مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها... مجموعة من الآيات تدلّ على عموم ربوبيته تعالى وتدبيره للكون، وجزيل انعامه على الانسان خاصة. وفيها تهديد ووعيد للكافرين بعذاب الدنيا قبل الآخرة.

والتعبير في هذه الآية يدلّ على الحصر فالذي جعل الارض ذلولا للانسان هو الله تعالى. ومن غيره؟! وهل بامكان موجود آخر أن يجعل ذلك؟! والعرب في الجاهلية ما كانوا ينكرون خالقيته تعالى كما يظهر من آيات عديدة، ولكنهم ينكرون ربوبيته المطلقة، ويعتقدون أنّ للكون أربابا متفرقين خلقهم الله تعالى.

ومن وجوه الاستدلال على عموم ربوبيته تعالى في القرآن هو الاستناد الى أنّ خلقه تعالى للكون بهذه الكيفية التي تكون مؤثّرا في استمرار النعم يدلّ على أنّ ذلك مقصود ومستهدف من بدء الخلقة فهو من شؤون الربوبية.

مضافا الى أنّ هذا الحصر يدفع التوهّم الذي انتشر في الآونة الاخيرة بين جهلة البشر المدّعين للعلم والحضارة، من أنّ كلّ هذه النعم وهذه الدقائق الموجودة في الكون انما هو نتيجة الصدفة، وليس وراءها قصد من جاعل وفاعل!!!

والذلول مأخوذ من الذل وهو الانقياد والاستسلام. وتوصف به الدابّة المطيعة السهلة الركوب في مقابل الصعبة، فالآية تشبّه الارض بالدابة السهلة لأنها لا تقاوم الانسان في ما يريده منها في اطار القانون الطبيعي. فالارض مستسلمة للانسان، يحرثها ويزرعها، ويستخرج ماءها ومعادنها ونفطها، ويستخدم كل ما فيها من أجزاء وعناصر لصالحه، ويدفن فيها نفاياته وهي تعيد تصنيعها الى موادّ تفيده، وهكذا..

وهذه حقيقة كونية واضحة لنا لأننا نشعر به في شؤون حياتنا، وهي في نفس الوقت عجيبة محيّرة اذا تأمّلها الانسان بدقّة، فتدلّ على إرادة حكيمة قاهرة، وتدبير ربوبي أزلي، جعل فيها كل هذه المميزات لتكون ملاذا آمنا للانسان، ويشتمل على كل مقوّمات حياته.

والمناكب جمع منكب – بفتح الميم وكسر الكاف – مفصل ما بين العضد والكتف. والظاهر أنّ المراد بها هنا أطراف الارض وجوانبها.

وقيل: المراد جبالها. ولكن لا وجه للتخصيص.

وهذا الامر استنتاج من كونها ذلولا، فالمعنى أنّ الانسان يمكنه المشي على الارض الذلول حيثما شاء، وقد جعل الله سطحها ترابا يسهل المشي عليه، كما يمكنه مدّ الطرق وتعبيدها للتنقل الى أطراف الارض وجوانبها المتباعدة. وكلما تقدم العلم البشري تبيّنت جوانب اُخرى من ذلّة الارض واستسلامها للانسان.

ولا ينافي ذلك أنّه حدث نتيجة لعوامل طبيعية في زمان طويل، وأنّ وجه الارض كان قبل ذلك حجرا صلدا يصعب بل ربما لا يمكن في بعض الأماكن السير عليها واجتيازها كما يقال، فإنّ توفر كل هذه العوامل الطبيعية نتيجة تدبير حكيم ولهدف مقصود.

وكلوا من رزقه... عطف على (امشوا) فهو ايضا ناتج من ذلّة الارض. واذا عمّمنا الرزق الى غير المأكول فالمراد بالاكل مطلق الانتفاع. والضمير يعود اليه تعالى.

واليه النشور... نشر الشيء بسطه. والمراد نشر الموتى وهو كناية عن إحيائهم وجمعهم. وتقديم الجار والمجرور للحصر بتضمين معنى التوجه فهم ينشرون ويتوجهون اليه تعالى لينال كل منهم جزاء عمله.

ولعل تناسب هذه الجملة للجملة السابقة من جهة الحكم بالسير في أطراف الارض وانتشار البشر في البلدان، فانتقل من هذا الانتشار الى يوم ينتشرون متوجهين اليه تعالى. ومناسبة اخرى أنّ الارض تحتفظ بأجسادهم البالية الى أن يحييها الله تعالى، فهذا ايضا دور للارض في مصير الانسان فهو يمتدّ الى ما بعد الحياة الدنيا.

وهذه الآية كما تأتي في سياق ذكر موارد الخير والبركة، وفي سياق الردّ على الذين كفروا بربّهم بذكر بعض آياته تعالى، تأتي ايضا مقدّمة للوعيد في الآيات التالية.

أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الارض فاذا هي تمور... الخسف في الارض: الغؤور والذهاب الى أعماقها. والمور: التردد والاضطراب.

وهكذا ينبّه القرآن البشر ضمن الحديث عن ذلّة الارض، ووفرة نعمه، وتمكن الانسان من استخدام كل ما فيها وما عليها بأنه لا ينبغي أن ينخدع الانسان بهذا السكون والهدوء الذي يشعر به من الارض، فانّها انما تكون كذلك إطاعة لربّها، فاذا أراد الله بها أن تخسف بقوم يجدونها فجأة تمور وتضطرب وتفتح فاها وتبتلعهم، كما حدث في موارد كثيرة.

والاستفهام استنكاري يراد به عدم الاطمئنان لهذا الظاهر الوديع المشهود من الارض. والمعنى اذا عصيتم ربّكم وكفرتم به فلا تأمنوا غضبه، فقد يأمر الارض لتخسف بكم وهي تضطرب بزلزال شديد.

والتعبير عن الله تعالى بمن في السماء تعبير كنائي اذ لا يحويه تعالى مكان ولا يخلو منه مكان. ولا حاجة الى التأويل بأنّ في السماء قدرته او سلطانه، فضلا عن تأويله بالملائكة، بل لا وجه له اذ ينافيه الضمير المفرد. بل المراد به الله تعالى وهو في السماء بمعنى أنّه في المقام الرفيع الذي لا تناله الأوهام ولا يصل اليه الافكار، ومن هنا يرفع المؤمن يديه للدعاء ويصوّب نظره الى السماء.

والغريب من العلامة رحمه الله حيث حمل ذلك على الملائكة، وادّعى أنّ حمله على إرادته تعالى خلاف الظاهر وإن كان له وجه، وأنّ إفراد الضمير باعتبار لفظ (من). ومن الواضح أنّ الذي يتبادر الى الذهن هو الله تعالى، بل كلّما يدقّق الباحث ايضا لا يجد مجالا لما ذكره كغيره، فالملائكة لا يعملون الا ما يؤمرون به، وليس في القرآن مورد واحد يؤمر فيه باتّقاء الملائكة وعدم الأمان منهم، لأنهم لا يؤثرون شيئا ولا ينجزون أمرا الا ما اُمروا به.

وجملة (فاذا هي تمور) تفيد أنّ المور والاضطراب يحدث فجأة، مع أنه ليس كذلك بالنظر الى الواقع، الا أنّ ما يشاهده الانسان مفاجأة، فلا توجد لاضطراب الارض عادة علامات تحذيرية.

أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير... الحاصب: الريح التي تحمل الحصباء. وقد ورد في الآيات أنّ الله تعالى عذّب قوم لوط بذلك. ومرّ الكلام حوله في تفسير سورة القمر.

والمراد بالآية أن وجوه عدم الأمان في الحياة على هذا الكوكب متعددة، فقد يزول الاطمئنان والراحة بزلزال اوخسف، وقد يزول بعاصفة هوجاء، او بصاعقة مدمرة، او بسيول وامطار، او بفيضان وهيجان للبحار والانهار، فالأخطار الطبيعية كثيرة، وكلها تستند الى أمره تعالى، فلا تأمنوا غضبه.

وقوله (فستعلمون كيف نذير) تصريح بأنّ بعض هذه الحوادث التي تبدو طبيعية قد تكون نتيجة أعمالكم وكفركم وتحقيقا لما اُنذرتم به.

والنذير مصدر. والكسر في الراء للدلالة على ياء المتكلم المحذوف. ومعنى الجملة أنكم اذا وقع عليكم العذاب ستعلمون كيف يتحقق انذاري. وهو تهديد ووعيد.

ولقد كذّب الذين من قبلهم فكيف كان نكير... النكير ايضا مصدر بمعنى الإنكار ومضاف الى ياء المتكلم. والمراد الاشارة الى تحقّق هذا الوعيد في اُمم سابقة حيث كذّبوا رسالات الله تعالى وأنكروا ربوبيته، فأتاهم عذاب الاستئصال وأهلكهم، وأهلك نسلهم، وأباد حضارتهم، ولم يبق منهم الا ما هو عبرة للآخرين.

والتعبير عن العذاب بالنكير باعتبار أنّ الله تعالى يستنكر كفرهم وإصرارهم على الكفر استنكارا عمليا بانزال العذاب، وهو شديد العقاب وسريع الحساب.

أَوَلم يروا الى الطير فوقهم صافّات ويقبضن... الضمير يعود الى كل من ينكر وجود الله تعالى او ربوبيّـته المطلقة، فيطلب منهم النظر الى ما حولهم، فكل شيء يسير حسب الخطّة المرسومة له بكل دقّة، ولكل شيء تهيّأ ما يحتاج اليه من أدوات.

فلينظروا الى الطير وهي تسبح في الفضاء فوقهم كل منها بطريقة، فتارة صافّات أجنحتها بمعنى أنها تبسطها وتارة تقبضها. والصفّ بمعنى جعل شيئين او اكثر في خط مستو، فالمراد أنها تصفّ جناحيها فتجعلهما متساويين وهو تعبير عن بسطهما.

وقوله (ويقبضن) عطف على (صافّات) من قبيل عطف الفعل على الاسم. والسبب أنّ الحالة الأصلية في عملية الطيران هي البسط، وانما يقبضن اجنحتهن لبسطها مرة اخرى فالمحرّك لهنّ هو البسط، فعبّر عن القبض بالفعل لأنّه حالة طارئة، فالمعنى انظروا اليهنّ صافّات أجنحتهنّ وربما يقبضنها.

وتختلف طرقها في الطيران باختلافها في القبض والبسط من حيث طول الزمان، ومن حيث السرعة، ومن حيث غلبة الصفيف والدفيف.

وكلها تبقى في السماء مدة طويلة او قصيرة لا تسقط على الارض، ولا تؤثّر فيها جاذبيّتها، فمَن ألهمها وعلّمها الطيران؟ ومَن صنع لها هذه الاجنحة المختلفة في قوّتها وطولها وعرضها؟!

والامر لا يختص بالطير، فكل ما خلقه الله تعالى هيّأ له كل ما يحتاجه، ولكنّ الآية تنبّه الانسان الى ما يثير اعجابه من المخلوقات. والواقع أنّ كلّها من الاعجاب بمرتبة واحدة، وكلها تدلّ على الخالق الربّ الرحمن. وإنّما يثير الطير إعجابه أكثر، لأنّه يجدها بخلاف غيره من الحيوان يتمكن من الطيران في الهواء.

وكلّما زاد الانسان تأمّلا وعلما وتنقيبا ينبغي أن يزيد فيه الاعجاب، فهو يرى بدقّة أنّ الذي هيّأ للطير هذه الميزة ليس هو الجناح فحسب، بل هناك عوامل اُخرى تؤثّر في قدرتها على الطيران، منها تركيبة أجسامها ورؤوسها، ومنها قوائمها وارجلها وغير ذلك. ولكن الغريب أنّ الانسان كلما زاد علما زاد عنادا للحق وانكارا وكفرا.

والرؤية تتعدى بدون حرف، وإنّما تعدّى هنا بحرف (الى) لتضمينه معنى النظر، لأنّ الرؤية بذاتها ليست فعلا اختياريا، والقرآن يدعو الناس الى النظر والتأمل الى الطير فوقهم. والطير جمع طائر ولذلك أرجع اليها ضمير المؤنث.

ما يمسكهنّ الا الرحمن... اي ما يمنعهنّ من السقوط على الارض الا الله تعالى، وإنّما عبّر بالرحمن لأنّ ذلك من شؤون رحمته الواسعة. والله تعالى يمسك الطير بما خلق لها من أجهزة تمكنها من صدّ جاذبية الارض والاندفاع في الهواء، وهو يمسكها كما يمسك غيرها ويحفظ كل ما على الارض من أن ينتشر في الفضاء بفعل جاذبية الارض نفسها.

والغرض من كل ذلك التنبيه على عموم ربوبيته تعالى بمقتضى خلقه الكون وفقا لنظام دقيق يلبّي حاجات كل شيء بما يوافق المصلحة العامة في الكون.

إنّه بكل شيء بصير... الإبصار أقرب من العلم تعبيرا الى المقصود، فإنّ الغرض بيان أنّه تعالى عليم بكل شؤون الخلق وحاجاتهم، فلم يعبّر بالعلم بل بالإبصار الذي هو نوع من الاحساس فهو حسب ذهنية الانسان أقرب الى إدراك الشيء، والا فالله تعالى لاتختلف عنده الاشياء، وليس شيء أقرب اليه من شيء.

ولم يقل (انه بها بصير) ليعود الضمير الى الطير بل بكل شيء بصير، فيشملها ويشمل غيرها ليدل على عموم الربوبية.