مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

السورة مدنية تنقل قصة الظهار التي حدثت في المدينة المنورة وتذكر حكم الله تعالى فيها وتتبعه باحكام يتناسب مع سياق القصة. وقد مرّ في تفسير سورة الاحزاب أن الظهار كان من عادات الجاهلية يعاقبون به المرأة فيعتبرونها كالام يحرم نكاحها ولا يطلقونها فتبقى معلقة وهذا من أسوأ أنواع الظلم الذي كان المجتمع الجاهلي المتخلف يفرضه على النساء.

والروايات مختلفة في اسم المرأة صاحبة القصة وزوجها وفي بعض شؤونها ونحن نذكر هنا ما رواه الصدوق قدس سره بسند صحيح عن ابان عن أبي عبدالله عليه السلام قال (كان رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقال له أوس بن الصامت وكانت تحته امرأة يقال لها خولة بنت المنذر فقال لها ذات يوم أنت علي كظهر أمي ثم ندم من ساعته وقال لها أيتها المرأة ما أظنك إلا وقد حرمت علي فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت يا رسول الله إن زوجي قال لي أنت علي كظهر أمي وكان هذا القول فيما مضى يحرّم المرأة على زوجها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيتها المرأة ما أظنك إلا وقد حرمت عليه فرفعت المرأة يدها إلى السماء فقالت أشكو إليك فراق زوجي فأنزل الله عز وجل يا محمد قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتي‏ تُجادِلُكَ في‏ زَوْجِها.. الحديث)[1]

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتي‏ تُجادِلُكَ في‏ زَوْجِها وَتَشْتَكي‏ إِلَى اللَّهِ... (قد) حرف تحقيق تؤكد المضمون. وفي الكشاف انها هنا تفيد تحقق المتوقع حيث كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يتوقع استجابة دعاء المرأة وهي ايضا كانت تتوقع ذلك والسماع هنا بمعنى استجابة الدعاء والشكوى لا العلم بهما. والجدال والمجادلة: المناظرة والمخاصمة، وأصله من جَدْل الحبل اي فَتْله وإحكامه، فكأنّ كلا من المتجادلين يحاول إحكام ما ارتآه، او أنّ الكلام بينهما كالحبل بين شخصين يفتلانه ويشدّان فتله.

ومهما كان فالمجادلة في الغالب تشتمل على الاعتراض وعدم القبول وهذا يدل على أن المرأة أصرّت على مطالبة الرسول صلى الله عليه واله وسلم بحل المشكل وارجاعها الى بيت الزوجية كما ورد في عدة من الروايات.

والاشتكاء والشكوى بمعنى إظهار التوجع من شيء وقيل ان الاشتكاء مبالغة في الشكوى. وحيث ان المرأة واجهت رفض الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لحل مشكلها واعلامها بأنها قد حرمت على زوجها فاشتكت من الحكم الشرعي وطلبت من الله تعالى ان يفرج عنها وفي بعض الروايات انها قالت: لي صِبْية لو اعطيته اياهم ضاعوا ولو اخذتهم منه جاعوا.

وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَميعٌ بَصيرٌ... التحاور من الحَوْر اي الرجوع ويطلق على المكالمة بلحاظ أن كلا من المتحاورين يرجع الكلام الى الآخر. والجملة مستأنفة تفيد التعليل لاستجابة الشكوى ولذلك ابدل الفعل الماضي الى المضارع ليدل على انه لا يتقيد بوقت ولا بهذه القضية. كما أبدل المجادلة الى التحاور الذي يشملها ويشمل غيرها من أنحاء المكالمة ليكون المعنى أعم من القضية الخاصة. ثم علل ذلك بأنه تعالى سميع بصير اي سميع لكل صوت ومبصر لكل جسم.

والسماع هنا بمعناه الحقيقي وهو ادراك الصوت. والله تعالى يسمع الاصوات لا بآلة كما يبصر الاشياء بدونها. وربما يأول هذان الوصفان بالعلم بالمسموعات والمبصرات ولكن الصحيح أن المراد بهما ادراكها. والظاهر أن حقيقة الوصفين فيه تعالى أن المسموعات والمبصرات كلها بذواتها حاضرة عند الله تعالى غير غائبة عنه والله العالم.

وهناك فرق واضح بين العلم بالصوت وبين سماعه وهذا الفرق نشعر به عندنا بوضوح وانما اضطروا الى التأويل لان السماع متلازم في أذهاننا مع الاحساس بالصوت عن طريق الاذن وهو مستحيل عليه تعالى. ولكن المعنى في الواقع هو ادراك الاصوات وهو يشمل ما يكون بالاحساس وما يكون بحضور الاشياء عند السامع المدرك لذواتها.

والتأكيد على كونه تعالى سميعا بصيرا يؤثر ايجابا في نفسية الانسان فان استشعار أن الله تعالى يسمع كلامنا ويبصرنا وأنه حاضر معنا ومشرف علينا كل ذلك يوجّه سعينا وعزمنا ويبعدنا عن ما لا يناسب حضوره تعالى وفي نفس الوقت يبعث في نفوسنا الطمأنينة والامان ولذلك قال الامام الحسين عليه السلام على ما في الخبر (هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله)[2] وليس كذلك مفهوم العلم بالاشياء.

الَّذينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئي‏ وَلَدْنَهُمْ... بهذا البيان الواضح والقاطع نزل الوحي لينصر المرأة المظلومة ويزيل الاحساس الخاطئ لدى الرجل المظاهر حيث انه كان يتصوّر أن قبح معاشرة المرأة المظاهرة يوازي قبح معاشرة الام وهو مما تعافه النفس السليمة والضمير الشاعر ولذلك اختار الله تعالى نفس التعبير لمنع الزواج من زوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاته فقال تعالى (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ..)[3] وهذا التعبير أبلغ في المنع من اي نهي او تهديد بالعذاب.

والحاصل أن الكتاب العزيز نبّه المجتمع الساذج المتقيّد والمكبّل بالتقاليد الجاهلية الباطلة بأنّ الامومة لا تحصل بمجرّد اعتبار امرأة اُمّا مهما بالغ الانسان في التعبير عن ذلك كما كانوا يفعلونه بالظهار حيث يشبّهون المرأة بظهر الام مبالغة في تقبيح معاشرتها بأن ذلك كركوب ظهر الام فلا أثر لهذا الاعتبار وانما الامومة علاقة طبيعية بين الانسان والمرأة التي ولدته.

و(من) في قوله (منكم) للتبعيض وفي (نسائكم) للتعدية بتضمين معنى الانفصال يقال ظاهر امراته وظاهر من امراته كما يقال في الايلاء: آلى من امراته. وجملة (ان امهاتهم..) تعليل لنفي الامومة و(ان) نافية اي ما امهاتهم. والحصر المستفاد من النفي والاستثناء اضافي بالنسبة الى الزوجة المظاهرة فلا ينافي الامومة بالرضاع.

وقد ورد التنبيه على هذا الحكم ايضا في قوله تعالى (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ في‏ جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئي‏ تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبيلَ)[4] وقلنا في تفسيرها ان اعتبار الزوجة اُمّا والدَّعِيّ إبنا اعتبار باطل لا يقره الشرع. والاعتبار القانوني لا يصح الا من الله تعالى والله هو الذي يقول الحق فقط وأما غيره فقد يقول الحق وقد يقول الباطل وهو تعالى لم يجعل الازواج المظاهرات امهات حتى يحرم نكاحهن كما كان يظن اهل الجاهلية.

وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ... الضمير يعود الى المظاهرين وفي الجملة تأكيد بلام القسم وهي تؤكد ان ما يقولونه منكر وزور. والمنكر ما ينكره عامة الناس او خصوص المتشرعة ولا يعني كل ما هو محرم واما ما اشتهر بين الفقهاء في باب النهي عن المنكر انه بمعنى الحرام فلا بد من التامل فيه. و(من القول) بيان اي انه قول منكر وزور. ولعل توصيف جملة الظهار بالمنكر من القول لانها تعرّض الام التي يجب احترامها واكرامها لهذا الكلام الفظيع والتصور القبيح لمجرد تشنيع العمل بقصد انشاء تحريم المرأة.

وأما الزور فهو في الاصل بمعنى العدول والاعوجاج ومنه قوله تعالى (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ..)[5] اي تميل عن كهفهم. ويطلق الزور على الكذب لانه انحراف عن الواقع فلعل التعبير به عن هذا القول من جهة أنه خلاف الواقع لان المرأة ليست أمه أو لانه ظلم وانحراف عن الحق لانه يستوجب حسب معتقدهم ترك المرأة مع بقاء الزوجية فتبقى معلقة لا يمكنها ان تتزوج بغيره ولا ان تستمتع به وتنال حقوقها الزوجية.

والعفو هو الترك ومنه قوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)[6] اي كل ما تركته من المال لا حاجة لك فيه. وكل من استحق عقابا فتُرك فقد عفي عنه. والغفران هو الستر وهو مرحلة متقدمة من الترحم والاشفاق على المذنب، فالعفو لا يعني الا تركه ولا ينافي أن تبقى الوصمة عليه. والغفران يقتضي ستر عيبه فلا يرى عيبه أحد. وصيغة (فعول) من صيغ المبالغة ويدل على الثبات والاستمرار ولعل ذلك اشارة الى أن عفوه وغفرانه تعالى يشملان عالم الآخرة ولا تختصان بالدنيا.

وتعقيب التنبيه على كون القول منكرا وزورا بالعفو والغفران من رحمته تعالى بعباده فهو لا ينبّه على معصية ويعرّض بعقابها الا ويعقّبه بتنبيه على امكان التخلص منه بالتوبة وأن الله تعالى عفو غفور. وربما استفيد من هذا التعقيب أن الظهار حرام معفو عنه ولكنه لا يدلّ على ذلك بل الظاهر أن العفو والغفران يترتبان على التوبة.

وَالَّذينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْريرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا... من هنا يبتدئ بيان حكم المظاهر بعد ان ارتكب الجريمة فان ما سبق تنديد بها وتحريم لها ولكن ما هي وظيفة الرجل بعد ذلك هل تبقى المرأة معلقة ام يجوز لهما الاستمتاع؟ فهذه الآية وما بعدها جواب عن هذا السؤال. وكرر ذكر الموضوع وهو (الذين يظاهرون) للتأكيد على أن هذا حكم من صدر منه ذلك والجملة بمنزلة أن يقال وأما من ظاهر.. ولذلك أتى بالفاء على الخبر (فتحرير رقبة) وانما قدر (أما) لان هذه الجملة بمنزلة الجواب عن السؤال المقدر كما ذكرنا.

وأما قوله (ثم يعودون لما قالوا) فهو تقييد للموضوع و(ما) مصدرية واللام بمعنى (الى) اي يعودون الى قولهم. وأما العود فقد اختلف فيه المفسرون قديما وحديثا. والظاهر ـــ كما قال به أكثرهم ـــ أن المراد به العود الى ما حرموه على أنفسهم وهو الاستمتاع او المواقعة وذلك على تأويل القول بالمقول فيه فلا يكون المراد بما قالوا نفس القول بل المراد العود الى ما قالوا قولهم فيه وهو الاستمتاع او المواقعة والمراد بالعود ارادة العود نظير قوله تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[7] اي اذا اردت قراءة القرآن..وقوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..)[8] بناءا على ان المراد (واذا اردتم القيام) وفيه احتمال آخر.

فالمعنى أن من يظاهر ثم يندم ولا يريد مفارقة زوجته يجب عليه ان يكفر قبل المواقعة او بعدها كما في بعض الروايات. ويدل على ذلك ما ورد في بعض روايات اهل البيت عليهم السلام من عدم وجوب الكفارة الا اذا اراد المواقعة.

منها ما رواه الكليني بسند صحيح عن جميل بن دراج قال (قلت لأبي عبد الله عليه السلام الرجل يقول لامرأته أنت علي كظهر عمته أو خالته؟ قال هو الظهار قال وسألناه عن الظهار متى يقع على صاحبه الكفارة؟ فقال إذا أراد أن يواقع امرأته قلت فإن طلقها قبل أن يواقعها أعليه كفارة؟ قال لا سقطت عنه الكفارة.. الحديث)[9]

وقيل ان المراد العود الى الظهار مرة اخرى والنتيجة أن الكفارة لا تجب الا بعد الظهار الثاني وهو مخالف للروايات الصحيحة والسنة المروية عن طرق الفريقين مع أن العود لا يستلزم الرجوع الى نفس العمل بل يصح التعبير اذا عاد الى بعض متعلقاته.

وقيل المراد العود الى عادتهم في الجاهلية بعد ان تركوه في الاسلام. وهذا يوجب تخصيص الحكم بمن كانت هذه عادته في الجاهلية او كان ضمن المجتمع الجاهلي ولا يشمل من ظاهر وهو مسلم بالاساس وهو مخالف لاجماع المسلمين ولظاهر الآية الكريمة وتخصيص غير مبرر.

وقيل المراد بالعود تدارك ما قالوه كقولهم عاد الغيث على ما أفسد اي تداركه بعد الجفاف وذلك بتقدير الارادة ايضا اي يريدون العود والتدارك وهذا لا يختلف في النتيجة عن القول الاول مع كونه أظهر.

وروى علي بن ابراهيم في تفسيره حديثا طويلا ورواه عنه الكليني في الكافي بسند معتبر وفيه (فأنزل الله عز وجل "والذين يظاهرون منكم من نسائهم ثم يعودون لما قالوا" يعني لما قال الرجل الأول لامرأته أنت علي حرام كظهر أمي قال فمن قالها بعد ما عفى الله وغفر للرجل الأول فإن عليه تحرير رقبة..).[10]

ومفاد الحديث ان المراد العود الى ظهار الرجل الاول اي الاوس بن الصامت على ما في الخبر ولكن يشكل الاعتماد عليه لانه مخالف لما هو كالصريح في الآية من أن هذا العود أمر يحدث بعد الظهار لمكان (ثم) مع أنه يحدث بنفس الظهار حسب هذا الحديث مضافا الى أن العود لا يصدق على هذا الظهار باعتبار حدوثه من رجل اخر قبله. ومن جهة اخرى مقتضى هذا الحديث وهذا التفسير وجوب الكفارة بنفس الظهار مع أن الروايات الصحيحة تنفي ذلك وأخذ بها اكثر الفقهاء ولم يحكموا بوجوب الكفارة بمجرد الظهار.

والكفارة هنا مرتّبة فالمرتبة الاولى تحرير رقبة والمراد عتق الرقيق وعبّر عنه بالرقبة لانها العضو الذي يتوقف عليه الحياة فهو تسمية للكل باسم الجزء ولكن لا يعبر به عن كل انسان بل المملوك والاسير ولعله لكونه محبوسا لدى المالك والموسر فكأن رقبته مغلولة ولا يعبر عنه بالعنق مع اتحاد المعنى.

والاسلام اعترف بالرق اذا اقتضته الحرب لأن استعباد الانسان أولى له من القتل ولأن الدين يهتم بالشأن الاخروي فبالاسترقاق يحاول الابقاء على حياته وهدايته الى ما يسعد به في الآخرة والقتل يفقده كل شيء ولا يبقى أمل في نجاته في تلك النشأة. ولكنه مع ذلك حاول تحرير الرقيق عن طريق اعتباره كفارة لكثير من الذنوب ودية في القتل وموجبا للتقرب الى الله تعالى.

والمراد بالتماسّ المواقعة ومثله المسّ في قوله تعالى (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ..)[11] وغيرها من الآيات. وهذا تعبير كنائي يقتضيه أدب القرآن الرفيع. ومقتضى الآية عدم جواز المواقعة قبل التكفير كما وردت به الروايات ومنها صحيحة جميل بن دراج التي مر ذكرها آنفا. ومقتضى الآية والروايات ايضا عدم لزوم التكفير لو اختار الطلاق فهو ملزم بأحد الامرين فلا تجب الكفارة لمجرد الظهار وذلك لانه قيّد موضوع الوجوب بالعود فالذين يظاهرون ليس بنفسه موضوعا للحكم بل بعد العود. والنتيجة الزامه باحد الامرين اذ لا ثالث لهما الا تركها معلقة وهو غير جائز شرعا ومناف لحقوق الزوجة.

ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ... الوعظ كما يستفاد من (العين) هو التذكير بالخير بنحو يرقّ له قلبه وفي المفردات زجر مقترن بتخويف. والظاهر أن المشار اليه بقوله (ذلكم) هو النهي عن الظهار والامر بالكفارة ومعناه أن الله تعالى يعظكم باجتنابه وبدفع الكفارة وعدم المواقعة قبلها. والجملة الاخيرة تشتمل على تهديد حتى لا يتصور الانسان أنه في خباء البيت بمعزل عن القانون وتطبيقه فان الله تعالى خبير بكل ما يعمله الانسان وينويه حتى في خبايا ضميره فكيف بزوايا البيت؟!

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا... وهذه كفارة المرتبة الثانية لمن كان لا يملك رقّا ولا قيمته او كان في زمان او مكان لا يوجد فيه الرق كزماننا هذا فان عدم الوجدان يشمل كل ذلك. وحكمه في هذا الحال صوم شهرين متتابعين اي متواليين فلا يكفي التفريق. والظاهر منهما الشهر العربي كما أن الظاهر لزوم التتابع بينهما كاملين.

وهناك أبحاث في الفقه حول كفاية ستين يوما وان كان ضمن ثلاثة أشهر فلا يلزم أن يبدأ الصوم من اول الشهر وكذا في كفاية التتابع بين شهر ويوم من الشهر الثاني ثم تفريق باقي ايامه او تتابع واحد وثلاثين وتفريق تسعة وعشرين يوما مطلقا او في ظروف خاصة.

وكرّر التقييد بكون ذلك قبل المواقعة ليفيد عدم جوازها حتى مع عدم التمكن من العتق الا بعد ان يصوم الشهرين جزاءا له وتدل الآية على لزوم اتمام الشهرين قبل ان يتماسّا فلا يكفي الشروع بل لا تجوز المواقعة حتى لو بقي يوم واحد من صوم الكفارة.

فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكيناً... حيث ان الصوم ربما لا يتمكن منه بعض الناس لمرض او كبر فالله تعالى جعل هذه الكفارة وهي الاطعام في المرتبة الثالثة لهذا القسم من الناس. وهنا ايضا ابحاث فقهية في مقدار الطعام ونوعيته وكفاية تقديم الطعام وشروط المسكين وتعريفه.

والمسكين من السكون على ما في كتب اللغة كالمنطيق وقد اشتقوا منه الفعل فقالوا تمسكن ثم اشتقوا منه المصدر وهو المسكنة ومن حيث المعنى يختلف عن الفقير في أن المسكنة تطلق على الذلة حتى من دون فقر كما قال تعالى (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ..)[12] بناءا على انه عطف تفسير.

وفي الروايات الفرق بينهما بان الفقير هو الذي لا يسال والمسكين يسال ففي صحيحة محمد بن مسلم عن احدهما (اي الامام الباقر والامام الصادق) عليهما السلام انه سأله عن الفقير والمسكين فقال (الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي هو أجهد منه الذي يسأل).

وفي رواية ابي بصير قال قلت لابي عبد الله عليه السلام قول الله عز وجل انما الصدقات للفقراء والمساكين قال (الفقير الذي لا يسال الناس والمسكين أجهد منه والبائس أجهدهم).[13] واما من حيث الحكم الفقهي فهما واحد.

والظاهر ان المراد به في الآية هو نفس الفقير حسبما فهمه الفقهاء من الروايات وهو الذي لا يملك قوت سنته لا فعلا ولا بالقوة.

ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... الظاهر أن الاشارة بقوله (ذلك) الى تشريع هذه الاحكام والمعنى أن الله تعالى جعل هذه الاحكام لكي تؤمنوا بالله ورسوله. وحيث ان الخطاب موجّه للمؤمنين بالفعل فالمراد به أن الغرض تمكن الايمان في قلوبكم ليمنعكم من الظهار وهو يدل بالطبع على أن هذا العمل ينافي الايمان وهو كذلك لانه من بقايا الرواسب والعادات الجاهلية التي يجب على المؤمن أن ينتزعها من نفسه ولا يحوم حولها أبدا.

وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرينَ عَذابٌ أَليمٌ... الحد: المنع. فالمراد من كون شيء من حدود الله تعالى أنه يمنع من تجاوزها والله لا يمنع في هذه النشأة أحدا من ارتكاب أكبر الجرائم منعا تكوينيا فالمراد بالمنع منعه حسب القانون الالهي ومعناه أنه تعالى جعل لمرتكبه جزاءا صارما يوم القيامة. وللحد معنى آخر ان لم يرجع الى هذا المعنى وهو طرف الشيء ومنتهاه فالمعنى بناءا عليه أن هذه الامور منتهى ما يجوز الوصول اليه فلا يجوز التعدي عن هذه الحدود.

والتعبير بكون شيء من حدوده تعالى أبلغ في المنع من النهي انشاءا بل حتى من التصريح بالعقاب لأنه يعتبره كأنه حدّ ومنع تكويني وكأنه تعالى جعل مانعا عن الوصول اليه. ولذلك عبّر عن من يتجاوز هذه الحدود بالكافر فالتذييل بالجملة الاخيرة يصعد بالحكم الى أعلى المستويات.

والمشار اليه بقوله (تلك) ما مر من الاحكام فعدم الاهتمام بها يستلزم تجاوز الحدود الالهية ويستوجب وصمة الكفر وتعقب العذاب الاليم. ولعل السر في هذا التشدّد في التعبير عن هذا الحكم هو كونه من بقايا الجاهلية. والاسلام يبالغ في المنع عن العود الى الجاهلية وعاداتها حتى لو لم يكن بنفس تلك الطقوس ومن هنا ورد التأكيد في تحريم التصوير والتجسيم وأن المصوّرين من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة لان ذلك كان يجذبهم نحو ما تعودوا عليه وترسخ في نفوسهم من عبادة الاصنام وتقديسها.

ومن هذا الباب ما ورد في صحيحة زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال: (سألته عن المريض كيف يسجد فقال: على خمرة أو على مروحة أو على سواك يرفع اليه هو أفضل من الإيماء إنما كره من كره السجود على المروحة من أجل الأوثان التي كانت تعبد من دون الله وإنا لم نعبد غير الله قط فاسجدوا على المروحة وعلى السواك وعلى عود).[14]

والظاهر أن الامام عليه السلام أشار الى ما ورد في كتب العامة من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عاد مريضا فرآه يصلي وقد رفع اليه مروحة او نحوها ليسجد عليه فاخذ منه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ورماه وامره بالايماء.

ويلاحظ أن هذا التعبير ورد في موارد اخرى تتعلق ايضا بحقوق النساء او كيفية التعامل معهن منها قوله تعالى (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا..).[15]  

ومنها قوله تعالى (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).[16]

ومنها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).[17]

فلعل في ذلك وجها آخر ايضا وهو تحذير الناس من الاعتداء في عقر البيوت حيث لا يراهم احد الا الله تعالى. وهناك موارد كثيرة من الظلم يقع على النساء فلا يجدن مخرجا ولا ملجأ لعدم وجود الشهود على ما يحدث في البيوت فالله تعالى جعل على كل انسان رقيبا من نفسه بهذه التحذيرات وهذا مما لا يمكن لاي قانون أن يفرضه في المجتمع الا القانون الالهي وأما أتباع القانون الوضعي فيلجأون الى اعتبار الحق دائما مع الجانب الضعيف بالطبع اي المرأة ولكن ذلك لا يحقق العدالة دائما بل ولا غالبا.

ومن ذلك ايضا ما ورد في ذيل احكام الارث قال تعالى بعد ذكر مجموعة من الفرائض (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدينَ فيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فيها وَلَهُ عَذابٌ مُهينٌ) النساء: 13- 14. ولعل الوجه فيه كون هذه الاحكام ايضا في معرض الاعتداء الاسري الذي لا يتدخل فيه النظام الاجتماعي غالبا خصوصا في الاعصار القديمة.  

 


[1] الفقيه ج3 ص527 باب الظهار

[2] اللهوف في قتلى الطفوف ص69

[3] الاحزاب: 6

[4] الاحزاب: 4

[5] الكهف: 17

[6] البقرة: 219

[7] النحل: 98

[8] المائدة: 6

[9] الكافي ج6 ص155 باب الظهار

[10] الكافي ج6 ص152 باب الظهار

[11] الاحزاب: 49

[12] البقرة: 61

[13] الكافي ج1 ص501 باب فرض الزكاة

[14] وسائل الشيعة ج5 ص364 باب جواز السجود على المروحة

[15] البقرة: 187

[16] البقرة: 229- 230

[17] الطلاق: 1