وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... هذه الجملة دليل آخر على امكان المعاد وذلك لان السماوات والارض اي الكون كله ملك لله تعالى وهذه ملكية حقيقية وليست اعتبارية بمعنى ان كيان الكون ووجوده متقوم بارادته تعالى فبدونها لا يبقى شيء فهو المتصرف فيه كيف يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولا يحاسب على فعله. وهذا الدليل يختلف عما سبق حيث استند الاستدلال هناك على حكمته تعالى وعدله وهنا يستند على عموم ملكه وسلطانه بمعنى انه لو فرض ان الحكمة والعدل لا يقتضيان ذلك فلا أحد يحق له ان يقاضي الله تعالى في ما يفعل ولا يتمكن منه أحد فكل ما تتصور غيره فهو مخلوق له وتابع لارادته ومتقوم به فلا يتوقف الاستدلال على ان قيام القيامة موافق للعدل والحكمة بل يكفي ان الله تعالى اراد ذلك والكون كله له يفعل فيه ما يشاء.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ... هذه الجملة ايضا تؤكد كون المعاد أمرا واقعا لا محالة والانسان لا يمكنه ان يشعر بهذا اليوم فاثباته ونفيه خارج عن حيطة فهمه وإدراكه لانه مرتبط بعالم آخر وليس له طريق الى معرفته الا الايمان والتصديق بالغيب.
و(يومئذ) بدل عن قوله (يوم تقوم..) ويؤكد ان الظرف الحقيقي للخسارة هو هذا اليوم. والمبطلون اي الذين يعتقدون الباطل ويشير بذلك الى الذين كذّبوا بيوم القيامة من دون علم وخسارتهم اعظم خسارة لانهم يخسرون انفسهم واهليهم كما في الآية الكريمة (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[1] اي ليس الخاسر غيره لان كل خسارة في الدنيا يمكن جبرها ولو لم يمكن ايضا يمكن تحملها والصبر عليها لان ايام الدنيا قصيرة وانما الخسارة الواقعية من يخسر نفسه يوم القيامة مضافا الى انه يخسر اهله فان كانوا صالحين فهم في الجنة وهو في النار وان كانوا مثله فلا علاقة بينهم بل ليس بينهم الا العداء كما قال تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).[2]
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً... يعرض القرآن هنا مشهدا من مشاهد القيامة لم يذكر في موضع آخر. والامة كل مجموعة من الناس يجمعهم هدف واحد وعقيدة واحدة وهذا المعنى له توسع كثير فربما يطلق اللفظ على المجموعة من الناس الذين بعث لهم رسول واحد وتارة يطلق على خصوص من اتبعوه والمراد هنا اخص من ذلك بكثير فالامة الاسلامية ربما تطلق في عرفنا على مجموعة يكفّر بعضهم بعضا بل لاشك ان بعضهم يعتبر خارجا عن ربقة الاسلام واما هناك حيث لا تطلق الالفاظ الا على حقائقها الواقعية فهذه الامة تنقسم الى مجموعات كثيرة اكثر بكثير من المذاهب التي نقسم المسلمين اليها فان أتباع كل مذهب ايضا لا يتفقون حتى في الاصول بل لعله اخص من أتباع المذهب كما يتبين من الجملة التالية المتضمنة لوحدة صحيفة الاعمال فهذا الامر يقتضي وحدة اخص من ذلك ترتبط بعملهم.
و(جاثية) اسم فاعل من الجُثُوّ وهو الجلوس على الركبتين وفي ذلك تذلل وتسليم واستعداد لما يورد عليهم من الجزاء. وقيل ان (جاثية) بمعنى مجتمعة ونسب ذلك الى ابن عباس ولكن لا يبعد انه اراد بذلك دلالة الجملة على اجتماع كل امة مع بعض وهذا يستفاد من كلمة (امة) فالمعنى انك ترى كل مجموعة متحدة في اهدافها وعقائدها مجتمعة بعضها مع بعض وكلها جاثية على الركب مستعدة لما يتلى عليها من حكم الله تعالى. والخطاب في قوله (ترى) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم او لكل سامع وقارئ.
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا... يظهر من الآية ان هناك كتبا لاعمال المجتمع غير الكتب التي تحفظ اعمال الافراد وبالطبع فان الكتاب ليس بالمعنى المعهود وانما المراد التنبيه على ان محاسبة المجتمعات تختلف عن محاسبة الافراد وبذلك يتبين ان الانسان مسؤول هناك عن اعماله الاجتماعية كما هو مسؤول عن اعماله الشخصية فتارة يحاسب وحده وتارة يحاسب مع الجمع الذي كان فيهم ويمكن ان لا يكون له دور الا الوقوف على حافة الشارع والمشاهدة وربما بعض الهتاف مما يستفاد منه الرضا والتأييد لما يعمله المجتمع او السكوت عنه. ومن هنا يجب ان ينتبه الانسان الى انه مسؤول عما يجري في مجتمعه فان امكنه ان يغير المفاسد ويمنعها وجب ذلك وان لم يتمكن فليعترض بلسانه وان لم يتمكن فليخرج من بينهم ان امكنه ذلك. ولكن بعض المفسرين أوّل الآية بان المراد بالكتاب جنسه فالمراد بكتاب الامة كتب افرادها. وهو بعيد مع انه لا يناسب اجتماع الامة جاثية تنتظر حساب الجمع.
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ... الآية واضحة الدلالة على ان الجزاء هناك هو نفس العمل يتجلى بصورته الواقعية فيكون على الانسان عذابا ونكالا.
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ... الظاهر انه اشارة الى كتاب الاعمال واضافته الى الله تعالى لانه من صنعه وتدبيره والتعبير بالنطق باعتبار ان هذا الكتاب يعكس نفس الاعمال بحقيقتها فليست هناك الفاظ وكلمات وانما ينطق باتيان نفس الموضوع وهو اقرب النطق الى الواقع فان النطق باللسان يراد به نقل المعنى الى ذهن المخاطب بذكر كلمة او صوت يدل عليه ويوجب تبادره الى ذهنه ولا شك انه كثيرا ما يشتبه على السامع لاشتراك الالفاظ او تقارب لفظ الكلمات او تقارب المعاني واما اذا تمكن الشخص من اتيان نفس الشيء فهو اوضح النطق. وهو لا ينطق بالباطل ولا يغير الاشياء عما هي عليه بل ينطق بالحق لانه يأتي بنفس الفعل تماما كما كان فلا يمكن التشكيك فيه. وقيل ان المراد بالكتاب القرآن ولكنه لا يناسب الجملة التالية. وتعدّي النطق بـ (على) لا يفيد كونه ضدّ المخاطبين كما ربما يتوهم بل هو باعتبار ان النطق يستلزم القاء مضمون على مسامعهم ولو بعناية.
إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ... اختلف في معنى النسخ فقيل: هو إزالة شيء واثبات غيره مكانه كقولهم نسخت الشمس الظل ومنه نسخ الحكم بالحكم. وقيل: هو تحويل شيء الى شيء. وهذا الثاني يعم الاول وغيره كنسخ الكتاب فانه لا يستلزم ازالة الاول بل نقل الفاظه الى كتاب آخر ومهما كان فالمراد هنا بالنسخ نقل الاعمال بنحو من الانحاء.
ولكن لماذا عبّر بالاستنساخ اي بصيغة الاستفعال؟ قال بعضهم ان الاستنساخ طلب النسخ وحيث انه من كلام الله فالمراد أنه تعالى يأمر الملائكة بالنسخ. وقال بعضهم انه من كلام الملائكة ومعناه إنّا كنّا نطلب النسخ من اللوح المحفوظ. ووردت في ذلك روايات عن طرق الخاصة والعامة. وفي بعضها ان النسخ لا يكون الا من اصل فلا بد من ان تكون الاعمال مكتوبة في كتاب آخر وينسخ منه في صحيفة الاعمال. وكل ذلك بعيد عن اللفظ وعن سائر الآيات التي تعبر بالكتابة لا النسخ كقوله تعالى (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ..).[3] والظاهر ان المراد بالاستنساخ هو النسخ بذاته بلحاظ انه طلب لنسخة من الشيء فصيغة الاستفعال لا تغير المعنى. والنسخ بمعنى نقل العمل الى صورة دائمة ابدية لا تفنى فيؤتى به يوم عرض الاعمال ولا حاجة الى هذه التكلفات.
فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ... تفصيل لما يؤدي اليه استنساخ الاعمال فاذا كان العمل صالحا والعامل مؤمنا فهناك النجاح الواضح فلا يكون الفوز والنجاح الا بالايمان والعمل الصالح معا ولا ينفع عمل بدون ايمان ولا ايمان بدون عمل ولكن هناك الاكثر الذين يخلطون الصالح بالسيّء وقد ورد حكمهم في قوله تعالى (وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّـئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[4] والادخال في الرحمة إمّا بمعنى موضع الرحمة اي الجنة او بمعنى أنّ الرحمة تغمرهم من كل جانب وفي التعبير بان ربهم يدخلهم اشارة الى ان ذلك مقتضى تربيتهم التربية الصالحة حتى استعدوا لدخول رحمته. والفوز المبين اي الظفر الواضح حيث يظفرون بأغلى الاماني ومنتهى المقاصد والسعادة الدائمة.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ... الفاء في قوله (أفلم) فاء الجزاء بتقدير (يقال) اي فيقال لهم.. والاستفهام للتقرير اي لاخذ الاقرار منهم بالذنب. وهذه الجملة مما يخاطبون به فعلا او تقديرا وفيها لوم وتنديد. وتقديم هذا الخطاب على العذاب لانه اول نتيجة تحصل بعد إراءة اعمالهم فالخطاب يبين لهم ان لا عذر لهم في كفرهم حيث إنّ الآيات كانت تتلى عليهم فيقابلونها بالاستكبار والاجرام وأيّ جرم افظع من الاستكبار في مقابلة الحكم الالهي ودعوة الرسل الى اصلاح النفس لتليق بالدخول في الرحمة الالهية؟! مع انهم أجرموا فوق ذلك جرائم ضد الرسل وضد المؤمنين. وللتأكيد على فظاعة استكبارهم أتى بضمير المفرد المتكلم للتنبيه على أن الآيات التي تليت عليكم لم يكن من نبي او ملك بل كانت مني بالذات.
وتوهم بعض المفسرين ان السياق اقتصر على ذكر هذا اللوم والعتاب في بيان مجازاتهم فقال انه اشد من العذاب. والصحيح ان الآية التالية متصلة بهذه الآية في بيان الخطاب الموجه اليهم ثم يأتي بعد ذلك بيان عقابهم وانه هو نفس العمل ثم مأواهم النار.
والآية لا تختص بمن كان في عهد الرسالة ونزول الآيات وسماعها من الرسول بل تشمل كل من سمعها ولو بعد قرون بل الظاهر أن الحكم يشمل من بلغه خبر الرسالة وخبر نزول الآيات فلم يهتم بها ولم يسأل عنها استكبارا عن متابعة الرسل او عن الاهتمام بالدين بوجه عام كما نشاهده اليوم في كثير من الناس نعم الآية لا تشمل من كان عدم ايمانه ناشئا من ضعف في الفهم فاصبح تابعا لأسياده المستكبرين.
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ... الجملة عطف على الجملة السابقة التي ورد عليها الاستفهام اي ألم تكونوا بحيث اذا قيل لكم ان وعد الله حق.. قلتم.. والحق هو الشيء الثابت فالمراد اما التأكيد على ان الله تعالى وعد بقيام القيامة ودار الجزاء فهو حق بمعنى انه اي نفس الوعد امر واقع وإما التاكيد على ان ما وعد به الله تعالى فهو حق سيقع لا محالة لانه قادر على كل شيء وعالم بكل شيء فاذا وعد لا يمكن ان يخلف وعده فان الخلف لا يكون الا لجهل بالمستقبل او لعدم القدرة على الوفاء.
وقوله تعالى (والساعة لا ريب فيها) عطف تفسيري على جملة (ان وعد الله حق) فان المراد بوعده تعالى هو الوعد بقيام الساعة فيترتب على كون الوعد حقا أن الساعة لا ريب فيها لانها من وعده تعالى وقولهم (ما ندري ما الساعة..) استهزاء واحتقار يقصد به الانكار لا اظهار الجهل واقعا وانما قالوا ذلك استكبارا وعتوّا فهم يعلمون المراد بالساعة ولذلك صح الجمع بين قولهم (ما ندري) والظن به فقولهم (ان نظن الا ظنا) تعبير آخر عن الانكار ايضا. و(ان) نافية اي لا نظن الا ظنا.
وربما يستغرب هذا التعبير حيث انه استثنى الظن من نفسه. وقد أجابوا عنه بوجوه وأحسن ما قيل وجهان: احدهما أن التقدير ان نظن الا ظنا ضعيفا والثاني ــ وهو أولى ــ ان المراد بالظن الاول الاعتقاد مطلقا فالجملة تعود الى معنى (ما نعتقد الا ظنّا) وأوضحوا في الجملة التالية المراد بالظن بانه لا يبلغ حد اليقين فمعناه انهم يحتملون ذلك ولكنهم لا يعلمون فهم مترددون. والاستيقان بمعنى اليقين وفي العين ما معناه ان يقن وايقن وتيقن واستيقن كله واحد.
والجواب الواضح عن مقالتهم هو انه يكفي الاحتمال لاهمية المحتمل مع ان قيام القيامة لمن تأمل الكون ووجد فيه غاية الدقة في النظام مما لا ريب فيه.
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا... هذا عطف على الجواب في (واما الذين كفروا...) اي انهم يقال لهم ذلك ثم يبدو لهم سيئات اعمالهم. والاتيان بفعل الماضي من جهة أنه أمر محقق جزما. واضافة السيئات بتقدير (من) اي بدت لهم السيئات من اعمالهم. ويظهر منه انه لا يعتد بغير السيئات من اعمالهم وذلك لقوله تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)[5] فلا يبقى لهم الا السيئات. وهي لا تحتاج الى عرض او تبيين بل يكفي ان تبدو لهم كما هي فهي بنفسها عذاب اليم وهي عذاب في الدنيا ايضا فلو قُدِّر لأحد ان يرى بالعيان كل اعماله السابقة وما ارتكبه من ظلم وعدوان وقبائح وكفر وعناد مع الحق للاقى من ذلك شر العذاب ان كان له ضمير حي ووجدان بشري صادق.
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ... (حاق) اي نزل به عاقبة فعله او مكره قال تعالى (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)[6] وفي المفردات (قيل واصله حقّ فقلب نحو زلّ وزال) وعليه فهو بمعنى الثبوت. والمراد بما كانوا به يستهزئون عذاب يوم القيامة أو النار.
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا... القائل هو الله تعالى ولم يذكر القائل احتقارا لهم حيث لا يستحقون أن يخاطبهم الله جل جلاله. والمراد بالنسيان عدم الاستجابة لتضرعهم ودعواتهم. وقيل: انه كناية عن الاهمال والاعراض والترك. ولكنه غير صحيح لانهم لا يهملون ولا يتركون. وهذا تعبير متكرر في القرآن. والكاف في قوله تعالى (كما نسيتم) تشبيه يفيد التعليل كقوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[7] والمراد بنسيانهم لقاء اليوم اي اللقاء المتحقق في هذا اليوم وهو لقاء الله تعالى ولقاء الجنة او النار ولقاء الناس بعضهم لبعض ولقاء الحساب. ومعنى نسيانهم أنهم اهملوه ولم يهتموا به. وهذا يشمل حتى من آمن به إيمانا ظاهريا ولكنه لم يهتم به في عمله وأما الذي يؤمن به إيمانا واقعيا فلا يمكن أن يهمله.
وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ... المأوى: المكان الذي يأوي إليه الانسان ويلجأ من الحر والبرد وغير ذلك، فهو في الواقع محل استراحته. والتعبير عن نار جهنم بالمأوى من باب التهكم ومن باب التأكيد على انهم لا مأوى لهم ولا ملجأ من العذاب الا العذاب وهو ليس بملجأ طبعا فمعناه نفي المأوى مؤكدا.
وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ... ربما يتصور أن الاولى أن يكون المنفي مفردا لأن نفي الجمع لا ينافي إثبات المفرد فنفي وجود ناصرين لهم لا يثبت أنه لا ناصر لهم اصلا مع انه هو المقصود. ولكن يمكن أن يكون الجمع بلحاظ تعدد المخاطبين أي ليس لاي واحد منكم ناصر ينصره.
وقد تكرر نفي وجود الناصر يوم القيامة مما يدلّ على ان القوم كانوا يتوقعون النصرة من قبيلتهم أو أسيادهم أو أصنامهم. والمشكل الأساس في الانسان انه لا يتمكن من تصور عالم ليس فيه خصائص هذا العالم فكل ما يقال له عن يوم القيامة والحضور أمام الله تعالى والسؤال والمحاكمة يتصور محكمة من المحاكم الدائرة في الدنيا وانه واقف أمام قاض يقاضيه وعنده أنصاره وأهله وذووه وهذا الخطأ الفادح في تصور ذلك العالم وما يجري فيه أدى إلى هذه الاوهام الخاطئة.
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا... الهُزُو والهُزْء مصدر بمعنى السخرية وهو هنا بمعنى المفعول به اي اتخذتم آيات الله مهزوءا بها اي استهزأتم بها فهذا العذاب والتحقير تستحقونهما لانكم استصغرتم شأن آيات الله واستكبرتم عليها واستهزأتم بها. والاستهزاء أقبح شيء يقوم به الناس اذ لا يمكن للرسل والأئمة والمصلحين والعلماء أن يواجهوها بحزم وتدبير فلو كان المخالف يأتي بدليل أمكن مواجهته بدليل ولو كان يحارب أمكنت محاربته وأما الاستهزاء فلا يقابل بشيء وهو في نفس الوقت يؤثر سلبيا على المجتمع تأثيرا قويا ويفرق العامة عن الرسل والمصلحين ولا يسمح للعامة أن يتدبروا في أمرهم فان هذه مصيبة المجتمع الذي يراد اصلاحه ولذلك قابله الله تعالى بالاستهزاء والتحقير وتشديد العذاب.
وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا... التغرير: الخداع. وفي هذه الجملة يحدد الخطاب السر في عدم ايمانهم ومعاندتهم للحق وهو الاغترار بالدنيا وما فيها من زينة وبهرجة فلم يكن عدم ايمانهم لنقص في الحجة عليهم ولا لعدم ادراكهم بل لان الايمان بدعوة الرسل كان يستوجب تركهم لكثير من الملذات والشهوات فلم تطاوعهم نفوسهم المغترة بالدنيا.
فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا... التفات من الخطاب الى الغيبة ولعله بعد التصريح باستهزائهم لآيات الله لا يليقون بالمخاطبة فتصرف عنهم احتقارا لهم والضمير في قوله (منها) يعود الى النار.
وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ... الاصل في العتب الموجدة والغضب. والعتاب هو اظهار الغضب فاذا وجدت في نفسك شيئا على احد تحبه او لا تتوقع منه ذلك اظهرت له موجدتك وهذا هو العتاب ولكن حيث ان هذا الاظهار يوجب زوال الموجدة عبر عن الرضا ايضا بالعتبى فقولك لك العتبى بمعنى لك ما ترضى به وأعتبه أعطاه العتبى فالاستعتاب بمعنى طلب العتبى والرضا. فقوله تعالى (ولا هم يستعتبون) اي لا يُطلب منهم ان يحاولوا إرضاء ربهم لفوات أوان الاسترضاء. والطلب هنا بمعنى السماح اي لا يفسح لهم المجال للاسترضاء.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ... اي ليس الحمد الا له تعالى وهذا الحصر مستفاد من تقديم الجار والمجرور. والفاء لتفريع الحمد على ما مر من حشر الناس يوم القيامة ليصل كل أحد الى غايته وينال جزاءه ويوضع في مرتبته التي تليق به وهذا هو شأن الربوبية اذ مقتضاها أن يوصل المربوب الى غايته فله كل الحمد على ربوبيته ومثله قوله تعالى (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).[8]
ولذلك وصفه تعالى بكونه رب السماوات والارض فكما أن مقتضى ربوبيته للارض إعداد كل وسائل الحياة والتنعم على هذا الكوكب كذلك مقتضى ربوبيته لكل الكون أن يكمل مسيرة الانسان ليصل الى غايته في جميع المراحل وفي جميع العوالم ولعل المراد بالسماوات العوالم العلوية بما في ذلك عالم الآخرة.
ولعله لذلك كرر لفظ الرب للاشارة الى اختلاف مقتضى الربوبية في عالم السماوات عن مقتضاها في عالم الارض والطبيعة. ثم وصفه برب العالمين ولم يعطفه بالواو لانه ليس بمعنى ربوبية اخرى وفي عالم آخر بل هو رب جميع العوالم فكأنه اجمال بعد تفصيل. هذا اذا اريد بالعالمين جمع العالم واذا قلنا انه لا يشمل الا ذوي العقول فقط فالمراد التركيز على كونه رب الانس والجن جميعا في جميع العوالم ويعود الى نفس المفاد.
وقيل ان الغرض من تكرار الرب انه ليس الها للمجموع فقط فيكون لكل عالم ايضا اله بل هو اله كل عالم ايضا ولا اله غيره. ثم ابدله برب العالمين ليكون تصريحا بشمول الربوبية. وما ذكرناه لعله اوفق بالسياق وادق.
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... الكبرياء: العظمة. وفيه نوع من المبالغة في الكبر وقيل انه يختص بالعظمة في الامور غير الحسية بل قيل انه يختص بالله تعالى ولا يطلق على غيره ويردهما قوله تعالى في سورة يونس حكاية لما قاله قوم فرعون لموسى وهارون عليهما السلام (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ). ومهما كان فالمراد بالآية ان العظمة المطلقة ليست الا له ولذلك قدم الجار والمجرور. وكل ما يطلق عليه العظمة فليس بشيء الا عظمته تعالى. والمراد بالسماوات والارض الكون كله. ولعل مناسبة هذه الجملة لهذا المقام هو ظهور تلك العظمة في ذلك اليوم فهو نظير قوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[9] مع ان الملك له دائما وأبدا ولكن في ذلك اليوم يظهر للجميع ان لا احد يملك شيئا حتى نفسه.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ... العزيز هو الذي لا يقهر ولا يغلب على أمره كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ)[10] فهو تعالى عزيز لا يقهر وحكيم لا يعمل شيئا الا ما تقتضيه الحكمة البالغة وكل ذلك للاشارة الى أن قيام القيامة وتأسيسها مما لا ريب فيه لان الله تعالى أراد ذلك وهو العزيز القهار وليس ذلك الا لحكمته البالغة التي تقتضي أن لا يكون خلق السماوات والارض باطلا وأن يكون لهذا الكون هدف فعزته تعالى وغلبته لا يستوجبان ان يفعل بعباده ما لا تقتضيه الحكمة البالغة. ولله الحمد أولا وآخرا وصلى الله على رسوله محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.
[1] الزمر: 15
[2] الزخرف: 67
[3] يس: 12
[4] التوبة: 102
[5] الفرقان: 23
[6] فاطر: 43
[7] الاسراء: 24
[8] الزمر: 75
[9] غافر: 16
[10] الطلاق: 3