل حسب مذهبه.
وهکذا کثير من الامور الاعتبارية فانشاء التمني والترجي ايجاد لفرد اعتباري منهما وهو قد يقترن بالصفة النفسية واقعاً وقد لا يقترن بل يکون ايجاده بدواع اخر. کما ينشأ طلب الفهم بادوات الاستفهام بداعي الانکار والتوبيخ والتقرير والتهکم ونحوها مما هو مذکور في کتب النحو.
ولا فرق في ذلك بين الانشاء بالادوات نحو (ليت) و(لعل) او بالمفاهيم الاسمية نحو (ارجو) و(اتمنی). بل من الواضح أن ابراز التمني والترجي وطلب الفهم بنحو الاخبار عما في النفس يخرج عن حدود الانشائيات ويدخل في الجمل الخبرية فالصفات النفسية کسائر الاشياء قابلة للاخبار عنها ولا يحتوي ذلك علی خاصية الانشاء.
هذا وينبغي التنبيه علی ما ذکره المحقق الاصفهاني من ان کلمة (لعل) لا تدل علی الرجاء بمعنی الصفة النفسية وذلك لخصوصية في هذه الکلمة حيث يظهر من موارد استعمالها انها تفيد الشك مع کون الشيء في معرض الوقوع. وهکذا ورد في صحاح اللغة ايضاً حيث قال (لعل كلمة شك).
واما مورد افتراق الاعتباريات فهو کالاعتبارات الادبية فان الاعتبار فيها لا يلازم الانشاء فقد يکون انشاءاً وقد يکون اخباراً.
فالاول نحو قولهم للزوجة (اعتدّي) کناية عن انشاء الطلاق. وکذا سائر الکنايات والمجازات المستعملة في العقود والايقاعات وليس من ذلك جملتا (يعيد صلاته) و(لا يعيد صلاته) فانهما وان کانتا حاکيتين عن امر اعتباري وهو صحة الصلاة وبطلانها الا ان انشائيتهما ليست بلحاظ المراد الاستعمالي فهما خبران يراد بهما في مرحلة الجّد امراً انشائياً.
والثاني اي ما يکون فيه الاعتبار الادبي اخبارا فهو کثير نحو جاء الاسد کناية عن الرجل الشجاع.
ومن موارد افتراق الاعتباريات عن الانشائيات الحلف فانه امر اعتباري حقيقته جعل الارتباط بين شخصية المقسم به او شأن من شؤونه ومفاد الجملة الخبرية. وهو اعتبار متأصل والاعتبارية فيه مخفية ومتحققه بنحو اللف والاندماج وهو انشاء ايضاً الا انه لا يحوّل الجملة الخبرية انشائية فلا يصح ان يقال ان جملة (والله ان زيداً قائم) جملة انشائية كما هو واضح.
وقد يکون الامر الاعتباري مُنشأً بغير اللفظ کالمعاطاة وسائر الافعال المحققة للمفاهيم الاعتبارية في المعاملات.
فتحصل ان الانشاء يلازم الاعتبار ولا عکس فکلما صدق على جملة انها انشائية وجدنا هناك امراً اعتبارياً متأصلاً يتحقق بذلك الانشاء ولکنه ايجاد لمصداق من الماهية الاعتبارية واما نفس تحقق الاعتبار القانوني وتأصله فهو من الظواهر الاجتماعية التي يخلقها المجتمع بمرور الايام وتطور الاعتبار الادبي کما اوضحناه في المدخل.
فهذه الحيثية في الامور الاعتبارية غير قابلة للجعل والانشاء الفردي فاذا أنشأ الشارع الوجوب او الحرمة او النجاسة او أنشأ العاقد الملکية او الزوجية او نحو ذلك فهو ايجاد لمصداق من المفهوم الاعتباري المتأصل في المجتمع باللفظ المخصوص او بالفعل المخصوص کالمعاطاة. اذن فقولنا (هي طالق) نسبته الی مفهوم البينونة وانفصام الزوجية نسبة ايجادية. هذا هو المشهور.
واما المسلک الثاني فهو القول بان نسبة هذه الالفاظ الی تلك المفاهيم نسبة المبرِز الی المبرَز بلا فرق بين کون المبرَز النفسي امراً اعتبارياً کالعقود والايقاعات او صفة نفسية کالتمني والترجي ونحوهما. وذلك بناءاً علی انکار تحقق الامر الاعتباري في هذه الموارد. اذن فالفرق بين الخبر والانشاء کون المبرَز في الاول قصد الحکاية دون الثاني.
ويرد علی هذا المسلك عدة مناقشات:
المناقشة الاولی: ان الجمل الخبرية لا تدل علی قصد الحکاية دائماً کما مر.
المناقشة الثانية: ان الالتزام بان کل إبراز لصفة نفسية انشاءٌ بعيد جداً فهل يصح ان يقال لمن اظهر شجاعته او جبنه او عدالته او خوفه او خجله بلفظ او غير لفظ انه انشأ هذا المعنی؟!
هذا والذي الجأ القائل الی تحمّل هذا التکلف هو انکاره للوجود الاعتباري في التمني والترجي ونحوهما وقد بينا ذلك بوضوح فلا موجب لهذا التکلف.
المناقشة الثالثة: ان من البعيد جداً ان يلتزم بان العقود والايقاعات بمضمونها العرفي تتحقق بمجرد إبراز ما في النفس مع قطع النظر عن التقيد الشرعي بالصيغة الخاصة. فلو قال احد (في نفسي اعتبار البينونة بين وبين زوجتي) فهل يعتبر هذا طلاقاً عرفاً؟! مع ان هذا اللفظ أصرح في ابراز ما في النفس.
المناقشة الرابعة: انه لا اشکال ولاخلاف في دخالة هذه الالفاظ الخاصة في تحقق حقيقة العقود والايقاعات فلا اثر للاعتبار النفسي من دون هذه الالفاظ التي اعتبرت ــ حسب الفرض ــ مبرزة فقط. وحينئذ فان صح هذا الافتراض لزم ان تکون حقيقة المعاملة هو الامر النفسي ودور اللفظ هو دور الکشف والابراز. وحقيقة المعاملة متحققة في مرحلة سابقة علی التلفظ. وهذا امر لا يمکن الالتزام به.
فان قلنا بان دور اللفظ دور الشرط المتأخر بمعنی ان الاعتبار النفسي هو حقيقة المعاملة بشرط تعقبه باللفظ الخاص فهذا ايضاً مخالف للوجدان اذ لا نجد في انفسنا عند التلفظ اننا نوجد شرطاً متأخراً لتحقق المعاملة.
وان قلنا بان البيع هو مجموع المبرَز والمبرِز فهو ايضاً مخالف لما نجده اذ لا نجد في التلفظ بالبيع انه تکميل للمفهوم المرکب المحقق لماهية البيع بل نجده محققاً له بالاستقلال.
اضف الی ذلك ان لازم هذا الافتراض الالتزام بالتجوز في لفظ بعت اذا اريد به الانشاء وذلك بتجريده عن معناه الواقعي.
توضيحه ان کلمة (بعت) اذا استعملت في الاخبار کانت حاکية عن المبرِز والمبرَز معاً حسب الافتراض الثاني لأن المفروض ان البيع هو مجموع المبرِز والمبرَز واللفظ هنا مستعمل في معناه الحقيقي فاذا استعملت الكلمة في الانشاء کان لابد من تجريدها عن الحکاية عنهما معاً واختصاصها بالحکاية عن المبرَز فقط اذ لا يمکن ان يحکي عن نفسه وهو المبرِز فلا بد من الالتزام بعدم استعماله في المعنی الحقيقي الذي هو عبارة عن المجموع . وهذا خلاف الوجدان ايضاً.
واما المسلك الثالث الذي اختاره المحقق الاصفهاني فتوضيحه ان الجمل سواء کانت انشائية او خبرية لا تحتوي الا علی الوجود اللفظي للنسبة التامة وهو نوع من الوجود العرضي حيث ان للشيء وجود طبعي وهو الواقع الخارجي ووجود ذهني ووجود عرضي وهو کتبي ولفظي. والنسبة التامة التي توجد بالوجود اللفظي ان کانت مقرونة بقصد الحکاية فالجملة خبرية والا فانشائية.
اذن فاللفظ ليس موجداً للمعنى بل هو وجود له بالعرض. والجمل التامة الموجدة للنسبة الانشائية قد تکون قابلة للحکاية وغيرها نحو (بعت) فهي مع قصد الحکاية خبر وبدونه انشاء وتقابلهما تقابل العدم والملکة لقابلية المحل. وقد تکون متمحضة في الانشاء نحو ليت ولعل.
واساس هذه النظرية ما قدمناه من ان اللفظ لا يمکن ان يکون آلة لايجاد المعنی. اما خارجاً فلانه ليس من مبادئ تحقق الماهيات واما اعتباراً فلان الاعتبارات من إبداعات النفس التي لا تقبل التوسيط. واما ذهنا فالوجود الذهني مقدم خارجاً علی التلفظ بل من مبادئه ان کان عن قصد.
ولتحقق الوجود الذهني اسباب خاصة من خطور مثل الشيئ او ضده او مقارنه.
فتحصل أن التلفظ بجملة (هي طالق) مثلاً بقصد الطلاق لا يعد معتبراً لشيء اصلاً وکذلك في سائر الجمل الانشائية. نعم في خصوص الاعتبارات القانونية يتسبب اللفظ في ايجاد موضوع الاعتبار القانوني شرعاً او عرفاً. وذلك لان المشرع القانوني جعل موضوع حکمه بحصول الملکية والزوجية والبينونة ونحو ذلك من الشؤون الاعتبارية التلفظ بصيغة خاصة او الاتيان بعمل خاصّ. کما انه جعل موضوع الحکم بالنجاسة والطهاره ونحو ذلك فعلاً او حالة او صفة في الخارج فالغسل مثلاً بشرائطه موضوع للحکم بالطهارة وهکذا.... ولا مانع من تسبيب الانسان بفعله او قوله الی اعتبار شخص آخر کالمشرع القانوني انما الاشکال في ان يتسبب الی اعتباره بنفسه.
وتبين ان هذا الا ستدارك مختص بالشؤون الاعتبارية القانونية ولا يصح في الاعتبارات الشخصية کالتمني والترجي ونحوهما.
ولکن هذا المسلك لا يمکن الالتزام به لمخالفته للوجدان فنحن نجد أن کل من يجري صيغة البيع او النکاح او الطلاق او يأتي بفعل يحقق إنشاء احد هذه الامور نجده محققاً لاعتبار ذلك الامر. فهذا المسلك ابعد عن الوجدان من المسلك السابق حيث کان الاعتبار الشخصي معترفاً به هناك وانما الخلاف کان في کون اللفظ مبرزاً للامر الاعتباري الکامن في النفس او محققاً له في وعاء الاعتبار. ولکن هذا المسلك ينفي الاعتبار الشخصي رأساً.
وهو غير صحيح فقد يکون العاقد غير ملتفت الی الاعتبار الشرعي او القانوني وقد يکون متحدّياً للقانون فلا يلاحظ الشرائط الرسمية لتحقق الاعتبار القانوني. فمن هنا نستکشف ان العقد تشريع شخصي والايقاع عمل شخصي اعتباري والعقد ليس الا کالمعاهدات الشخصية بين الجانبين وانما يلاحظ الشروط القانونية اذا کان المتعاملان يطلبان الحماية القانونية عن ملکيتهما او زوجيتهما مثلاً اذ لابد حينئذ من اعتراف السلطة بتحقق الامر الاعتباري.
اذن فدور الاعتبار الشرعي والقانوني هو دور التنفيذ والامضاء لا التأسيس وجعل الشيء موضوعاً للحکم. وليس ذلك من قبيل الاعمال الخارجية التکوينية التي تکون موضوعات للاحکام الشرعية کالغسل للطهاره وافتراق المتبايعين للزوم العقد. فان التنفيذ والامضاء غير معقول هناك وانما المعقول اعتبار الفعل موضوعاً للحکم بخلافه في الامور الاعتبارية.
وبعد هذا کله يبقی سؤال وهو أنه کيف يمکن ان يکون اللفظ محققا لامر اعتباري بعد ان منعنا کونه مبرزاً عن الاعتبار النفسي؟
لابدّ للتحقيق عن ذلك من ملاحظة انطباع العرف والعقلاء عن الامور الاعتبارية. وقد ذكرنا مرارا أنهم يجدونها امورا تكوينية كالاعراض فاذا حصلت الزوجية بين شخصين فان العرف يری انه قد تحقق شيئ وصفة واقعية تکوينية بينهما ولا يفرق بين وجود مثل هذا الاعتبار وبين الاعراض حتی ان الامر قد اشتبه علی بعض العلماء کما ذکرنا في المدخل العام للاصول حيث تعرضنا اجمالاً لبعض موارد الاشتباه التي حصلت للاصوليين نتيجة توهم الامور الاعتبارية اموراً تکوينية فحاولوا إسراء القوانين الفلسفية المختصة بالتکوينيات اليها.
وعليه فالمناسب لايجاد الامر التکويني بنظر العرف لابد ان يکون هو العمل الخارجي دون مجرد الاعتبار النفسي ولذا لا يعد عرفاً مجرد الاعتبار النفسي الا افتراضاً لوقوع المعاملة ولا يجد العرف تحقق الامر الخارجي الذي نسميه اعتباراً.
والعمل الخارجي المحقق لهذه الامور في نظر العرف قد يکون لفظاً وقد يکون اعطاءاً کالمعاطاة وقد يکون کتابة ونحو ذلك مما يؤثر في انعکاس الامر المقصود في النفس.
وليس تأثير هذه الافعال في رد الفعل النفسي امراً مستغرباً فهو الملحوظ ايضاً في التلقينات النفسية فاذا اراد الانسان ان يؤثر في نفسه ويوطّنها علی مواجهة الصعاب بشجاعة فانه لا يکتفي بمجرد التفکير في الاستهانة بها وانما يلقّن نفسه بترديد الکلمات المشجعة وربما صاحبه نوع من الحرکات الجسمية الباعثة علی التشجيع.
والسر في ذلك هو تأثير اللفظ والحرکات الجسمية الخاصة في انفعال النفس بنحو أشدّ وآکد للاثر المقصود. وهکذا الکلام في الامور الاعتبارية. فاذا وطّن الرجل نفسه علی فراق زوجته وترکها فانه کلّما تأکّد منه لا يری الانفعال النفسي الا بعد ان يتلفظ بالالفاظ الخاصة او يأتي بالعمل الخاص الذي يعکس هذا الاثر في نفسه وبذلك يجد انه قد حقق امراً تکوينياً وهو البينونة وانفصام عرى الزوجية.
ثم ان انشاء الامور الاعتبارية کما يتحقق بداعي الجدّ قد يتحقق بدواع اخر کالهزل ونحوه کما يتحقق اعتبار الملك والوزير ونحوهما في تمثيليات الاطفال وما شابهها فانشاء الامر الاعتباري بالتقريب المتقدم متحقق هنا ايضاً الا انه بداعي الهزل واللعب.
ومن هنا يحکم بصحة عقد المکرَه ونحوه اذا تعقبه الرضا فانه لا يفقد انشاء الامر الاعتباري وانما يفقد القصد الجدي وهو من شروط صحه المعاملة وترتب الاثر عند العقلاء ويعبر عنه في القوانين الحديثة بالارادة حيث يشترط فيها ان لا تکون معيبة.
اذن فعقد المکره وکل عقد يفقد القصد الجدي محقق لامر اعتباري ايضاً الا انه غير محکوم بالاحکام القانونية لدى الشرع والعقلاء کما ان اعتبار الملك والوزير ونحوهما في التمثيلات المسرحية لا يفقد صفة الانشاء والاعتبار الا انه غير محکوم بالاحکام العقلائية نظراً لفقدان القصد الجدي.
في المبهمات
الکلام هنا في تشخيص الموضوع له والمستعمل فيه في المبهمات کاسماء الاشارة والضمائر والموصولات.
وهنا ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الاول: ان هذه الالفاظ کلها موضوعة لايجاد الاشارة في الخارج. وهذا هو الصحيح. ولتوضيحه لابد من التعرض لامور:
الامر الاول: ان الاشارة عبارة عن امتداد موهوم بين المشير والمشار اليه وقد يکون وعاؤها بدواً وختاماً الواقع الخارجي ونعبر عنها بالاشارة الخارجية وقد يکون وعاؤها بدواً الذهن وختاماً الخارج ونعبر عنها بالاشارة الوهمية وهي التي توجب جزئية الصور الارتسامية الذهنية. فان کل صوره ارتسامية بالذات قابلة للانطباق علی الکثيرين وانما تتصف بالجزئية بضم الاشارة الوهمية اليها وستتضح هذه النقطة عند الکلام في البحث التالي في امکان ان يکون الوضع والموضوع له خاصاً.
الامر الثاني: ان الاشاره الخارجية لابد وان يکون له راسم کما في الامتداد الخارجي وراسمه اما ان يکون توجيه بعض الاعضاء نحو شيء وغالباً ما يکون بأصابع اليد وخصوصاً السبابة منها او بالعين او بالرأس ويلحق به توجيه بعض الآلات کالعصا وشبهه واما ان يکون التلفظ بالفاظ خاصة وهي اسماء الاشارة والضمائر والموصولات فهي علی هذه الفرضية تؤدي نفس الوظيفة التي يؤديها توجيه بعض الاعضاء من ايجاد الامتداد الموهوم الی واقع معين يعبّر عنه بالمشار اليه.
الامر الثالث: ان المشار اليه لابد وان يکون في نفسه امراً معيناً في الجملة اما بالتعين الخارجي او الذکري او الوصفي حتی يصلح ان يکون طرفاً للامتداد الموهوم الذي سبق بيانه. واذا فرض تعدد ما يصلح في نفسه للاشاره اليه بهذه الالفاظ فلا بد من تشخيصه بقرائن حالية او مقالية کما ان المشار اليه بغير هذه الالفاظ کثيراً مّا يحتاج في تشخيصه الی ضم قرينة. وقد يتوصل لتشخيص المشار اليه في الاشاره اللفظية بضم الاشاره الجوارحية کما انه قد يتوصل اليه بقرائن اخری .
الامر الرابع: انه ليس هناك تلازم بين الاشارة اللفظية والاشارة الجوارحية بل قد لا يکون تقارنهما معقولاً کما اذا کان المتکلم منزهاً عن الجوارح وهذا ما يلاحظ في موارد استعمالها في القرآن الکريم.
ومن هنا يظهر انه لا وجه للقول بان ما وضع له اسماء الاشارة هو واقع المفرد المذکر وانها لا تفيد معنی ما لم تنضم اليها إشارة جوارحية وکذا ضمير الخطاب لا يبرز معناه الا بالخطاب الخارجي کما سيجيء التحدث عنه.
وربما يثار هنا سؤال عن الوجه في اقتران الاشارة اللفظية بالاشارة الجوارحية غالباً حتى في موارد عدم الحاجة اليها لتعيين المشار اليه.
ويمکن ان نذکر له وجهين:
الوجه الاول: ان اعتبار هذه الالفاظ کوسيلة لايجاد الاشارة يحتمل ان يکون حصيلة التقارن الطبيعي بين الاشارة الجوارحية وهي الوسيلة الطبيعية وبين هذه الالفاظ أو اصولها التي تطورت اليها في بدو الحضارات البشرية فکان الانسان عند الاشارة الجوارحية الی شيء بحسب طبعه يردد اصواتا ملائمة کما يلاحظ ذلك في اشارة الاخرس. ثم اکتسبت تلك الاصوات نفس الخاصية من جهة کثرة التقارن واستغنت في نهاية المطاف عن الاشارة الجوارحية. الا ان هذا المطاف اشتمل علی تکامل وتنوع في هذه الالفاظ فطرأ عليها الابدال والقلب والنحت ونحوها کما اشتمل علی تطور في المعاني فطرأ عليها التجريد.
ولذلك صح استعمال الالفاظ في موارد لا يمکن ان تستعمل فيها الاشارة الجوارحية. وعليه فاقتران الالفاظ بالاشارة الجوارحية في هذه العهود لعله من جهة جري الانسان وفقاً لعادته القديمة.
وربما يقال بهاتين المرحلتين من تطور الالفاظ والمعاني في بقية الالفاظ اللغوية ويعلل تشعب اللغات وتطورها بالامرين.
ويناسب اصل هذه الفرضيه ما کان يذکره بعض کبار المشايخ في مجلس البحث وکان يعبر عنه بنظرية الاختراع والابتداع.
ومحصلها: ان البشر البدوي عند قصده الاخبار عن شيء والحکاية عنه لصاحبه کان بحيث تحصل له حالة دهشة واضطراب ويتکهرب اعصابه فينطق بلفظ بلا فکر ولا رويّة بل بالطبع نظير فرار الحيوانات عما يؤذيهم. ثم انه عند ارادة التفهيم لهذا الواقع اخذ يتلفظ بنفس تلك اللفظة مع نصب قرينة علی اراده المعنی الخاص ومن جهة وجود قريحة التقليد والمتابعة تبعه في ذلك غيره. وبذلك حصل الارتباط التدريجي بين اللفظ والمعنی بکثرة الاستعمال.
وهذه النظرية لا تنافي قوله تعالی (خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[18] فان الله تعالی هو الذي اودع في الانسان قوة النطق وخصّه بها من سائر الحيوانات فيکون تكامله فيها بتأييده وتسديده وقد أبی الله ان يجري الامور الا باسبابها. نعم ربما تنافيه ظواهر جملة من الآيات والروايات. ومهما کان فدراسة هذه النظرية وتقييمها لا يناسب البحث.
وعلی هذا الاساس يمکن ان يقال: ان اللفظ الذي يصدر من الانسان في هذه الحالة ويکون مقروناً بالاشارة الجوارحية قد ينعکس فيه نفس معنی المشار اليه وتخفی جهة الاشارة وقد تنعکس فيه جهة الاشارة فقط. وهنا تنقسم الالفاظ الی اسماء الاشارة وغيرها من المبهمات والی الاعلام واسماء الاجناس ونحوها.
الوجه الثاني: ان الانسان لا يکتفي غالباً في مقام تفهيم مقاصده بالتلفظ بالالفاظ بل يضم اليها حرکات مناسبة جوارحية لمزيد التأثير في المخاطب ولکي يتلقّی المعنی بوسيلتي السمع والبصر. وهذا هو المعتاد لدی کثير من الخطباء والقادة فنری انهم يمثلون مطالبهم ويرکزونها في اذهان المستمعين بحرکات اليد والرأس.
ومن هذا الباب قول ابي نواس: (الا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر – ولا تسقني سراً اذا امکن الجهر).
والحاصل ان الانسان بطبعه يزداد تأثراً بالحوادث اذا کان انعکاسها بوسيلتي السمع والبصر معاً فمن الواضح اننا نزداد تأثراً اذا سمعنا الخبر ورأينا صورة للمشهد سواء کان ذلك مشهد حزن او فرح ومن هنا اهتمت وسائل النشر والاعلام الحديثة بجميع قطاعاتها بهذا الامر فجمعوا بين الصورة والکلام في تعليم العلوم والصناعات ونشر الاعلانات وغير ذلك من شؤون الاعلام.
الامر الخامس: ان الاشارة وسيلة لاحضار الواقع المشار اليه في ذهن الغير او تعيينه من بين الصور الحاضرة في ذهنه فليس لهذه الالفاظ بذاتها دور اساسي في تشکيل القضية اللفظية.
ومن هنا يظهر ان الموضوع في القضية اللفظية لو کان – بحسب الظاهر – احد هذه الالفاظ فالنظر الدقيق يقضي بان نعدّ الموضوع واقعاً في القضية اللفظية هو نفس واقع المشار اليه وهکذا الکلام فيما کان احدها محمولاً او من متعلقات الکلام.
وهذا بخلاف سائر الالفاظ فان الموضوع وان کان في القضية اللبية هو الواقع الا انه في القضية اللفظية عبارة عن اللفظ الدال عليه واما في هذه الالفاظ فالموضوع او المحمول او غيرها في القضية اللفظية هو نفس الواقع وانما اتى بهذا اللفظ لمجرد الاشارة اليه فاذا قلنا هذا زيد فقد حملنا کلمة زيد علی الشخص الخارجي وجعلنا اسم الاشارة اداة لتعيينه کالاشارة الخارجية.
ومما يرشدنا الی ذلك ما نجده في مرحلة تمثيل المتکلم مقاصده بالحرکات الخارجية حيث ان المعتاد هو تمثيل مفهوم اللفظ باشارة مناسبة. ونجد ان المعتاد هو تمثيل مفهوم هذه الالفاظ نحو هذا بالاشارات الجوارحية کالاشارة بالا صبع من دون ملاحظة مناسبة حرکة التمثيل للمعنی المشار اليه.
وهذا يدل علی ان المرتکز في الاذهان هو أنّ دور هذه الالفاظ هو دور الوسيط وأنّ مفهومها ليس الا مجرد الاشارة. ولذلك ناسبها تمثيل نفس الاشارة ولو کان مستعملا في نفس المعنی المشار اليه – کما يتوهم – لکان اللازم ان يتناسب حرکة التمثيل لذلك المعنی.
فليلاحظ ذلك في موارد حرکة التمثيل لاسم الاشارة مع کون المشار اليه سعة شيئ او ضيقه او علوه او انحطاطه مادياً او معنوياً فيشاهد ان حرکة التمثيل واحدة مع اختلاف المشار اليه وهذا بخلاف ما اذا کانت الحرکة لتمثيل نفس المعنی من دون توسط اسم الاشارة.
الامر السادس: ان ما ذکرناه في توضيح مفاد اسماء الاشارة يجري بعينه في الضمائر مطلقا فهي موضوعة لايجاد الامتداد الموهوم. وکذا الامر في الموصولات الاسمية.
نعم يتضمن محتوی الموصولات علی نوع من تعيّن المشار اليه وانه من ذوي العقول او من غيرها. ويشارکها في هذه الخصوصية بعض اسماء الاشارة وهي ما يشار بها الی المکان نحو هنا وهاهنا للاشارة الی المکان القريب ومع الکاف للاشارة الی البعيد وکذلك ثَمَّ وهَنّا وهِنّا وهنالك.
ومن المحتمل ان يکون هذا في بدو الامر من قبيل تعدّد الدال والمدلول وحصل بالتدريج نحو إدغام ولفّ فيما بينهما فاختفى جانب التعدد. وسيجيئ توضيح هذه النظرية في مبحث المشتق.
وهذا التعدد واضح في بعضها کاضافة الکاف الی (هنا) و(هاهنا) للدلالة علی بعد المکان المشار اليه باصل الکلمة.
ولا يقاس نوع التعين المستفاد من هذا القسم من الاسامي بالتعين اللازم مراعاته عند الاستعمال في غيرها کمراعاة کون المشار اليه مفرداً مذکراً عند الاشارة بـ (ذا) وکونه انثی عند الاشارة بـ (ذي) و(ذه) و(تي) و(تا). وکونه جمعاً مذکراً عند الاشارة بـ (أولاء) وهکذا. والفرق بينهما يتضح بالتأمل.[19]
الاتجاه الثاني: وهو رأي المحقق الخراساني حيث ذهب الی ان هذه الالفاظ متحدة معنیً مع الاسماء المشابهة لها نظير ما ذکره في الفرق بين المعاني الاسمية والمعاني الحرفية قال (فدعوی ان المستعمل فيه في مثل هذا وهو واياك انما هو المفرد المذکر وتشخصه انما جاء من قبل الاشارة او التخاطب بهذه الالفاظ اليه فان الاشارة او التخاطب لا يکاد يکون الا الی الشخص او معه غير مجازفة...).[20]
وفي هذا الاتجاه ثلاث نقاط من الضعف:
النقطة الاولی: ان من الواضح عدم دلالة لفظ (هذا) مثلاً علی مفهوم المفرد المذکر وعدم مساوقته له بقطع النظر عن الجزئية المستفادة من الاشارة.
النقطة الثانية: انه لا يشترط في اسماء الاشارة الاقتران بالاشارة الحسية بيد او بعين او نحوهما وکثيراً ما لا يمکن تحقق الاشارة اما لعدم قابلية المعنی لها کما في الامور المعنوية واما لعدم امکان اسنادها الى المشير کالآيات المبارکات کما تقدم.
النقطة الثالثة: ان الموضوع له لو کان هو مفهوم المفرد المذکر وکان الاشارة والتخاطب خارجين عن حدود الموضوع له فما هو الموجب لتقييد استعمال (هذا) في مورد الاشارة و(انت) في مورد التخاطب؟ وهل هو من قيود الموضوع له او المستعمل فيه؟ مع أن ظاهر عبارة المحقق الخراساني انه ليس من قيود شيء منهما. فمن اين يحصل هذا التقييد؟!
ولا يمکن قياس ذلك بتقيد المعنی الحرفي باللحاظ الآلي وذلك لان الاستعمال لا يخلو من اللحاظ ولابدّ اما من اللحاظ الآلي او الاستقلالي وحينئذ يتعين المعنی الاسمي والحرفي. وفيما نحن فيه لا موجب للتقييد اذ لم يکن قيداً في الموضوع له. ومجرد تقييد العلقة الوضعية بالمورد الخاص لا يوجب ان يکون اللفظ مفهماً لتلك الخصوصية.
الاتجاه الثالث: ما اختاره المحقق الاصفهاني([21]) وغيره وهو يبتني علی تصحيح للاتجاه الثاني القائل بوضع هذا مثلاً لمفهوم المفرد المذکر فذهب اصحاب هذا الاتجاه الی وضعه لواقع المفرد المذکر بشرط ان يقع مشاراً اليه. فالوضع فيه عام لملاحظة هذا العنوان بعمومه والموضوع له خاص لانه الواقع الخارجي المفرد. وعلی هذا الاساس لا يرد علی هذا القول الاشکال الاول والثالث في الاتجاه السابق اما الاول فواضح واما الثالث فلأن کون المعنی مشاراً اليه قد اخذ قيداً في الموضوع له.
قال في المحاضرات (إنّ أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما وضعت للدلالة على قصد تفهيم معانيها خارجاً عند الاشارة والتخاطب لا مطلقاً، فلا يمكن إبراز تفهيم تلك المعاني بدون الاقتران بالاشارة والتخاطب... فكملة (هذا) أو (ذاك) لا تدل على معناها وهو المفرد المذكر إلّابمعونة الاشارة الخارجية كالإشارة باليد كما هي الغالب أو بالرأس أو بالعين، وضمير الخطاب لا يبرز معناه إلّامقترناً بالخطاب الخارجي).[22]
ويبقی علی هذا الاتجاه الاعتراض الثاني حيث إنّ استعمال (هذا) ونظائرها لا يتوقف علی الاشارة بل هي موجدة للاشارة کما مر.
في اقسام الوضع
من المعروف تقسيم الوضع الی اربعة اقسام:
1 - الوضع عام والموضوع له عام.
2 - الوضع خاص والموضوع له خاص.
3 - الوضع عام والموضوع له خاص.
4 - الوضع خاص والموضوع له عام.
والمراد من الوضع المفهوم الذي يتصور حين الوضع. ومن الموضوع له المعنی المرتبط باللفظ بعلقة وضعية.
والکلام في مقامين نبحث في احدهما عن امکان الاقسام الاربعة وفي الآخر عن وقوعها:
المقام الاول: لا اشکال في امکان القسم الاول فيتصور المفهوم العام ويوضع اللفظ له او للمعنون بذلك العنوان. فقد يتصور حقيقة الحيوان الناطق وهو مفهوم عام ويجعل له لفظ الانسان. وقد يتصور عنوان الضاحك بالقوة ونحوه ويجعل لفظ الانسان مثلا للطبيعة المتعنونة بذلک العنوان لا لنفس مفهوم الضاحك بالقوة. فهذا العنوان العام سبب للتوصل الی وضع اللفظ بازاء الطبيعة الکلية. ويکفي في الوضع تصور الموضوع له بوجه ولا يتوقف علی تصوره بذاته.
واما القسم الثاني فتوهم الاستحالة انما يأتي من قبل ما ذکره بعض الاجلة من ان الوضع لا يمکن ان يکون خاصاً لان الصورة الذهنية المتصورة لا يمکن ان تکون جزئية وان کانت مقيدة بالف قيد ولا يؤثر في جزئيتها انحصارها في الفرد الواحد ولا کونها مأخوذة من فرد واحد فان الصور النفسية تحکي عما يطابقها لا عما اخذت منه ولا يمکن ان تتقيد حکاية الصورة بعلل الوجود کالصورة الفوتوغرافية.
والجواب عنه: ان الصور الذهنية وان لم ترتبط بالخارج مباشرة فلا تکون جزئية الا انها ترتبط به بضم الاشارة الوهمية ومن هنا ينشأ العلم بالجزئيات الخارجية والا فالجزئي بما هو جزئي ليس کاسباً ولا مکتسباً _ کما قيل _ ومن هنا ايضاً ينقسم المفهوم الی کلي وجزئي والا فلابد من ان يکون المفهوم کلياً ابداً.
قال المحقق الطوسي في شرح الاشارات (كلية الإدراك وجزئيته تتعلقان بكلية التصورات الواقعة فيه وجزئيتها ولا مدخل للتصديقات في ذلك فإن قولنا هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت جزئي وقولنا الإنسان يقول القول في وقت كلي ولم يتغير فيهما إلا حال الإنسان والوقت والقول بالجزئية والكلية وكل جزئي يتعلق به حكم فله طبيعة توجد في شخصه إنما تصير تلك الطبيعة جزئية لا يدركها العقل ولا يتناولها البرهان والحد بسبب انضياف معنى الإشارة الحسية إليها أو ما يجري مجراها من المخصصات التي لا سبيل إلى إدراكها إلا الحس وما يجري مجراه).[23]
واما القسم الثالث فالمشهور امکانه نظراً الی ان تصور الکلي تصور للافراد بوجه وهو کاف في المقام.
ولکن قد اعترض علی ذلك بأنّ تصور الکلي ليس تصوراً للافراد بوجه اذ الکلي لا يحکي عن افراده وانما ينطبق عليها ويتحد معها وجوداً فهو بهذا اللحاظ يحمل عليها بالحمل الشايع الذي ملاکه الاتحاد الوجودي. ولکن ملاك الحکاية والمرآتية هو الاتحاد المفهومي والماهوي. والکلي لايحکي عما ينطبق عليه بل يحکي عما يطابقه فالانسان مثلا وان کان منطبقاً علی زيد وعمرو وغيرهما الا انه لا يحکي الا عن الجهة الجامعة بينها. اذن فتصور الکلي يصحح وضع اللفظ بازائه لا بازاء افراده.
ويمکن الجواب عنه بوجهين:
الوجه الاول: ان الکليات علی قسمين:
القسم الاول: الکليات التي تنطبق علی افرادها باعتبارها اجزاءاً تحليلية منها وذلك کالکليات المتأصلة. فمصحح انطباق الانسان علی افراده ان الفرد ليس الا نفس هذه الطبيعة مع انضمام الخصوصيات الفردية. وهذا القسم لا ينطبق علی الفرد بكل أجزائه بل بجزئه التحليلي فهو لا يحکي الاعن الجزء التحليلي. وعلی هذا الاساس فالاعتراض المزبور وارد في هذا القسم.
القسم الثاني: الکليات التي تنطبق علی الافراد بتمام وجودها وذلك کالکليات الانتزاعية نحو (احد الامرين) المنتزع منهما. فکل من الامرين ينطبق عليه هذا العنوان ولکنه لا ينحل عقلاً الی هذا العنوان وخصوصيته الفردية. وانما هو عنوان يخترعه الذهن حسب الحاجة وليس له واقع تحليلي في الافراد.
ولذلك لو کنا نعلم ان احد الرجلين عادل ثم تعين لدينا الرجل العادل في احدهما بعينه فليس ذلك الاصيرورة المعلوم بالاجمال معلوماً بالتفصيل ولم يحصل لدينا معلوم جديد. وهذا يدل علی ان احد الرجلين ينطبق علی کل منهما بتمام اجزائه.
وهکذا عنوان فرد الانسان او جزئي الانسان او مصداق الانسان فلا مانع من ملاحظة احد هذه العناوين الانتزاعية عند الوضع.
وبذلك يندفع الاشکال لإمکان حکاية عنوان جزئي الانسان مثلاً عن کل من الافراد بتمام وجوده ويصح القول بان الوضع عام والموضوع له خاص. والعنوان العام وان کان هو (جزئي الانسان) الا انه جزئي بالحمل الاولي ولکنه کلي بالحمل الشايع نظير قولنا (الفعل اما رباعي واما ثلاثي).
الا ان هذا الجواب لا يدفع الاشکال. وذلك لان ما ينبغي ان يکون اساس الاشکال هو ان الحاکي لابد من ان يکون متحداً مع المحکي مفهوماً ولايکفي الاتحاد الوجودي وغاية ما يؤثر مصحح الانتزاع في الامور الانتزاعية هو اتحادها وجوداً مع مناشئ الانتزاع وهو مصحح الحمل الشايع ولا يستوجب الاتحاد الماهوي والمفهومي. فعنوان زيد وعمرو ونحوهما يغاير عنوان جزئي الانسان مفهوماً والملاك هو الاتحاد المفهومي وان لم يتحقق الاتحاد الوجودي کما هو الحال في الصور الذهنية التي تحکي عن الخارج مع تغايرهما وجوداً.
ومن هنا ثبت في مبحث الاصل المثبت أن الامور الانتزاعية لا يمکن إثباتها بجريان الاستصحاب في مناشئ الانتزاع مع تحقق مصحح الانتزاع وجداناً کما انه لا اشکال في ان عنوان القائم ينتزع من کل فرد يتحقق منه القيام وبذلك يصح الحمل الا انه لا يعتبر حاکياً ومرآة للفرد.
الوجه الثاني: _ وهو الصحيح _ ان المصحح للحکاية والمرآتية هو الاشارة فالعنوان المتصور لابد من ان يکون متضمناً للاشارة ففي وضع کلمة اسامة لافراد الاسد لابد من ان يکون المتصور عنوان (الذي هو فرد للاسد) وبضميمة الموصول المتضمن للاشارة يتحقق الامتداد الموهوم بين المشير والمشار اليه وهو الافراد الخارجية ويکفي ذلک في الحکاية المصحة للوضع کما يصحح الاخبار عنها.
نعم الاشارة لا يفيد علماً لما ذکرناه في مبحث استصحاب الفرد المردد وفي مبحث العلم الاجمالي من أنّ ضمّ الاشارة لا يوجب العلم بالفرد الخاص فلو علمنا ان احد الرجلين عادل فلايصح دعوی العلم التفصيلي بالعادل بضميمة الاشارة اليه بقولنا (ذلك العادل المعلوم بالاجمال من بينهما) والا لکان کل جاهل بسيط عالماً بالوقائع اذ لا يخلو المجهول من الترديد بين امرين ولا اقل من السلب والايجاب لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما. فالاشارة لا تحقق العلم ولا تفيد في جريان الاستصحاب المتوقف علی اليقين السابق الا انها تحقق الحکاية وتکفي في الوضع.
وعلی هذا الاساس ادّعی نفس هذا المعترض في الفرق بين الاطلاق والعموم الشموليين ان هناك فرقاً ثبوتياً بينهما خلافاً لغيره. وذلك بدعوی ان الموضوع في المطلق هو نفس الطبيعة وفي العام الاستغراقي هو الکثرات الخارجية نظراً الی ان کلمة (کل) مثلاً او اللام المفيد للعموم مشير الی الافراد في الخارج.
اذن فاذا قلنا ان الوضع عام فهو باعتبار ان المتصور عند الوضع کلي واذا قلنا ان الموضوع له خاص فهو باعتبار ان ذلك العنوان العام منضم الی اشارة الی الکثرات الخارجية. وذلك في قبال الوضع الخاص فانه وان کان المتصور کليا ايضاً بلحاظ انه صورة ذهنية ــ کمامر ــ الا ان الاشارة هناك حيث کانت الی فرد اختص الانطباق به فاصبحت صورة خاصة لا تنطبق علی اکثر من واحد. وبذلك کان الوضع خاصاً.
هذا ولعل القائل بالجواب الاول کان ينظر الی ما ذکرنا والله العالم.
واما القسم الرابع فقد قالوا انه غير ممکن لان الخاص لا يحکي عن العام وليس تصوره تصوراً له بوجه.
وهذا صحيح فان تصور الخاص ان لم يستوجب تصور العام کان وضع اللفظ بازائه فقط وان استوجبه فقد اصبح الوضع عاماً بلحاظ تصور الجامع وان کان الخاص منبهاً لتصوره فان ذلك ليس معنی الحکاية.
المقام الثاني: بعد ان سلمنا امکان ثلاثة اقسام من الاقسام الاربعة المذکورة يقع البحث في وقوع کل منها. وقد قيل انها واقعة جميعاً فمثال القسم الاول اسماء الاجناس ومثال القسم الثاني الاعلام الشخصية ومثال القسم الثالث الحروف واعلام الاجناس.
وهناك مناقشتان في وقوع القسمين الثاني والثالث:
اما في القسم الثاني فالمناقشة في وقوعه من جهة الموضوع له بعد ان کانت المناقشة السابقة في امکانه من جهة الوضع.
بيان ذلك ان کون الموضوع له في الاعلام الشخصية خاصاً خلاف للوجدان والعرف اما مخالفته للوجدان فلان الخصوصية لا تتحقق الا بالوجود فالشيئ ما لم يتشخص لم يوجد وما لم يوجد لم يتشخص وعليه فلو کان علم الشخص موضوعاً للخاص کان معناه انه موضوع للشيء بقيد کونه موجوداً.
وحينئذ فاذا قلنا (ان زيداً موجود) کانت القضية ضرورية بشرط المحمول لاخذ قيد الوجود في الموضوع له بحسب الوضع اللفظي فالمفاد ان زيداً الموجود موجود وهي قضية ضرورية. واذا قلنا ان زيداً معدوم کان تناقضاً وکذا ان قلنا انه اما موجود او معدوم وهذا خلاف الوجدان الحاکم بصدق هذه القضية وامکان القضية الاولی الا ان نلتزم بالتجريد في مفاد علم الشخص في هذه الموارد بان يلاحظ المعنی مع الغاء قيد الوجود المأخوذ في الموضوع له وهذا خلاف الوجدان ايضاً.
واما العرف فانه لا يؤيد وضع اللفظ بازاء المعنی بقيد الوجود وقد عرفت انه لا بد منه ان کان الموضوع له خاصاً مشخصاً. اذن فالموضوع له في الاعلام الشخصية کلي الا انه مقيد بقيود کثيرة تجعله منحصراً في الفرد.
والجواب عن هذه المناقشة ان الموجب للتشخص هو الوجود آنامّاً لا الوجود حال النسبة. فاذا قلنا زيد موجود اي الشخص الخاص الذي وجد في زمان موجودٌ حال النسبة. وکذلك اذا قلنا ان زيداً معدوم فان المراد زيد الذي وجد في زمان معدوم حال النسبة. والعرف ايضاً يساعد علی ذلك حيث ان الاعلام الشخصية لا يوضع الا للموجود سواء کان في الانسان او البلد او الحيوان او القبيلة او غير ذلك الا انه يکفي في وضع علم الشخص الوجود في الجملة.
واما القسم الثالث فقد مثل له بالحروف والهيئات الا ان الوضع في الاول شخصي اي يلاحظ اللفظ الخاص وفي الثاني نوعي اي الهيئة في ايّ مادة من المواد اللفظية تحققت. فقد ادّعي ان الوضع في الحروف والهيئات عام والموضوع له خاص وهو المصاديق اي کل واحد منها. خلافاً للمحقق الخراساني الذي مرّ منه القول بان الموضوع له فيها عام ايضاً وانما التشخص ناشئ من الاستعمال.
وتقريب القول بان الموضوع له فيها خاص هو ان الحروف موضوعة للنسب ــ کما قيل ــ او موضوعة للمعاني المشتملة علی النسب ــ کما قلنا ــ وليس للحروف مادة وهيئة فيکون الدال علی النسبة هيئتها وعلی اللون الخاص کالابتداء والاستعلاء مادتها.
وحينئذ فلابد من ملاحظة النسبة وکيفية وضع اللفظ لها.
اما في مرحلة التصور فلا يمکن ان يتصور النسبة الخارجية اذ ما يتحقق في الذهن ليس الا عنواناً للنسب الخارجية وذلك لان وجود النسبة اندکاکي ومتقوم بطرفيها وليس لها وجود مستقل فلا يمکن ان يتصور واقع النسبة بمعنی ان يکون لنفس الماهية وجود ذهني وانما يتصور مفهوم اسمي مستقل يجعل عنواناً للنسب الخارجية فما يتصور نسبة بالحمل الاولي الذاتي، وليس نسبة بالحمل الشايع نظير كلمة الفعل في جملة ( الفعل اما رباعي واما ثلاثي).
واما في مرحلة الموضوع له فلا بد من ان يوضع اللفظ لمصاديق النسبة اذ ليس لها جامع مقولي فيوضع بازائه حتی يکون الموضوع له عاماً کما في الجواهر والاعراض التي لها جامع طبيعي مقولي. والمراد بالجامع المقولي اي ما يقال في الجواب عن ما هو وهو حقيقة الشيء حسب وجهة النظر الفلسفية القديمة.
توضيح ذلك ان النسب ليس بينها حقيقة مشترکة بل هي متباينات في الواقع. وذلك لان حقيقتها متقومة بطرفيها وافتراض جامع بينها اما ان يکون متقوماً بطرفين فهو مغاير حقيقة لغيره من النسب واما ان لا يکون کذلك فيخرج عن حقيقة النسبة. فالجامع بين النسب ليس الا ذلك المفهوم الاختراعي الذي يجعل عنواناً لها في مرحلة التصور لوضع اللفظ للمصاديق. وعليه فالوضع في الحروف عام والموضوع له خاص وهو کل نسبة خارجية بحده.
والجواب عن هذا التقريب بوجوه:
الوجه الاول: ان ما ذکر من ان النسب ليس لها جامع مقولي وان الجامع المتصور عنوان اختراعي وانه ليس نسبة بالحمل الشايع صحيح الا ان هذا لا يمنع من کون اللفظ موضوعاً للمعنی العام ولا حاجة الی کون الجامع مقولياً ونحن حينما نلاحظ النسب الخارجية نجد بالوجدان انقسامها الی اصناف متعددة فمنها ابتدائية ومنها ظرفية ومنها استعلائية وهکذا... وهذا يکشف عن جهة جامعة بين کل صنف منها وهو اللون الخاص ولکل منها جهة خاصة شخصية وهي تقوّمها بالطرفين.
فان قيل: ان انقسام النسبة الی ما به الاشتراك وهو اللون وما به الامتياز وهو التقوم بالطرفين الخاصين تقسيم اختراعي لا واقعية له.
قلنا: ولکن الامر کذلك في الاعراض ايضاً فهي في نظر المدرسة الفلسفية القديمة بسائط في الواقع لا تنقسم الی ما به الاشتراك وما به الامتياز وانما يخترع الذهن لها جنساً وفصلاً. قال السبزواري في منظومته:
جنس وفصل لا بشرط حملا ومدة وصورة بشرط لا
في الجسم تان خارجيتان في اعراضه عقليتان فاقتف
اذن فلا مانع من کون الموضوع له عاماً وان کان جامعاً انتزاعياً وعنواناً للنسب الواقعية الخارجية.
الوجه الثاني: انه قد تبين مما ذکرناه في البحث عن حقيقة الوضع ان الذي يمسّ الابحاث العلمية هو العلقة بين اللفظ والمعنی اي الوضع بالمعنی الاسم المصدري واما الوضع المصدري فهو علی تقدير تحققه من واضع خاص لا اثر له في البحث العلمي.
وتبين ايضاً ان العلقة الوضعية انما يحصل بين اللفظ والمعنی بمرور اللفظ مع افهام المعنی في مرحلتين يتحقق في احداهما التلازم والاستتباع بمقتضی تداعي المعاني الناشئ من کثرة التقارن في الاحساس ويتحقق في الاخری الهوهوية واکتساب الماهية الاعتبارية بينهما.
وسواء قلنا ان الوضع يتحقق في المرحلة الاولی ــ کما قيل ــ او انه يتحقق في المرحلة الثانية ــ کما قلنا ــ فان الموضوع له في الحروف لا يمکن ان يکون خاصاً اذ يتوقف حصول العلقة الوضعية علی کلا التقديرين علی کثرة التقارن في الاحساس بين اللفظ والمعنی. ولو کان معنی الحرف هو النسبة الخاصة المتقومة بالطرفين او ما يشتمل علی النسبة الکذائية لم يحصل التقارن بين اللفظ وهذا المعنی الا مرة واحدة لعدم تکرر النسبة مع قيد تقومه بالطرفين الخاصين.
ومن هنا يتبين ان کثرة التقارن في الاحساس توجب إلغاء خصوصية المعنی وتحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والجهة الجامعة بين الافراد.
وهذا نظير وضع اسماء الاجناس فان اول تعبير عن الحيوان المفترس الخاص بالاسد وقع عند ما شاهد العربي هذا الحيوان او سمع به وبعد ان شاهد نظيره استعمل نفس اللفظ فيه من باب المشابهة ثم کثر الاستعمال حتی حصل التلازم او الهوهوية بين اللفظ والجهة الجامعة بين الافراد.
وهذا بخلاف الوضع في الاعلام الشخصية حيث ان الارتباط بين الانسان والشخص الذي يضع له علم الشخص ــ سواء کان انسانا او بلدا أو اي شيء خاص يرتبط به ــ ارتباط وثيق متکرر يحتاج معه الی وضع لفظ خاص له.
ومن هنا کان وضع الاعلام للحيوانات باشخاصها مختصاً ببعض المجتمعات التي تهتم بشأن الحيوان الخاص کالعرب البدوي.
الوجه الثالث: ان النسبة المدلولة للحروف ــ مطابقة او تضمناً ــ ليست جزئية في جميع موارد الاستعمال بل هي تابعة في الجزئية والکلية، والتعدد والوحدة للمنتسبين.
ففي قولنا:( سرت من البصرة الی الکوفة) يحکي الحرف عن نسبة جزئية او عن معنیً يتضمنها وذلك لان مبدأ السير ومنتهاه موضع خاص خارجاً. ولکنه في قول الآمر (سر من البصرة الی الکوفة) لا يحکي عن موضع خاص لانحلال الامر بحسب الامکنة التي يمکن ان تقع مبدأ للسير ومنتهی لها فالمأمور به ليس فرداً متعيناً بل هو کلي.
وقد تتعدد النسبة کما في جملة (سار القوم من البصرة الی الکوفة) لتعدد مبادئ السير ونهاياته بخلافه في المثال الاول حيث کان متحداً.
وهذا مع أنه واضح ربما يناقش فيه بان مقتضی انحلال الامر في (سر من البصرة) استعمال الحرف في جميع الامکنة التي يمکن ان يتحقق منها ابتداء السير فهو من قبيل استعمال اللفظ في اکثر من معنی الا ان المأمور مختار في انتخاب احدها. وليس هذا من استعمال اللفظ في الکلي.
والجواب عنه واضح اذ الوجدان والذوق يحکمان بوحدة المدلول في هذه الموارد لا تعدده.
ثم ان هذا التقسيم انما هو بلحاظ اختلاف المعنى حين اللحاظ وفي مرحلة الموضوع له. وهناك تقسيم آخر بلحاظ اختلاف اللفظ في کيفية الوضع.
فقد قيل: ان الوضع ينقسم بلحاظ اختلاف اللفظ الموضوع الی نوعي وشخصي فالوضع الشخصي في مثل اسماء الاجناس والاعلام الشخصية حيث ان اللفظ الخاص بمادته وهيئته وبما له من الوحدة الشخصية يوضع لاحد المعاني. وکذلك وضع مواد المشتقات فمجموعة حروف (ج ل س) مادة وضعت بشخصها للدلالة علی الحالة الخاصة من دون تقيد بهيئة خاصة.
واما الوضع النوعي فكوضع الهيئات فان الواضع لاحظ هيئة (فاعل) ووضعها للدلالة علی من صدر عنه الفعل الا ان الهيئة حيث کانت غير قابلة للتصور بنفسها الا مع الاندماج في ضمن مادة ما کان لابد للواضع ان يتصورها کذلك الا انه لم يقيدها بتلك المادة بالخصوص ولذلك کان وضعها نوعياً.
هذا وقد اشرنا خلال البحث عن التقسيم السابق الی انه يبتني علی توهم ان هناك واضعاً خاصاً فرداً او جماعة نظّم مفردات اللغة ولاحظ المعاني ووزّع عليها الالفاظ بالطرق المذکورة وهو امر لا يمکننا تصديقه.
وهذا التقسيم ايضاً کسابقه لا يستند الی اساس علمي فمن المستبعد جداً ان يکون هناك واضع شخصي لاحظ الالفاظ تارة بمادتها وهيئتها وتارة المادة أو الهيئة منفصلة عن الاخری فلا يعدو هذه الفرضية امراً خيالياً لا يصدقه الواقع الخارجي.
والصحيح ان اللغة ظاهرة اجتماعية وليس عملاً فردياً والوضع في الغالب وضع تعيني يتبع قانون الاختراع والاتباع بان يکون اول من يعبر عن حالة الجلوس ــ مثلا ــ بهذه الکلمة قد اتّبع تناسباً ذهنياً بين اللفظ والمعنی ولو کان تناسباً وهمياً. فهذا اول الاختراع ثم تبعه غيره. وهکذا في سائر الالفاظ مع ملاحظة استعمال الهيئة الخاصة في الحالة الخاصة من دون التنبه الی تحليل الکلمة الی هيئة ومادة، بل بملاحظة الشبه بين اللفظ المستعمل في المعنی الاول واللفظ المستعمل في المعنی الثاني وهکذا.
وانما نشأ التحليل الی هيئة ومادة ودلالة کل منها علی شطر من معنی الکلمة بنحو تعدد الدال والمدلول من دراسة اللغة دراسة فلسفية، حيث يکشف الفيلسوف اللغوي النقاب عن الارتکاز الذهني في ابناء اللغة الذي يربط بين کل من المادة والهيئة مجردة عن الاخری وبين المعنی الخاص.
واما الوضع التعييني في الفاظ المشتقات وملاحظة الواضع کل مادة مجردة عن الهيئة ووضعها وضعاً شخصياً وملاحظته کل هيئة بعنوان کلي ووضعها وضعاً نوعياً فهو أمر يحتاج الی عناية زائدة وهو بعيد عن الواقع فان اللغة کسائر الشؤون الاجتماعية تنشأ بالتحول والتکامل.
بل الامر کذلك حتی في اسماء الاجناس کما ذکرناه حيث يعبّر عن الفرد الخاص من الحيوان المفترس مثلا بالاسد لتناسب ذهني ولو وهمياً ثم يطلق علی غيره بالمشابهة ثم بالتکرر يحصل الاستتباع ــ علی قول ــ والاتحاد الماهوي اعتباراً ــ علی ما هو الصحيح ــ بين اللفظ وبين الجهة الجامعة فاساس الاوضاع اللغوية هو تقليد المستعملين کل من الآخر وطابع التقليد من الشؤون الاساسية في اعمال الانسان. والعلقة الوضعية بين اللفظ والمعنی حصيلة هذا التقليد في ابناء المجتمع الا ان مستقر العلقة الوضعية قد لا يکون مع نفس اللفظ الاول ولا في نفس المعنی الاول فاللفظ يتحول بالابدال والادغام والتصحيف والنحت وغير ذلك والمعنى يتبدل من فرد خاص استعمل فيه اللفظ الی الجهة الجامعة الى غير ذلك من التطورات.
اذن فاللغة بهذا الوضع الخاص قد تحققت نتيجة لتطوّر کبير طرأ علی الاستعمال الاول الناشئ من ملاحظة تناسب وهمي ــ غالباً ــ بين اللفظ والمعنی وربما يکون ذلك محاکاة للاصوات الطبيعية المناسبة للمعنی کما يلاحظ ذلك في کثير من الکلمات.
([1]) المصدر المذکور ص 423.
[2] شرح الاشارات ج1 ص 22
[3] وسائل الشيعة ج1 ص 315 باب وجوب الاستنجاء
[4] يوسف: 29
[5] النساء: 2
[6] البقرة: 187
([7]) الاصول علی النهج الحديث ص 8.
([8]) الاسفار ص 17
([9]) المنظومة ص 61.
([10]) المنظومة ص 34.
[11] الانبياء: 26
([12]) هامش اجود التقريرات ج1 ص 24.
[13] تهذيب الاصول ج1 ص22
[14] نهاية الدراية ج2 ص 503
[15] كفاية الاصول ص 67
([17]) في اول بحث الاوامر من الدرر.
[18] الرحمن: 3-4
[19] لعل المراد انه لا يوجد هنا تعدد الدال ليقتضي تعدد المدلول
[20] كفاية الاصول ص13
([21]) الاصول علی النهج الحديث .
[22] محاضرات في اصول الفقه ج1 ص101
[23] الاشارات والتنبيهات ج3 ص309<