مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

مباحث الالفاظ

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مباحث الالفاظ

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد واله الطاهرين

اما بعد

فهذه البحوث من دروس سيدنا الاستاد الفقيه المتضلع والمرجع الديني الاعلى في عصره سماحة السيد علي الحسيني السيستاني ادام الله في عمره الشريف.

ويبدأ من مباحث الالفاظ حيث تعرض سيدنا الاستاد دام ظله خلالها – کالمعتاد – لبعض ما يتعلق بشأن فلسفة اللغة وتطور اللغات وسائر الشؤون العامة في الالفاظ. وينقسم البحث في الالفاظ الى عدة مباحث:

 

المبحث الاول

في حقيقة الوضع والاستعمال

ونحاول في هذا المبحث الاجابة على الاسئلة التالية:

1_ ما هو نوع الارتباط بين اللفظ والمعنی في مستوی الانطباع الفردي؟ هل هو نحو من انعکاس المعنی في اللفظ وحدوث الاتحاد والهوهوية بينهما ام هو مجرد لزوم واستتباع؟

2_ علی اي قانون يعتمد کل من الاحتمالين؟

3_ ايا منهما تدعمه الشواهد الخارجية؟

4_ ما هي المراحل التي تمرّبها الارتباط بين اللفظ والمعنی حتی تصل الی مرحلة العلقة الوضعية في انطباعات الافراد؟

5_ ما هي حقيقة ارتباط اللفظ بالمعنى في مستوى اللغة والاعتبار الاجتماعي؟

6_ علی ضوء الاجابة علی الاسئلة المذکورة ما هو الموقف تجاه الآراء في حقيقة العلقة الوضعية؟

7_ الی اي قانون تستند الدلالة التصديقيه؟ الی قانون التعهد والميثاق الاجتماعي ...ام الی اصول عقلائية واستکشاف خاص؟

ونحاول الاجابة على هذه الاسئلة ضمن الامور التالية. وهناك اسئلة اخری تتعلق بالوضع ربما نتعرض للجواب عنها في المباحث التالية کالبحث عن حقيقة اسماء الاشارة والموصولات.

الامر الاول: فيما يمکن ان نفسر به الارتباط الموجود بين الاصوات اللغوية ومعانيها في مرحلة التصور.

وبعبارة اخری ما هو وجه الترابط بين الوجود الذهني للّفظ والوجود الذهني للمعنی ونعبر عنه بالدلالة الاخطارية؟

هناك وجهان في تفسير هذا الارتباط:

الوجه الاول: ما يستفاد من کلمات جمع من متأخري الاصوليين ويظهر أنهم اعتبروه اصلاً موضوعياً وهو أن الترابط هنا نحو من الاستلزام والاستتباع بمعنی ان الوجود الذهني للّفظ يستلزم الوجود الذهني للمعنی فالاول ملزوم والثاني لازم له.

وعليه فلو اوجدنا تصور اللفظ في ذهن السامع بسبب من الاسباب وجد تصور المعنی في ذهنه بالملازمة والاستتباع هذا مع تغاير الصورة الذهنية للّفظ مع الصورة الذهنية للمعنی کما أن الوجود الخارجي للّفظ مغاير للوجود الخارجي للمعنی الا انه ليس بينهما ملازمة واستتباع وانما اللزوم بين اللفظ والمعنی لزوم ذهني ومختص بأبناء اللغة الواحدة.

الوجه الثاني: ان الترابط هنا هو ترابط الوحدة والهوهوية بمعنی أن للالفاظ في اذهان ابناء اللغة حيثيتين احداهما حيثية کونها ألفاظا اي بما ان ماهية اللفظ قد تحققت في صورتها الذهنية والاخری حيثية وجود المعنی في الذهن بنفس وجود اللفظ.

وهذه الفکرة هي السائدة في المنطق والفلسفة حيث إنهم يعدون للشيء وجودات اربعة: العيني والذهني واللفظي والخطي. فاللفظ وجود مثالي للشيء وعليه فاذا وجد اللفظ في الخارج فقد وجد المعنی خارجاً بوجه واذا وجد اللفظ في الذهن تحقق المعنی في الذهن بالعرض.

وتوضيحه حسب تقريرنا کمايلي:

إن الالفاظ لها ماهية تکوينية يعبر عنها في الفلسفة انها من قبيل الکيف المسموع وبهذا اللحاظ تتصف الکلمة بعوارضها کقولنا (زيد ثلاثي) مثلاً ولها ماهية اعتبارية معنوية وهي في الواقع انعكاس للمعنى في اللفظ فاللفظ يتخذ له ماهية اخری بلحاظ کون المعنی منعکساً فيه وکونه مرآة للمعنی. وبهذا اللحاظ يعتبر تصور اللفظ تصوراً للمعنی بوجه لا انه مستتبع له ومغاير له. والشيئ يتصور تارة بنفسه وتارة بوجهه.

والحاصل ان للالفاظ اللغوية ماهية مزدوجة. وهذا نظير الاوراق النقدية حيث انها بلحاظ ماهيتها التکوينية ليست الا قراطيس منقوشة ملوّنه ولا يتدخل في هذه الماهية اعتبار الدولة لها او اسقاطها. ولکنها بلحاظ ماهيتها الاعتبارية نقود يتوسل بها الی تبادل السلع وتعتبر مقاييس لمالية الاشياء وهنا يتدخل الاعتبار والاسقاط وجوداً وعدماً في هذه الماهية.

وقد بيّـنّا في موضعه کيفية تحقق هذه الماهية باستبطان الصفات المعتبرة بکثرة الاستعمال علی نحو التطبيق مع لحاظ تلك الخصوصيات.

ومثله ايضاً مفهوم (حاتم) فان له ماهية تکوينية (الرجل الخاص) وله ماهية اعتبارية اکتسبها بکثرة الحمل الشايع وارادة مفهوم الجواد مبالغة في التشبيه بذلك الرجل المشهور بجوده. وكثيرامّا يتغير مفهوم بالحمل الاولي بكثرة حمل مفهوم آخر عليه بالحمل الشايع بمعنى استيجابه لاندماج مفهوم في مفهوم آخر. وهذا هو السر في اندماج المعاني في الالفاظ اللغوية.

ومن هنا حکي عن بعض الفلاسفة ان الانتقالات الذهنية کثيراً ما تکون بالالفاظ الذهنية. وهذا تفسير للترابط بين اللغة والفکر. والمراد به أن المعاني تتصور تارة بما لها من الواقع الموضوعي واخری في إطار الالفاظ الذهنية. وربما ينشأ من ذلك بعض أنحاء المغالطات حيث يتقيد الفکر بما توحيه اليه اللغة من واقع الاشياء.

وبعض النظريات الحديثة تؤيد ما ذکرناه فقد ورد في کتاب (طبيعة الانسان في ضوء فسلجة بافلوف) ما هذا نصه:

(والکلمة من ناحية حدوثها الاجتماعي منبّـه شرطي لفظي بقدر ما هو تجريد عن الظواهر الطبيعية والاجتماعية وتعميم لها وتعبير عنها. معنی هذا ان نشاط المنظومة الاشارية الثانية مرتبط ارتباطاً عضوياً بقدرة الانسان علی الاتصال شفوياً وعن طريق الکتابة بالاشخاص الآخرين وبقدرته علی التفکير ايضاً عبر الکلمات اي عن طريق التجريد والتعميم. التجريد الذي يعني قيام الاسماء او الصفات مقام مسمياتها وموصوفاتها. او بعبارة اشمل قيام الالفاظ مقام الاشياء التي تدل عليها. اي انتزاع المسميات او تجريدها او تحريرها لغوياً ونظرياً من ارتباطاتها وعلاقاتها المألوفة ووضعها في علاقات لفظية اخری جديدة. والتجريد هذا هو من خواص المنظومة الاشارية اللغوية وهو مقتصر علی الانسان وحده ويحصل عن طريق الصور الذهنية....الخ)([1])

الامر الثاني: في بيان القانون الذي يستند اليه کل واحد من الارتباطين المذکورين:

اما الارتباط بالنحو الاول فيستند الی قانون تداعي المعاني. وهو ــ بوجه عام ــ ينشأ اما من التشابه او التضاد او کثرة التقارن في الاحساس. وقد ثبت بالتجربة تأثير کثرة التقارن في الاحساس في تداعي المعاني حتی بالنسبة الی الحيوانات.

والترابط الناشئ من کثرة التقارن في الاحساس قد يکون بين لفظين كما في الاشعار المعروفة حيث ينتقل السامع الی اللفظ او الشطر التالي بسماعه لسابقه. وقد يکون بين اللفظ والمعنی کما هو المدّعی فيما نحن فيه وقد يکون بين مفهومين وهو اساس تحقق اللزوم البيّن بالمعنی الاخصّ.

واما الارتباط بالنحو الثاني فالاساس الطبيعي له هو ما اشرنا اليه من ان الحمل الشايع سواء کان بنحو هو هو او ذو هو يستوجب مع التکرار اندماج ما هو الاوسع مفهوماً في ما هو الاضيق کاندماج مفهوم الجواد في مفهوم حاتم. وهو الاساس في تکوين الماهيات الاعتبارية کما ذکرنا وسيتضح في مبحث الحقيقة الشرعية.

ويمکن ان يجعل هذا اساساً لما اشتهر بين قدماء الاصوليين وذهب اليه الشيخ الانصاري قدس سره من عدم استقلال الاحکام الوضعية مفهوماً وانها منتزعة من الاحکام التکليفية وقد اوضحنا في مباحث الاستصحاب کيفية استبطان الاحکام الوضعية للاحکام التکليفية.

الامر الثالث: في ملاحظة الشواهد وانها تعين الوجه الثاني. وبهذا الصدد نلاحظ مايلي:

الشاهد الاول: الترابط بين اللغة والفکر. فالانسان حينما يفکر حول الموضوعات انما يتصورها في اطار ما يدل عليه اللفظ في لغته الخاصة.

واشار الی هذا المعنی المحقق الطوسي في شرح الاشارات عند قول الشيخ ابن سينا: (وربما أثّرت احوال في اللفظ في احوال في المعنی) فذکر ما هذا لفظه:

(الانتقالات الذهنية قد تکون بالفاظ ذهنية وذلك لرسوخ العلاقة المذکورة في الاذهان فلهذا السبب ربما تأدّت الاحوال الخاصة بالالفاظ الی توهّم امثالها في المعاني وتتغير المعاني بتغيرها. والاغلاط التي تعرض بسبب الالفاظ مثلما يكون باشتراك الاسم مثلا انما يسري الی المعاني لاشتمال الالفاظ الذهنية ايضاً عليها).[2]

وتوضيح ما اشار اليه ان الانتقالات الذهنية قد تکون بصور الاشياء المنعکسة عن واقعها الموضوعي وقد تکون بصورها في اطار الالفاظ الذهنية وبوحي من اللغة الخاصة فاذا اراد الانسان التفکير في مسألة رياضية مثلا فانه يتصور الاعداد حسبما توحي اليه لغته ففي غالب المجتمعات البشرية يتصور العدد بصورة بسيطة الی العشرة فاذا زاد عليها يتصور بصورة مرکبات لغوية والعطف والاضافة. وهناك بعض المجتمعات البدائية لا تملك التعبير البسيط عن عدد ازيد من خمسة.

ومن الواضح ان الانسان يتصور الاعداد علی ما يوافق منهجه اللغوي. والصورة الذهنية للعدد تتبع الاطار الذي تصفه اللغة الخاصة. وکذلك اذا اراد التفکير في قضية قانونية فانه يتصور المفاهيم القانونية حسب محتوی اللفظ المخصوص في لغته.

وينجلي ذلك بوضوح في ترکيب القضايا المرکبة غير المأوّلة ــ علی بعض المسالك في حقيقة الوجود الرابط ــ فربما یقال: ان التفکير العربي في القضية الذهنية يتمثل في الهوهوية والاتحاد بين الموضوع والمحمول تبعاً لما تمليه اللغة عليه من الحمل من دون رابط. والتفکير الفارسي واليوناني يتمثل في الربط بين شيئين احدهما موضوع والآخر محمول تبعاً لوجود الرابط في القضية اللفظية حسب اللغتين.

ومن هنا اضطر مترجمو الفلسفة الى العربية من استعارة کلمة (هو) للدلالة علی الرابط اذ لم يجدوا فيها ما يعبّر عنه وليس ذلك لفقر في اللغة العربية وانما هو اختلاف في التفکير.

والحاصل ان الربط بين االلغة والفکر وثيق جداً. والتصورات والتصديقات الذهنية تتشکل بالتناسب مع الالفاظ اللغوية وليس ذلك الا لما ذکرناه من ان الالفاظ هي بنفسها وجودات للمعاني بوجه وان المعاني قد تتجلی في صورة الفاظ لغوية ولا يناسب ذلك القول  بالتغاير بين الالفاظ ومعانيها في الذهن.

الشاهد الثاني: الاستعمالات التفهيمية اي موارد إلقاء المعاني وتصويرها للسامع بمعونة الالفاظ.

ونلاحظ في هذه الموارد ان الالفاظ  تلاحظ باللحاظ الآلي فهي مما به ينظر الی الشيئ لا ما فيه ينظر ولا تلاحظ بنحو الاستقلال بل بما هي مرآة للمعاني فالمتکلم يوجد المعاني بايجاد اللفظ الذي يکون محتوياً له علی مسمع الغير ليلتقطه بالسماع ويتصوره بتصور لفظه فهو يجرد اللفظ في اللحاظ عن خصوصية نفسه وينظر اليه فانياً في المعنی.

وهذا شاهد ايضاً علی اکتساب الالفاظ ماهية اعتبارية هي نفس المعاني بوجه والا فلو کانت مغايرة لها ووسائل لاخطارها لکانت منظوراً اليها نظراً استقلالياً بداعي ايجاد الصور الذهنية للمعاني.

اذن فقانون التلازم لا يمکنه تفسير هذه الظاهرة لعدم توافقه مع کون الالفاظ غير ملحوظة بالاستقلال اصلاً وفانية في المعاني فناء العنوان في المعنون بعد وضوح ان الحکاية لا تکون الا مع اتحاد ماهوي بالمعنی العام بين الامرين والا فکل شيء لا يقبل الحکاية عن کل شيء. وکون الالفاظ منظاراً للمعاني انما هو بلحاظ الماهية الثانوية المکتسبة کما ذکرناه.

الشاهد الثالث: الاستعمالات غير التفهيمية وهي التي لا تصدر بداعي اخطار المعاني في  ذهن الغير حتی تناسب قانون اللزوم الذهني ولها موارد نذکر بعضها:

أ_ مورد التلقين النفسي. حيث يتلفظ الانسان بما يرفع عن نفسه الخوف من المرض او من ضرر متوقع مستدعياً بذلك تأثير التلفظ بالفاظ خاصة بما تستبطن من المعاني وهذا من طرق العلاج النفسي.

ومن الواضح أنّه لا يمکن الالتزام في موارد التلقين النفسي بان التلفظ باللفظ بداعي التوصل به الی اخطار المعنی اذ المفروض ان السامع هو المتکلم الذي لم يتلفظ باللفظ الامع سبق تصور المعاني والحکم ايجاباً او سلباً فالتوصل الی اخطارها يکون من قبيل تحصيل الحاصل. بل الداعي هنا هو رسوخ المعنی في الذهن والايقاع النفسي به بسبب تکرر ايجاده في الذهن بوجوده اللفظي. وتعدد الوجود اللفظي في الذهن بسبب تکرر السماع قهري. واما لو فرض وجود المعنی في الذهن باستتباع تصور اللفظ فلا يعقل تعدد المعنی وهو يتضح بالتأمل.

ب_ المناجاة مع الله تعالی. فلا معنی للاخطار لدی العالم بالضمائر وليست فائدة التلفظ هناك الا ايجاد المعاني الذهنية في صوره الالفاظ بغية امتداد ما هو ثابت في النفس الی الخارج واتحاد الخضوع المستقر في النفس مع الوجود اللفظي. وهذا لا ينطبق عليه قانون التلازم.

ج_ التکلم مع غير العاقلين کمخاطبة القمر والکواکب والديار والاطلال والظبيات ونحوها مما ورد فی الشعر والنثر. ومن الواضح ان ذلك لا يناسب قانون التلازم اذ لا معنی لاخطار المعاني في هذه الموارد. وليست هذه المخاطبات الا لايجاد الأحاسيس والعواطف الکامنة في النفس في مرحلة الوجود اللفظي. وقد يتوصل بذلك الی حلّ العقد النفسية حيث يستوجب إخفاء التأثرات النفسية کبتاً وتعقداً مما يسبب امراضا خطيرة.

د_ التغني بلغة لا يفهمها المستمعون. فيلاحظ انهم لا ينفعلون عن المعاني المبرزة بل عن کيفية الصوت ولکن المتغني يتأثر بالمعاني فليس استعمال هذه الالفاظ بداعي اخطار المعاني لعدم التمکن منه لدی الجاهلين باللغة فهذا ايضاً ايجاد للمعاني في صورة الوجود اللفظي.

4_ الاصوات الدالة علی بعض المعاني بالطبع حيث لا ينطبق عليها عنوان استعمال اللفظ في المعنی کدلالة التأوه وصوت السعال علی الالم ووجع الصدر فقانون التلازم بين الصوت والمعنی ينطبق في هذه الموارد مع انها ليست من قبيل اللفظ والمعنی ولا يصدق بينهما علاقة الوضع. وهکذا اصوات الحيوانات الحاکية عن حاجة فيها او الم. فلوصح تفسير العلقة الوضعية بقانون تداعي المعاني من ناحية کثرة التقارن في الاحساس لصح الالتزام بالدلالة الوضعية في هذه الموارد لشمول العلة لها.

5_ دلالة الالفاظ علی لوازم معانيها البينة بالمعنی الاخص فانه لا اشکال في انها تنشأ من قانون التلازم بين المعنی الموضوع له ولازمه ومع ذلك فلا تصدق عليها دلالة اللفظ علی المعنی الموضوع له وليس بين اللفظ وهذا المعنی علاقة الوضع.

الی غير ذلك من الشواهد الکثيرة.

الامر الرابع: في بيان ما يتوقف عليه تحقق العلقة بين اللفظ والمعنی التي اشرنا اليها:

يمرّ اللفظ فی موارد التعيين کما في الاعلام الشخصية قبل تحقق العلقة بينه وبين المعنی علی کلا الفرضين بمرحلتين: احداهما مرحلة اعتبار اللفظ دالاً علی المعنی المخصوص والاخری تکرر استعماله مقروناً بقرينة من اشاره ونحوها ليدل علی المعنی المخصوص الی ان يتحقق العلقة الذهنية بينهما.

وتتحقق المرحلة الاولی في الغالب باعتبار ادبي حيث يعتبر الواضع التلازم بين اللفظ والمعنی او الهوهوية بينهما الا انه لا يعدو إعتباراً ادبياً اذ لا يتحقق التلازم والهوهوية بمجرد اعتبار المعتبر . وربما يکون الاعتبار في هذه المرحلة بوجه آخر وان کان الانسب هو اعتبار الهوهوية بناءاً علی انها هي التي تحقق الربط بين اللفظ والمعنی في النتيجة کما ان الانسب اعتبار التلازم بناءاً علی المسلك الآخر.

وعلی کل حال فهذا الاعتبار الادبي مقدمة إعدادية لتحقق العلقة بين اللفظ والمعنی. ومن هنا قيل ان المجاز قنطرة الحقيقة فقولنا: (هذا ماء) قبل تحقق العلقة الوضعية استعمال مجازي ومع العناية والاعتبار اذ هو من قبيل اعطاء حد شيء لشيء آخر حيث ان کلمة الماء مغايرة لطبيعة الماء وقد حملناها عليه فلابد من اعتبار وعناية ليصح الحمل. وکذلك اعتبار الملازمة بينهما مع انه لا ملازمة بینهما واقعاً.

والمصحح لهذا الاعتبار والداعي اليه هو جعل المقدمه التمهيدية لتحقق الهوهوية وارتفاع المغايرة بينهما او لتحقق الملازمة بينهما واقعاً نتيجة لتکرر الاستعمال مع القرينة. ولا يُستغنى عن القرينة قبل تحقق العلقة بينهما اذ لا يکفي مجرد الاعتبار في کون الحمل حقيقة ولا في تحقق الملازمة الواقعية. والاستعمال المتکرر الموجب لتحقق الهوهوية لابد من ان يکون علی وجه الحمل المشعر بالاتحاد وأما الاستعمال الموجب لتحقق الملازمة فيکفي ان يکون علی وجه الاقتران في الاحساس.

ولابد في هذه الاستعمالات من القرينة حتی بالنسبة الی العالم بالمرحلة الاولی التي نعبر عنها بالوضع اذ مجرد العلم باعتبار الهوهوية او الملازمة ونحوهما کاعلان التسمية لا يوجب کون الاستعمال حقيقياً ولا يوجب تبادر المعنی من حاقّ اللفظ باحد النحوين السابقين.

وبعد تحقق هاتين المرحلتين يتحقق التلازم بين اللفظ والمعنی بموجب قانون تداعي المعاني أو يکتسب اللفظ بوجوده الذهني ماهية اعتبارية فيکون هو المعنی بوجه بموجب قانون اکتساب الماهيات الاعتبارية واند ماجها.

وهذه المرحلة الثالثة يعبر عنها بالعلقة الوضعية باعتبار تحققها نتيجة للوضع الذي هو المرحلة الاولی کمامر فالعلقة الوضعية تقابل العلقة الطبيعية کدلالة التأوه علی الالم فانها لا تتبع الوضع الذي هو فعل اختياري.

الامر الخامس: ان العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنی في الالفاظ اللغوية قد تلاحظ علی مستوی الترابط الذهني لدی الفرد واخری علی مستوی الاعتبار الاجتماعي.

وبعبارة اخری تارة نبحث عن العلقة والربط بين اللفظ والمعنی ذهنا الموجب لانسباق المعنی لدی الذهن عند سماع اللفظ وأن تصور المعاني بالفاظ ذهنية هل هو بنحو اللزوم والاستتباع او بنحو الهوهوية کما نبحث عن اسباب حصول هذا الربط. وهذا ما مربيانه في الامور المتقدمة. واخری نبحث عن العلقة والربط بين طبيعي اللفظ وواقع المعنی في لغة من اللغات. وهذا امر اعتباري ويمکن ان يقال: ان وجود الربط علی النحو الاول لدی افراد المجتمع مصحح لاعتبار الربط علی النحو الثاني اجتماعياً وبهذا اللحاظ یصح القول ان اللغة ظاهرة اجتماعية.

وينبهنا علی الفرق بينهما امران:

الاول: ان الربط علی النحو الاول متقوم باللفظ والمعنی لدی الفرد في منطقة اللاشعور من الذهن وهو امر واقعي. وکثيراً ما يتوقف استکشافه والاذعان به علی عملية شعورية کالتبادر وصحة الحمل کما سيأتي توضيحه في بعض المباحث الاتية واما الربط علی النحو الثاني فهو امر اعتباري اجتماعي يتقوم بطبيعي اللفظ وواقع المعنی ولذلك يقال ان الموضوع له اللفظ لغويا ليس المعنی بوجوده الذهني.

الثاني: ان الربط علی النحو الاول يتعدد بتعدد الفرد الذي تحقق لديه سببه وينعدم بانعدامه او انعدام سببه لديه کما لو عرض له النسيان واما الربط علی النحو الثاني فهو امر لا يتعدد بتعدد الافراد بل هو واحد بوحدة المجتمع اللغوي ولا ينکمش بقلة الافراد ولا ينعدم بانعدام الفرد او نسيانه للغته او بعارض آخر نظیره. بل لا ينعدم بانعدام المجتمع لتقومه بالاعتبار.

الامر السادس: نظرة الی المسالك التي تری الوضع وسيلة لتحقق الدلالة الاخطارية علی ضوء الامور المتقدمة وتعرض اجمالي لبعض ما اورد عليه ونتعرض لمسلکي جعل الملازمة والهوهوية.

اما المسلك الاول فمن القائلين به من کان محط نظره المرحلة الاولی وهي العمل الصادر من الواضع مباشرة. ولذلك عبر عن الوضع بانه جعل للملازمة الاعتبارية. ومنهم من نظر الی المرحلة الاخيرة فعبّر بالملازمة الواقعية المجعولة وليس المراد جعل الملازمة التکوينية ابتداءاً اذ هو غير معقول بل المراد التسبب الی تحقق الملازمة التکوينية فيما بعد. والتعبير بوضع الملازمة في المرحلة الاولی انما هو بلحاظ المشارفة او السببية الناقصة.

فهذان القولان يرجعان في الواقع الی مسلك واحد وان اختلف التعبير ولا وجه لعدهما مسلکين کما في بعض التقريرات.

وقد يناقش في هذا المسلك بانه لو ابتنی علی افتراض کون الوضع هو الملازمة الواقعية – کما قيل – ففيه انّ الجعل ان کان بالنسبة الی الجاهل بالوضع فلا ملازمة لديه بين اللفظ والمعنی وجداناً. وان کان بالنسبة الی العالم به فلابد من ان يکون الوضع المعلوم لديه سابقاً علی هذا الجعل فکيف يفسر الوضع به کما هو المفروض؟!

ولو ابتنی علی افتراض کون الوضع هو الملازمة الاعتبارية ففيه أنّ الاعتبار ان کان بالنسبة الی العالم بالوضع فلا معنی له اذ لابد في الاعتبار من ان يکون مخالفاً للتکوين والعالم بالوضع قد تحققت لديه الملازمة تکويناً فلا معنی لاعتبار الملازمة بالنسبة اليه. وان کان بالنسبة الی الجاهل بالوضع فلا اثر للاعتبار اذ لا تتحقق لديه الملازمة مادام جاهلاً. فاعتبار الملازمة علی کل تقدير لغو لا فائدة فيه.

وقد تبين مما ذکرنا الجواب عن هذه المناقشة اما بالنسبة للافتراض الاول فالجواب ان المجعول ليس هو الملازمة الواقعية بنفسها بل هو امر يستتبع بالتکرر ملازمة واقعية في النتيجة وهذا الجعل انما هو بالنسبة الی من يتکرر لديه الاستعمال حتی تتحقق لديه الملازمة ولا دخالة للعلم بالوضع (المرحلة الاولی) في ذلك بل يتوقف حصول الملازمة لدی العالم به علی تحقق المرحلة الثانية.

واما بالنسبة للافتراض الثاني فالجواب ان العالم بالوضع (المرحلة الاولی) لا تتحقق لديه الملازمة التکوينية وانما تتحقق بعد مروره بالمرحلتين فاعتبار الملازمة ليس الا محققاً للمرحلة الاولی من الوضع والداعي اليه هو ترقب مروره بالمرحلة الثانية (التکرر) حيت تتحقق الملازمة التکوينية.

واما المسلک الثاني المبتني علی کون الوضع هو جعل الهوهوية بين اللفظ والمعنی فربما يناقش فيه بانه معنیً دقيق لا يفهمه الا الاوحدي من الناس مع ان الوضع امر اعتيادي قد يصدر من الصبيان بل المجانين بل بعض الحيوانات.

والجواب عنه ان الحيوانات انما تتأثر بقانون تداعي المعاني والاستجابة للمنبه الشرطي. واما الصبيان او عامة الناس فانهم يستخدمون وضع الالفاظ ولکن لا يتوقف ذلك علی معرفة حقيقة الوضع فانهم لا يعرفون کثيراً من الحقائق التي يباشرونها في شتی ميادين الحياة ولا يمنع ذلك من مباشرتها وانما نشأت هذه الدقة من التفسير والتشريح لحقيقة الوضع. فالمعنی الحرفي - مثلا - يستعمل في جميع المحاورات حتى بين الصبيان مع انه بتفسيره التحليلي الدقيق لا يفهمه الا المتخصصون. وکذلك حقيقة الانشاء والامر ونحوهما.

بل الواقع أن اعتبار الهوهوية بين اللفظ والمعنی امر بسيط للغاية وقد ورد في الکتب الفلسفيه ان بعضاً من البشر البدوي کانوا يعتبرون انفسهم غرباناً مع اعتقادهم بانهم بشر کما کانوا يعتبرون انفسهم معدومين.

وقد استشهد بذلك بعض معارضي الفلسفة القديمة بان قانون امتناع اجتماع النقيضين ليس امراً بديهياً فطرياً وانما تبلور ذلک بعد رقي الحضارة البشرية. ولکن الصحيح ان اولئك البشر ما کانوا يزعمون امکان اجتماع النقيضين خارجاً وانما کان ذلك ناشئاً من اعتبار صفة مناقضة للواقع الخارجي.

ويتبين بذلك ان اعتبار الوحدة والهوهوية بين شيئين امر بسيط يفهمه البشر البدوي. ولولا ذلك ما وجد المجاز والکناية في المجتمعات البدوية اذ ليس ذلك الا اعطاء حد شيء لشيء آخر. بل یعتبر ذلك من الامور الطبيعية التي لها جذور عميقة في النفس البشرية ويظهر ذلك بملاحظة الاحلام حيث تتجلّی فيها الحقائق بصور اخری مثالية ولذلك يعبّر شرب اللبن بکسب العلم والمعرفة فکأن غذاء الجسم مثال لغذاء الروح.

الامر السابع: في بيان منشأ تحقق الدلالة التصديقية التفهيمية في الالفاظ:

ان ما قدمناه من الامور کانت تتعلق بالدلالة الاخطارية الانسية التصورية في الالفاظ وهناك دلالة اخری للالفاظ يعبر عنها بالدلالة التصديقية التفهيمية وهي عبارة عن حکم السامع واذعانه بان المتکلم اراد تفهيم المعنی واخطاره. وتأتي بعد ذلك مرحلة اخری نحکم فيها بان المراد الجدي للمتکلم هو بعينه المراد الاستعمالي وليس هذا موضع البحث عنها.

وهناك طريقان لتوجيه الدلالة التصديقية:

الطريق الاول: ان التلفظ کسائر افعال الانسان تابع لاغراضه ودواعيه والداعي للتلفظ قد يکون مجرد التدريب والتمرن علی التلفظ الصحيح. وهنا لا يصدق عنوان الاستعمال.

واما في موارد صدقه فقد يکون استعمالاً في غير مورد التفهيم کما ذکرناه من محادثة النفس وتکرار المعلومات للحفظ ومناجاة الرب ومخاطبة الديار والاطلال.

وقد يکون استعمالاً تفهيمياً فالداعي _ في الغالب _ هو اخطار المعنی وهو العلة الغائية للتلفظ. والعلة الغائية هو ما يکون في مرحلة الوجود الخارجي معلولاً للشيء وفي مرحلة الوجود الذهني علة لفاعلية الفاعل. فاذا صدر من الانسان فعل لغرض منشود فلابدّ من أن يکون بين الفعل والغرض علاقة السببية ولو باعتقاد الفاعل.

ويتبين کون المتکلم في مقام التفهيم بملاحظة القرائن الحالية الکثيرة في شتی الموارد ککون الانسان مشتغلا بالخطابة او التدريس او الامر والنهي او الاخبار او غير ذلك مما لا يخفى على السامع وبذلك يندفع احتمال کونه في مقام التدريب او غير ذلك مما لا يناسب الاستعمال التفهيمي. وحيث انه يتکلم مع من يفهم اللغة فعلاقة السببية بين الکلام وفهم المعاني محفوظة فنحکم بانه اراد تفهيم المعنی واخطاره ببال السامع.

اذن فاستکشاف هذا الغرض من التکلم کاستکشاف سائر الاغراض المتعارفة من الافعال فاذا وجّه الانسان فوهة مسدسه نحو احد في مقتل منه کقلبه مثلاً واطلق النار او حاول الاطلاق نحکم بانه اراد قتله وهکذا في سائر الافعال.

نعم يتوقف هذا الاستکشاف علی إحراز عدم کون المتکلم ناسياً او غافلاً او نائماً او في مقام التدريب ولو بمعونة القرائن کما هو الغالب.

ويستند هذا الطريق علی الربط السببي بين اللفظ والمعنی او تحقق الهوهوية بينهما في ذهن السامع علی المسلکين السابقين.

الطريق الثاني: دعوی أن ابناء اللغة الواحدة ملتزمون ومتعهدون بما يستوجب الحکم بارادة التفهيم من الکلام.

واختلفت کلمات اصحاب نظرية التعهد في صيغتها فادّعى بعضهم انها عبارة عن التعهد بأن لا يتلفظ المتکلم باللفظ المخصوص الا عند إرادة المعنی المخصوص. وذکر بعضهم صيغاً اخری له.

وکيف کان فعلی أساس هذا التعهد نحکم بان المتكلم اراد معنی اللفظ عند استعماله. وبهذه النظرية يتحدد الموقف في تفسير الوضع في اصل اللغة وذلك بتقريب ان معنی الوضع لغة هو الجعل کما يقال: (وضع القانون) والمناسب لمعناه في هذا المقام هو الجعل الاعتباري للتعهد المذکور ويباشره کل متکلم امام أبناء لغته.

وذلك لان الانسان بما انه مدني بالطبع مضطر الی مثل هذا التعهد والقرار لضمان الاعتماد علی محاوراته مع افراد المجتمع اذ لا يمکن الاکتفاء بالاشارة في تفهيم جميع المقاصد. واما الانس الذهني والتلازم ونحو ذلك فامور مترتبة علی هذا التعهد.

وتبين بذلك ان کل مستعمل يعدّ واضعاً بنفسه، الا أن المستعمل الاول حيث كان هو البادئ بهذا التعهد يعبر عنه بالواضع واما الموضوع فهو اللفظ بقيد استعماله في مورد التفهيم اذ لا اثر لجعل العلقة الوضعية بالنسبة الی غير هذا المورد کاللفظ الصادر من النائم مثلاً ولا وجه للجعل ازيد من مقدار الحاجة.

ولا ترد علی هذا التقريب المناقشة بالاستعمالات المجازية بدعوی ان المراد فيها ليس هو المعنی الموضوع له فهي مع کثرتها موارد لنقض هذا التعهد.

وذلك لأنّ الحق _ کما سيأتي _ أن الاستعمالات المجازية ليست في غير المعاني الموضوع لها لشواهد سيأتي ذکرها في محله ومنها انه لولا ذلك لم يصح الاضراب في قولنا زيد شجاع بل اسد فالصحيح ان اللفظ يستعمل دائماً في المعنی الموضوع له اللفظ وانما العناية والتجوز في تطبيق المعنی علی المورد فالفرق بين المجاز والحقيقة هو عدم تطابق المراد الجدي للمراد الاستعمالي في الاول.

هذا ومن الممکن دفع المناقشة حتی علی تسليم کون الاستعمالات المجازية في غير ما وضع له اللفظ ولا مجال لذکره.

ولابد في صحة هذه النظرية بالنسبة الی استکشاف المراد من اثبات نقطتين:

النقطة الاولی: ثبوت هذا التعهد العقلائي فيما بين ابناء اللغة الواحدة.

النقطة الثانية: اثبات عدم تخلف المتکلم عن تعهده المذکور أثناء المحاورة باصل عقلائي يتکفل ذلك.

اما في النقطة الاولی فنلاحظ فيها امرين:

الاول أن هذا التعهد غير موجود في الواقع الخارجي لانه لو كان فهو امر وجداني يشعر به كل متكلم مع أننا لا نجد في انفسنا أثراً له.

الثاني: انه علی افتراض وجوده إمّا أن يكون بصيغة ايجابية بأن يقول المتكلم (اتعهد ان اتلفظ بهذا اللفظ عند ارادة تفهيم هذا المعنی) او بصيغة سلبية بان يقول: (اتعهد ان لا اتلفظ بهذا اللفظ الاّ عند ارادة تفهيم هذا المعنی).

اما الصيغة الايجابية فتتضمن موضوعاً وهو التلفظ وموضوعاً عليه وهو ذمة المتکلم وموضوعاً لاجله وهو ارادة التفهيم وذلك باعتبار أن الوضع عبارة عن جعل القرار والتعهد.

وعليه فلو کان نص القرار منحصراً في العقد الا يجابي لم يمکن اکتشاف ارادة التفهيم اذ لا يتضمن القرار نفي سائر الاهداف والمقاصد وانما يتضمن عدم التوسل بغير هذا اللفظ عند ارادة التفهيم ولا يوجب ذلك عدم ارادة المقاصد الاخری من التلفظ.

هذا مضافاً الی ان الواقع الخارجي لا يوافق ذلك اذ لا نجد احداً يلتزم بان لا يتوصل الی التفهيم بالاشارة ونحوها من المبرزات للمقصود.

واما الصيغة السلبية للقرار فهي التي توجب کشف ارادة التفهيم وذلك باعتبار تضمنها لنفي سائر الاهداف من التلفظ لكون النص متضمنا بأنه لا يتلفظ الا للتفهيم.

ولا أثر للقرار الايجابي في ذلك بل لو صرّح بخلافه لم يضرّ في اکتشاف ارادة التفهيم فلو قال اني لا اتعهد بان اتلفظ في مورد التفهيم بل يمکن ان اتوسل اليه بالاشارة ولکني اتعهد بأن لا اتلفظ الا عند التفهيم کفى ذلك في الاستکشاف المذکور.

هذا ولکن القرار السلبي وان افاد اکتشاف ارادة التفهيم الا ان موضوع القرار هو عدم التلفظ والذي يجب ان يکون موضوع القرار هو التلفظ عند اصحاب هذه النظرية حيث انهم فسروا الوضع بجعل القرار وجعلوا متعلقه هو التلفظ. اذن فالقرار السلبي الذي يفيد في استکشاف ارادة التفهيم لا يحقق وضع اللفظ والقرار الايجابي الذي يحقق وضع اللفظ لا يفيد الاستکشاف.

اضف الى ذلك ان القرار السلبي مخالف للواقع ايضاً ولا يمکن لاحد ان يتعهد به فقد تبين مما قدمناه ان دواعي المستعملين لا تنحصر في ارادة التفهيم وقد ذکرنا عدة موارد ليس الاستعمال فيها تفهيميا کالتلقين النفسي ومناجاة الرب والتلفظ بارادة نفس اللفظ وغيرها مما لا يمکن فيها دعوی ارادة التفهيم ويبقی من موارد التکلم ما يصدق عليه عنوان المحاورة مع من يفهم لغته حيث تدل القرائن علی ارادة التفهيم نظراً الی ضرورة تعليل افعاله بالاغراض کما تقدم والمفروض انتفاء سائر الاغراض المترتبة علی التلفظ.

هذا مضافاً الی ان متعلق الوضع لابد من ان يکون نفس اللفظ وما يحاوله اصحاب هذه النظرية هو تعلق الوضع بالتلفظ.

واما النقطة الثانية فلم يقم باثباتها اصحاب النظرية والظاهر انه ليس هناك اصل عقلائي يتکفل اثباتها الا الاعتماد علی شرف الانسان وإبائه عن نقض عهوده ومواثيقه. ومن الواضح ان ذلک يمنع من الوثوق والاعتماد في کثير من المحاورات حيث ينتفي الاعتماد علی المتکلم.

مضافاً الی انه لو ثبت ذلك باصل عقلائي فغايته الاعتماد علی ميثاق المتکلم وذلک لا يصنع دلالة عقلية کما هو المدعی.

فتبين مما ذکرناه فساد هذه النظرية اساساً فلا يبقی مجال لدعوی امکان تفسير حقيقة الوضع بها.

مضافاً الی ان دعوی التعهد لو صحت في المستعملين فلا تصح في الواضع اي المستعمل الاول وذلك لان اساس هذا القرار هو ثبوت الربط الذهني بين اللفظ والمعنی وهو مفقود في استعمال الواضع فکيف يمکن منه التعهد وليس ذلك الا کتعهد المستعملين تجاه من لا يفهم لغتهم وهو قرار باطل قطعاً.

 

 

 

 

 

المبحث الثاني

في المعنى الحرفي

 

تحديد محل البحث:

الکلمة تنقسم في اکثر اللغات الی اسم وفعل وحرف. وهناك بعض اللغات المتخلفة لا تحتوي علی الحرف. واما اللغة العربية ففيها انواع کثيرة من الحروف کالحروف الجارة والمشبهة بالفعل وادوات النداء والتحضيض وغيرها.

ومورد الکلام هنا هو الحروف التي تقابل الاسماء والافعال دون الحروف التي تشکل جزءاً من الاسم او الفعل کحروف المضارعة التي تبدأ بها الافعال المضارعة والحروف التي تشکل هيئة اسم الفاعل والمفعول کالالف والواو. فهذه الحروف تؤثر في تشکيل هيئة من مجموعة حروف يختلف بموجبها اسم عن اسم آخر او فعل عن فعل آخر.

ومدار البحث التقليدي في الدراسات الاصولية هو حروف الجر فحسب ويحکم علی سائر الحروف بالتبع. ولکنّا نحاول في در استنا هذه تسوية الحروف في البحث وملاحظتها بنظرة شاملة.

 

دور البحث في الفقه والاصول:

لهذا البحث دور هام في الدراسات الاصولية والفقهية. فمن موارد حيويته مورد اجراء الاستصحاب في الموضوعات المرکبة التي يحرز جزء منها بالوجدان وجزء آخر بالاصل حيث إنّ الهئية الترکيبية لا يجري فيها الاستصحاب الا أن الصيغة الشرعية المعبرة عن الموضوع اذا ورد فيها التعبير عن تلك الهيئة بالحرف فان استصحاب الجزءين کاف في اثبات الحکم ولا يتوقف ذلك علی لسان الاثبات اذا أثبتنا في هذا المبحث أن المعنى الحرفي ليس مستقلا في اللحاظ.

والمثال على ذلك ما ورد في الحديث المشهور (لا صلاة الا بطهور)[3] حيث يکفي إجراء الاصل في الطهور واحراز الصلاة بالوجدان ولا حاجة الی اثبات المعنی الحرفي المعبر عنه بالباء.

وکذلك أصالة تأخر الحادث فان کان التأخر او التقدم او التقارن قد عبر عنها في الدليل الشرعي بهذه الالفاظ کان الاصل مورداً لشبهة الاثبات وان عبّر عنها بالحروف لم تتطرق الشبهة الى الاصل.  

ومن موارده ايضاً مبحث الواجب المشروط حيث يبحث عن امکان تقييد الهيئة مع کونه معنى حرفياً وقد قيل ان المعاني الحرفية جزئية والجزئيات لا تقبل التقييد وعلی هذا الاساس التزم بعضهم برجوع کل قيد الی المادة. کما قد يعلل ايضاً عدم تقييدها بکونها مأخوذة على وجه المرآتية کما هو الشأن في جميع المعاني الحرفية.

اذن فمبحث المعنی الحرفي مضافاً الی کونها بحثاً لغوياً وعلمياً له اثر عملي في الفقه وله دور کبير في تحديد الموقف في بعض المباحث الاصولية.

المسالك في تحقيق المعنی الحرفي:

اصول المسالك فيه ثلاثة:

المسلك الاول: انکار کون الحروف موضوعة لمعنیً من المعاني. ونسب ذلك الی الشيخ الرضي نجم الائمة واختاره من المتأخرين المحقق الا يرواني.

تقريبه: ان الحروف بجميع انواعها مقومة لهيئة الاسم او الفعل كالحروف التي ذكرنا أنها كذلك وعزلناها عن مورد البحث . فليس شيء منها موضوعاً او مستعملاً في معنیً کما لا يدعی الوضع او الاستعمال في تلك الحروف فهي تشبه الاعراب التي تعين دور الکلمة في ترکيب الجملة من کونه فاعلاً او مفعولاً ونحو ذلك فهذه الحروف محققة للدال الواحد لا لتعدد الدال والمدلول.

ولکن بنظرة شاملة للحروف نجد أن منها ما لا يمکن فيه هذه الدعوی کادوات التنبيه والتحضيض والترجي والتمني والنداء والردع ونحو ذلك مما لا تولد هيئة الدال الواحد بل تدل بالاستقلال علی معنیً ولا نجد بالوجدان فرقاً مدلولياً بين جملة (ليت الشباب يعود يوماً) وجملة (أتمنی الشباب ان يعود يوماً).

بل وکذلك في مثل (زيد في الدار) اذ لا تؤثر کلمة (في) في تشکيل هيئة الدال الواحد بل هي بنفسها تدل علی الظرفية. وخصوصاً في مثل (زيد علی السطح) وذلك للشبه المحسوس بين (علی) والمشتقات الاسمية. وهناك نظرية تدعي ان الحروف وجدت بالنحت او الاشتقاق عن بعض الاسماء وهذا واضح في مثل (علی) حيث يبرز فيها الاشتقاق من العلو.

اذن فهذا المسلك بهذا البيان غير قابل للاذعان الا انه يمکن إبداء احتمال في بعض الحروف ودعوى انها لم توضع لمعنیً لا علی ما ورد في هذا البيان من کونها مولدة لهيئة الدال بل بدعوى انها تستعمل بداعي ايجاد امر مترتب علی نفس التلفظ بهذه الالفاظ من دون استعمالها في معنیً.

ومثال ذلك ما يمکن ان يقال في ادوات النداء بانها ليست الا اصواتاً للتنبيه للقريب او البعيد وتسميتها بادوات النداء انما هي من جهة انها تستعمل بداعي ايجاد النداء. والنداء کما في المفردات للراغب: (رفع الصوت وظهوره وقد يقال ذلك للصوت المجرد).

وهذا الاحتمال وان لم يکن بعيداً في نفسه الا ان الجزم به مشکل بل يمنعه بعض الشواهد فان حروف النداء قد تحذف ويبقی اثرها الاعرابي کقوله تعالی (يوسف اعرض عن هذا)[4] فلو کانت مجرد اداة للتنبيه لم يکن وجه لاعتباره محذوفاً ومؤثراً في الاعراب. ويشهد له ايضاً الاتيان بها في اثناء الکلام اذ لا معنی حنيئذ للتنبيه.

ويمکن ان يجاب عن ذلك بان الاعراب ليس بالتأثير والتأثر والاتيان بها في اثناء الکلام يمکن ان يکون للتنبيه علی ما بعدها من الکلام والاهتمام به.

وکيف کان فلو تمت هذه الدعوی في بعض الحروف کادوات النداء الا انه لا يؤيد هذا المسلك المبتني علی کون الحروف باقسامها مولدات للهيئة الدالة علی المعنی.

المسلک الثاني: ان الفرق بين الحروف والاسماء المشابهة لها في المعنی ليس فرقاً جوهرياً وانما هو فرق لحاظي والمراد بالاسماء ما يعمّ الافعال وبعنوان عام يراد بها المفاهيم المستقلة. وقد نسب هذا القول ايضاً الی الرضي نجم الائمة واختاره من المتأخرين صاحب الکفاية.

وتقريب ذلك يتم في ضمن بيان مقدمات ثلاث:

المقدمة الاولی: ان الصور العلمية في الذهن البشری لها نحو من التکثر لا تتبع التکثر الواقعي سواء کان من العلوم الفعلية او الانفعالية.

ونقصد بالعلم الانفعالي ادراك الامور الخارجية فانها لا تنعکس في الذهن بصورة معينة بل تنعکس الصور المتعددة عن الواقع الخارجي الواحد وينشأ هذا التکثر من عمل الذهن کالتجزئة والتحليل والترکيب ونحوها من الشؤون اللحاظية في الذهن.

ونقصد بالعلم الفعلي ما يخترعها الذهن ابتداءاً کالاعتبارات القانونية فانها ليست من الامور الخارجية التي تلتقطها عدسة الذهن البشري وانما هي من صنعه وانشائه.

وفي کلا القسمين تکثرات ادراکية فالذهن لا يتخلی عن إبداعه في الصور العلمية حتی فيما يتصور انها من العلوم الانفعالية.

وبتقرير آخر ان الصور العلمية في الذهن البشري تختلف علی وجهين:

الوجه الاول: ان يکون منشأ التعدد تعدد الواقع فالکثرة الادراکية في هذه الصورة تابعة لکثرة المدرَك.

الوجه الثاني: ان يکون المدرَك امراً واحداً في الخارج وتتعدد الصور الذهنية. وهذه الکثرات الادراکية التي لا تتبع الواقع الخارجي من مبدعات الذهن البشري وهي علی نوعين:

النوع الاول: ان تکون احدی الصور مطابقة للواقع فهي صورة اصلية للشيء والصور الاخری اختراعية نسبتها الی الاصلية نسبة العنوان والمعنون بل قد لا يکون في الذهن صورة واقعية عن الشيء اصلاً وکل ما فيه من الصور اختراعية نظير الوجود بناءً علی نظرية اصالة الوجود فان مفادها أنه حقيقة عينية لا تقبل الوجود الذهني واما مفهومه في ذهننا فهو من اختراعنا الذي يعتبره الذهن عنواناً لحقيقة الوجود في الواقع. ولا يمکن ان تنعکس الصورة الواقعية للوجود في الذهن فان حقيقة الوجود لا تنفك عن المنشأية للآثار والصورة الذهنية لا تملك هذه الصفة وهذا بخلاف الماهية حيث يتصورها الذهن بصورة مطابقة للاصل.

وهکذا العدم فان الصورة التي يخترعها الذهن لا يمکن ان يقال عنها انها مطابقة للواقع اذ ليس للعدم واقع خارجي. فالعدم مفهوم ينشئه الذهن بالمقابلة مع مفهوم الوجود.

النوع الثاني: ان تکون جميع الصور المختلفة حاکية عن الواقع الخارجي الا انها تختلف باللحاظ فقد يکون الاختلاف باللحاظ الاجمالي والتفصيلي وقد يکون باللحاظ التبعي والاستقلالي وقد يکون باللحاظ المرآتي والاستقلالي.

فالانسان مثلا واقع خارجي واحد الا انه قد يتصور بمفهوم اجمالي بعنوان (الانسان) وقد يتصور بمفهوم تفصيلي بعنوان (الحيوان الناطق) على حدّ تعبير المنطق القديم. وتوابع الدار عند شرائها قد تلاحظ بعنوان تبعي کما هو المتعارف عند شراء الدار وقد تلاحظ بعنوان استقلالي کما اذا صرّح بها في المعاملة. ومثلها ايضاً الشروط الضمينة الارتکازية التي قد يصّرح بها وقد تلاحظ تبعاً.

والحاصل ان الذهن لا يتقيد بالصورة الواقعية للشيء الذي ينعکس فيه بل يصنع له صوراً أخرى مثلا اذا کان زيد اعمی فالصورة الاقرب الی الواقع هي ما تشکل القضية السالبة المحصلة فنقول زيد ليس ببصير.

وعلی اساس هذه الصورة لا تحتاج القضية _ کما قالوا _ الی وجود الموضوع خارجاً. ولکن الذهن يصنع لهذه القضية السلبية صورة ايجابية تتضمن حمل مفهوم ايجابي فتتوقف علی وجود الموضوع فنقول: (زيد اعمى).

وقد يصنع لهذا المفهوم صورة سلبية تحمل علی زيد في قضية ايجابية حيث نقول (زيد هو اللابصير) الی غير ذلك من التکثرات الادراکية عن قضية حاکية عن واقع خارجي واحد.

ومن هذا القبيل لحاظ الشيئ لا بشرط وهو المصحح للحمل ولحاظه بشرط لا المانع من الحمل کما سيأتي توضيحه في مبحث المشتق ومبحث الاطلاق والتقييد.

ويمکن ان يعدّ من هذا القبيل التعبير عن مفهوم جملة: (ان زيداً عالم) بجملة: (ان احد الرجلين زيد وعمرو عالم) وذلك رعاية لمصلحة مترتبة علی الاجمال والابهام. فعنوان (احد الرجلين) کلي انتزاعي ابتدعه الذهن. وکل من الجملتين صادق ومعبر عن الواقع الخارجي الا ان التعبير الاول يحکی عن انطباع عن الواقع أسلم من التصرف الذهني بالقياس الی التعبير الثاني وان کان لا يخلو عن التصرف الذهني ايضاً بلحاظ عنوان (عالم) الانتزاعي.

وقد تختلف انطباعات الواقع الواحد حسب اختلاف اللغات ولذلك يختلف التعبير فقد يعبر عن بعض الآلات والادوات في اللغات الراقية بالفاظ بسيطة ولکنها لم تجد في لغة أخری ما يعبّر عن ذلك المعنی فيصنع الذهن منها انطباعاً ترکيبياً بالتقييد والمعنی الحرفي ويعبّر عنه بلفظ مرکب.

ومن هذا القبيل ايضاً اختلاف اللغة العربية عن الفارسية واليونانية في انطباع القضايا الحملية حيث يتصورها العرب بنحو الهوهوية والاتحاد الوجودي ويتصورها الآخرون بنحو ثبوت شيء لشيء. وکلا هما صحيح معبّر عن واقع خارجي. هذا علی بعض الاقوال في حقيقة الوجود الرابط کما سيجيئ بيانه.

واما الصور الفعلية في الذهن اي ما يخترعه ابتداءاً کالاعتبارات القانونية فهي ايضاً قد تتکثر في الصورة وان اتحدت في الواقع فالوجوب مثلاً قد يعبر عنه بفعل الامر فالصورة هنا علی وجه المعنی الحرفي حيث يستفاد الوجوب من الهيئة وقد يعبر عنه بعنوان الوجوب فيکون معنى اسمياً الی غير ذلك من الاختلاف في الانطباع فالتعبير.

المقدمة الثانية: في بيان ان الاختلاف فيما بين الحروف والاسماء المشابهة لها في المعنی هل هو من قبيل الاختلاف الادراکي او الواقعي سواء کان واقعاً خارجياً ام اعتبارياً؟

ثم بناءاً علی کونه من الاختلاف الادارکي الناشئ من اختلاف اللحاظ بالطبع فما هي نوعية الاختلاف؟ هل هو من قبيل اختلاف اللحاظ الاجمالي والتفصيلي او التبعي والاستقلالي او المرآتي والاستقلالي؟

فالکلام في هذه المقدمة من جهتين:

اما في الجهة الاولی فاساس نظرية المحقق الخراساني هو ان الاختلاف بين الحروف والاسماء المشابهة ليس اختلافاً واقعياً وانما هو اختلاف في الادراك. وذلك لانا لانجد فرقاً بينها من حيث المغزی والمفاد بل کثيراً ما يصح جعل الاسم مکان الحرف (المراد بالاسم المفهوم المستقل) فلانجد فرقاً بين جملة (ليت الشباب يعود يوما) وجملة (اتمنی ان يعود الشباب يوماً) وکذا فيما بين لعل وارجو، وکاف التشبيه وکلمة (يشبه)، والهمزة و(استفهم). فالصورة والتعبير مختلفان الا ان الواقع واحد.

وقد يصح جعل الاسم مکان الحرف من دون تغيير في صياغة القضية کقولك جاءني زيد اي ابالحسن و(اعني اباالحسن) واخذت من الدراهم واخذت بعض الدراهم. وقوله تعالی:( ولا تأکلوا اموالهم الی اموالکم)[5] و(مع اموالکم).

وقد بالغ بعض الباحثين فانتقد علی النحاة عدّهم الحرف نوعاً خاصة من الکلمة في قبال الاسم والفعل وسيأتي ذکره.

والسرّ في اختيار التعبير الحرفي هو قانون انتخاب الاسهل فبينما يمکن التعبير عن وجود زيد في الدار بالاحتواء والظرفية ونحو ذلك يلجأ الانسان الی اختصار الطريق والتعبير عنه بـ (في) فلا يقول الدار يحتوي زيداً او زيد داخل الدار او الظرفية بين زيد والدار متحققة. بل يقول: زيد في الدار.

وهکذا في الامور الاعتبارية فالملك معنیً اسمي وقد يعبر عنه باللام ولا شك ان الواقع الاعتباري امر واحد وانما يختلف الانطباع والتعبير.

وقد يناقش في هذه الناحية من نظرية المحقق الخراساني بأن الاسماء لا يصح جعلها مکان الحروف فلا يقال: زيد الظرفية الدار وهذا دليل المغايرة بل التغاير بينهما اقوی من التغاير بين المعنى الحقيقي والمجازي حيث يستعمل اللفظ في غير ما وضع له لمجرد علاقة تصحح الاستعمال وحيث لم يصح الاستعمال هنا حتی مجازاً نکتشف شدة المغايرة بينهما.

اما عدم جواز الاستعمال المذکور بنحو السالبة الکلية فقد تبين بطلانها بما قدمناه من الامثلة علی موارد الاستعمال حتی مع الابقاء علی صياغة الجملة واما بدونه فالجواز اوضح اما الاستعمال المجازي فمن العجيب النقض به ممن يذعن بانه ليس استعمالاً في غير ما وضع له وان التجوز والعناية انما هو في التطبيق وإعطاء حدّ شيء لشيء آخر بداعي التأثير في الاحساس استمداداً من تأثير المصداق الحقيقي.

هذا مع ان عدم صحة الاستعمال لا يدل علی اختلاف الواقع اذ قد لا يصح استعمال احد المترادفين مکان الآخر کالبشر والانسان حيث ان الاول يستعمل في قبال الملك والثاني في قبال الجن ــ کما قيل ــ مع ان وحدة المفهوم والدقة في وجه المغايرة اوجب توهم الترادف بينهما بحسب التفاهم العرفي.

واما في الجهة الثانية فالمحقق الخراساني ذهب الی کون الاختلاف باللحاظ التبعي والاستقلالي دون اللحاظ الاجمالي والتفصيلي والاکان تغاير الانسان والحيوان الناطق کتغاير الاسم والحرف، ودون اللحاظ المرآتي والاستقلالي کما توهمه المفسرون لنظريته وذلك لما ورد في الکفاية من التعبير بالآلي والاستقلالي ففسروا اللحاظ الآلي بالمرآتي فکلما کان المفهوم مما به ينظر کان حرفياً وکلما کان مما فيه ينظر کان اسمياً.

وقد اعترض الاعلام عليه بناءاً علی هذا التفسير بوجوه عديدة:

فمن تلك الاعتراضات ان المرآتيه مفقودة في المقام بالوجدان فاذا قلنا زيد في الدار لم تکن (في) مرآة لملاحظة شيئ آخر کما تلاحظ المرآتية بين اللفظ والمعنی وبين الصور الذهنية والواقع الخارجي.

 ومنها ان لازم ذلك ان تکون بعض الاسماء حروفاً حيث تلاحظ مرآة ومثل لذل بقوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)[6] حيث اخذ التبين علی وجه المرآتية، والموضوع هو نفس طلوع الفجر.

وفي المثال نظر حيث ان التبين لم يؤخذ علی وجه الطريقية مضافاً الی ان ذلك علی تقدير کونه طريقياً ليس من قبيل اللحاظ المرآتي بل من قبيل مخالفة المراد الجدي للمراد الاستعمالي.

الی غير ذلك من الاعتراضات ما بين صحيح وفاسد.

ولکن الصحيح ما ذکرنا من ان مراده من الآلي اللحاظ التبعي فقد يلاحظ المعنی علی وجه الاند کاك في الغير کما ان الانسان اذا اراد الحصول علی نتيجة مّا فانه لا يلاحظ الوسائل والاسباب لحاظاً استقلالياً بل بالتبع وبما انها توصل الی المطلوب فشبه اللحاظ التبعي بلحاظ الآلة. فالظرفية مثلاً قد تلاحظ بنحو الاستقلال کما اذا وقعت موضوعاً او محمولاً في القضية وقد تلاحظ بنحو التبع والاندکاك في الطرفين.

المقدمة الثالثة: في ان هذه الشؤون الموجبة للتکثر الادراکي اي اختلاف اللحاظ ليست من الشؤون الدخيلة في الموضوع له والمستعمل فيه بل هي من شؤون العلقة الوضعية بمعنی ان الترابط الذهني ثابت بين کلمة من مثلاً ومعنی الابتداء اذا لوحظ تبعاً وبين کلمة الابتداء ومعناه اذا لوحظ مستقلاً. فالترابط بين کل منهما وذات المعنی علی نحو القضية الحينية اي من دون کون اللحاظ مرئياً ودخيلاً في المعنی.

وتوضيحه مذکور في الکفاية وکتب القوم مفصلاً فلا حاجة الى تفصيل القول فيه.

هذا والمقدمة الاولی والثالثة مما لا اشکال فيهما واما المقدمة الثانية بجهتيها فتحقيقها يتوقف علی عرض المسلك الثالث ودراسته وکذا سائر الاحتمالات.

المسلك الثالث: ان المعنی الاسمي يختلف عن المعنی الحرفي اختلافاً جوهرياً فکل من الحرف والاسم المشابه له موضوع لمعنیً مخالف للآخر بالذات.

ولهذا المسلك تقارير عديدة ولکنا نتعرض للتقرير المنسوب الی الفلاسفة والذي اختاره المحقق الاصفهاني وهو ان الحروف موضوعة لأنحاء النسب بخلاف الاسماء والافعال. وقالوا ان النسبة ليس لها تقرر ما هوي في قبال المنتسبين فهي من هذه الجهة يشبه الوجود الرابط فکما ان الوجود الرابط وجود لا في نفسه کذلك النسبة.

قال المحقق الاصفهاني: (الحق المصرّح به في کلمات اهل التحقيق انهما متفاوتان في ذاتهما وان الفرق بينهما کالفرق بين الوجود في نفسه والوجود لا في نفسه اعني الوجود الرابط في قبال الوجود المحمولي فکما ان الوجود الرابط ثبوت شيء لشيء وهو الثبوت المتوسط وليس ثبوت شيء بحيث يضاف اليه ويحمل عليه کذلك نسبة الشيء....). ([7])

وانما نقلنا هذه العبارة مع ان تحقيق مراده سيأتي ان شاء الله تعالى دفعاً لما قد يتوهم انه ذهب الی ان الحروف موضوعة للوجود الرابط. ومن التأمل في هذه العبارة يظهر انه انما شبّه معاني الحروف وهي انحاء النسب بالوجود الرابط.

والمراد بالوجود الرابط في مصطلح الفلاسفة ثبوت شيء لشيء المعبّر عنه بمفاد کان الناقصة في قبال الوجود المحمولي وهو ثبوت الشيء المعبّر عنه بمفاد کان التامة وهو اعم من الوجود الرابطي والوجود النفسي.

والاول مختص بوجود الاعراض حيث انها وان کانت موجودة في نفسها الا ان وجودها لغيرها والثاني وجود الجواهر التي لا تتقوم بموضوع. والوجود الرابط عباره عن الوجود لا في نفسه وهذا غير النسبة.

وقد صرّح المحقق الاصفهاني في تعليفته علی الکفاية في مبحث أصالة عدم التذکية بان الوجود الرابط مختص بالهليات المرکبة الايجابية والنسبة عامة توجد في الهليات البسيطة واما في السوالب فتسلب النسبة لا الوجود الرابط.

وهنا ينبغي التعرض لما اعترض عليه قدس سره بناءاً علی ما نسب اليه من القول بان الحروف موضوعة للوجود الرابط وقد تبين مما قدمناه وسيتضح عند تحقيق قوله انه لا يقول بذلك وأن منشأ التوهم تشبيهه النسبة بالوجود الرابط کما صنعه بعض من تقدمه من الفلاسفة. ومع ذلك فالاعتراض غير وارد في نفسه.

الاعتراض الاول: ان الوجود الرابط في قبال الوجود المحمولي امر موهوم لا واقع له. وذلك لان دليل القائلين بتحقق الوجود الرابط هو انا قد نقطع بوجود کل من المحمول والموضوع ومع ذلك لا نقطع بثبوت المحمول للموضوع وغير المقطوع به غير المقطوع به وتعدد القطع والشك يدل علی تعدد المتعلق فثبوت المحمول للموضوع امر وراء ثبوت المحمول وثبوت الموضوع.

وهذا الدليل غير تام فان غاية ما يدل عليه ان ما تعلق به القطع مغاير لما تعلق به الشك ولکن حيث ان الشك والقطع صفتان نفسيتان فمتعلقاهما امران ذهنيان وتغاير الامرين في الذهن لا يدل علی التغاير الخارجي. ومن هنا قد نقطع بتحقق الانسان في الدار ونشك في تحققه ضمن زيد مع انه علی تقدير تحققه في ضمنه موجود واحد في الخارج اذا الکلي الطبيعي يتحقق بعين تحققات افراده فالتغاير انما هو في الصورة المدرکة لا في الخارج. فالوجود الرابط ليس وجوداً خارجياً في قبال الوجود المحمولي والالزم مغايرة الکلي لفرده خارجاً.

وهذا الاعتراض انما يرد لو ادّعي ان الوجود الرابط امر خارجي له واقعية خارجية في قبال الوجود المحمولي ففي قولنا (زيد قائم) ثلاثة وجودات في الخارج وجود الموضوع (زيد) ووجود العرض (قيام) والوجود الرابط. الا انه سيأتي في تحقيق مذهب الفلاسفة في المعنی الحرفي ان غاية ما يمکن ان ينسب اليهم هو ان الوجود الرابط له واقعية بالتبع لا انه امر متأصل مستقل في قبال الطرفين کما ان الطبيعي موجود بتبع وجود زيد. والوجود الواحد خارجياً ينسب الی الطبيعة المشترکه فيقال انه وجود الانسان وينسب الی الماهية الشخصية فيقال وجود زيد. فالوجود الرابط عندهم ليس له واقع مستقل في قبال الوجود المحمولي بل هو موجود بالتبع علی احتمال او موجود بالعرض وسيأتي توضيح ذلك ايضاً ان شاء الله تعالى.

الاعتراض الثاني: ان الوجود الرابط علی افتراض واقعيته ليس مما يوضع بازائه اللفظ وذلك لان الوجود لا يقبل التصور والوجود الذهني وانما الموجود في الذهن هو صور الماهيات فانها توجد تارة في الخارج واخری في الذهن واما واقع الوجود فحقيقته متقومة بالمنشأية للآثار فکيف يمکن ان تتحقق في الذهن حيث تنسلخ منه تلك المنشأية واذا لم يمکن تصوره لم يمکن ان يوضع له لفظ.

والجواب عنه اولاً: ان ما ذکر من عدم قبول الوجود للتحقق في الذهن انما هو في الوجود المحمولي وذلك عند القائلين باصالة الوجود وهم لا يقولون باصالة الوجود الرابط بل باصالة الوجود المحمولي فقط بل يوجد في کلماتهم بان الوجود الرابط لا يشترک مع الوجود المحمولي الا في مجرد الاسم في خصوص اللغة العربية قال في الاسفار: (الحق ان الوجود الرابط غير الوجود المحمول بالنوع بل الاتفاق بينهما في مجرد اللفظ).([8])

وثانياً: ان الوجود المحمولي مع انه لا يتحقق في الذهن أصلاً يوضع له اللفظ ولا مانع منه وذلك لان تصوره بنفسه وان کان غير ممکن الا انه لا مانع من تصوره بعنوانه الإبداعي. فالاشياء المتصورة قد تکون الصورة الذهنية منعکسة عن واقعها الماهوي وقد تکون باختراع الذهن وجعلها عنواناً لها وعليه فلا مانع من جعل الحروف للوجود الرابط. وسيجيء توضيح ذلك في مبحث اقسام الوضع ان شاء الله تعالى.

الاعتراض الثالث: ان الوجود الرابط يختص بالجواهر والاعراض. والحروف لا يختص استعمالها بذلك فقد يستعمل في واجب الوجود کقولنا: (الوجود لله واجب) وفي ممتنع الوجود کقولنا: ( الوجود لاجتماع النقيضين ممتنع) مع ان الوجود الرابط لا يعبّر الا عن حيثية تقوم العرض بالجوهر.

ولکن لم يعلم مأخذ هذا القول وهو اختصاص الوجود الرابط بالجواهر والاعراض. قال السبزواري في تعليقته على شرح منظومته: (وهو اضعف مراتب الوجود کالمعنى الحرفي غير ملحوظ بالذات وکما يتحقق في الموجودات بالوجود النفسي يتحقق في العدمي مثل زيد اعمى وامي بل في الممتنعات مثل شريك الباري محال واجتماع النقيضين مغاير لاجتماع الضدين)([9]) وسيأتي بيان ذلك ان شاء الله تعالى.

ولنرجع الآن الی بيان المسلك الثالث حسب التقرير الصحيح فنقول:

إنّ اساس هذا المسلك يبتني علی کون الفرق بين المعنی الحرفي والمعنی الاسمي هو الفرق بين العنوان والمعنون. ويلاحظ ان المراد بالمعنی الاسمي في هذا المسلك هو النسب التي خصصت لها الحروف حيث يقال: ان (من) وضعت للنسبة الابتدائية و(الی) للنسبة الانتهائية وهکذا.

فالمدروس في هذا المسلك هو الفرق بين (من) والنسبة الابتدائية ونحو ذلك ولکن المدروس في مسلک المحقق الخراساني _ علی ما تقدم _ هو الفرق بين الحروف ونفس الابتداء والانتهاء والاستعلاء والظرفية ونحو ذلك ولو مع النسبة ضمناً.

والفرق الذي يعترف به اصحاب المسلک الثالث هو الفرق بين العنوان والمعنون بمعنی ان واقع النسبة الظرفية مثلاً هو ما تمثله کلمة (في) واما کلمة النسبة الظرفية فهي صورة مخترعة يبتدعها الذهن ويجعلها مرآة لتصوير واقع النسبة الظرفية. فالنسبة الظرفية بالمعنی الاسمي نسبة ظرفية بالحمل الاولي لا الحمل الشايع و(في) تمثل النسبة الظرفية بالحمل الشايع.

فهذا الفرق ناشئ ــ کالفرق في المسلك الثاني ــ عن التکثر الادراکي للمفهوم الواحد الا ان هذا التکثر الذهني من القسم الاول اي مما له صورة ذهنية مطابقة للواقع الخارجي وصورة او صور اخری مخترعة لا تطابق الواقع بخلافه في ذلك المسلك حيث کان الواقع يتجلّی بصورتين کل منهما تطابق الواقع الا انهما يختلفان في التبعية والاستقلالية.

والتعبير الاسمي العنواني في هذا المسلك له نظائر کثيرة منها ما اذا قلت: الفعل اما ثلاثي واما رباعي. فان الفعل هنا فعل بالحمل الاولي ولکنه بالحمل الشايع اسم اخذ عنواناً لمصاديق الفعل الخارجية التي تنقسم الی ثلاثي ورباعي.

اذن فالموضوع له کلمة (في) مثلا هو واقع النسبة الظرفية وکلمة النسبة الظرفية التي هي تعبير اسمي تحکي عن عنوان النسبة لا واقعها.

والکلام هنا في تشخيص واقع النسبة التي تحکي عنها التعابير المذکورة.

يقول اصحاب هذا المسلك ان هذه النسب تشبه الوجود الرابط کما ان الوجود الرابط بالحمل الشايع قد يشبه المعاني الحرفية وذلك لانه عبارة عن الوجود لا في نفسه في قبال الوجود المحمولي کما تقدم فهو غير مستقل بنفسه بل متقوم بطرفيه وعدم الاستقلال الذي هو الاساس في المعنی الحرفي يتصف به جميع النسب المذکوره. فالنسبة هي المفهوم الذي لا يستقل بالذات.

ومعاني الحروف کلها من هذا القبيل فهي مما لا يخبر عنه ولا يخبر به ومن هنا کان التشابه والارتباط قوياً بين النسب (المعاني الحرفية) والوجود الرابط بل نسب الی هولاء – کما تقدم – ان المعنی الحرفي هو الوجود الرابط. وربما يقال: ان النسب موجودة بالوجود الرابط.

وتفصيل القول في الوجود الرابط ان فيه ثلاثة اقوال:

القول الاول: ما يتراءی من کلمات اکثر الفلاسفة وهو انه في قبال الوجود المحمولي. قالوا: ان الوجود ان کان في نفسه لنفسه فهو الجوهر ويعبر عنه بالوجود النفسي وان کان في نفسه لغيره فهو العرض الذي لا يتقوم بنفسه وانما يتقوم بموضوع ويعبر عنه بالوجود الرابطي ويجمعهما الوجود المحمولي. وان کان لا في نفسه يعبر عنه بالوجود الرابط وهو ثبوت شيء لشيء.

القول الثاني: ما ذهب اليه المحقق النائيني ومن تبعه وهو انه ليس للوجود الرابط واقع في قبال الوجود المحمولي وما يعبر عنه به هو نفس الوجود الرابطي. وذلك لان وجود العرض ان لوحظ مع قطع النظر عن تقومه بغيره کما اذا قلت: (البياض موجود) عبر عنه بالوجود المحمولي وان لوحظ مع تقومه بغيره کما هو واقعه عبّر عنه في الفلسفة بالوجود الرابط وهذا ليس الا الوجود الرابطي بنفسه.

ويلاحظ انا لانجد عند قولنا (زيد قائم) مثلا غير زيد وقائم وليس هناك واقع ثالث وهذا التعبير لا يمثّل الا تقوّم القيام بزيد وهو نفس الوجود الرابطي وحقيقة العرض. والوجود الرابط امر موهوم اذ ليس له في الخارج واقع غير طرفي القضية. والذهن لا يحكي الا عما في الواقع فليس له واقع خارجي ولا ذهني.

هذا مضافا الى ما تقدم من الاشكال في الوجود الرابط وبطلان دليله.

وقد يضاف الى ذلك ــ كما في بعض التقريرات ــ ان كل ممكن زوج تركيبي من الوجود والماهية فان كان للوجود الرابط ماهية ووجود كان شيئا مستقلا كالوجود المحمولي وهو ما تنكرونه. واليه ذهب المحقق اللاهيجي ايضا.

القول الثالث: ان الوجود الرابط ليس الا امراً اختراعياً ذهنياً في روابط المفاهيم المستعملة في القضايا علی اساس الانطباع في بعض الحضارات البشرية.

توضيح ذلك: ان بعض انحاء التفکر البشري يلاحظ القضايا الهليّة المرکبة الايجابية علی اساس ثبوت شيء لشيء ويعبرون عنه بالوجود الرابط الا انه اختراع ذهني وخاص ببعض انحاء الفکر البشري کالفکر اليوناني والفارسي حيث تحتوي الجملة الايجابية المرکبة عندهم علی کلمة (است) و(استين) بينما لا تحتوي الجملة العربية علی ذلك.

والفرق هو أن الانطباع العربي يعتمد علی تحقق الهوهوية بين الموضوع والمحمول بمعنی ان زيد وقائم مثلاً موجودان بوجود واحد في الخارج او ان القائم موجود بوجود زيد ومن هنا نشأت استعارة کلمة هو عند الترجمة العربية للفلسفة للتعبير عن است واستين. والفرق ليس في إطار الاستعارة بل الفرق في الاتجاه الفکري والانطباع عن الواقع الخارجي فان اللغة مرآة لتفکير المجتمع. اذن فالوجود الرابط لا واقع له في کيفية التفکير العربي اصلاً.

ولابد من تقييم الاقوال الثلاثة:

اما القول الثالث فالا لتزام به مشکل والظاهر عدم الاختلاف في اصل الانطباع الذهني عن واقع القضية الخارجية وأنّ کلمة (است) في الفارسية تحکي عما تحکي عنه الهيئة في اللغة العربية وهو نفس الهوهوية بين الموضوع والمحمول باحد الوجهين وانما الفرق في کيفية التعبير.

وقد يقترب التعبيران کما في القضايا المأولة نحو (زيد علی السطح) حيث ان التقدير هو تعلق الجار والمجرور بکلمة (کائن) وهو يفيد نفس المعنی الذي تفيده كلمة (است) في الفارسية.

واما القول الثاني فلابد فيه من ملاحظة ان وجود العرض هل يغني عن افتراض وجود الرابط کما هو الاساس في هذا القول ام لا؟

من الواضح انه لا يغني عن ذلك اذ الوجود الرابط يتحقق فيما ليس المحمول من الاعراض کقولك (الله العالم) و(اجتماع النقيضين مغاير لاجتماع الضدين).

هذا مضافاً الی ان المحمول قد يکون قائماً بالموضوع قيام صدور لا حلول کقولك (زيد ضارب) ولا يتصور هنا وجود العرض للجوهر مع ان الوجود الرابط لابد منه لارتباط المحمول بالموضوع.

والحاصل ان ارتباط العرض بالجوهر لا يغني عن ارتباط المحمول بالموضوع وهذا واضح.

اضف الی ذلك ان الوجود الرابط من شؤون الموضوع دون المحمول وقيام العرض بالجوهر من شؤون العرض الذي هو المحمول حسب الفرض.

ومن هنا ذکر السبزواري في حاشية المنظومة([10]) في بيان ان المعقول الثاني باصطلاح الحکيم قد يکون اتصافه في الخارج وعروضه في الذهن ان الوجود المحمولي للصفة وان کان في الذهن الا ان المصحح للحمل هو ان الوجود الرابط للصفة في الخارج وهذا لا يکون الا مع تقوم الوجود الرابط بالموضوع اذ المفروض ان الصفة بوجودها المحمولي لا وجود لها في الخارج.

واما القول الاول فاساسه ان الوجود الرابط في قبال الوجود المحمولي بقسميه النفسي والرابطي. وهذا هو المشهور بين الفلاسفة الا ان الکلام في تفصيل هذا الاجمال وبيان حقيقة هذه المقابلة وهنا احتمالان:

الاحتمال الاول: ان الوجود الرابط له وجود واقعي ولکنه لا في نفسه بل بتبع وجود الموضوع بعکس ما استلزمه کلام المحقق النائيني من جعله من شؤون المحمول حيث اعتبره مرتبطاً بالاعراض. وهذا الاحتمال هو المستفاد من کلام السبزواري في بعض حواشيه على شرح منظومته في الفلسفة.

الاحتمال الثاني: ان لا تکون له واقعية وراء الادراك النفسي فهو امر إبداعي نفسي وحقيقته هو الحکم بوقوع النسبة الايجابية في القضايا المرکبة التامة وهذا ما يمثله کلمة (است) في الترکيب الفارسي للجملة في قبال کلمة (هست) المعبّرة عن الوجود المحمولي. ولکن اللغة العربية تعبّر عنهما بکلمة واحدة وهي (کان) الا انها تعتبر في الاولی ناقصة وفي الثانية تامة. وهذا هو الموافق للتحقيق.

 ولعل هذا هو المقصود مما ورد في الاسفار من ان الوجود الرابط لا يشترك مع الوجود المحمولي الا في اللفظ. وذلك لاشتراکهما في التعبير العربي بالکون.

وفي کلتا اللغتين قد يلاحظ الوجود الرابط في إطار المعنی الاسمي وقد يلاحظ في إطار المعنى الحرفي فالاول في الفارسية يعبر عنه بـ (است) وفي العربية بـ (کان) موجوداً او مقدراً نحو زيد علی السطح. والثاني يعبر عنه في الفارسية بوضع فتحة او کسرة في آخر الخبر حسب اللهجة العامية وفي العربية بهيئة المبتدأ والخبر ونحوها کزيد قائم.

وتحصل من مجموع ما ذکرنا ان غرض المحقق الاصفهاني ليس الا تشبيه المعنی الحرفي بالوجود الرابط من ناحية عدم کونه وجوداً في نفسه وليس مراده ان الوجود الرابط هو المعنی الحرفي.

ونظيره تشبيه المعنی الحرفي في بعض کلماته ــ کما في الاصول علی النهج الحديث ــ بوجود الممکنات بالنسبة الی الله تعالی کما ان الفلاسفة قد يشبهون الممکنات او الوجود الرابط بالمعنی الحرفي وقد مرت الاشارة الى عبارة السبزواري المشتملة علی ذلك.

ولنعد الی واقع المسلك الثالث وهو ان الحروف موضوعة للنسب. ولابد من توضيح اجمالي للنسبة. وهي ايضاً امر إبداعي نفسي. والنسب الناقصة علی قسمين:

القسم الاول: النسب التحليلية وهي التي يحصل عليها الذهن بتجزئة مفهوم واحد. کتحليل الانسان الی حيوان وناطق بتجزئته الی ما به الاشتراك وما به الامتياز بالنسبة الی سائر الحيوانات. والنسبة الحاصلة من هذا التحليل تطلق عليها النسبة التحليلية وحيث ان الکلمة من الجوامد فليس في مرحلة الدال تعدد اصلاً وانما التعدد في المدلول وهو تعدد تحليلي کما ذکرنا.

وقد تحصل النسبة التحليلية مع التعدد في الدال کما في المشتقات فان کلمة ضارب وان کانت تحکي عن مفهوم واحد الا انه عند التحليل يحتوي علی نسبة الضرب الی من صدر منه. واللفظ هنا قابل للتحليل ايضاً فالمادة تحکي عن اصل الضرب والهيئة عن النسبة المذکورة.

القسم الثاني: النسب الا بداعية وهي التي يحصل عليها الذهن من الترکيب بين مفهومين کما اذا کان موضوع حکمه مرکباً من امرين ولم يکن هناك عنوان بسيط يحکي عن هذا المرکب ولا يمکن الترکيب من دون إبداع النسبة الرابطة بين المفهومين. وسيأتي ان شاء الله ان التقييد ثبوتاً مقوم للترکيب الذهني بايجاد النسبة الابداعية بين مفهومين.

والحروف تبرز هذه النسب الابداعية بمعنی ان المنتسبين لکل منهما وجود مستقل الا ان الذهن يبدع بينهما نسبة ارتباطية ناقصة للتحديد والتضييق والذي يمثل هذه النسبة الابداعية في اللفظ هو الحرف.

وهذه النسب قد تتکثر بالتکثر الادراکي فقولك زيد في الدار يمکن التعبير عنه بجملة (هيئة الظرفية والمظروفية متحققة بين زيد والدار) او بجملة (زيد داخل الدار) فکل من هذه التعابير يحکي عن واقعية واحدة الا انها لم تنعکس في الذهن بنحو واحد فاختلاف التعبير هنا يحکي عن اختلاف الانطباع الذهني.

ولذلك يلاحظ ان النسبة الابداعية الظرفية ملحوظة في التعبير الاول بنحو النسبة المتقومة بزيد والدار وهي ملحوظة في التعبيرين الآخرين في اطار اسمي فللنفس ان تلاحظ النسبة الابداعية الواحدة بشتى انحاء اللحاظ.

وقد تکون نسبة تحليلية قابلة لان تلحظ في اطار النسبة الابداعية مثلاً جملة (الدار مقتل زيد) فالمقتل هنا له نسبة تحليلية وهو المکان الذي قتل فيه زيد. فلو عبرنا عن هذه النسبة بقولنا (قتل زيد واقع في الدار) افاد نفس المعنی الا ان النسبة التحليلية اختفت وتمثلت بصورة نسبة ابداعية ظرفية بين قتل زيد والدار.

ومن هنا تبين ان الوجود الذهني للنسبة الابداعية ليس الا وجوداً بتبع وجود المنتسبين حيث انه ليس الا من مبدعات الذهن. واما وجودها الخارجي فهو مورد السؤال انه وجود بالتبع ام بالعرض؟

والمراد بالاول ان يکون الوجود متحققاً في الواقع الا انه بتبع وجود المنتسبين والمراد بالثاني ان يکون الموجود في الواقع هو نفس المنتسبين واسناده الی النسبة انما هو بالعرض والمجاز.

الشواهد تدل علی ان وجودها بالعرض والمجاز ولذلك تتحقق النسبة بين امرين احدهما في الخارج والآخر في الذهن کالامور الاعتبارية التي تحمل علی ما في الخارج فتقول هذا ملك زيد فاعتبار الملکية ليس الا في الذهن وزيد في الخارج ولا يمکن حنيئذ ان تکون النسبة امراً حقيقياً في الخارج. وهکذا الکلام في المعقولات الثانية باصطلاح الحکيم نحو زيد أب. کما ان هناك بعض النسب لا يحتمل فيها التکثر ولو بالتبع کقولك (الله عالم) فالنسبة ليس الا امرا ذهنياً لا واقعية لها الا بالعرض والمجاز اذ لا يمکن تحقق النسبة واقعاً بين الله وصفة العلم.

ولنعد الی صلب الموضوع وهو ان الحروف موضوعة للنسب فنقول:

ان الالتزام بذلك في بعض الحروف بعيد جداً وذلك في مثل حروف التمني والترجي والردع والتحضيص والاستفهام والتأکيد والتفسير ونحوها اذ غاية ما يمکن ان يقال انها موضوعة لمعان ذوات نسبة ولا يمکن دعوی وضعها لنفس النسب اذ لا نجد في انفسنا فرقاً من حيث المعنی بين هذه الحروف وما يعادلها من الاسماء فلا فرق بين ان تقول ليت الشباب يعود يوما او تقول اتمنی ان يعود الشباب يوماً. وهکذا بين (لعل) و(ارجو)، و(اي) و(اعني) ونحو ذلك.

اذن فلا تحکي هذه الحروف عن نفس النسب بل تحکي عن نفس ما تحکي عنه الاسماء المعادلة لها.  

وقد حکي عن الفراء انه قد اجاز ان يقع ليت موضع تمنيت وبهذا علل کون ليت اقوی ادوات النصب واستشهد بموارد نصب اسمه وخبره وکذلك في إنّ.

وبذلک ظهر ضعف ما نسب الی المحقق العراقي من أن (ليت) وضع للنسبة بين المتمني والمتمنی و(لعل) للنسبة بين المترجي والمترجی، وهکذا. اذ مجرد امکان التعبير عن امر فرضي وتقديره موضوعاً له اللفظ لا يصحح الدعوی والا لأمکن ان يدعی ايضاً ان (ضرب) مثلاً موضوعة للنسبة الضربية بين الضارب والمضروب. فهل يصح بذلك ان يقال انه من الحروف ايضاً؟!

واما في باقي الحروف اي الحروف الاخطارية کالحروف الجارة فيمکن ان يقال انها موضوعة للنسب بالوانها المختلفة من الابتداء والانتهاء والظرفية والاستعلاء ونحو ذلك الا انه يبقی مجال للسؤال عن الفرق بين هذه الحروف والاسماء التي تحکي عن ألوان هذه النسب؟

ما الفرق بين (علی) والاستعلاء، و(من) والابتداء وهکذا؟ وبتعبير آخر ما هو الفرق بين جملة (سرت من البصرة) وجملة (إبتداء مسيري البصرة)؟

وهنا تتبين الفجوة في هذه النظرية حيث انها لاحظت نفس النسب الابداعية ولم تلاحظ الوانها المختلفة وما يحکي عنها.

فلو عکسنا النظرية وقلنا ان الحروف موضوعة لنفس ألوان النسبة فكلمة (من) للابتداء الذي له نسبة لا للنسبة الابتدائية وهکذا غيرها بقي السؤال ايضاً عن الفرق بين الابتداء المعبر عنه بالاسم والابتداء المعبر عنه بالحرف.

فان قلت: الفرق ان مدلول الحرف هو الابتداء ذوالنسبة وليس الاسم کذلك.

قلنا: ان للاسم ايضاً مدلولا ذا نسبة ولو تحليلية فقولنا ضرب مثلاً يحکي عن عدة نسب حيث انه يحتوي علی نسبة الضرب الی فاعل مذکر والی زمان ماض غاية الامر أن يقال ان مدلول الحرف نسبة ذات لون ومدلول الاسم لون ذو نسبة. ولکن مجرد ذلك لا يکفي في اختلاف المعنی اذ المفروض ان النسبة کيفما کانت مندكّة وموجودة بالعرض سواء افيدت بحرف او بهيئة في إسم. واما نفس الالوان فلا تختلف في الموردين.

وعليه فلابد من البحث عن الفرق في کيفية لحاظ المعنی واللون وهذا هو مسلك المحقق الخراساني فالحق ان الاختلاف بين الاسماء والحروف ليس في واقع المعنی بل في مجرد اللحاظ.

فالمسلك الثالث بجميع توضيحاته لا يعتمد علی اساس علمي صحيح فانه قاصر اولاً عن الشمول لقسم کبير من الحروف وهي الحروف الانشائية کالتمني واخواته وقاصر ثانياً عن بيان فرق واضح بين مفاد الاسماء والحروف في القسم الآخر وذلك لإهماله ملاحظة الجانب الاسمي من معاني الحروف حيث لوحظ فيه حکاية الحرف عن النسبة ولم يلاحظ فيه لون النسبة الذي هو الجانب الاسمي.

وهذا الاهمال ملحوظ في بعض النظريات الحديثة حول هذا الموضوع ايضاً فقد ورد في کتاب (فقه اللغة وخصائص العربية) کلام تحت عنوان (الفاظ المعاني، الفاظ الارتباط) ننقل شطراً منه:

قال: (انها في الاصل ألفاظ معان جردت من معانيها وفرغت من محتواها ونقلت من الفاظ معان الی ادوات وقد يکون هذا الانتقال واضحاً والصلة بين الاداة واصلها واضحة لقرب العهد بهذا الانتقال او لبقاء المادة الاصلية ووضوح الصلة في المعنی. وقد يکون الصلة بالاصل غامضة لبعد العهد او طروّ تبدل کبير في لفظ احدهما...).

ثم مثّل للقسم الاول ب كلمة (علی) من جهة بقاء مادة العلوّ فيها بصورتها الاصليه وللقسم الثاني بكلمة (ليت) و(ليس) ونحوهما.

ثم قال في ضمن کلامه: (ووصف علماء اللغة في هذا العصر ألفاظ المعاني بانها ملئ والفاظ الارتباط بانّها فارغة وذلک انها فرغت عن محتواها الاصلي الذي هو معناها الاصلي وبذلك اصبحت تدل علی وقوع ربط بين لفظين اي بين معنييها کالنفي في قولنا ليس الرجل حاضراً او العلو في المفتاح علی الارض).

ويتبين من هذا الکلام ان علماء اللغة في هذا العصر قد لاحظوا  ايضاً دلالة الحروف علی نفس النسب المعبر عنها في کلامهم بالارتباط وزعموا فراغها عن محتواها الاصلي وهو المعاني الاسمية (ماوراء النسب).

ووقع عکس ذلك في بعض النظريات قال في كتاب (اسرار اللغة) بعد ذکر مناقشات علی النحاة في ذکر معاني الحروف:

(ولست ادري بل لعلّي ادري: لِمَ فرّق النحاة بين (علی) وکلمة (فوق) وبين (في) وکلمة (داخل) وبين (الی) وکلمة (نحو) فجعلوا الحروف اسماءاً وعلی أيّ أساس هذه التفرقة؟!).

المسلک الرابع: ويعتمد علی اهم اسس المسلك الثاني اي نظرية المحقق الخراساني في اعتبارها الفرق – باللحاظ الا ان اللحاظ في المعنی الحرفي في تلك النظرية هو اللحاظ التبعي وفي المعنی الاسمي هو اللحاظ الاستقلالي والذي نريد ابداءه في هذه النظرية هو ان اللحاظ في المعنی الحرفي اجمالي وفي المعنی الاسمي تفصيلي بمعنی ان المعنی قد يکون ملحوظاً بنحو الاندماج واللف وينظر اليه نظرة خفية لا تبرز معالمه من اللفظ وهو المعنی الحرفي وقد يکون ملحوظاً بنحو التفصيل والوضوح وهو المعنی الاسمي ومع ذلك فالمعنی واحد في الموردين.

فکلمة ضرب ــ مثلاً ــ تدل علی وقوع الضرب، وصدوره عن فاعل مفرد، مذکر، في الزمان الماضي. والمعنی الاول يستفاد من الکلمة بوضوح ومعالمه بارزة ولذلك تعد الکلمة ذات معنی اسمي واما سائر المعاني فلا تستفاد الا بنحو اللف والخفاء ولذلك تعد هذه المعاني مداليل للهيئة التي هي من قبيل الحروف بحسب المعنى. ولو صرح بهذه المعاني في اطار الاسماء اصبحت معاني اسمية. اذن فالفرق بين کونها حرفية واسمية هو کونها ملحوظة بالاجمال او التفصيل.

وهذا اللف قد يحصل من جهة ادغام المعنی الاسمي في النسبة کما في الحروف الجارة فلا يتجلی في الذهن منها الا نفس النسبة ويعد المعنی الاسمي لوناً لها فيقال نسبة ظرفية او ابتدائية وهکذا. وقد يحصل من جهة ادغام کل من النسبة والمعنی الاسمي في الآخر کما في حروف التمني والترجي.

ولعل هذا هو السبب في تعبير النحاة عن القسم الاول بالنسبة الظرفية او الابتدائية ونحو ذلك وعن الثاني بقولهم ليت للتمني ولعل للترجي من دون لحاظ انطواء النسبة فيها.

وسيأتي نظير ذلك في مبحث اسماء الاشارة.

وما مرّ من بعض الکتّاب المعاصرين من أنّ الحروف لها اصول اسمية قد افتقدتها بمرور الزمان وتطوّر التلفظ ليس ببعيد وربما يؤيد هذه النظرية وان لم تکن متوقفة عليه اذ لسنا بصدد البحث عن تکوّن الفاظ الحروف الا انه لا مانع من الالتزام به ولو اجمالاً.

ومثل ذلك ما نشاهده من تطور الالفاظ في اللغات الدارجة حيث تفقد بعض الکلمات صورتها الاصلية وينحت منها حتی لا يبقی منها سوی حرف واحد. وقد وقع بعض هذه التطورات في عهود قديمة کما نجد في بعض الروايات التعبير عن مرکب (اي شيء) بـ (أيش) وقد تطور ذلك حتی صارت في بعض اللهجات في عصرنا الی حرف الشين المکسورة فقط. ونظير ذلك کثير.

وذکر جرجي زيدان في (فلسفة اللغة) ان الحروف منحوتة عن اصول اسمية الا ان اصول بعضها موجودة في اللغة العربية وبعضها موجودة في اللغات المقاربة او المشارکة مع العربية في اصل قديم کالعبرية والسريانية.

وهذا وان لا نلتزم به في جميع الموارد الا انه لا مانع منه في نفسه ولا مانع من الالتزام به علی سبيل الاجمال.

بقي شيء وهو ان المحقق صاحب الحاشية (هداية المسترشدين) قسّم الحروف الی قسمين انشائية واخطارية. وقد وقع ذلك مورداً للمناقشات بين القوم فذهب بعضهم الی ان الحروف باجمعها ايجادية ومنهم المحقق النائيني وذهب بعض آخر کالمحقق العراقي الی انها باجمعها اخطارية ولکن بعضاً آخر تلقوا هذا التقسيم بالقبول.

ولسنا الآن بصدد استعراض هذه الاقوال ودراستها الا اننا نتعرض اجمالاً لاحد التفاصيل المعروضة فعلاً علی ضوء هذا التقسيم.

ومجمل القول في عرض هذا التفصيل ان الحروف علی قسمين:

القسم الاول: ما يفيد مع مدخوله مفاد الجملة الانشائية وضابط هذا القسم انها مع مدخولها تشکل ترکيباً يصح السکوت عليه. ومفاد الجملة الانشائية هو إبراز قصد نفسي غير قصد الحکاية عن واقع خارجي ولهذا الاجمال تفصيل في محله. ومن هذا القسم حروف التمني والترجي والنداء وان کانت داخلة علی کلمة واحدة بالطبع ومنه ايضاً حروف التحضيض والردع ونحو ذلك فيصح السکوت على جملة (ليت زيداً قائم) مثلاً.

القسم الثاني: ما يفيد مع مدخوله مفاد الترکيب الناقص وضابطه انه لا يصح السکوت عليه. وذلك مثل الحروف الجارة فلا يصح السکوت علی قولك (من البصرة) او (الی الکوفة) ونحو ذلك. وهذا القسم موضوع لتضييق المفاهيم الاسمية.

توضيح ذلك: ان الاسماء موضوعة لنفس الماهيات بمفهومها الواسع وکثيراً مّا يحتاج الانسان في مرحلة التفهيم الی بيان حصّة خاصة من الماهية وهذا لا يتحقق الا بتضييق المفهوم الاسمي. والاداة التي تحقق ذلك هي الحرف.

فاذا اراد بيان ان الصلاة في المسجد مستحبة فکلمة الصلاة بنفسها تدل علی مفهوم واسع من حيث المکان والزمان ونحو ذلك وبيان الحصة الخاصة من حيث المکان الخاص يتوقف علی استخدام کلمة (في) کما ان جملة زيد في الدار ايضاً کذلك حيث ان متعلق في هو الثبوت فالخبر في الواقع (ثابت) وهو ذو مفهوم واسع فنضيقه باستخدام کلمة (في).

اما القسم الاول ففي بيانه نقطة ابهام وهي انه لم يتضح من هذه النظرية الفرق بين هذه الحروف والاسماء المعادلة لها التي تعطي نفس المعنی. فما هو الفرق – مثلاً – بين (ليت) واتمنی او (لعل) واترجی. وهکذا؟ وما هو السبب في اعتبار قسم منها حرفاً وقسم منها اسماً؟

اضف الی ذلك ان هناك حروفاً تشکل مع مدخولها ترکيباً يصح السکوت عليه ومع ذلك فهي لا تحتوي علی مضمون انشائي نحو (قد) و(إنّ) و(ما) ونحوها. فمن الواضح ان قولنا (قد جاء زيد) او (إنّ زيدا قائم) او (ما زيد بقائم) جمل تامة مع انها إخبارية لا تبرز مضموناً نفسياً غير الحکاية عن الواقع خصوصاً في ادوات النفي.

وربما يفرق بين (ليت) و(اتمنى) و(لعل) و(اترجى) ونحوها بان الموضوع له في ليت ولعل خاص والوضع عام فهذه الحروف مفهمة لنفس الواقع الموجود فعلاً والذي نبرزه بهذه الالفاظ. والموضوع له في الافعال نحو اتمنى وارجو عام کالوضع. وهذا يکشف عن جهة تغاير مفهومي بينهما.

وهذا غير صحيح اولاً لما سيجيء من المناقشة في تحقق هذا القسم من الوضع بان يکون الموضوع له خاصاً والوضع عامّا وأنه لا يمکن تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ وکل فرد خاص من افراد المعنی.

وثانياً لانّا لا نجد فرقاً بين التعبيرين ولا دليل علی وجود هذا الفرق بينهما. ولعل منشأ توهم هذا الفرق ان هذه الحروف مختصة بالانشاء وهذه الافعال مشترکة بينه وبين الاخبار وحيث ان الانشاء ايجاد کما سيأتي بيانه فهو مساوق للتشخص في مرحلة الاستعمال. وهذا اظهر في الادوات من غيرها لما اشرنا اليه.

واما القسم الثاني فالبيان المذکور فيه مثار لسؤالين:

السؤال الاول: ان التضييق المذکور مما لا ينکر بالنسبة الی بعض الحروف الا ان الکلام في السرّ الذي يستوجب هذا التضييق. فالواقع ان هذا التضييق ليس من قبيل المفاهيم التي يدّعی وضع الحروف لها وانما هو من اغراض الاستعمال. ولا شك في ان التضييق نتيجة حاصلة من استعمال الحرف الا انه لم يظهر من هذه النظرية بيان المعنی الذي يعنيه الحرف.

فالتضييق انما يحصل نتيجة الربط الذي يفيده الحرف بين المفهومين ولکنه لا يقع تفسيراً للحرف وليس مورد البحث ما يحصل بالحرف بل ما هو معنی الحرف.

والظاهر ان القائل قد اختار المسلك الثالث في الواقع وعلی هذا الاساس ذهب الی التفصيل المذکور الا انه لم يقتنع بمضمونه المذکور من جهة اشتماله علی تفسير الحرف – حسب معتقد هذا القائل – بالوجود الرابط مع اعتقاده ان الوجود الرابط مختص بالاعراض. والحروف تستعمل في غير موارد الاعراض والجواهر کما مر تفصيله ومناقشته. ولذلك عدل عن ذلك التقريب.

وعليه فما ذکره من ان الحروف وضعت للتضييق يراد به انها تحکي عن العمل النفسي وليس لها مطابق في  الخارج وهذا بعينه ما قيل في ذلك المسلك من انها تحکي عن النسب الخاصة.

السؤال الثاني: ان الحروف التي لا تفيد مع مدخولها جملة تامة هل کلها تستعمل في مورد التضييق کما هو المدّعی ام لا؟

الذي يتبين بملاحظة کتب النحو والاستعمالات ان هناك من الحروف ما لا يمکن فيه هذه الدعوی واليك نموذجاً منها:

1 - حروف التفسير نحو (اي) في جملة (جاءني زيد اي ابو عبد الله) فکلمة اي هنا لا تفيد مع مدخولها جملة تامة ومع ذلك فلا تفيد تضييق معنی زيد اذ هو علم شخص لا اسم لماهية ذات مفهوم واسع. وکذلك في تفسير الجمل کجملة (انقطع رزقه اي مات).

2 - بعض الحروف العاطفة کما في جملة (جاء زيد او عمرو) او (اکرم زيداً او عمراً) فان کلمة (او) هنا لو لم نقل بانها تفيد التوسعة فلا وجه لدعوی افادتها التضييق. وصاحب النظرية يعترف في مبحث الواجب التخييري أنّ الجامع الانتزاعي هو متعلق الوجوب فکلمة (او) في جملة (اکرم زيداً او عمراً) يفيد تحويل وجوب الاکرام عن تعلقه بشخص زيد الی تعلقه بالجامع الانتزاعي فهي اذن تفيد التوسعة. وهکذا الکلام في جملة (جاء زيد او عمرو) فانه يفيد الترديد لا التضييق.

3 - حروف الاضراب بانواع استعمالاتها فمنها ما هو لابطال المضرب عنه کقوله تعالی (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ)[11] ومنها العاطفة كما في جملة (قام زيد بل عمرو) او (ما قام زيد بل عمرو).

4 - حروف الجواب نحو بلى ونعم. فمن الواضح انها لا تفيد تضييقا.

الی غير ذلك من الموارد الکثيرة التي تظهر بمراجعة کتب النحو.

 

 

 

 

 

المبحث الثالث

 

في مفاد الجمل الخبرية والموضوع له فيها

 

المشهور بين متاخري المنطقيين ان مدلول الهيئة في الجمل الخبرية هو وقوع النسبة اولا وقوعها فهو اذن امر موضوعي وليس نفسيا. وفي قبال ذلك مذهب جماعة من القدماء وهو ان المدلول امر نفسي وهو الحکم بوقوع النسبة اولا وقوعها. وذهب بعض المتأخرين الی ان المدلول امر نفسي الا انه قصد الحکاية. ولابد من البحث والتمحيص لتعيين ما هو الحق.

الذي يظهر في بادي الامر أنّ مدلول الجملة هو محکيّها وهو نفس وقوع النسبة او لاوقوعها. الا أن هناك مناقشات حول هذا القول هي السبب في اختيار بعض الاصوليين ان المدلول هو قصد الحکاية.

المناقشة الاولی: ان البحث حيث کان عن مدلول الجملة فلابد اولاً من تحقيق معنی الدلالة. وهي عبارة عن کون الشيئ بحيث يحصل من العلم به العلم بشيء آخر. فيطلق علی الاول الدال وعلی الثاني المدلول. وعليه فلابد من تشخيص المدلول في الجملة الخبرية علی ضوء هذا التعريف.

والعلم المأخوذ في التعريف اما تصور واما تصديق. فاذا قيل: زيد قائم فالعلم الحاصل اما علم تصوري واما علم تصديقي. ولا يمکن الالتزام بالاول لان المفيد للعلم التصوري هو خصوص الجمل التي تستعمل في تعريف الاشياء وهذه الجملة ليست کذلك فلا تفيد تصوراً غير حاصل. فلابد من ان يکون العلم الحاصل هنا علماً تصديقياً وهو عبارة عن الاذعان بنسبة ما.

وتلك النسبة التي يحصل العلم بها من العلم بجملة (زيد قائم) لا يمکن ان تکون هي النسبة الواقعية بين زيد وقائم اذ لا يکفي مجرد سماع هذه الجملة في إفادة العلم بتحقق النسبة خارجاً بل کثيراً ما لا يوجب الظن به بل قد يکون حين سماع الجملة قاطعاً بالخلاف. اذن فلا يمکن ان يکون مدلول الجملة هو وقوع النسبة اولا وقوعها. فلابد من ان يکون المدلول امراً نفسياً وهو عبارة عن قصد الحکاية.

نعم يبقی في المقام ان للجملة محکياً وهو عبارة عن نفس الواقع وليس امراً نفسياً ولکنه خارج عن حدود مدلول اللفظ بل هو ما يقصد حکايته. وقصد الحکاية هو المدلول. وما اشتهر من ان الجملة الخبرية تحتمل الصدق والکذب انما هو بلحاظ المحکي. واما بلحاظ المدلول فلا تحتملهما لما ذکرناه من انه عبارة عن قصد الحکاية.

فتحصل ان القول بان المدلول للجملة الخبرية هو وقوع النسبة اولا وقوعها ناش من الخلط بين مدلول القضية ومحکيها.

والجواب عن هذه المناقشة ان الدلالة لها معنيان:

المعنی الاول: ما ذکر من انها عبارة عن کون الشيء بحيث يحصل من العلم به العلم بشيئ آخر.

المعنی الثاني: کون الشيء بحيث يکون إخطاره مستلزماً لاخطار امر آخر أو يکون بنفسه إخطاراً لامر آخر بوجه، علی الاختلاف السابق في حقيقة العلقة الوضعية.

وهذا المعنی کما يتحقق في المفردات يتحقق في الجمل ايضاً. فکما ان اخطار کلمة (زيد) مستلزم لاخطار معناه او هو اخطار له بوجه کذلك اخطار جملة (زيد قائم) مستلزم لاخطار معناها وهو وقوع هذه النسبة او هو اخطاره بوجه. وهذه الدلالة يعبر عنها بالدلالة الانسية. وليست من باب حصول العلم بشيء بسبب العلم بآخر حتى يناقش فيه بما مر وليس هنا تصديق بالنسبة بل إن مجرد اخطار الجملة في الذهن يستوجب مجرد اخطار وقوع النسبة او هو هو بوجه فلا اشکال في تحقق هذا الاخطار باخطار الجملة ولا اشکال ايضاً في انه مدلول الجملة الا ان الکلام في ان المدلول بالدلالة الوضعية هل هو هذا المدلول او هو عبارة عن قصد الحکاية اي الامر النفسي؟

لا ريب في ان هذا المدلول لا يتوقف علی قصد الحکاية بل هو يحصل حتی من السماع عن غير ذي شعور ولکنه قد يصاحب قصد الحکاية کما يصاحب اموراً نفسية اخری کالحکم بوقوع النسبة اولا وقوعها.

وهنا لابد ان نتذکر ان الوضع کما ذکرناه عبارة عن العمل التمهيدي الذي يصدر من الواضع لايجاد العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنی وذلك بعد مرورهما بمرحلتي التلازم او الهوهوية. ولا تختلف في ذلك الالفاظ المفردة والمرکبة کالجمل فهيئة الجملة ايضاً کالمفرد لابد من مرورها بالمرحلتين حتی تتحقق العلقة الوضعية بينها وبين المعنی.

هذا بالنسبة الی المدلول الذي ذکرناه واما بالنسبة الی قصد الحکاية فيتوقف حصول الدلالة علی امور اخر من احراز عدم کون المتکلم خاطئاً او ساهياً او هازلاً او غافلاً واحراز کونه في مقام التفهيم ونحو ذلك من المقدمات التي لابد من احرازها اما بالوجدان او باصل عقلائي حتی يحکم بانه قصد الحکاية.

فهذا الاستکشاف يتم عقلاً بمعونة المقدمات المذکورة وتبعاً للوضع المتحقق ابتداءاً بين اللفظ والمعنی وذلك باعتبار ان التلفظ کسائر ما يصدر من الفاعل المختار لابد له من علة غائية ودافع نفسي وحيث ان جميع الدوافع المحتملة قد انتفت بالوجدان او بالاصل بقي منحصراً في قصد الحکاية عن الواقع.

فتبين ان الوضع ليس علة تامة للدلالة الانسية ولا لقصد الحکاية اذ تتوقف الدلالة الانسية علی المرور بالمرحلتين المذکورتين ويتوقف احراز قصد الحکاية علی المقدمات المذکورة مضافاً الی المرحلتين السابقتين. الا ان النسبة الی الشيء تکفي فيها ادنی ملابسة وارتباط ولا شك في ان الامرين يرتبطان بالوضع کما ذکرنا ولکن اقربية الدلالة الانسية هي التي استوجبت لدی الباحثين ان يسمونها الدلالة الوضعية بل قد تبين مما ذکرناه سابقاً ان العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنی تتمثل في هذه الدلالة.

واما الدلالة علی قصد الحکاية فمن الاجدر بها ان تسمی دلالة عقلية لاستکشافها عن طريق العقل. والوضع وان کان دخيلاً فيها الا انه من المقدمات البعيدة. وانما تتحقق هذه الدلالة بملاحظة کون التكلم بما انه فعل من الافعال الارادية يتوقف علی تصور الشيئ والتصديق بفائدته والعزم اليه الی غير ذلك مما يتوقف عليه العمل الارادي ومنها الغاية. والجدير بالذکران الغاية لا تنحصر في قصد الحکاية فقد يستکشف بملاحظة المناسبات والقرائن ان قصد المتکلم هو تشويق المخاطب وترغيبه او انذاره وتخويفه او اغراؤه او تسليته او نحو ذلك من الدوافع للکلام.

وان ابيت الا عن تسمية قصد الحکاية بخصوصه مدلولاً وضعياً للالفاظ من بين الغايات المحتملة فهو مجرد اصطلاح لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يؤثر في الدراسات العلمية.

المناقشة الثانية: انه قد ثبت ان حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام. ومن الواضح ان الالتزام لا يمکن ان يتعلق بامر غير اختياري. ووقوع النسبة اولا وقوعها في الخارج خارج عن اختيار المتکلم فلا يمکن ان يکون مضمون التعهد: (التزم بالتلفظ بکذا ان وقعت النسبة مثلاً).

والجواب عنها اولاً: ان حقيقة الوضع کما تمخضت عنه المباحث السابقة ليست هي التعهد والالتزام.

وثانياً: ان متعلق الالتزام فيما نحن فيه – علی تسليم کون الوضع هو التعهد – امر اختياري وهو التلفظ والامر غير الاختياري في مضمون التعهد المذکور هو ما علق عليه الالتزام ولا مانع من کونه امراً غير اختياري کما اذا نذر احد اوتعهد او حلف ان يفعل کذا اذا امطرت السماء مثلاً ونظير ذلك کثير في العهود والنذور وما شابهها.

وثالثاً: ان هذا الدليل لا يعيّن کون المدلول قصد الحکاية بل يمکن ان يعدّ مدلول الجملة الخبرية الحکم بالوقوع واللاوقوع فهو ايضاً امر اختياري فيکون مضمون التعهد (اتلفظ بهذا اللفظ اذا اردت الحکم بالوقوع او اللاوقوع).

المناقشة الثالثة : ان هناك کثيراً من الجمل الخبرية الاسمية فاقدة للنسبة اساساً فلا معنی حينئذ لدعوی کون مدلولها وقوع النسبة اولا وقوعها. فما اشتهر من ان القضية تحتوي علی موضوع ومحمول ونسبة وقوعاً اولا وقوعاً او حکماً باحدهما من الاخطاء المشهورة. ومن هنا يتبين الخطأ فی ما اشتهر ايضاً من ان العلم ان کان اذعاناً للنسبة فتصديق والا فتصور. وما اشتهر ايضاً من تثليث القضايا الحملية وترکبها من موضوع ومحمول ونسبة ولننقل نص العبارة:

قال السيد الخوئي ايده الله في هامش اجود التقريرات (واما هيئة الجملة الاسمية فهي غير موضوعة للنسبة الخارجية کما هو المعروف لعدم وجود النسبة في کثير من الجمل الاسمية کما في قولنا (الانسان ممکن) او (موجود) و(شريک الباري ممتنع) ونحو ذلك. ودعوی اعمال العناية في جميع ذلك خلاف الوجدان (الی ان قال) فالصحيح ان مدلول الهيئة في الجمل الاسمية انما هو ابراز قصد الحکاية عن ثبوت المحمول للموضوع او نفيه عنه فهو مصداق للمبرز خارجاً بالجعل والمواضعة ...)([12]).

واساس انکار النسبة في الامثلة المتقدمة علی ضوء ما تقدم منه في حقيقة المعنی الحرفي حيث ردّ القول بوضع الحروف للنسب مفسراً اياها بالوجود الرابط ومنکراً له هو ان النسبة والوجود الرابط تعبيران عن شيء واحد وانه مختص بربط الاعراض بالجواهر وتقوّمها بها. وعليه فلا نسبة بين الامکان والانسان اذ ليس الامکان من الاعراض بل هو من الامور الانتزاعية. قال السبزواري في منظومته (وجودها في العقل بالتعمل) والضمير في قوله (وجودها) يعود الى الامکان والوجوب والامتناع. وعليه فلا يمکن ان تقع طرفاً للنسبة. وکذلك في حمل الوجود علی زيد اذ ليس الوجود من الاعراض. وهکذا الامتناع في جملة (شريك الباري ممتنع) اذ هو من الامور الانتزاعية کما ذکرنا.

ويمکن ان يکون اساس انکار النسبة هو ان تحقق النسبة خارجاً متوقف علی وجود المنتسبين في الخارج بحيث يکون کل منهما منحازاً ومتميزاً عن الآخر فتکون النسبة وسيلة الربط بينهما. والامکان والامتناع ليستا من الامور الخارجية. والوجود وان کان امراً خارجياً الا انه غير منحاز عن الموجود. وما يقال من ان الوجود عارض المهية فهو کذلك في عالم الذهن والتصور والتحليل العقلي والافهما متحدان في الهوية وعالم الخارج.

وقد ذهب بعض آخر الی انکار النسبة ايضاً ولکن في خصوص القضايا الحملية غير المأولة اي التي لا تحتوي علی الحروف واما القضايا المأولة التي تحتوي علی الحروف فهي تتضمن النسبة باعتبار ان الحروف تحکي عن النسب الا انها ليست من الحمليات ولننقل نص العبارة.

(ان القوم قد قسموا الحملية باعتبار الاتحاد في المفهوم والماهية أو الاتحاد في الوجود فقط إلى الحمل الأولي الذاتي والشايع الصناعي وقسموا الثاني أيضا باعتبار كون الموضوع مصداقا حقيقيا لما هو المحمول نحو قولنا البياض أبيض، أو مصداقا عرضيا له كحمله على الجسم إلى الحمل الشايع بالذات والحمل الشايع بالعرض فلا بدّ لنا من النظر إلى الخارج المحكي أولا ثم إلى الهيئات التي جعلت آلة للحكاية عنه فنقول: الحق خلو صحيفة الوجود عن النسبة والربط والإضافة في جميع هذه الموارد لبداهة امتناع دعوى النسبة في محكي الأوليات والبسائط بحسب نفس الامر فان الحد عين المحدود وتفصيل نفس حقيقته فلا يمكن فرض إضافة واقعية بينهما في وعاء تقرر الماهية وكذا الحال في الهليات البسيطة فإنه لا يعقل تحقق الإضافة بين موضوعها ومحمولها والا لزم زيادة الوجود على الماهية في الخارج وغيرها من المحاذير كما أنه لا يعقل في حمل الشئ على نفسه أو حمله على مصداقه الذاتي وكذلك ما يكون كمصداقه الذاتي مثل قولنا: الوجود موجود، أو الله تعالى موجود، فتبين ان محكيات تلك القضايا الكثيرة خالية عن الإضافة والنسبة. هذا حال الخارج واما القضايا اللفظية والمعقولة فلا شك في كونها مطابقة للخارج فلا تحكي الا عما اشتملت عليه صحيفة الوجود بلا زيادة ولا نقصان لأنه لا معنى لاشتمالها على الإضافة والنسبة بلا حكاية عن الخارج ومع الحكاية عن الخارج تصير كاذبة غير مطابقة للواقع ونفس الامر.  

فتلخص من جميع ذلك أنه لا وجود للنسبة فيها لا في الخارج ولا في القضية المعقولة ولا في القضية اللفظية ولا المفهومة منها واما الشايعات من الحملية التي لا يحمل فيها المحمول على مصداقه الذاتي مثل زيد أبيض فالمختار فيها انها أيضا لا تدل الا على الهوهوية لأنا ان قلنا بكون الذات مأخوذا في المشتق فحالها حال الحمل الشايع بالذات لعدم تعقل النسبة بين الذات وبين الموضوع خارجا، وان قلنا ببساطة المشتق وان الفرق بينه وبين مبدئه هو اللابشرطية والبشرط لائية فبما ان اللابشرط لا يأبى عن الحمل وعن الاتحاد مع الغير يكون الموضوع في هذه الموارد متحدا مع المحمول وتتحقق الهوهوية التي هي المقصود، والقضية حاكية عنها وكونها عرضية الحمل انما هو بالبرهان الدقيق كموجودية الماهية بالعرض.

فاذن لم يبق من الحمليات الموجبة ما يتوهم اشتمالها على النسبة سوى الحمليات المؤولة مما يتخلل فيها الأداة نحو قولنا: زيد في الدار وزيد على السطح، وهي ليست حمليات حقيقية ولذلك تتأول بكائن أو حاصل، و دلالتها لفظا على النسبة الخارجية مما لا اشكال فيه كما أن الإضافات لها نحو تحقق في الخارج إذ هي بشهادة التبادر تحكي عن النسبة بين الأشياء بعضها مع بعض ولفظة (في) وما أشبهها تدل على نحو إضافة وحصول بينهما هذا حال الموجبات في الحمليات).[13]

ولابد من دراسة وجهتي النظر کلاً علی حدة.

اما وجهة النظر الاولی فان کانت مستندة الی الوجه الاول وهو تفسير النسبة بالوجود الرابط وتخصيصه بربط الاعراض بالجواهر فالجواب عنه قد مر في بيان حقيقة المعنی الحرفي وقلنا ان النسبة غير الوجود الرابط وانهما موجودان بالعرض لا بالتبع فراجع.

وان کانت مستندة الی الوجه الثاني وهو تقوم النسبة بالمنتسبين خارجاً ولزوم وجود هما متميزين في الخارج فهو يبتني علی وجود النسبة بالتبع وقد بينا فيما مرّ انها موجوده بالعرض والمجاز.

وسيأتي ــ کما مر ايضاً ــ ان ما يتصوره الذهن ويکثّره في مرحلة الادراك لا ضرورة في کونه مطابقاً للخارج وتوهم ان الذهن مرآة أمينة ينعکس فيها الواقع بجميع حذافيره فهو مبالغة واضحة في الاعتماد عليه وقدمرّ توضيح الکثرات الادراکية التي يبدعها الذهن.

واما وجهة النظر الثانية فالظاهر انها هي عين القول بوجود النسبة فانّ القائل بوجودها لا يقصد الا النسبة الهوهويه وليس المراد بها معنیً مستقل يربط بين الموضوع والمحمول. قال المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية (ان مفاد الوجود الرابط ثبوت شيء لشيء ومفاد النسبة الايجابية الحكمية كون هذا ذاك..).[14]

وتفصيل الجواب عن ذلك يظهر بالتحقيق عن حقيقة الحمل والبحث عنه مفصلاً له محل آخر ومجمل القول فيه:

ان الحمل عبارة عن عمل نفسي يتحقق بعد تصور شئيين والحکم باتحادهما وتحقق الهوهوية بينهما. ويتوقف ذلك علی تحقق جهتين في طرفي الحکم: وحدة بينهما من جهة وکثرة وتعدد من جهة اخری، فلولا الوحدة لم يصح الحمل الذي هو عبارة عن الحکم بالوحدة والهوهوية. ولولا الکثرة لم يصح الحمل ايضاً اذ لا معنی لحمل الشيء علی نفسه وقد ذکرنا ان الحمل حکم باتحاد شيئين فالتکثر مفروض في مفهوم الحمل. ولا تنافي بين الکثرة والوحدة المفروضتين لاختلاف اللحاظ فيهما.

اما في موارد الحمل الاولي الذاتي اي الحکم باتحاد الموضوع والمحمول مفهوماً فالکثرة بلحاظ الاجمال والتفصيل. والذهن بماله من قوة الابداع والاختراع، والتجزئة والتحليل يفصل الموضوع کالانسان مثلاً ويحلله الی جزء مقوم مشترك بينه وبين سائر ما يشارکه من الحقائق المختلفة وهو الحيوان والی جزء مختص به يقوّم حقيقته وهو الناطق ويحملهما عليه فمفهوم (الانسان) متحد مع مفهوم (الحيوان الناطق) الا انه يغايره باللحاظ الاجمالي والتفصيلي. والکثرة هنا ادراکية. ولکنها تعتمد علی واقع خارجي حسب وجهة النظر الفلسفية القديمة وتنبع منه فلابد من افتراض كون الانسان واجدا بحقيقته علی الجزءين المقومين واما الوحدة بين المفهومين فواقعية.

واما في موارد الحمل الشايع اي الحکم باتحاد الموضوع والمحمول وجوداً فان کان في الهليات البسيطة کما في جملة (زيد موجود) فالتجزئة والتکثير من الذهن ايضاً وهي تعتمد علی الخارج ايضاً الا انها تختلف في کيفية الاعتماد وحدوده.

وقد بيّن في الفلسفة ان الوجود عارض المهية في التصور الذهني. فالواقع الخارجي يحلله الذهن الی ماهية شخصية يعبّر عنها بزيد وعارض عليه وهو الوجود وذلك بتجريد الواقع الخارجي عن الوجود حتى في الذهن. ولکنهما في الواقع شيء واحد والاختلاف وان وقع في الفلسفة بين اصالة الوجود واصالة الماهية الا انه لا شك في انهما معاً ليسا متأصلين والحقيقة الخارجية امر وحداني واحد الامرين من الوجود والماهية ينتزع منها والآخر متأصل حسب اختلاف النظريتين المعروفتين.

اذن فالکثرة في مثل هذا الحمل ادراکية الا أنها تنبع من الخارج ايضاً والماهية وان کانت اعتبارية بناءاً علی اصالة الوجود الا ان منشأها في الخارج فهي ليست کأنياب الاغوال.

واما في موارد حمل المشتقات نحو (زيد قائم) فالکثرة والوحدة فيها تختلفان باختلاف المسالك في حقيقة المشتق. ولعلّ اقواها القول بانه امر انتزاعي منشأه الذات التي ثبت لها المبدأ. وکل امر انتزاعي لابد له من منشأ للانتزاع ومصحح له وهو متحد مع منشأ انتزاعه في الوجود الخارجي وانما تنشأ الکثرة بابداع الذهن وتجزئته للذات المتصفة بالقيام مثلاً الی ذات وقائم. واما مصحح الانتزاع فهو امر خارج عن وجود زيد بناءاً علی ما هو المعروف من کون الاعراض موجودة بوجود آخر متقوم بالجواهر ولذا لا يحمل مصحح الانتزاع علی الذات فلا يقال زيد قيام.

اذن فالکثرة هنا ادراکية ومنشأها خارجي ايضاً الا ان فيها نوع من الابداع الذهني وليس بالاجمال والتفصيل ولولا هذه الکثرة لم يصح الحمل ولذا قيل ان المتحصل لا يحمل علی المتحصل فلابد في الحمل اما ان لا يکون الموضوع متحصلاً واما ان لا يکون المحمول متحصلاً اذ لا معنی للحکم باتحاد امرين واقعيين متحصلين في الخارج.

واما في موارد الحمل التي ليس للموضوع والمحمول فيها واقعية في الخارج اصلاً کجملة (اجتماع النقيضين ممتنع) فمنشأ انتزاع الممتنع المحمول في القضية هو واقع اجتماع النقيضين في نفس الامر. والمراد من نفس الامر ذات المفهوم بلا لحاظ  امر آخر معه كما قال السبزواري (بحد ذات الشيئ نفس الامر حدّ) ووعاء نفس الامر هو وعاء الملازمات الواقعية بين المفاهيم التي لا تتقيد بالوجود الخارجي ولا الذهني کتلازم الاربعة للزوجية فان الزوجية معنى ينتزع من نفس ذات الاربعة بلالحاظ وجودها الخارجي او الذهني.

وکذلك سائر الملازمات الرياضية فاذا قلت( 5 × 5  = 25) فوعاء هذه الملازمة هو ذات الملزوم (5  × 5) وذلك لان ( 25 ) وهو اللازم صورة اخرى للملزوم (5 × 5). وهکذا التعاندبين الوجود والعدم والسلب والايجاب.

اذن فالتکثر هنا ادراکي ايضاً وليس وهميّا ولکنه لا يعتمد علی الوجود الخارجي بل علی وعاء نفس الامر وواقع الشيء الذي هو منشأ الانتزاع، فللتکثير مصحح في نفس الامر وان لم يکن خارجياً.

ومن هنا تبين انه لا يتوقف صدق القضية وکذبها علی مطابقة ما يدرکه الذهن بتمام شؤونه وتجلياته مع ما في الخارج فالذهن له قابلية الابداع والتکثير في المجالي والتصورات الا ان مناط الصدق ان يعتمد التکثير علی امر واقعي في الخارج او في نفس الامر. فقولنا (الله عالم) و(الله له العلم) و(الله هو العالم) ونحوهما من القضايا المعبّرة عن واجديته تعالی لصفة العلم تکثرات ذهنية لواقعية واحدة.

فتحصل ان القول بان الجملة الخبرية مرآة لوقوع النسبة اولا وقوعها صحيح في نفسه الا انه قد يکون مع قصد الحکاية وقد لا يکون معه کما في القصص الخيالية التي يقصد بها التأثير النفسي في ابناء المجتمع فالمرآتية محفوظة فيها ايضاً الا انها فاقدة لقصد الحکاية والحکم بالوقوع.

 

 

 

 

المبحث الرابع

في مفاد الجمل الانشائية

 

مورد الکلام هو مفاد الجمل الانشائية سواء ما کان منها مفيداً للانشاء بمقتضی الهيئة الخاصة وما کان منها مفيداً له بمقتضی الادوات التي تحوّل المضمون الخبري الی مضمون انشائي کادوات التمني والترجي والاستفهام ونحوها.

المشهور في بيان الفرق بين الجمل الخبرية والانشائية ان مفاد الخبر هو وقوع النسبة اولا وقوعها ــ کما مر ــ وانّ دور اللفظ هو تمثيل هذا المعنى. واما الانشاء فهو ايجاد للمعنی سواء کان بالفاظ التحويل کادوات التمني والترجي او بالفاظ العقود والايقاعات او بالفاظ انشاء الاحکام التکليفية او الوضعية. فنسبة اللفظ الی المعنی نسبة ايجادية.

قال المحقق الخراساني (وأمّا الصيغ الإنشائيّة فهي ــ على ما حقّقناه في بعض فوائدنا ــ موجِدةٌ لمعانيها في نفس الأمر أي قُصِدَ ثبوت معانيها وتحقّقها بها وهذا نحوٌ من الوجود، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتّبة عليه شرعاً وعرفاً آثارٌ، كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات).[15]

ويقصد بقوله في بعض فوائدنا ما ذكره مفصلا في كتابه فوائد الاصول قال فيه (فاعلم انّ الإنشاء هو القول الّذي يقصد به إيجاد المعنى في نفس الأمر لا الحكاية عن ثبوته وتحقّقه في موطنه من ذهن أو خارج، ولهذا لا يتّصف بصدق ولا كذب بخلاف الخبر فانّه تقرير للثّابت في موطنه وحكاية عن ثبوته في ظرفه ومحلّه فيتّصف بأحدهما لا محالة. و المراد من وجوده في نفس الأمرية هو ما لا يكون بمجرّد فرض الفارض لا ما يكون بحذائه شي‏ء في الخارج)[16] الى اخر ما ذكره مما يدل بوضوح على انه سنخ من الوجود الاعتباري الذي يترتب عليه بعض الآثار عرفاً او شرعاً احياناً اذن فالمعنی في الانشائيات نوع من الامور الاعتبارية يحققه اللفظ.

ولکن هذه الوجهة لم تعجب بعض المتأخرين فناقشوا في نظرية کون الانشائيات اموراً ايجادية مع الغفلة عن تصريح بعضهم بانه نوع من الوجود الاعتباري.

وحاصل المناقشة ان المراد بالوجود لو کان هو الوجود الخارجي فهو واضح البطلان اذ لايمکن ان يکون اللفظ من مبادي تحقق الماهيات في وعاء الخارج او نفس الامر وان کان هو الوجود الاعتباري فمن المعلوم ان الاعتباريات امور تحققها النفس بلا  توسيط آلة فانها من ابداعياتها. ودور اللفظ هنا ليس الا دور المبرِز للمعنی المنشأ في النفس. واما تحقق تلک المعاني فهو في مرحلة سابقة علی الابراز.

ومما ذکرنا يظهر ان المراد هو الاحتمال الثاني فلابد من ملاحظة هذه المناقشة التي من اجلها أعرضوا عن نظرية کون الانشائيات اموراً ايجادية.

وهنا اتجاهان في قبال هذه النظرية المشهورة:

الاتجاه الاول: ان الجمل الانشائية لا تتضمن الا ابراز اللفظ للامور النفسية سواء کانت صفة نفسية او عملاً نفسياً عدا قصد الحکاية. وقد اختار هذا الاتجاه العلامة الحائري([17]) والمحقق الايرواني مع اختلاف ما في التقرير الآتي. وقد مر عن بعضهم القول بان قصد الحکاية هو المبرز في الاخبار وهو يقول بان الانشائيات ابراز لصفة او عمل نفسي ايضاً الا انه غير قصد الحکاية. وهذا هو الفارق بين الخبر والانشاء. فالتمني المنشأ صفة نفسية تحصل بالاعتقاد بالنفع في شيء مع عدم احتمال تحققه والترجي مثله الا انه مع احتمال تحققه وکلمتا (ليت) و(لعل) مبرزتان لهذه الحالة النفسية. وکذلك ادوات الاستفهام لحب الاستطلاع وطلب الفهم الکامن في النفس.

الاتجاه الثاني: ما اختاره المحقق الاصفهاني وهو ان الانشاء والخبر مشترکان في کونهما في مقام ايجاد المعنی بالوجود اللفظي کما مرتوضيحه فالاستعمال اللفظي ايجاد للمعنی بالوجود اللفظي الذي هو وجود للمعنی بوجه وبالعرض والمجاز. انما الفرق بين الخبر والانشاء ان الاول مقترن بقصد الحکاية دون الثاني. والتقابل بينهما قد يکون تقابل العدم والملکة کما في جملة (بعت) القابلة للانشاء والاخبار وقد يکون تقابل السلب والايجاب کادوات التمني والترجي المتمحضة للاستعمالات الانشائية.

ولکي نتمکن من دراسة هذه الاتجاهات الثلاث دراسة دقيقة لابد لنا من تقديم مقدمة حول بيان الرابطة بين الانشائيات والاعتباريات نظراً الی ما اختاره المشهور من کون الانشاء ايجاداً لامر اعتباري:  

في النسبة بين الانشائيات والاعتباريات ثلاث احتمالات: العموم والخصوص المطلق، العموم والخصوص من وجه، التساوي.

ولتوضيح ذلك لا بد من ان نتذکر ما ذکرناه في المدخل العام للاصول من ان الاعتباريات امور فرضية تخترع للتأثير في المشاعر والا حاسيس البشرية اما علی وجه فردي او اجتماعي واهم انواعها قسمان:

1_ الاعتبارات المتأصلة القانونية التي لا تتضمن عناية وتجوزاً بحسب النظر العرفي. فيجدها العرف ذات تقرر خارجي بل قد يعدّها من الاعراض کالملکية والزوجية والحلية والحرمة والنجاسة والطهارة والميتة والمذکی والولاية والزعامة ونحو ذلك من الاعتبارات القانونية وکثيراً ما تشتبه بالاعراض الخارجية لدی الخواص فضلا عن العوام.

2_ الاعتبارات الادبية . وهي التي تتضمن عناية وتجوزاً وذلك باعطاء حد شيء لشيء آخر بداعي التأثير في الاحساس استمداداً مما للشيء الاول من تأثير نفسي. کاعتبار الوجه الحسن شمساً او قمرا والرجل الشجاع اسداً فالعناية واعطاء حد شيء لشيء اخر واضح في مثل هذا الاعتبار. بخلاف القسم الاول الذي يشبه الوجود الخارجي.

واما الانشائيات فيمکن ان يقال ان النسبة بينها وبين الامور الاعتبارية هي العموم من وجه. فمورد افتراق الانشائيات موارد ابراز الصفات الواقعية النفسية کالتمني والترجي وطلب الفهم ونحو ذلك فهذه الامور صفات واقعية لا تقبل الاعتبار.

ومورد افتراق الاعتباريات موارد الاعتبارات الادبية. فقولنا رأيت اسداً يرمي يتضمن اعتباراً مع العناية الا انه اخبار لا انشاء وهکذا سائر المجازات والکنايات نعم قد يراد بالجملة الخبرية مفاداً انشائياً بلحاظ المراد الجدي لا الاستعمالي نحو: (يعيد صلاته) و(لا يعيد صلاته) حيث يراد بهما الامر والنهي بحسب المراد الجدي ولکنهما کسائر المجازات مستعملان في نفس المعنی الحقيقي وهو هنا الاخبار.

واما مورد الاجتماع فکثير نحو:( بعت دارى بکذا) حيث يتضمن انشاءاً لامر اعتباري وهو الملکية.

هکذا يمکن ان نقرر النسبة بين الانشائيات والاعتباريات فان امکن انکار موردي الافتراق انقلبت النسبة تساوياً لتمحضها في مورد الاجتماع الذي هو مناط التساوي وان امکن انکار احدهما فقط کانت النسبة عموماً مطلقا. فلابد من ملاحظتهما:

أما مورد افتراق الانشائيات فالظاهران مفاد ليت ولعل ونحوهما هو ايجاد التمني والترجي ونحوهما بالوجود الاعتباري لا ابراز الصفة النفسية فهذه الامور مما له فردان حقيقي واعتباري فالفرد الحقيقي لکل منها هو الصفة القائمة بالنفس والفرد الاعتباري هو ما يتحق بالانشاء. 

وذلك نظير الميتة حيث ان لها فرداً تکوينياً وهو ما مات حتف انفه وفرداً اعتبارياً وهو ما فقد في ذبحه احد شرائط التذکية کل حسب مذهبه. وکذلك القذر والنظيف لهما فردان تکوينيان وهو ما يستقذره العرف والطبع البشري وما لا يستقذره وفردان اعتباريان وهو النجس والطاهر کل حسب مذهبه.

وهکذا کثير من الامور الاعتبارية فانشاء التمني والترجي ايجاد لفرد اعتباري منهما وهو قد يقترن بالصفة النفسية واقعاً وقد لا يقترن بل يکون ايجاده بدواع اخر. کما ينشأ طلب الفهم بادوات الاستفهام بداعي الانکار والتوبيخ والتقرير والتهکم ونحوها مما هو مذکور في کتب النحو.

ولا فرق في ذلك بين الانشاء بالادوات نحو (ليت) و(لعل) او بالمفاهيم الاسمية نحو (ارجو) و(اتمنی). بل من الواضح أن ابراز التمني والترجي وطلب الفهم بنحو الاخبار عما في النفس يخرج عن حدود الانشائيات ويدخل في الجمل الخبرية فالصفات النفسية کسائر الاشياء قابلة للاخبار عنها ولا يحتوي ذلك علی خاصية الانشاء.

هذا وينبغي التنبيه علی ما ذکره المحقق الاصفهاني من ان کلمة (لعل) لا تدل علی الرجاء بمعنی الصفة النفسية وذلك لخصوصية في هذه الکلمة حيث يظهر من موارد استعمالها انها تفيد الشك مع کون الشيء في معرض الوقوع. وهکذا ورد في صحاح اللغة ايضاً حيث قال (لعل كلمة شك).

واما مورد افتراق الاعتباريات فهو کالاعتبارات الادبية فان الاعتبار فيها لا يلازم الانشاء فقد يکون انشاءاً وقد يکون اخباراً.

فالاول نحو قولهم للزوجة (اعتدّي) کناية عن انشاء الطلاق. وکذا سائر الکنايات والمجازات المستعملة في العقود والايقاعات وليس من ذلك جملتا (يعيد صلاته) و(لا يعيد صلاته) فانهما وان کانتا حاکيتين عن امر اعتباري وهو صحة الصلاة وبطلانها الا ان انشائيتهما ليست بلحاظ المراد الاستعمالي فهما خبران يراد بهما في مرحلة الجّد امراً انشائياً.

والثاني اي ما يکون فيه الاعتبار الادبي اخبارا فهو کثير نحو جاء الاسد کناية عن الرجل الشجاع.

ومن موارد افتراق الاعتباريات عن الانشائيات الحلف فانه امر اعتباري حقيقته جعل الارتباط بين شخصية المقسم به او شأن من شؤونه ومفاد الجملة الخبرية. وهو اعتبار متأصل والاعتبارية فيه مخفية ومتحققه بنحو اللف والاندماج وهو انشاء ايضاً الا انه لا يحوّل الجملة الخبرية انشائية فلا يصح ان يقال ان جملة (والله ان زيداً قائم) جملة انشائية كما هو واضح.

وقد يکون الامر الاعتباري مُنشأً بغير اللفظ کالمعاطاة وسائر الافعال المحققة للمفاهيم الاعتبارية في المعاملات.

فتحصل ان الانشاء يلازم الاعتبار ولا عکس فکلما صدق على جملة انها انشائية وجدنا هناك امراً اعتبارياً متأصلاً يتحقق بذلك الانشاء ولکنه ايجاد لمصداق من الماهية الاعتبارية واما نفس تحقق الاعتبار القانوني وتأصله فهو من الظواهر الاجتماعية التي يخلقها المجتمع بمرور الايام وتطور الاعتبار الادبي کما اوضحناه في المدخل.

فهذه الحيثية في الامور الاعتبارية غير قابلة للجعل والانشاء الفردي فاذا أنشأ الشارع الوجوب او الحرمة او النجاسة او أنشأ العاقد الملکية او الزوجية او نحو ذلك فهو ايجاد لمصداق من المفهوم الاعتباري المتأصل في المجتمع باللفظ المخصوص او بالفعل المخصوص کالمعاطاة. اذن فقولنا (هي طالق) نسبته الی مفهوم البينونة وانفصام الزوجية نسبة ايجادية. هذا هو المشهور.

واما المسلک الثاني فهو القول بان نسبة هذه الالفاظ الی تلك المفاهيم نسبة المبرِز الی المبرَز بلا فرق بين کون المبرَز النفسي امراً اعتبارياً کالعقود والايقاعات او صفة نفسية کالتمني والترجي ونحوهما. وذلك بناءاً علی انکار تحقق الامر الاعتباري في هذه الموارد. اذن فالفرق بين الخبر والانشاء کون المبرَز في الاول قصد الحکاية دون الثاني.

ويرد علی هذا المسلك عدة مناقشات:

المناقشة الاولی: ان الجمل الخبرية لا تدل علی قصد الحکاية دائماً کما مر.

المناقشة الثانية: ان الالتزام بان کل إبراز لصفة نفسية انشاءٌ بعيد جداً فهل يصح ان يقال لمن اظهر شجاعته او جبنه او عدالته او خوفه او خجله بلفظ او غير لفظ انه انشأ هذا المعنی؟!

هذا والذي الجأ القائل الی تحمّل هذا التکلف هو انکاره للوجود الاعتباري في التمني والترجي ونحوهما وقد بينا ذلك بوضوح فلا موجب لهذا التکلف.

المناقشة الثالثة: ان من البعيد جداً ان يلتزم بان العقود والايقاعات بمضمونها العرفي تتحقق بمجرد إبراز ما في النفس مع قطع النظر عن التقيد الشرعي بالصيغة الخاصة. فلو قال احد (في نفسي اعتبار البينونة بين وبين زوجتي) فهل يعتبر هذا طلاقاً عرفاً؟! مع ان هذا اللفظ أصرح في ابراز ما في النفس.

المناقشة الرابعة: انه لا اشکال ولاخلاف في دخالة هذه الالفاظ الخاصة في تحقق حقيقة العقود والايقاعات فلا اثر للاعتبار النفسي من دون هذه الالفاظ التي اعتبرت ــ حسب الفرض ــ مبرزة فقط. وحينئذ فان صح هذا الافتراض لزم ان تکون حقيقة المعاملة هو الامر النفسي ودور اللفظ هو دور الکشف والابراز. وحقيقة المعاملة متحققة في مرحلة سابقة علی التلفظ. وهذا امر لا يمکن الالتزام به.

فان قلنا بان دور اللفظ دور الشرط المتأخر بمعنی ان الاعتبار النفسي هو حقيقة المعاملة بشرط تعقبه باللفظ الخاص فهذا ايضاً مخالف للوجدان اذ لا نجد في انفسنا عند التلفظ اننا نوجد شرطاً متأخراً لتحقق المعاملة.

وان قلنا بان البيع هو مجموع المبرَز والمبرِز فهو ايضاً مخالف لما نجده اذ لا نجد في التلفظ بالبيع انه تکميل للمفهوم المرکب المحقق لماهية البيع بل نجده محققاً له بالاستقلال.

اضف الی ذلك ان لازم هذا الافتراض الالتزام بالتجوز في لفظ بعت اذا اريد به الانشاء وذلك بتجريده عن معناه الواقعي.

توضيحه ان کلمة (بعت) اذا استعملت في الاخبار کانت حاکية عن المبرِز والمبرَز معاً حسب الافتراض الثاني لأن المفروض ان البيع هو مجموع المبرِز والمبرَز واللفظ هنا مستعمل في معناه الحقيقي فاذا استعملت الكلمة في الانشاء کان لابد من تجريدها عن الحکاية عنهما معاً واختصاصها بالحکاية عن المبرَز فقط اذ لا يمکن ان يحکي عن نفسه وهو المبرِز فلا بد من الالتزام بعدم استعماله في المعنی الحقيقي الذي هو عبارة عن المجموع . وهذا خلاف الوجدان ايضاً.

واما المسلك الثالث الذي اختاره المحقق الاصفهاني فتوضيحه ان الجمل سواء کانت انشائية او خبرية لا تحتوي الا علی الوجود اللفظي للنسبة التامة وهو نوع من الوجود العرضي حيث ان للشيء وجود طبعي وهو الواقع الخارجي ووجود ذهني ووجود عرضي وهو کتبي ولفظي. والنسبة التامة التي توجد بالوجود اللفظي ان کانت مقرونة بقصد الحکاية فالجملة خبرية والا فانشائية.

اذن فاللفظ ليس موجداً للمعنى بل هو وجود له بالعرض. والجمل التامة الموجدة للنسبة الانشائية قد تکون قابلة للحکاية وغيرها نحو (بعت) فهي مع قصد الحکاية خبر وبدونه انشاء وتقابلهما تقابل العدم والملکة لقابلية المحل. وقد تکون متمحضة في الانشاء نحو ليت ولعل.

واساس هذه النظرية ما قدمناه من ان اللفظ لا يمکن ان يکون آلة لايجاد المعنی. اما خارجاً فلانه ليس من مبادئ تحقق الماهيات واما اعتباراً فلان الاعتبارات من إبداعات النفس التي لا تقبل التوسيط. واما ذهنا فالوجود الذهني مقدم خارجاً علی التلفظ بل من مبادئه ان کان عن قصد.

ولتحقق الوجود الذهني اسباب خاصة من خطور مثل الشيئ او ضده او مقارنه.

فتحصل أن التلفظ بجملة (هي طالق) مثلاً بقصد الطلاق لا يعد معتبراً لشيء اصلاً وکذلك في سائر الجمل الانشائية. نعم في خصوص الاعتبارات القانونية يتسبب اللفظ في ايجاد موضوع الاعتبار القانوني شرعاً او عرفاً. وذلك لان المشرع القانوني جعل موضوع حکمه بحصول الملکية والزوجية والبينونة ونحو ذلك من الشؤون الاعتبارية التلفظ بصيغة خاصة او الاتيان بعمل خاصّ. کما انه جعل موضوع الحکم بالنجاسة والطهاره ونحو ذلك فعلاً او حالة او صفة في الخارج فالغسل مثلاً بشرائطه موضوع للحکم بالطهارة وهکذا.... ولا مانع من تسبيب الانسان بفعله او قوله الی اعتبار شخص آخر کالمشرع القانوني انما الاشکال في ان يتسبب الی اعتباره بنفسه.

وتبين ان هذا الا ستدارك مختص بالشؤون الاعتبارية القانونية ولا يصح في الاعتبارات الشخصية کالتمني والترجي ونحوهما.

ولکن هذا المسلك لا يمکن الالتزام به لمخالفته للوجدان فنحن نجد أن کل من يجري صيغة البيع او النکاح او الطلاق او يأتي بفعل يحقق إنشاء احد هذه الامور نجده محققاً لاعتبار ذلك الامر. فهذا المسلك ابعد عن الوجدان من المسلك السابق حيث کان الاعتبار الشخصي معترفاً به هناك وانما الخلاف کان في کون اللفظ مبرزاً للامر الاعتباري الکامن في النفس او محققاً له في وعاء الاعتبار. ولکن هذا المسلك ينفي الاعتبار الشخصي رأساً.

وهو غير صحيح فقد يکون العاقد غير ملتفت الی الاعتبار الشرعي او القانوني وقد يکون متحدّياً للقانون فلا يلاحظ الشرائط الرسمية لتحقق الاعتبار القانوني. فمن هنا نستکشف ان العقد تشريع شخصي والايقاع عمل شخصي اعتباري والعقد ليس الا کالمعاهدات الشخصية بين الجانبين وانما يلاحظ الشروط القانونية اذا کان المتعاملان يطلبان الحماية القانونية عن ملکيتهما او زوجيتهما مثلاً اذ لابد حينئذ من اعتراف السلطة بتحقق الامر الاعتباري.

اذن فدور الاعتبار الشرعي والقانوني هو دور التنفيذ والامضاء لا التأسيس وجعل الشيء موضوعاً للحکم. وليس ذلك من قبيل الاعمال الخارجية التکوينية التي تکون موضوعات للاحکام الشرعية کالغسل للطهاره وافتراق المتبايعين للزوم العقد. فان التنفيذ والامضاء غير معقول هناك وانما المعقول اعتبار الفعل موضوعاً للحکم بخلافه في الامور الاعتبارية.

وبعد هذا کله يبقی سؤال وهو أنه کيف يمکن ان يکون اللفظ محققا لامر اعتباري بعد ان منعنا کونه مبرزاً عن الاعتبار النفسي؟

لابدّ للتحقيق عن ذلك من ملاحظة انطباع العرف والعقلاء عن الامور الاعتبارية. وقد ذكرنا مرارا أنهم يجدونها امورا تكوينية كالاعراض فاذا حصلت الزوجية بين شخصين فان العرف يری انه قد تحقق شيئ وصفة واقعية تکوينية بينهما ولا يفرق بين وجود مثل هذا الاعتبار وبين الاعراض حتی ان الامر قد اشتبه علی بعض العلماء کما ذکرنا في المدخل العام للاصول حيث تعرضنا اجمالاً لبعض موارد الاشتباه التي حصلت للاصوليين نتيجة توهم الامور الاعتبارية اموراً تکوينية فحاولوا إسراء القوانين الفلسفية المختصة بالتکوينيات اليها.

وعليه فالمناسب لايجاد الامر التکويني بنظر العرف لابد ان يکون هو العمل الخارجي دون مجرد الاعتبار النفسي ولذا لا يعد عرفاً مجرد الاعتبار النفسي الا افتراضاً لوقوع المعاملة ولا يجد العرف تحقق الامر الخارجي الذي نسميه اعتباراً.

والعمل الخارجي المحقق لهذه الامور في نظر العرف قد يکون لفظاً وقد يکون اعطاءاً کالمعاطاة وقد يکون کتابة ونحو ذلك مما يؤثر في انعکاس الامر المقصود في النفس.

وليس تأثير هذه الافعال في رد الفعل النفسي امراً مستغرباً فهو الملحوظ ايضاً في التلقينات النفسية فاذا اراد الانسان ان يؤثر في نفسه ويوطّنها علی مواجهة الصعاب بشجاعة فانه لا يکتفي بمجرد التفکير في الاستهانة بها وانما يلقّن نفسه بترديد الکلمات المشجعة وربما صاحبه نوع من الحرکات الجسمية الباعثة علی التشجيع.

والسر في ذلك هو تأثير اللفظ والحرکات الجسمية الخاصة في انفعال النفس بنحو أشدّ وآکد للاثر المقصود. وهکذا الکلام في الامور الاعتبارية. فاذا وطّن الرجل نفسه علی فراق زوجته وترکها فانه کلّما تأکّد منه لا يری الانفعال النفسي الا بعد ان يتلفظ بالالفاظ الخاصة او يأتي بالعمل الخاص الذي يعکس هذا الاثر في نفسه وبذلك يجد انه قد حقق امراً تکوينياً وهو البينونة وانفصام عرى الزوجية.

ثم ان انشاء الامور الاعتبارية کما يتحقق بداعي الجدّ قد يتحقق بدواع اخر کالهزل ونحوه کما يتحقق اعتبار الملك والوزير ونحوهما في تمثيليات الاطفال وما شابهها فانشاء الامر الاعتباري بالتقريب المتقدم متحقق هنا ايضاً الا انه بداعي الهزل واللعب.

ومن هنا يحکم بصحة عقد المکرَه ونحوه اذا تعقبه الرضا فانه لا يفقد انشاء الامر الاعتباري وانما يفقد القصد الجدي وهو من شروط صحه المعاملة وترتب الاثر عند العقلاء ويعبر عنه في القوانين الحديثة بالارادة حيث يشترط فيها ان لا تکون معيبة.

اذن فعقد المکره وکل عقد يفقد القصد الجدي محقق لامر اعتباري ايضاً الا انه غير محکوم بالاحکام القانونية لدى الشرع والعقلاء کما ان اعتبار الملك والوزير ونحوهما في التمثيلات المسرحية لا يفقد صفة الانشاء والاعتبار الا انه غير محکوم بالاحکام العقلائية نظراً لفقدان القصد الجدي.

 

 

 

 

المبحث الخامس

في المبهمات

 

الکلام هنا في تشخيص الموضوع له والمستعمل فيه في المبهمات کاسماء الاشارة والضمائر والموصولات.

وهنا ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الاول: ان هذه الالفاظ کلها موضوعة لايجاد الاشارة في الخارج. وهذا هو الصحيح. ولتوضيحه لابد من التعرض لامور:

الامر الاول: ان الاشارة عبارة عن امتداد موهوم بين المشير والمشار اليه وقد يکون وعاؤها بدواً وختاماً الواقع الخارجي ونعبر عنها بالاشارة الخارجية وقد يکون وعاؤها بدواً الذهن وختاماً الخارج ونعبر عنها بالاشارة الوهمية وهي التي توجب جزئية الصور الارتسامية الذهنية. فان کل صوره ارتسامية بالذات قابلة للانطباق علی الکثيرين وانما تتصف بالجزئية بضم الاشارة الوهمية اليها وستتضح هذه النقطة عند الکلام في البحث التالي في امکان ان يکون الوضع والموضوع له خاصاً.

الامر الثاني: ان الاشاره الخارجية لابد وان يکون له راسم کما في الامتداد الخارجي وراسمه اما ان يکون توجيه بعض الاعضاء نحو شيء وغالباً ما يکون بأصابع اليد وخصوصاً السبابة منها او بالعين او بالرأس ويلحق به توجيه بعض الآلات کالعصا وشبهه واما ان يکون التلفظ بالفاظ خاصة وهي اسماء الاشارة والضمائر والموصولات فهي علی هذه الفرضية تؤدي نفس الوظيفة التي يؤديها توجيه بعض الاعضاء من ايجاد الامتداد الموهوم الی واقع معين يعبّر عنه بالمشار اليه.

الامر الثالث: ان المشار اليه لابد وان يکون في نفسه امراً معيناً في الجملة اما بالتعين الخارجي او الذکري او الوصفي حتی يصلح ان يکون طرفاً للامتداد الموهوم الذي سبق بيانه. واذا فرض تعدد ما يصلح في نفسه للاشاره اليه بهذه الالفاظ فلا بد من تشخيصه بقرائن حالية او مقالية کما ان المشار اليه بغير هذه الالفاظ کثيراً مّا يحتاج في تشخيصه الی ضم قرينة. وقد يتوصل لتشخيص المشار اليه في الاشاره اللفظية بضم الاشاره الجوارحية کما انه قد يتوصل اليه بقرائن اخری .

الامر الرابع: انه ليس هناك تلازم بين الاشارة اللفظية والاشارة الجوارحية بل قد لا يکون تقارنهما معقولاً کما اذا کان المتکلم منزهاً عن الجوارح وهذا ما يلاحظ في موارد استعمالها في القرآن الکريم.

ومن هنا يظهر انه لا وجه للقول بان ما وضع له اسماء الاشارة هو واقع المفرد المذکر وانها لا تفيد معنی ما لم تنضم اليها إشارة جوارحية وکذا ضمير الخطاب لا يبرز معناه الا بالخطاب الخارجي کما سيجيء التحدث عنه.

وربما يثار هنا سؤال عن الوجه في اقتران الاشارة اللفظية بالاشارة الجوارحية غالباً حتى في موارد عدم الحاجة اليها لتعيين المشار اليه.

ويمکن ان نذکر له وجهين:

الوجه الاول: ان اعتبار هذه الالفاظ کوسيلة لايجاد الاشارة يحتمل ان يکون حصيلة التقارن الطبيعي بين الاشارة الجوارحية وهي الوسيلة الطبيعية وبين هذه الالفاظ أو اصولها التي تطورت اليها في بدو الحضارات البشرية فکان الانسان عند الاشارة الجوارحية الی شيء بحسب طبعه يردد اصواتا ملائمة کما يلاحظ ذلك في اشارة الاخرس. ثم اکتسبت تلك الاصوات نفس الخاصية من جهة کثرة التقارن واستغنت في نهاية المطاف عن الاشارة الجوارحية. الا ان هذا المطاف اشتمل علی تکامل وتنوع في هذه الالفاظ فطرأ عليها الابدال والقلب والنحت ونحوها کما اشتمل علی تطور في المعاني فطرأ عليها التجريد.

ولذلك صح استعمال الالفاظ في موارد لا يمکن ان تستعمل فيها الاشارة الجوارحية. وعليه فاقتران الالفاظ بالاشارة الجوارحية في هذه العهود لعله من جهة جري الانسان وفقاً لعادته القديمة.

وربما يقال بهاتين المرحلتين من تطور الالفاظ والمعاني في بقية الالفاظ اللغوية ويعلل تشعب اللغات وتطورها بالامرين.

ويناسب اصل هذه الفرضيه ما کان يذکره بعض کبار المشايخ في مجلس البحث وکان يعبر عنه بنظرية الاختراع والابتداع.

ومحصلها: ان البشر البدوي عند قصده الاخبار عن شيء والحکاية عنه لصاحبه کان بحيث تحصل له حالة دهشة واضطراب ويتکهرب اعصابه فينطق بلفظ بلا فکر ولا رويّة بل بالطبع نظير فرار الحيوانات عما يؤذيهم. ثم انه عند ارادة التفهيم لهذا الواقع اخذ يتلفظ بنفس تلك اللفظة مع نصب قرينة علی اراده المعنی الخاص ومن جهة وجود قريحة التقليد والمتابعة تبعه في ذلك غيره. وبذلك حصل الارتباط التدريجي بين اللفظ والمعنی بکثرة الاستعمال.

وهذه النظرية لا تنافي قوله تعالی (خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[18] فان الله تعالی هو الذي اودع في الانسان قوة النطق وخصّه بها من سائر الحيوانات فيکون تكامله فيها بتأييده وتسديده وقد أبی الله ان يجري الامور الا باسبابها. نعم ربما تنافيه ظواهر جملة من الآيات والروايات. ومهما کان فدراسة هذه النظرية وتقييمها لا يناسب البحث.

وعلی هذا الاساس يمکن ان يقال: ان اللفظ الذي يصدر من الانسان في هذه الحالة ويکون مقروناً بالاشارة الجوارحية قد ينعکس فيه نفس معنی المشار اليه وتخفی جهة الاشارة وقد تنعکس فيه جهة الاشارة فقط. وهنا تنقسم الالفاظ الی اسماء الاشارة وغيرها من المبهمات والی الاعلام واسماء الاجناس ونحوها.

الوجه الثاني: ان الانسان لا يکتفي غالباً في مقام تفهيم مقاصده بالتلفظ بالالفاظ بل يضم اليها حرکات مناسبة جوارحية لمزيد التأثير في المخاطب ولکي يتلقّی المعنی بوسيلتي السمع والبصر. وهذا هو المعتاد لدی کثير من الخطباء والقادة فنری انهم يمثلون مطالبهم ويرکزونها في اذهان المستمعين بحرکات اليد والرأس.

ومن هذا الباب قول ابي نواس: (الا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر – ولا تسقني سراً اذا امکن الجهر).

والحاصل ان الانسان بطبعه يزداد تأثراً بالحوادث اذا کان انعکاسها بوسيلتي السمع والبصر معاً فمن الواضح اننا نزداد تأثراً اذا سمعنا الخبر ورأينا صورة للمشهد سواء کان ذلك مشهد حزن او فرح ومن هنا اهتمت وسائل النشر والاعلام الحديثة بجميع قطاعاتها بهذا الامر فجمعوا بين الصورة والکلام في تعليم العلوم والصناعات ونشر الاعلانات وغير ذلك من شؤون الاعلام.

الامر الخامس: ان الاشارة وسيلة لاحضار الواقع المشار اليه في ذهن الغير او تعيينه من بين الصور الحاضرة في ذهنه فليس لهذه الالفاظ بذاتها دور اساسي في تشکيل القضية اللفظية.

ومن هنا يظهر ان الموضوع في القضية اللفظية لو کان – بحسب الظاهر – احد هذه الالفاظ فالنظر الدقيق يقضي بان نعدّ الموضوع واقعاً في القضية اللفظية هو نفس واقع المشار اليه وهکذا الکلام فيما کان احدها محمولاً او من متعلقات الکلام.

وهذا بخلاف سائر الالفاظ فان الموضوع وان کان في القضية اللبية هو الواقع الا انه في القضية اللفظية عبارة عن اللفظ الدال عليه واما في هذه الالفاظ فالموضوع او المحمول او غيرها في القضية اللفظية هو نفس الواقع وانما اتى بهذا اللفظ لمجرد الاشارة اليه فاذا قلنا هذا زيد فقد حملنا کلمة زيد علی الشخص الخارجي وجعلنا اسم الاشارة اداة لتعيينه کالاشارة الخارجية.

ومما يرشدنا الی ذلك ما نجده في مرحلة تمثيل المتکلم مقاصده بالحرکات الخارجية حيث ان المعتاد هو تمثيل مفهوم اللفظ باشارة مناسبة. ونجد ان المعتاد هو تمثيل مفهوم هذه الالفاظ نحو هذا بالاشارات الجوارحية کالاشارة بالا صبع من دون ملاحظة مناسبة حرکة التمثيل للمعنی المشار اليه.

وهذا يدل علی ان المرتکز في الاذهان هو أنّ دور هذه الالفاظ هو دور الوسيط وأنّ مفهومها ليس الا مجرد الاشارة. ولذلك ناسبها تمثيل نفس الاشارة ولو کان مستعملا في نفس المعنی المشار اليه – کما يتوهم – لکان اللازم ان يتناسب حرکة التمثيل لذلك المعنی.

فليلاحظ ذلك في موارد حرکة التمثيل لاسم الاشارة مع کون المشار اليه سعة شيئ او ضيقه او علوه او انحطاطه مادياً او معنوياً فيشاهد ان حرکة التمثيل واحدة مع اختلاف المشار اليه وهذا بخلاف ما اذا کانت الحرکة لتمثيل نفس المعنی من دون توسط اسم الاشارة.

الامر السادس: ان ما ذکرناه في توضيح مفاد اسماء الاشارة يجري بعينه في الضمائر مطلقا فهي موضوعة لايجاد الامتداد الموهوم. وکذا الامر في الموصولات الاسمية.

نعم يتضمن محتوی الموصولات علی نوع من تعيّن المشار اليه وانه من ذوي العقول او من غيرها. ويشارکها في هذه الخصوصية بعض اسماء الاشارة  وهي ما يشار بها الی المکان نحو هنا وهاهنا للاشارة الی المکان القريب ومع الکاف للاشارة الی البعيد وکذلك ثَمَّ وهَنّا وهِنّا وهنالك.

ومن المحتمل ان يکون هذا في بدو الامر من قبيل تعدّد الدال والمدلول وحصل بالتدريج نحو إدغام ولفّ فيما بينهما فاختفى جانب التعدد. وسيجيئ توضيح هذه النظرية في مبحث المشتق.

وهذا التعدد واضح في  بعضها کاضافة الکاف الی (هنا) و(هاهنا) للدلالة علی بعد المکان المشار اليه باصل الکلمة.

ولا يقاس نوع التعين المستفاد من هذا القسم من الاسامي بالتعين اللازم مراعاته عند الاستعمال في غيرها کمراعاة کون المشار اليه مفرداً مذکراً عند الاشارة بـ (ذا) وکونه انثی عند الاشارة بـ (ذي) و(ذه) و(تي) و(تا). وکونه جمعاً مذکراً عند الاشارة بـ (أولاء) وهکذا. والفرق بينهما يتضح بالتأمل.[19]

الاتجاه الثاني: وهو رأي المحقق الخراساني حيث ذهب الی ان هذه الالفاظ متحدة معنیً مع الاسماء المشابهة لها نظير ما ذکره في الفرق بين المعاني الاسمية والمعاني الحرفية قال (فدعوی ان المستعمل فيه في مثل هذا وهو واياك انما هو المفرد المذکر وتشخصه انما جاء من قبل الاشارة او التخاطب بهذه الالفاظ اليه فان الاشارة او التخاطب لا يکاد يکون الا الی الشخص او معه غير مجازفة...).[20]

وفي هذا الاتجاه ثلاث نقاط من الضعف:

النقطة الاولی: ان من الواضح عدم دلالة لفظ (هذا) مثلاً علی مفهوم المفرد المذکر وعدم مساوقته له بقطع النظر عن الجزئية المستفادة من الاشارة.

النقطة الثانية: انه لا يشترط في اسماء الاشارة الاقتران بالاشارة الحسية بيد او بعين او نحوهما وکثيراً ما لا يمکن تحقق الاشارة اما لعدم قابلية المعنی لها کما في الامور المعنوية واما لعدم امکان اسنادها الى المشير کالآيات المبارکات کما تقدم.

النقطة الثالثة: ان الموضوع له لو کان هو مفهوم المفرد المذکر وکان الاشارة والتخاطب خارجين عن حدود الموضوع له فما هو الموجب لتقييد استعمال (هذا) في مورد الاشارة و(انت) في مورد التخاطب؟ وهل هو من قيود الموضوع له او المستعمل فيه؟ مع أن ظاهر عبارة المحقق الخراساني انه ليس من قيود شيء منهما. فمن اين يحصل هذا التقييد؟!

ولا يمکن قياس ذلك بتقيد المعنی الحرفي باللحاظ الآلي وذلك لان الاستعمال لا يخلو من اللحاظ ولابدّ اما من اللحاظ الآلي او الاستقلالي وحينئذ يتعين المعنی الاسمي والحرفي. وفيما نحن فيه لا موجب للتقييد اذ لم يکن قيداً في الموضوع له. ومجرد تقييد العلقة الوضعية بالمورد الخاص لا يوجب ان يکون اللفظ مفهماً لتلك الخصوصية.

الاتجاه الثالث: ما اختاره المحقق الاصفهاني([21]) وغيره وهو يبتني علی تصحيح للاتجاه الثاني القائل بوضع هذا مثلاً لمفهوم المفرد المذکر فذهب اصحاب هذا الاتجاه الی وضعه لواقع المفرد المذکر بشرط ان يقع مشاراً اليه. فالوضع فيه عام لملاحظة هذا العنوان بعمومه والموضوع له خاص لانه الواقع الخارجي المفرد. وعلی هذا الاساس لا يرد علی هذا القول الاشکال الاول والثالث في الاتجاه السابق اما الاول فواضح واما الثالث فلأن کون المعنی مشاراً اليه قد اخذ قيداً في الموضوع له.

قال في المحاضرات (إنّ أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما وضعت للدلالة على قصد تفهيم معانيها خارجاً عند الاشارة والتخاطب لا مطلقاً، فلا يمكن إبراز تفهيم تلك المعاني بدون الاقتران بالاشارة والتخاطب... فكملة (هذا) أو (ذاك) لا تدل على معناها وهو المفرد المذكر إلّابمعونة الاشارة الخارجية كالإشارة باليد كما هي الغالب أو بالرأس أو بالعين، وضمير الخطاب لا يبرز معناه إلّامقترناً بالخطاب الخارجي).[22]

ويبقی علی هذا الاتجاه الاعتراض الثاني حيث إنّ استعمال (هذا) ونظائرها لا يتوقف علی الاشارة بل هي موجدة للاشارة کما مر.

 

 

المبحث السادس

في اقسام الوضع

 

من المعروف تقسيم الوضع الی اربعة اقسام:

1 - الوضع عام والموضوع له عام.

2 - الوضع خاص والموضوع له خاص.

3 - الوضع عام والموضوع له خاص.

4 - الوضع خاص والموضوع له عام.

والمراد من الوضع المفهوم الذي يتصور حين الوضع. ومن الموضوع له المعنی المرتبط باللفظ بعلقة وضعية.

والکلام في مقامين نبحث في احدهما عن امکان الاقسام الاربعة وفي الآخر عن وقوعها:

المقام الاول: لا اشکال في امکان القسم الاول فيتصور المفهوم العام ويوضع اللفظ له او للمعنون بذلك العنوان. فقد يتصور حقيقة الحيوان الناطق وهو مفهوم عام ويجعل له لفظ الانسان. وقد يتصور عنوان الضاحك بالقوة ونحوه ويجعل لفظ الانسان مثلا للطبيعة المتعنونة بذلک العنوان لا لنفس مفهوم الضاحك بالقوة. فهذا العنوان العام سبب للتوصل الی وضع اللفظ بازاء الطبيعة الکلية. ويکفي في الوضع تصور الموضوع له بوجه ولا يتوقف علی تصوره بذاته.

واما القسم الثاني فتوهم الاستحالة انما يأتي من قبل ما ذکره بعض الاجلة من ان الوضع لا يمکن ان يکون خاصاً لان الصورة الذهنية المتصورة لا يمکن ان تکون جزئية وان کانت مقيدة بالف قيد ولا يؤثر في جزئيتها انحصارها في الفرد الواحد ولا کونها مأخوذة من فرد واحد فان الصور النفسية تحکي عما يطابقها لا عما اخذت منه ولا يمکن ان تتقيد حکاية الصورة بعلل الوجود کالصورة الفوتوغرافية.

والجواب عنه: ان الصور الذهنية وان لم ترتبط بالخارج مباشرة فلا تکون جزئية الا انها ترتبط به بضم الاشارة الوهمية ومن هنا ينشأ العلم بالجزئيات الخارجية والا فالجزئي بما هو جزئي ليس کاسباً ولا مکتسباً _ کما قيل _ ومن هنا ايضاً ينقسم المفهوم الی کلي وجزئي والا فلابد من ان يکون المفهوم کلياً ابداً.

قال المحقق الطوسي في شرح الاشارات (كلية الإدراك وجزئيته تتعلقان بكلية التصورات الواقعة فيه وجزئيتها ولا مدخل للتصديقات في ذلك فإن قولنا هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت جزئي وقولنا الإنسان يقول القول في وقت كلي ولم يتغير فيهما إلا حال الإنسان والوقت والقول بالجزئية والكلية وكل جزئي يتعلق به حكم فله طبيعة توجد في شخصه إنما تصير تلك الطبيعة جزئية لا يدركها العقل ولا يتناولها البرهان والحد بسبب انضياف معنى الإشارة الحسية إليها أو ما يجري مجراها من المخصصات التي لا سبيل إلى إدراكها إلا الحس وما يجري مجراه).[23]

واما القسم الثالث فالمشهور امکانه نظراً الی ان تصور الکلي تصور للافراد بوجه وهو کاف في المقام.

ولکن قد اعترض علی ذلك بأنّ تصور الکلي ليس تصوراً للافراد بوجه اذ الکلي لا يحکي عن افراده وانما ينطبق عليها ويتحد معها وجوداً فهو بهذا اللحاظ يحمل عليها بالحمل الشايع الذي ملاکه الاتحاد الوجودي. ولکن ملاك الحکاية والمرآتية هو الاتحاد المفهومي والماهوي. والکلي لايحکي عما ينطبق عليه بل يحکي عما يطابقه فالانسان مثلا وان کان منطبقاً علی زيد وعمرو وغيرهما الا انه لا يحکي الا عن الجهة الجامعة بينها. اذن فتصور الکلي يصحح وضع اللفظ بازائه لا بازاء افراده.

ويمکن الجواب عنه بوجهين:

الوجه الاول: ان الکليات علی قسمين:

القسم الاول: الکليات التي تنطبق علی افرادها باعتبارها اجزاءاً تحليلية منها وذلك کالکليات المتأصلة. فمصحح انطباق الانسان علی افراده ان الفرد ليس الا نفس هذه الطبيعة مع انضمام الخصوصيات الفردية. وهذا القسم لا ينطبق علی الفرد بكل أجزائه بل بجزئه التحليلي فهو لا يحکي الاعن الجزء التحليلي. وعلی هذا الاساس فالاعتراض المزبور وارد في هذا القسم.

القسم الثاني: الکليات التي تنطبق علی الافراد بتمام وجودها وذلك کالکليات الانتزاعية نحو (احد الامرين) المنتزع منهما. فکل من الامرين ينطبق عليه هذا العنوان ولکنه لا ينحل عقلاً الی هذا العنوان وخصوصيته الفردية. وانما هو عنوان يخترعه الذهن حسب الحاجة وليس له واقع تحليلي في الافراد.

ولذلك لو کنا نعلم ان احد الرجلين عادل ثم تعين لدينا الرجل العادل في احدهما بعينه فليس ذلك الاصيرورة المعلوم بالاجمال معلوماً بالتفصيل ولم يحصل لدينا معلوم جديد. وهذا يدل علی ان احد الرجلين ينطبق علی کل منهما بتمام اجزائه.

وهکذا عنوان فرد الانسان او جزئي الانسان او مصداق الانسان فلا مانع من ملاحظة احد هذه العناوين الانتزاعية عند الوضع.

وبذلك يندفع الاشکال لإمکان حکاية عنوان جزئي الانسان مثلاً عن کل من الافراد بتمام وجوده ويصح القول بان الوضع عام والموضوع له خاص. والعنوان العام وان کان هو (جزئي الانسان) الا انه جزئي بالحمل الاولي ولکنه کلي بالحمل الشايع نظير قولنا (الفعل اما رباعي واما ثلاثي).

الا ان هذا الجواب لا يدفع الاشکال. وذلك لان ما ينبغي ان يکون اساس الاشکال هو ان الحاکي لابد من ان يکون متحداً مع المحکي مفهوماً ولايکفي الاتحاد الوجودي وغاية ما يؤثر مصحح الانتزاع في الامور الانتزاعية هو اتحادها وجوداً مع مناشئ الانتزاع وهو مصحح الحمل الشايع ولا يستوجب الاتحاد الماهوي والمفهومي. فعنوان زيد وعمرو ونحوهما يغاير عنوان جزئي الانسان مفهوماً والملاك هو الاتحاد المفهومي وان لم يتحقق الاتحاد الوجودي کما هو الحال في الصور الذهنية التي تحکي عن الخارج مع تغايرهما وجوداً.

ومن هنا ثبت في مبحث الاصل المثبت أن الامور الانتزاعية لا يمکن إثباتها بجريان الاستصحاب في مناشئ الانتزاع مع تحقق مصحح الانتزاع وجداناً کما انه لا اشکال في ان عنوان القائم ينتزع من کل فرد يتحقق منه القيام وبذلك يصح الحمل الا انه لا يعتبر حاکياً ومرآة للفرد.

الوجه الثاني: _ وهو الصحيح _ ان المصحح للحکاية والمرآتية هو الاشارة فالعنوان المتصور لابد من ان يکون متضمناً للاشارة ففي وضع کلمة اسامة لافراد الاسد لابد من ان يکون المتصور عنوان (الذي هو فرد للاسد) وبضميمة الموصول المتضمن للاشارة يتحقق الامتداد الموهوم بين المشير والمشار اليه وهو الافراد الخارجية ويکفي ذلک في الحکاية المصحة للوضع کما يصحح الاخبار عنها.

نعم الاشارة لا يفيد علماً لما ذکرناه في مبحث استصحاب الفرد المردد وفي مبحث العلم الاجمالي من أنّ ضمّ الاشارة لا يوجب العلم بالفرد الخاص فلو علمنا ان احد الرجلين عادل فلايصح دعوی العلم التفصيلي بالعادل بضميمة الاشارة اليه بقولنا (ذلك العادل المعلوم بالاجمال من بينهما) والا لکان کل جاهل بسيط عالماً بالوقائع اذ لا يخلو المجهول من الترديد بين امرين ولا اقل من السلب والايجاب لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما. فالاشارة لا تحقق العلم ولا تفيد في جريان الاستصحاب المتوقف علی اليقين السابق الا انها تحقق الحکاية وتکفي في الوضع.

وعلی هذا الاساس ادّعی نفس هذا المعترض في الفرق بين الاطلاق والعموم الشموليين ان هناك فرقاً ثبوتياً بينهما خلافاً لغيره. وذلك بدعوی ان الموضوع في المطلق هو نفس الطبيعة وفي العام الاستغراقي هو الکثرات الخارجية نظراً الی ان کلمة (کل) مثلاً او اللام المفيد للعموم مشير الی الافراد في الخارج.

اذن فاذا قلنا ان الوضع عام فهو باعتبار ان المتصور عند الوضع کلي واذا قلنا ان الموضوع له خاص فهو باعتبار ان ذلك العنوان العام منضم الی اشارة الی الکثرات الخارجية. وذلك في قبال الوضع الخاص فانه وان کان المتصور کليا ايضاً بلحاظ انه صورة ذهنية ــ کمامر ــ الا ان الاشارة هناك حيث کانت الی فرد اختص الانطباق به فاصبحت صورة خاصة لا تنطبق علی اکثر من واحد. وبذلك کان الوضع خاصاً.

هذا ولعل القائل بالجواب الاول کان ينظر الی ما ذکرنا والله العالم.

واما القسم الرابع فقد قالوا انه غير ممکن لان الخاص لا يحکي عن العام وليس تصوره تصوراً له بوجه.

وهذا صحيح فان تصور الخاص ان لم يستوجب تصور العام کان وضع اللفظ بازائه فقط وان استوجبه فقد اصبح الوضع عاماً بلحاظ تصور الجامع وان کان الخاص منبهاً لتصوره فان ذلك ليس معنی الحکاية.

المقام الثاني: بعد ان سلمنا امکان ثلاثة اقسام من الاقسام الاربعة المذکورة يقع البحث في وقوع کل منها. وقد قيل انها واقعة جميعاً فمثال القسم الاول اسماء الاجناس ومثال القسم الثاني الاعلام الشخصية ومثال القسم الثالث الحروف واعلام الاجناس.

وهناك مناقشتان في وقوع القسمين الثاني والثالث:

اما في القسم الثاني فالمناقشة في وقوعه من جهة الموضوع له بعد ان کانت المناقشة السابقة في امکانه من جهة الوضع.

بيان ذلك ان کون الموضوع له في الاعلام الشخصية خاصاً خلاف للوجدان والعرف اما مخالفته للوجدان فلان الخصوصية لا تتحقق الا بالوجود فالشيئ ما لم يتشخص لم يوجد وما لم يوجد لم يتشخص وعليه فلو کان علم الشخص موضوعاً للخاص کان معناه انه موضوع للشيء بقيد کونه موجوداً.

وحينئذ فاذا قلنا (ان زيداً موجود) کانت القضية ضرورية بشرط المحمول لاخذ قيد الوجود في الموضوع له بحسب الوضع اللفظي فالمفاد ان زيداً الموجود موجود وهي قضية ضرورية. واذا قلنا ان زيداً معدوم کان تناقضاً وکذا ان قلنا انه اما موجود او معدوم وهذا خلاف الوجدان الحاکم بصدق هذه القضية وامکان القضية الاولی الا ان نلتزم بالتجريد في مفاد علم الشخص في هذه الموارد بان يلاحظ المعنی مع الغاء قيد الوجود المأخوذ في الموضوع له وهذا خلاف الوجدان ايضاً.

واما العرف فانه لا يؤيد وضع اللفظ بازاء المعنی بقيد الوجود وقد عرفت انه لا بد منه ان کان الموضوع له خاصاً مشخصاً. اذن فالموضوع له في الاعلام الشخصية  کلي الا انه مقيد بقيود کثيرة تجعله منحصراً في الفرد.

والجواب عن هذه المناقشة ان الموجب للتشخص هو الوجود آنامّاً لا الوجود حال النسبة. فاذا قلنا زيد موجود اي الشخص الخاص الذي وجد في زمان موجودٌ حال النسبة. وکذلك اذا قلنا ان زيداً معدوم فان المراد زيد الذي وجد في زمان معدوم حال النسبة. والعرف ايضاً يساعد علی ذلك حيث ان الاعلام الشخصية لا يوضع الا للموجود سواء کان في الانسان او البلد او الحيوان او القبيلة او غير ذلك الا انه يکفي في وضع علم الشخص الوجود في الجملة.

واما القسم الثالث فقد مثل له بالحروف والهيئات الا ان الوضع في الاول شخصي اي يلاحظ اللفظ الخاص وفي الثاني نوعي اي الهيئة في ايّ مادة من المواد اللفظية تحققت. فقد ادّعي ان الوضع في الحروف والهيئات عام والموضوع له خاص وهو المصاديق اي کل واحد منها. خلافاً للمحقق الخراساني الذي مرّ منه القول بان الموضوع له فيها عام ايضاً وانما التشخص ناشئ من الاستعمال.

وتقريب القول بان الموضوع له فيها خاص هو ان الحروف موضوعة للنسب ــ کما قيل ــ او موضوعة للمعاني المشتملة علی النسب ــ کما قلنا ــ وليس للحروف مادة وهيئة فيکون الدال علی النسبة هيئتها وعلی اللون الخاص کالابتداء والاستعلاء مادتها.

وحينئذ فلابد من ملاحظة النسبة وکيفية وضع اللفظ لها.

اما في مرحلة التصور فلا يمکن ان يتصور النسبة الخارجية اذ ما يتحقق في الذهن ليس الا عنواناً للنسب الخارجية وذلك لان وجود النسبة اندکاکي ومتقوم بطرفيها وليس لها وجود مستقل فلا يمکن ان يتصور واقع النسبة بمعنی ان يکون لنفس الماهية وجود ذهني وانما يتصور مفهوم اسمي مستقل يجعل عنواناً للنسب الخارجية فما يتصور نسبة بالحمل الاولي الذاتي، وليس نسبة بالحمل الشايع نظير كلمة الفعل في جملة ( الفعل اما رباعي واما ثلاثي).

واما في مرحلة الموضوع له فلا بد من ان يوضع اللفظ لمصاديق النسبة اذ ليس لها جامع مقولي فيوضع بازائه حتی يکون الموضوع له عاماً کما في الجواهر والاعراض التي لها جامع طبيعي مقولي. والمراد بالجامع المقولي اي ما يقال في الجواب عن ما هو وهو حقيقة الشيء حسب وجهة النظر الفلسفية القديمة.

توضيح ذلك ان النسب ليس بينها حقيقة مشترکة بل هي متباينات في الواقع. وذلك لان حقيقتها متقومة بطرفيها وافتراض جامع بينها اما ان يکون متقوماً بطرفين فهو مغاير حقيقة لغيره من النسب واما ان لا يکون کذلك فيخرج عن حقيقة النسبة. فالجامع بين النسب ليس الا ذلك المفهوم الاختراعي الذي يجعل عنواناً لها في مرحلة التصور لوضع اللفظ للمصاديق. وعليه فالوضع في الحروف عام والموضوع له خاص وهو کل نسبة خارجية بحده.

والجواب عن هذا التقريب بوجوه:

الوجه الاول: ان ما ذکر من ان النسب ليس لها جامع مقولي وان الجامع المتصور عنوان اختراعي وانه ليس نسبة بالحمل الشايع صحيح الا ان هذا لا يمنع من کون اللفظ موضوعاً للمعنی العام ولا حاجة الی کون الجامع مقولياً ونحن حينما نلاحظ النسب الخارجية نجد بالوجدان انقسامها الی اصناف متعددة فمنها ابتدائية ومنها ظرفية ومنها استعلائية وهکذا... وهذا يکشف عن جهة جامعة بين کل صنف منها وهو اللون الخاص ولکل منها جهة خاصة شخصية وهي تقوّمها بالطرفين.

فان قيل: ان انقسام النسبة الی ما به الاشتراك وهو اللون وما به الامتياز وهو التقوم بالطرفين الخاصين تقسيم اختراعي لا واقعية له.

 قلنا: ولکن الامر کذلك في الاعراض ايضاً فهي في نظر المدرسة الفلسفية القديمة بسائط في الواقع لا تنقسم الی ما به الاشتراك وما به الامتياز وانما يخترع الذهن لها جنساً وفصلاً. قال السبزواري في منظومته:

جنس وفصل لا بشرط حملا       ومدة وصورة بشرط لا

في الجسم تان خارجيتان في        اعراضه عقليتان فاقتف

اذن فلا مانع من کون الموضوع له عاماً وان کان جامعاً انتزاعياً وعنواناً للنسب الواقعية الخارجية.

الوجه الثاني: انه قد تبين مما ذکرناه في البحث عن حقيقة الوضع ان الذي يمسّ الابحاث العلمية هو العلقة بين اللفظ والمعنی اي الوضع بالمعنی الاسم المصدري واما الوضع المصدري فهو علی تقدير تحققه من واضع خاص لا اثر له في البحث العلمي.

وتبين ايضاً ان العلقة الوضعية انما يحصل بين اللفظ والمعنی بمرور اللفظ مع افهام المعنی في مرحلتين يتحقق في احداهما التلازم والاستتباع بمقتضی تداعي المعاني الناشئ من کثرة التقارن في الاحساس ويتحقق في الاخری الهوهوية واکتساب الماهية الاعتبارية بينهما.

وسواء قلنا ان الوضع يتحقق في المرحلة الاولی ــ کما قيل ــ او انه يتحقق في المرحلة الثانية ــ کما قلنا ــ فان الموضوع له في الحروف لا يمکن ان يکون خاصاً اذ يتوقف حصول العلقة الوضعية علی کلا التقديرين علی کثرة التقارن في الاحساس بين اللفظ والمعنی. ولو کان معنی الحرف هو النسبة الخاصة المتقومة بالطرفين او ما يشتمل علی النسبة الکذائية لم يحصل التقارن بين اللفظ وهذا المعنی الا مرة واحدة لعدم تکرر النسبة مع قيد تقومه بالطرفين الخاصين.

ومن هنا يتبين ان کثرة التقارن في الاحساس توجب إلغاء خصوصية المعنی وتحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والجهة الجامعة بين الافراد.

وهذا نظير وضع اسماء الاجناس فان اول تعبير عن الحيوان المفترس الخاص بالاسد وقع عند ما شاهد العربي هذا الحيوان او سمع به وبعد ان شاهد نظيره استعمل نفس اللفظ فيه من باب المشابهة ثم کثر الاستعمال حتی حصل التلازم او الهوهوية بين اللفظ والجهة الجامعة بين الافراد.

وهذا بخلاف الوضع في الاعلام الشخصية حيث ان الارتباط بين الانسان والشخص الذي يضع له علم الشخص ــ سواء کان انسانا او بلدا أو اي شيء خاص يرتبط به ــ ارتباط وثيق متکرر يحتاج معه الی وضع لفظ خاص له.

ومن هنا کان وضع الاعلام للحيوانات باشخاصها مختصاً ببعض المجتمعات التي تهتم بشأن الحيوان الخاص کالعرب البدوي.

الوجه الثالث: ان النسبة المدلولة للحروف ــ مطابقة او تضمناً ــ ليست جزئية في جميع موارد الاستعمال بل هي تابعة في الجزئية والکلية، والتعدد والوحدة للمنتسبين.

ففي قولنا:( سرت من البصرة الی الکوفة) يحکي الحرف عن نسبة جزئية او عن معنیً يتضمنها وذلك لان مبدأ السير ومنتهاه موضع خاص خارجاً. ولکنه في قول الآمر (سر من البصرة الی الکوفة) لا يحکي عن موضع خاص لانحلال الامر بحسب الامکنة التي يمکن ان تقع مبدأ للسير ومنتهی لها فالمأمور به ليس فرداً متعيناً بل هو کلي.

وقد تتعدد النسبة کما في جملة (سار القوم من البصرة الی الکوفة) لتعدد مبادئ السير ونهاياته بخلافه في المثال الاول حيث کان متحداً.

وهذا مع أنه واضح ربما يناقش فيه بان مقتضی انحلال الامر في (سر من البصرة) استعمال الحرف في جميع الامکنة التي يمکن ان يتحقق منها ابتداء السير فهو من قبيل استعمال اللفظ في اکثر من معنی الا ان المأمور مختار في انتخاب احدها. وليس هذا من استعمال اللفظ في الکلي.

والجواب عنه واضح اذ الوجدان والذوق يحکمان بوحدة المدلول في هذه الموارد لا تعدده.

ثم ان هذا التقسيم انما هو بلحاظ اختلاف المعنى حين اللحاظ وفي مرحلة الموضوع له. وهناك تقسيم آخر بلحاظ اختلاف اللفظ في کيفية الوضع.

فقد قيل: ان الوضع ينقسم بلحاظ اختلاف اللفظ الموضوع الی نوعي وشخصي فالوضع الشخصي في مثل اسماء الاجناس والاعلام الشخصية حيث ان اللفظ الخاص بمادته وهيئته وبما له من الوحدة الشخصية يوضع لاحد المعاني. وکذلك وضع مواد المشتقات فمجموعة حروف (ج ل س) مادة وضعت بشخصها للدلالة علی الحالة الخاصة من دون تقيد بهيئة خاصة.

واما الوضع النوعي فكوضع الهيئات فان الواضع لاحظ هيئة (فاعل) ووضعها للدلالة علی من صدر عنه الفعل الا ان الهيئة حيث کانت غير قابلة للتصور بنفسها الا مع الاندماج في ضمن مادة ما کان لابد للواضع ان يتصورها کذلك الا انه لم يقيدها بتلك المادة بالخصوص ولذلك کان وضعها نوعياً.

هذا وقد اشرنا خلال البحث عن التقسيم السابق الی انه يبتني علی توهم ان هناك واضعاً خاصاً فرداً او جماعة نظّم مفردات اللغة ولاحظ المعاني ووزّع عليها الالفاظ بالطرق المذکورة وهو امر لا يمکننا تصديقه.

وهذا التقسيم ايضاً کسابقه لا يستند الی اساس علمي فمن المستبعد جداً ان يکون هناك واضع شخصي لاحظ الالفاظ تارة بمادتها وهيئتها وتارة المادة أو الهيئة منفصلة عن الاخری فلا يعدو هذه الفرضية امراً خيالياً لا يصدقه الواقع الخارجي.

والصحيح ان اللغة ظاهرة اجتماعية وليس عملاً فردياً والوضع في الغالب وضع تعيني يتبع قانون الاختراع والاتباع بان يکون اول من يعبر عن حالة الجلوس ــ مثلا ــ بهذه الکلمة قد اتّبع تناسباً ذهنياً بين اللفظ والمعنی ولو کان تناسباً وهمياً. فهذا اول الاختراع ثم تبعه غيره. وهکذا في سائر الالفاظ مع ملاحظة استعمال الهيئة الخاصة في الحالة الخاصة من دون التنبه الی تحليل الکلمة الی هيئة ومادة، بل بملاحظة الشبه بين اللفظ المستعمل في المعنی الاول واللفظ المستعمل في المعنی الثاني وهکذا.

وانما نشأ التحليل الی هيئة ومادة ودلالة کل منها علی شطر من معنی الکلمة بنحو تعدد الدال والمدلول من دراسة اللغة دراسة فلسفية، حيث يکشف الفيلسوف اللغوي النقاب عن الارتکاز الذهني في ابناء اللغة الذي يربط بين کل من المادة والهيئة مجردة عن الاخری وبين المعنی الخاص.

واما الوضع التعييني في الفاظ المشتقات وملاحظة الواضع کل مادة مجردة عن الهيئة ووضعها وضعاً شخصياً وملاحظته کل هيئة بعنوان کلي ووضعها وضعاً نوعياً فهو أمر يحتاج الی عناية زائدة وهو بعيد عن الواقع فان اللغة کسائر الشؤون الاجتماعية تنشأ بالتحول والتکامل.

بل الامر کذلك حتی في اسماء الاجناس کما ذکرناه حيث يعبّر عن الفرد الخاص من الحيوان المفترس مثلا بالاسد لتناسب ذهني ولو وهمياً ثم يطلق علی غيره بالمشابهة ثم بالتکرر يحصل الاستتباع ــ علی قول ــ والاتحاد الماهوي اعتباراً ــ علی ما هو الصحيح ــ بين اللفظ وبين الجهة الجامعة فاساس الاوضاع اللغوية هو تقليد المستعملين کل من الآخر وطابع التقليد من الشؤون الاساسية في اعمال الانسان. والعلقة الوضعية بين اللفظ والمعنی حصيلة هذا التقليد في ابناء المجتمع الا ان مستقر العلقة الوضعية قد لا يکون مع نفس اللفظ الاول ولا في نفس المعنی الاول فاللفظ يتحول بالابدال والادغام والتصحيف والنحت وغير ذلك والمعنى يتبدل من فرد خاص استعمل فيه اللفظ الی الجهة الجامعة الى غير ذلك من التطورات.

اذن فاللغة بهذا الوضع الخاص قد تحققت نتيجة لتطوّر کبير طرأ علی الاستعمال الاول الناشئ من ملاحظة تناسب وهمي ــ غالباً ــ بين اللفظ والمعنی وربما يکون ذلك محاکاة للاصوات الطبيعية المناسبة للمعنی کما يلاحظ ذلك في کثير من الکلمات.

 

 

 

 


([1]) المصدر المذکور ص 423.

[2] شرح الاشارات ج1 ص 22

[3] وسائل الشيعة ج1 ص 315 باب وجوب الاستنجاء

[4] يوسف: 29

[5] النساء: 2

[6] البقرة: 187

([7]) الاصول علی النهج الحديث ص 8.

([8]) الاسفار ص 17

([9]) المنظومة ص 61.

([10]) المنظومة ص 34.

[11] الانبياء: 26

([12]) هامش اجود التقريرات ج1 ص 24.

[13] تهذيب الاصول ج1 ص22

[14] نهاية الدراية ج2 ص 503

[15] كفاية الاصول ص 67

[16]

([17]) في اول بحث الاوامر من الدرر.

[18] الرحمن: 3-4

[19] لعل المراد انه لا يوجد هنا تعدد الدال ليقتضي تعدد المدلول

[20] كفاية الاصول ص13

([21]) الاصول علی النهج الحديث .

[22] محاضرات في اصول الفقه ج1 ص101

[23] الاشارات والتنبيهات ج3 ص309<