أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ للّه الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللّه وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
أم اتخذوا من دون اللّه شفعاء... (أم) منقطعة، اي بمعنى بل وهمزة الاستفهام للاستنكار، اي بل أتخذوا من دون اللّه شفعاء.. و(بل) للاضراب عن حثّهم على عبادة اللّه تعالى والاستفهام لاستنكار اتخاذ شفعاء من دونه، والمراد بهم اصنامهم التي قالوا انها تقربهم الى اللّه زلفى، كما مرّ في أوّل السورة، ومعنى اتّخاذهم لها من دون اللّه أي رجعوا الى الشفعاء وتركوا الرجوع الى اللّه تعالى، فاعتبروها اربابا وآلهة بدلا عن اللّه تعالى.
قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون... يعني هل تتخذونها شفعاء حتى لو كانت لا تعقل ولا تملك شيئا؟! وهذا غاية الجهل فالاصنام لا تملك شيئا لانها جماد مصنوع بأيديهم لا حول لها ولا قوّة، وهي لا تعقل ايضا فكيف تسمع كلامهم؟! ولو سمعت كيف لها ان تستجيب وهي لا تملك شيئا؟! ومن الاشياء التي لا تملكها هي الشفاعة.
ولم يخاطبهم بهذا الاستنكار مباشرة استهانة بهم، بل أمر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أن يقول لهم ذلك.
قل للّه الشفاعة جميعا... الشفاعة ضم شيء الى شيء. والشفع ركعتان في قبال الوتر. واذا طلبت من احد ان يتوسط لك عند مدير او امير فانك شفعت طلبك بما لهذا الرجل من مكانة عنده. وشفاعة الرسول والأئمة عليهم جميعا سلام اللّه بمعنى ضمّ موالاتهم ومتابعتهم الى عملك، ولا شكّ ان الشفاعة مقبولة يوم القيامة. والروايات في ذلك اكثر من أن تحصى. ولعلّ المراد بها ما ذكرناه آنفا. ولا تختص الشفاعة بالتوسّط ومحاولة ارضاء احد ليرضى عن آخر كما هو المتعارف في حياتنا.
ومهما كان فانّ الشفاعة عند اللّه لا تتم الا اذا اراد اللّه تعالى وأذن فيه. والملائكة شفعاء بمعنى انهم يتوسطون بين اللّه وخلقه في إنزال أوامر اللّه التكوينية والتشريعية. وقد وصفهم اللّه تعالى بالمدبّرات أمرا ولكن ليس لهم اي استقلال حتى في الشفاعة، وانما يطيعون أمر اللّه تعالى في كل شيء قال تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) النجم: 26، فالآية تقرر انهم شفعاء ولكن لا تغني شفاعتهم الا بعد اذنه، فلا استقلال لهم حتى في الشفاعة.
والنتيجة ان الشفاعة كلها للّه تعالى اي امرها بيده.
له ملك السماوات والارض... هذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة، فحيث انّ ملك السماوات والارض ــ اي الكون باكمله ــ له تعالى، فلا يملك احد حتى الشفاعة، لانها ايضا داخلة تحت هذا العنوان.
ثم اليه ترجعون... تقديم الجار والمجرور لافادة الحصر، اي ان المرجع ليس الا اليه تعالى. والظاهر أنّ ذكر هذه الجملة من جهة أنّ المخاطبين انما كانوا يستشفعون بالاصنام او غيرها لحاجاتهم في الدنيا فنبههم اللّه تعالى انّ الحاجة الملحّة انما هي في الآخرة، ومرجعكم اليه فلا تنفعكم شفاعة الشافعين.
واذا ذكر اللّه وحده اشمأزّت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة... المراد بهم المشركون. والاشمئزاز هو التنفّر الشديد الذي يلازم ظهوره في الوجه. ومنشأ اشمئزازهم ليس هو اسم اللّه جل جلاله، بل ذكره وحده من دون ذكر آلهتهم، فكأنّهم يرفضون ذكر اللّه تعالى الا مع ذكر أصنامهم.
وذكر المشركين بعنوان من لا يؤمن بالآخرة لعلّه للاشارة الى السبب في تنفّرهم من ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر الاصنام، وهو أنهم وان اعترفوا بالله تعالى خالقا للكون الا أنهم حيث لا يعترفون بالآخرة ولا يرون لله تعالى تأثيرا في حياتهم في الدنيا، بل يرون أن المؤثر سلبا وايجابا هو الارواح التي تمثلها الاصنام، فانعقدت في قلوبهم علاقة شديدة بها، وظهرت في قسمات وجوههم.
واذا ذكر الذين من دونه اذا هم يستبشرون... المراد بالذين من دونه الذين يدعون من دونه ــ اي بدلا عنه ــ لكشف المهمات وهم في مورد المخاطبين الاصنام. فاذا ذكرت الاصنام وحدها استبشروا. والاستبشار: الفرح الشديد الذي يظهر اثره على اسارير الوجه. فانظر الى اين يصل انحطاط الفكر البشري وتاثيره على عواطفه ومشاعره فيشمئز من ذكر خالق السماوات و الارض ويستبشر بذكر جمادات صنعها بيده.
وقوله تعالى (اذا هم..) يفيد انهم فجأة تنفرج اساريرهم ويعلو وجوههم الاستبشار!! هكذا كان المشركون آنذاك. ومثلهم كثير من عباد اللّه اذا سمعوا الحق المخالف لمذهبهم ضاقت صدورهم وبدا السوء في وجوههم، واذا تليت اباطيلهم فرحوا واستبشروا.