أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ... الاستفهام للتعجيب او ــ بالاصح ــ لانشاء التعجب. والرؤية بمعنى النظر ولذلك تعدى بـ(الى). والنجوى المسارّة بين شخصين او اكثر سواء كانت أمام غيرهما ام لا. والآية تدل على أنهم نهوا عن النجوى قبل هذه الآية ولكنهم لم ينتهوا عنها. والاتيان بالفعل المضارع يدل على استمرارهم واصرارهم على ذلك وأنه لم يكن أمرا عابرا.
والنهي عن النجوى انما يكون في حالتين: الاولى أن يكون التناجي بأمر مستنكر كما ورد في هذه الآية. والثانية أن يكون موجبا لتوهم حاضر في المجلس أن التناجي بشأنه مما يوجب حزنه كما ورد في الآية بعد التالية والا فالنجوى بذاتها ليست منهيا عنها فلكل انسان أسراره وخصوصياته. وبين كل اثنين يجمعهما شأن كالزوجين والشريكين أسرار ايضا تخصهما. والحاصل أن النهي هنا لامر خارج عن حقيقة النجوى.
ولكن بعض المفسرين حيث رأى أن صدر الآية يشتمل على نهي عن مطلق النجوى حيث قال تعالى (نهوا عن النجوى) ذهب الى أنها بذاتها أمر منهي عنه ولكن المنافقين هنا تناجوا بالاثم والعدوان فازدادوا اثما. والصحيح أن المراد بالنجوى في صدر الآية نوع خاص منه وهو ما فسّره في الجملة التالية اي التناجي بالاثم والعدوان و...
والظاهر من الآية أن موردها تناجي جماعة من المنافقين ومؤامرتهم ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وضد المؤمنين فالتناجي بمعنى المؤامرة خُفيةً والله تعالى قد فضحهم في المرة السابقة وأظهر أسرارهم فنهاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عن تكرار ذلك ولكنهم لم ينتهوا واستمروا في تآمرهم فنزلت هذه الآية تهددهم وليس المراد ــ كما توهم ــ تناجيهم أمام المؤمنين بما يحزنهم فان ظاهر الآية أن موضوع النجوى كان معصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لا أنهم عصوه بنفس التناجي وذلك لمكان الباء.
والاثم يشمل مطلق المعاصي. والعدوان يختص بما يشتمل على التعدي على حقوق الآخرين والمراد بمعصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مخالفتهم لاوامره الحكومية او الخاصة. ولا يبعد أن يكون المراد بكل ذلك شيئا واحدا وهو التآمر على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فانه في نفس الوقت اثم ومعصية لله تعالى وعدوان ايضا على حقوق الآخرين اي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين فيكون العطف في (ومعصيت الرسول) عطف تفسير مضافا الى أن تآمرا كهذا لا يخلو عادة من آثام وتعديات اخرى.
ثم إن التآمر على معصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أعظم من التآمر على الاثم بذاته وان كان فيه معصية لله تعالى وذلك لأن معصية الله قد تدعو اليها الدواعي النفسية والشهوات ولذلك كثيرا ما تحدث من المؤمن ثم يتوب الى الله تعالى وأما معصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والتآمر عليه فلا يتحققان الا من المنافقين والذين في قلوبهم مرض والذين لم يترسخ الايمان في قلوبهم اذ لا يدعو اليه الا العداء لاصل الدين والرسالة وليس مما يستهوي الانسان بذاته.
وفي اكثر التفاسير أن المراد بهؤلاء اليهود او هم مع المنافقين وقال العلامة الطباطبائي قدس سره ان في شمول الآية لليهود خفاءا والوجه فيه أن اليهود لا يتوقع منهم أن ينتهوا بنهي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل لا وجه لتوجيه النهي اليهم اذ لا يعترفون برسالته وامامته فالأولى أن يقال انهم غير مقصودين بالآية قطعا فتختص الآية بجمع من المنافقين او ضعيفي الايمان. ويدل على ذلك ايضا الآية التالية حيث خاطب المؤمنين بالانتهاء عن ذلك كما سيأتي.
وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ... ورد في رواية في تفسير علي بن ابراهيم القمي أن بعض الصحابة كانوا اذا أتوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حيّوه بتحيّة الجاهلية (أنعم صباحا) و(أنعم مساءا). وهذا أوفق بالآية مما ورد في روايات العامة من أن المراد بهم اليهود وأن جمعا منهم وردوا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فقالوا (السام عليك) وذلك اولا لما مر من عدم تناسب الخطاب لليهود وثانيا لان ظاهر الآية أنهم كانوا يحيّون بذلك تحيّة حقيقية ولكنه غير ما حيّا الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم اي هو مخالف للتحية الاسلامية وأما الجملة المنسوبة الى اليهود فليس فيها تحية بل هي دعاء بالموت او السأم والضجر.
وبناءا على رواية القمي فهذا الموضوع يناسب الغرض الاساس من السورة اي المقصود من قصة الظهار حيث قلنا إن السورة تعالج أمرا أساسيا وهو عدم العود الى العادات والتقاليد الجاهلية فتكون هذه الآية ايضا في نفس السياق. ولا يبعد أن يكون ذلك هو موضوع النجوى والتآمر ايضا بمعنى أن هذه الجملة ربما تكون مبينة لنوعية ما كانوا يتداولونها في مؤامراتهم اي محاولة احياء السنن الجاهلية.
ويبدو من سياق الآية وخصوص الجملة التالية أن هؤلاء كانوا يتعمدون ذلك ويقصدون به الطعن على ما أتى به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من التحية الاسلامية واظهار الولاء لسنن الجاهلية وعاداتها. وهذا شأن كل جماعة مخالفة للثورة والاصلاح او مخالفة لاي ثقافة مستحدثة ينادي بها المصلحون في أي مجتمع من المجتمعات البشرية فالمخالفون يحاولون بشتى الطرق الحط من كرامة الثورة والثقافة الجديدة والاستخفاف بهما.
وَيَقُولُونَ في أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ... (لولا) للحث والتحريض كأنهم يطلبون من الله أن يعذّبهم بمخالفتهم للرسول صلى اللله عليه واله وسلم ويقصدون بذلك التعريض بما أخبر به الرسول صلى الله عليه واله وسلم. وهذا يدل على تعمدهم للتحية المذكورة ويمكن أن يراد به قولهم في النجوى ايضا.
والحاصل أنهم كانوا بذلك يتحدون الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والرسالة وما ورد في الكتاب من نزول العذاب على الامم السالفة ويستدلون على عدم صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في دعواه الرسالة الالهية بعدم نزول العذاب عليهم مع أنهم يخالفون الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ويتآمرون عليه ويطعنون في تحيته التي أمر بها ويتنادون بالرجوع الى السنن الجاهلية.
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصيرُ... هذا جواب لاستبطائهم نزول العذاب اي تكفيهم جهنم. وما أدراك ما جهنم؟! نار تحرق الارواح قبل الاجسام (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)[1] وهم سيصلونها يوم القيامة اي يحترقون بها وهي مصيرهم ونهاية مطافهم. و(يصلونها) جملة وصفية. والفاء في (فبئس) تعني الاستدلال على كفايته اي انها تكفيهم جزاءا لانها بئس المصير الابدي المحتوم لهم.
يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ... قيل: انه عدول عن مخاطبة المنافقين الى مخاطبة المؤمنين تعريضا بهم فيقول للمؤمنين لا تكونوا كالمنافقين في فعلتهم هذا.. وهو بعيد لان المؤمنين الذين ترسخ الايمان في قلوبهم لا يمكن أن يتآمروا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ويتناجوا بمعصيته كما مر بيانه آنفا. فالصحيح أنه خطاب للمنافقين والذين في قلوبهم مرض ولكنه تعالى خاطبهم بهذا العنوان ليذكّرهم بأنهم قد آمنوا وبايعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فلا ينبغي لهم أن يخالفوا عهدهم.
وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ... الظاهر أن الباء في قوله (بالبر) للمصاحبة وليس للتعدية اذ ليس المراد حصر موارد جواز التناجي بما يكون من البر والتقوى بل الغالب أن الناس يتناجون في شؤونهم الدنيوية الخاصة بهم ولكن اللازم أن يكون ذلك مصاحبا للبر والتقوى.
والظاهر أن المراد بالبر هنا أن لا يوجب ذلك اضرارا او ايذاءا للغير فيكون اشارة الى ما سيأتي في الآية التالية من التناجي الذي يحزن الناس فان من معاني البر الاحسان الى الغير ومن الاحسان ترك ما يوجب ايذاءه والمراد بالتقوى ان لا يشتمل على اي محرم بل على اي مشتبه مما يجب فيه الاحتياط للدين. والجملة الاخيرة وعظ وتهديد وتحفيز للتقوى من الله تعالى بتذكّر يوم الحشر حيث يحاسب الانسان على كل صغيرة وكبيرة.
وبما ذكرنا في الآيتين يتبين أن السياق ليس بصدد المنع عن أصل التناجي ولا التنديد به خلافا لما فهمه المفسرون فان التناجي بذاته ليس أمرا مستهجنا ولا مكروها وانما يمنع عنه اذا اشتمل على محرم او كان موجبا لايذاء مؤمن. ومنه يتبين ايضا أن قوله تعالى (اذا تناجيتم) بيان لظرف الحكم وليس بمعنى أنه لا ينبغي التناجي مطلقا ولكن ان كنتم فاعلين لا محالة فليكن كذا.. كما ورد في بعض التفاسير بل هذه الجملة تفيد جواز التناجي في حد ذاته.
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذينَ آمَنُوا... المراد بالنجوى هنا نوع خاص منها وهو ما يقوم به بعض الناس مع حضور شخص ثالث اما لغرض ايذائه او لغرض آخر ولكنه يستلزم ايذاءه وكثير من الناس لا ينتبه لذلك ولا يشعر أنه بالنجوى يثير الشك في بعض من حضر ويوجب تأذيه من ذلك. ومن هنا يتبين أن الآية تتعرض لموضوع آخر ليس في سياق التناجي الذي كان بين المنافقين فان ذلك كان مؤامرة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وعلى المجتمع الاسلامي والنجوى هنا مما يحدث بين المؤمنين أنفسهم وانما تعرض له السياق بمناسبة الحديث عن النجوى.
فالآية هنا تتعرض لادب من آداب المجالس يغفل عنها الناس كثيرا فكان اللازم تنبيه المؤمنين بذلك ليهذبوا محافلهم ومجالسهم مما لا يليق بشأنهم ومما يثير حفائظهم ويحزنهم ويلقي الفتنة بينهم. ومعنى كون هذه النجوى من الشيطان أنه هو الباعث والمحرّض عليها لغرض ايذاء المؤمنين والقاء الفتنة بينهم وتحزينهم. وقد ورد النهي عن هذه النجوى في الروايات ايضا فقد روى الكليني بسند صحيح عن ابي عبد الله عليه السلام قال (اذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى منهم اثنان دون صاحبهما فان في ذلك ما يحزنه ويؤذيه).[2] وهو مروي في كتب القوم ايضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
وقيل ان شأن نزول الآية أن بعض المنافقين كان يتعمد النجوى في محضر المؤمنين ليوهمهم وقوع ما يخافونه ليحزنوا بذلك. وهذا أمر طبيعي في مجتمع مختلط من المؤمنين والمنافقين ولكن الظاهر كما ذكرنا هو أن المراد ما يحدث بين المؤمنين الخالصين ايضا من باب الجهل والغفلة ولا مانع من شمول الآية للموردين.
وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ... اي ليس الشيطان بضارّهم من جهة الحزن بمعنى أن الحزن انما يحصل لهم اذا أراد الله ذلك او من جهة ما يخافون منه مما يسبب حزنهم فانهم اذا رأوا التناجي بين شخصين يتوهمون حدوث أمر خطير يضرّهم او ارادة شرّ بهم فيحزنون فالله تعالى يبعث فيهم الطمأنينة بأن لا داعي للخوف فان الضرر لا يكون الا باذن الله تعالى والشيطان لا يتمكن من الاضرار بهم بذاته وانما يحزنهم ويخوّفهم ويريد لهم الاضطراب وليس قادرا على شيء.
والغرض الاشارة الى أن الشيطان كغيره من المخلوقات لا يؤثر شيئا خارجا عن ارادة الله تعالى فلا يتوهم أنه مؤثر في الشر والله تعالى لا يريده كما يظنه المجوس وغيرهم فالشيطان ايضا محكوم بتأثير العوامل الطبيعية وهو ايضا منها فتأثيره وتأثره يدخل في النظام الكوني الذي يدبّره الله تعالى ولا يتحقق شيء منه الا باذنه.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ... تقديم الجار والمجرور للحصر اي عليه لا على غيره. والتوكّل بمعنى ايكال الامر اليه في كل شيء حتى في ما يتوقف على نشاط من طالب الحاجة. فالانسان اذا طلب حاجة لا بد له من القيام بما يقتضي الوصول اليها وأن يبذل كل جهده ومع ذلك فانه قد لا يصل الى مبتغاه لامر خارج عن اختياره فلا بد من ايكال الامر الى الله تعالى فهو الموفق والمسدد ان كان في ذلك مصلحة.
وقد قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[3] وكم وجد المؤمنون من العناية الربانية في الامور التي أوكلوا امرهم فيها اليه تعالى. وليس معنى ذلك أن لا يستخدم الانسان الوسائل الطبيعية المتاحة له كما تبين بما ذكرناه. فالمتوكل على الله تعالى يختلف عن غيره في العقيدة فحسب لا في العمل. وقوله تعالى (فليتوكل المؤمنون) يفيد أن مقتضى الايمان بالله تعالى هو التوكل عليه فمن لا يتوكل عليه فانه لا يؤمن به حق الايمان ولا يعرفه حق المعرفة.
وربما يتوهم من هذا البيان أن المتوكل على الله لا يستفيد من توكله في الدنيا وانما الفرق بينه وبين غيره في ثواب الآخرة فان العناية الربانية ليس امرا شاملا لكل موارد التوكل فكم من متوكل لم يصل الى هدفه وكم من غير متوكل بل غير مؤمن بالله وصل الى اعلى مراتب هدفه في الدنيا بالتوسل بالوسائل الطبيعية.
والجواب أن المتوكل على الله تعالى ينجح في شؤون الدنيا ايضا ولكن ليس معناه انه يصل الى ما يبتغيه فان الوصول الى كل ما يبتغيه الانسان غير ممكن ولو امكن فليس دائما من مصلحته اما في الدنيا والآخرة او في الآخرة فحسب وان ربح في الدنيا فكثير ممن يصلون الى ما يبتغون ربما ياكلون في بطونهم نارا وهم لا يعلمون (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[4] (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)[5] (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).[6] وهناك من المدعين للايمان والتوكل من لا ينال خيرا في الدنيا ولا في الآخرة لانه منافق كذاب فليس كل من يدعي التوكل متوكلا واقعا.
يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ... حيث كانت الآية السابقة تتعرض لأدب من آداب المجالس وهو عدم التناجي تعرضت هذه الآية بالمناسبة لأدب آخر من آدابها وهو لزوم افساح المجال لمن يحضر المجلس. وهذا ايضا أمر مهم يغفل عنه أكثر الناس مع أنه محل ابتلاء الغالب كما أن الحزن الناشئ من تناجي الآخرين يحصل للغالب ايضا ومن الغريب أن الانسان لا يتورع عن النجوى في حضور الثالث مع أنه لا يتحمل ذلك من غيره وكذلك يتحرج بشدة اذا حضر مجلسا غاصّا باهله ومع ذلك لا يهتمّ بمن يحضر المجلس ويقف حائرا فتجد أكثر الناس يتغافل الحاضر الحائر ولو كان هو الداخل على المجلس توقّع ان يفسح له المجال.
والتفسّح من الفُسحة اي السعة والمراد به التوسعة اي وسّعوا المكان ليسع الجليس الجديد فهو مع الامر بالافساح بمعنى واحد. قيل وانما اختير هذه الصيغة لتدل على تكلّف الافساح اي افسحوا وان كان فيه كلفة عليكم.
ولم يعلّق الامر بالافساح بأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فلا يصحّ ما قيل من أن ذلك خاص بمجلسه او أنه من باب لزوم اطاعته صلى الله عليه وآله وسلّم فان الحكم علّق على طلب التفسّح من أيّ أحد كان فقد يطلبه الحاضر وربما يطلبه صاحب المجلس او من بيده الامر بل ربما لا يطلبه أحد وانما يتطلبه الوضع فانه لا يبعد أن يكون المراد ما يشمل ذلك ايضا حيث ان من شأن المجلس في هذا الحال أن يطلب التفسح من الجلساء.
وقوله (يفسح الله لكم) جزاء الامر اي ان افسحتم يفسح الله لكم. قيل اي في الجنة واطلاق اللفظ يقتضي الشمول للفسحة في الحياة الدنيا ايضا ومعناه أنه تعالى يوسع عليكم من رحمته في الدنيا والآخرة بل لا يبعد أن يكون المراد خصوص الفسحة والسعة في الدنيا لانه هو المناسب لامتثال أمر متعلق بالشؤون الدنيوية فالظاهر أن الآية في مقام تصحيح المسار الاجتماعي وبثّ روح التعاون والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع ولا ريب أن نتيجته تلاحم المجتمع مما يؤثر في الرشد والنمو الاقتصادي وهو بدوره يهيء للمواطنين العيشة الرغيدة والفسحة في مختلف شؤون الحياة. واسناده الى الله تعالى من جهة انه نتيجة طبيعية لحسن تعاملهم مع بعض وكل ما في الطبيعة من الله تعالى.
والمشهور في كتب العامة أن الآية نزلت بشأن جماعة من البدريين حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ولم يجدوا مكانا يجلسوا فيه وحكي عن مجاهد أن الآية خاصة بمجلس الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولا دليل عليه والآية شاملة لجميع المجالس ولا وجه لتخصيصها حتى لو صحّ الخبر.
وَإِذا قيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا... النشز هو الرفع والارتفاع والمراد به هنا القيام والظاهر أن مورده في المجالس اذا اقتضى الوضع قيام الجالسين وافراغ المكان كما حدث للحاضرين في بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم للطعام حيث كانوا يجلسون بعد الانتهاء منه للمحادثة والرسول يستحيي منهم فنزلت الآية (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِحَديثٍ..).[7]
وربما يقتضي ذلك حضور شخص خاص يريد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم او صاحب المجلس ايا كان أن يسارّه او حضور جماعة بمقدار من في المجلس في ما اذا لم يكن موجب لبقائهم كمجالس الطعام فان من فرغ منه ينبغي ان يقوم ويخلي المكان لغيره ونحو ذلك من الموارد.
والحاصل أن افساح المجال للغير قد يكفي فيه التوسع وهو ما أمر به في الجملة الاولى وقد لا يكفي فلا بد من القيام او أن المصلحة تقتضي الطلب من الحاضرين أن يقوموا عن مكانهم ويفسحوا المجال لغيرهم. وحمل بعضهم النشوز على القيام للاحترام او لأي أمر آخر كالصلاة او مقابلة العدو. وهو بعيد عن سياق الآية.
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ... وهذا جزاء امتثال الامر بالنشوز اي القيام اذا اقتضت المصلحة فقوله (يرفع) مجزوم لانه جزاء الامر والتقدير ان تنشزوا يرفع. وقرأ بعضهم (يرفع) بالرفع وعليه فتكون جملة مستقلة تشتمل على دعاء. ولكنه بعيد ومخالف للقراءة المشهورة.
وتخصيص الجزاء بالذين آمنوا منهم مع أن الخطاب من أصله موجّه الى الذين آمنوا إمّا بلحاظ أن المراد بهم من رسخ الايمان في قلبه وإمّا بلحاظ أن الخطاب موجه لكل من آمن ظاهرا فيشمل المنافقين والمراد بهم هنا المؤمنون واقعا.
والظاهر أن المراد بالذين اوتوا العلم غيرهم وذلك لتكرار الموصول فالمعنى أن الله تعالى يرفع الذين آمنوا ايمانا راسخا مؤثرا في شؤون حياتهم او المؤمنين واقعا في قبال المنافقين درجات ويرفع الذين اوتوا العلم منكم درجات أعلى. وذلك لتخصيصهم بالذكر. وفي الآية اشارة الى أن امتثال الامر بالقيام عن المجلس مقتضى الايمان ومقتضى العلم اي العلم بمقام الرسالة ووجوب اطاعة امر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ... اي انه تعالى خبير بحقيقة ما تعملون وانما يحدد درجات كل انسان بمقتضى حقيقة عمله ولا أحد يعلم حقيقة أعمال الانسان الا الله تعالى فان الاعمال لا تقوّم بظواهرها بل بالنوايا التي وراءها وبالآثار التي تترتب عليها وهي كثيرة ومعقدة لا يعلمها الا علام الغيوب ولذلك فان تحديد الدرجات التي يستحقها كل انسان بمقتضى أعماله بحقائقها الخفية لا يتم عادة في هذه الحياة وانما يتم بأحسن وجه وأتمه يوم القيامة.
[1] الهمزة: 7
[2] الكافي ج2 ص660 باب في المناجاة
[3] الطلاق: 3
[4] آل عمران: 178
[5] التوبة: 55
[6] البقرة: 216
[7] الاحزاب: 53