السورة مكية وتتعرض لموضوع المعاد وتردّ على اقاويل المشركين حول هذا الموضوع ثم تبين الجزاء هناك حسب الاعمال وتشير الى عذاب الاستئصال الذي اصاب اقواما من المكذبين بالرسالات.
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا... أقسم الله تعالى في كتابه العزيز بمجموعة من المخلوقات تتناسب مع ما يراد بيانه والمراد هنا بيان أن وعد الله حق ومنه وعده بالجزاء يوم القيامة وأن يوم الجزاء آت لا محالة. والقسم لدى التحليل ربط بين أمر يراد بيانه او طلبه او تعهد بفعل او ترك وبين شخصية المقسم به فاذا قلت والله لافعلن كذا فانك تربط بين علاقتك بالله تعالى واكرامك وتعظيمك له وبين هذا التعهد فكأنك تقول: كما أني لا انفك من اكباري وتعظيمي لربي كذلك لا انفك من هذا التعهد. وكذلك اذا قلت والله كان الامر كذا فانك تربط بين هذا التعظيم وبين صدقك في الاخبار بهذا الشيء.
واللّه تعالى يقسم بكثير من مخلوقاته كالشمس والقمر والليل والنهار وغيرها. وربما تبدو كرامة بعض ما يحلف به غريبة لنا. ولعل الوجه في ذلك أنّ نسبة الخلائق اليه تعالى من حيث التكوين نسبة واحدة، وكرامتها ليست الا من جهة استنادها اليه تعالى ودلالتها على قدرته وعلمه وعموم ربوبيته، وانما يختار من بينها ما يناسب المقسم عليه.
والذاريات من ذرت الريح الشيء بمعنى أسفّته وأطارته فالظاهر أن المراد بها الرياح التي تذرو التراب ونحوه. وقوله (ذروا) مفعول مطلق يؤتى به لتأكيد المضمون وكأنه لدفع توهم ارادة المعنى المجازي فاذا قلت ضربته ضربا تؤكد ان المراد بالضرب هو الضرب واقعا لا معنى آخر. ولذرو الرياح دور عظيم في تصفية الجو من الاتربة والابخرة والروائح الكريهة ولقح الاشجار وتكوين السحب ونقلها وغير ذلك مما وصل اليه العلم وما لم يصل ولكن المراد به هنا بقرينة ما بعدها ذرو الابخرة وجمعها في اجواء باردة لتكوين الغيوم الممطرة.
فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا... الوقر: الحِمل الثقيل وهو مفعول به ولا يبعد ان يكون المراد بالحاملات السحب حيث انها تحمل المطر او الثلج والتعبير بالحمل تجوز تشبيها للسحب بدواب تحمل الاثقال مع انها لا تحمل الماء والثلج كما هو واضح وانما تتحول اليهما بسبب المؤثرات الخاصة في الجو. ولعل الوجه في عطفها على الرياح الذاريات بالفاء الدالة على الترتيب من جهة أن الرياح هي السبب في تكوّن الغيوم وفي حركتها وانتقالها. وحيث ان الفاء عطفت الحاملات على الذاريات فيتعلق بها القسم المذكور ايضا وكذا فيما بعدها.
فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا... اي الجاريات بيسر وسهولة و(يسرا) مصدر فيجوز ان يكون صفة لمفعول مطلق والتقدير جريا ذا يسر ويجوز ان يكون بمعنى اسم الفاعل ويكون حالا من الجاريات. والمراد بها ــ على الظاهر ــ السفن التي تجري في البحر بيسر وسهولة بالرغم من انها تحمل أثقالا عظيمة وهذه من النعم الكبرى التي منّ الله تعالى بها على عباده وتطرّق لذكرها كثيرا في كتابه العزيز والسفن كانت من قديم الزمان والى يومنا هذا من أرخص وأقوى وسائل الحمل والنقل. ولعل عطف الجاريات بالفاء الدال على الترتيب ــ كما مر ــ من جهة أن جريانها بسبب الرياح ايضا.
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا... التقسيم تجزئة الشيء الى اقسام وايصال كل قسم الى من يستحقه و(أمرا) مفعول به وهو بمعنى الشيء وجمعه امور. وبناءً على التفسير المأثور كما سيأتي يراد بها الملائكة الكرام لانهم بأمره تعالى يقسّمون الارزاق وغيرها من الامور التي قدّرها الله تعالى حسبما اُمروا به والمراد بالامر هنا كما قيل الجمع او الجنس لان الملائكة تقسم كل الامور ولعل وجه العطف بالفاء على الرياح من جهة أنها تحمل السحاب الى المكان الذي قُدِّر له المطر والمطر مما يقسّمه الملائكة. والتأنيث في قوله (فالمقسمات) باعتبار الجمع كقوله تعالى فيهم ايضا (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا)[1] وقد مر في تفسيرها انهم طوائف من الملائكة وجاء في نفس السورة التعبير عنهم بالجمع المذكر قال تعالى (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ). [2]
ومثل التعبير عنهم بالمقسمات امرا قوله تعالى (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)[3] والتدبير من الله تعالى كما قال (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ)[4] ولكن حيث ان الملائكة هم الوسطاء والشفعاء وعن طريقهم ينزل التدبير صح التعبير عنهم ايضا بالمدبرات امرا. قال تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)[5] وهذه الآية تدل على أن الملائكة شفعاء في الخلق والتدبير ولكن شفاعتهم لا تكون الا باذنه تعالى.
وقيل ان كل هذه الاوصاف الاربعة اوصاف للرياح فالذاريات هي الرياح التي تنشئ السحاب أولا والحاملات الرياح التي تحمل السحب الى اماكن مختلفة والجاريات الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها والمقسمات الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار.
ولكنه غير صحيح لان الرياح ليست هي التي تقسم الامطار وانما توصل السحب وتحركها مضافا الى ان التقسيم لم يتعلق في الآية بالمطر ليسند الى الرياح بل بالامر ولا معنى لاسناد تقسيم الامر الى الرياح وانما يصح اسناده الى الملائكة والامر يشمل المطر وغيره.
وروى القمي في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً» فقال: إن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن الذَّارِياتِ ذَرْواً قال الريح وعن فَالْحامِلاتِ وِقْراً فقال هي السحاب وعن فَالْجارِياتِ يُسْراً قال هي السفن وعن فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً فقال الملائكة. وروت العامة هذا الحديث ايضا عنه عليه السلام بطرق مختلفة.
وفي الدر المنثور عن عدة من المجاميع الحديثية قال (جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب فقال أخبرني عن الذَّارِياتِ ذَرْواً قال هي الرياح ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما قلته قال فأخبرني عن الحاملات وِقْراً قال هي السحاب ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته قال فأخبرني عن الجاريات يُسْراً قال هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته قال فأخبرني عن المقسمات أَمْراً قال هنّ الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضرب مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالايمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب في ذلك إلى عمر فكتب عمر ما أخاله الا قد صدق فخلّ بينه وبين مجالسة الناس.
ولم يتبين ذنب هذا الرجل المبرر لهذه العقوبة. وما أظن اول الحديث مطابقا للواقع ففي رواية اخرى في الدر المنثور ايضا سأل صبيغ التميمي عمر بن الخطاب عن الذَّارِياتِ ذَرْواً وعن الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً وعن النَّازِعاتِ غَرْقاً فقال عمر: اكشف رأسك فإذا له ضفيرتان فقال: والله لو وجدتك محلوقا لضربت عنقك ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه مسلم ولا يكلمه.
فالظاهر أنه لم يجب على سؤاله وانما أمر بهذا الحكم الغريب لانه سأله عما لا يعلمه!!! والظاهر أنه اعتبر حلق الرأس علامة كونه من الخوارج لانهم كانوا يحلقون رؤوسهم وكانوا يسألون هذه المسائل لايجاد الشبهة في أفكار العامة ولا شك انه من خبثهم كما أن ابن الكوا الذي سأل أميرالمؤمنين عليه السلام كان منهم ايضا وله مواقف كثيرة من الخبث في مقابله عليه السلام ولكنه لم يضربه ولم يهنه بل أجابه عن كل ما سأل وما واجه الخوارج بعنف الا بعد أن قتلوا الناس ونشروا الرعب في المجتمع. ولو كانوا لمجرد أفكارهم الخاطئة يستحقون القتل لقتل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذا الثديّة وجماعته فهو بالرغم من التحذير عنهم وعن أفكارهم لم يأمر بقتلهم. ثم انه تبين بعد الكشف عن رأسه أنه ليس منهم فما المبرر لضربه وإبعاده؟!
ومن غريب ما في الحديث انه لو لم يسمع التفسير من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله؟! وما المانع من تفسير المفردات خصوصا في مثل قوله تعالى (والذاريات ذروا) فانه لا يحتمل غير الرياح؟! فهذا كله قرينة على أن صدر الحديث مجعول مع أنه لا يناسب رأي الخليفة حول القرآن والحديث حيث انه صاحب الكلمة المشهورة (ان الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله) وهو الذي منع كتابة الاحاديث النبوية واستمر المنع قرنا او اكثر وعذره في ذلك ان الناس يشتغلون بالاحاديث وينسون كتاب الله تعالى فلو كان فهم معاني الآيات متوقفا على الاحاديث لم يكن وجه لما صنعه.
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ... (ما) موصولة فالمعنى أن الذي وعدكم الله تعالى صادق بمعنى أنه يتحقق لا محالة والصادق في الواقع هو فاعل الوعد وهو الله تعالى فاسناده الى ما وعد بالمجاز نظير قوله تعالى (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)[6] مع ان الرضا صفة صاحب العيشة، ويمكن ان تكون (ما) مصدرية واسناد الوصف على حقيقته بمعنى أن الوعد او الوعيد صادق اي متحقق.
والوعد يشمل الخير والشر قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ..)[7] والوعيد والايعاد ايضا كذلك في اصل اللغة ولكنهم في الغالب يستعملونهما في خصوص الشر. وقيل ان قوله (توعدون) من الايعاد ولا دليل عليه بل ظاهر عطف الآية التالية انهما من باب واحد وهو الوعد العام والدين العام.
وهذه الجملة هي المقسم عليها ولعل مناسبتها مع الإقسام بما ذكر ان حركة الرياح والسحب والسفن وتقسيم الامور والارزاق والامطار كلها من باب تدبير الامور لتنظيم حياة الانسان على هذا الكوكب مما يدل على أنه لم يخلق سدى فلا بد له من يوم يجازى فيه على اعماله ونحن نجد ان الانسان لا يوضع موضعه الصحيح في هذه الحياة فكم من انسان يستحق المجد والثناء بل يجب ان يطاع باذن الله وهو يعيش في السجون او في العزلة وكم من انسان يستحق الهلاك وهو متسنم اعلى المناصب فلا بد من وجود عالم اخر يوضع فيه كل انسان موضعه وهذا مقتضى العدل الالهي وهكذا يستدل القرآن في مواضع عديدة على المعاد كقوله تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).[8]
وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ... الدين هو الجزاء وسيأتي ذكر يوم الدين في السورة ومن هنا يبدأ التعرض لهدف السورة وهو التأكيد على البعث والنشور ومجازاة كل انسان بعمله ويتبين بوضوح أن تقديم القسم بهذه الامور لالفات الانظار الى بدائع تدبيره تعالى في الكون مما يدل على أن الخلق لم يتم عبثا وجزافا ليكون ذلك حافزا للايمان باليوم الآخر. وذكر العلامة الطباطبائي رحمه الله وجها آخر للعلاقة بين هذه الاقسام والمقسم عليه وهو أن ما اقسم به كلها تسير سيرا والمقسم عليه هو نهاية السير الى الله تعالى. وهو جيد.
[1] الصافات: 1- 3
[2] الصافات: 165- 166
[3] النازعات: 5
[4] السجدة: 5
[5] النجم: 26
[6] القارعة: 7
[7] التوبة: 68
[8] المؤمنون: 115<