بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للّه فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
الحمد للّه فاطر السماوات والارض... السورة مكية، لشهادة مضامين الآيات، حيث تدعو كغيرها من السور المكية الى توحيد الرب، ونفي الشرك، والايمان بالرسالة وباليوم الآخر. وهي من السور القليلة التي بدئت بالحمد للّه تعالى، ومفاد قوله تعالى (الحمد للّه) ــ كما ذكرنا سابقا ــ ان الحمد لا يليق الا به، فكل حمد يعود اليه، اذ هو خالق الخير، وخالق كل محمدة.
والفطر بمعنى الشق، والمراد انه ابتدأ خلق السماوات والارض، أي الكون بكامله من غير مواد سابقة، ومن غير مثال، فكأنه شقّ العدم وأوجد الخلق، لان السماوات والارض عبارة عن ما سوى اللّه تعالى، بناءا على ان السماوات تعبير عن العوالم العلوية الخارجة عن الطبيعة، والارض عبارة عن العالم المادي بكل افلاكه.
ويمكن أن يكون المصحح لهذا التعبير أن الانسان اذا لاحظ الكون بطبيعته الاصلية لا يجد حوله الا سماءا تظلّه وأرضا تقلّه، وحيث يجهل ما تخفيه السماء يعبّر عنها بالسماوات، اي أعالي الكون، فاذا أراد أن يعبر عن كل العالم كان هذا أقرب تعبير الى ذهنه.
ومهما كان فالمراد بالآية واضح، وهو حمد اللّه تعالى على ابتداعه الخليقة من غير مثال، وايجادها من العدم بمحض ارادته.
جاعل الملائكة رسلا اولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع... يمكن أن يكون المراد بالجعل الجعل البسيط اي الخلق، و(رسلا) حال، فالمعنى أنه تعالى خلق الملائكة حال كونهم رسلا، بمعنى أنهم رسل من بدء الخلق. وذكر خلقهم بعد خلق السماوات والارض من قبيل ذكر الخاص بعد العام.
ويمكن ان يكون المراد بالجعل الجعل المركب فالمعنى أنه تعالى جعل لهم صفة الرسالة، وان كان ذلك من بدء خلقهم. والاول أقرب.
والرسالة اعم من الرسالة التكوينية والتشريعية، فكما أنّ الملائكة رسل الوحي، ينزلون بأخبار السماء على الانبياء، كذلك هم وسائط الخلق بينهم وبين اللّه تعالى، اذ بيدهم تدبير الامور. قال تعالى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) النازعات: 5.
وما من حركة او سكون الا وينزل امره من السماء بواسطة الملك. وعليه فلا وجه لتخصيص الرسالة هنا بالوحي، بل المراد جميع رسائل السماء واوامر اللّه تعالى التكوينية والتشريعية. ولذلك جعل الوصف لجميع الملائكة دون ملائكة الوحي، ولذلك ايضا وصفهم بكثرة الاجنحة، فان التدبير هوالذي يقتضي ذلك.
وقوله تعالى (مثنى وثلاث ورباع) اي اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا واربعا اربعا. اي ان جمعا منهم ذو جناحين وجمعا ذو ثلاث وجمعا ذو اربع.
وقد وقع الكلام بين المفسرين في المراد بالاجنحة، فأبقاه بعضهم على ما يتبادر الى الذهن من أجنحة الطير، وفسر بذلك ايضا الروايات الواردة في توصيف جبرئيل عليه السلام من ان له ستمائة جناح، ونحو ذلك من الروايات. وتوقف بعضهم وقال انا نبقيه على اجماله كما اراد اللّه تعالى ولا نتكلم في الكيفية.
وبعضهم حملها على ان المراد بها الاجهزة التي يتوقف عليها العمل بما امروا به، بناءا على ان التعبير بالمعدات والقدرات بالجناح تعبير متعارف.
وبعضهم حملها على القوة التي بها يتنقلون، كما هو الظاهر من الجناح، بناءا على ان المراد بالجناح هو ما يطار به كما في الطائر. ولا خصوصية لكيفية الجناح في صدق العنوان، ولذلك يطلق حقيقة على جناح الطائرة، فالمراد بالجناح آلة الانتقال.
والاحتمال الاخير وان لم يكن بعيدا، الا انه يحتمل ايضا ان يكون المراد الاشارة الى اختلافهم في سرعة الانتقال، فيكون جوابا عن سؤال يفرض نفسه بعد بيان ان الملائكة رسل السماء، وتاتي بالاوامر الالهية الى كل ذرة من ذرات الكون.
والسؤال هو ان الامور تختلف فمنها ما يتحمل التاخير الى ان ينزل الامر، ومنها ما لا يحتمل ذلك، فكيف يمكن أن تتوقف كلها على نزول الملائكة؟
والجواب المحتمل ان الملائكة قد تختلف في سرعتها، ولعل اختلاف عدد الاجنحة يرمز الى اختلاف السرعة. ويمكن ان يكون الاختلاف ناشئا من اختلاف الرسالات، فهناك من الرسالات ما لا تحتمل التاخير نهائيا فتصل فورا.
ولعلّ هناك من يرفض هذا الاحتمال بحجة أن مجال عمل الملائكة خارج عن الزمان والمكان فلا معنى هناك للسرعة كما أنه لا معنى للانتقال المكاني.
ولكن يمكن أن يقال إن السرعة لا تنافي ذلك فإن عملهم اذا انتقل الى هذا العالم لا بد من اصطباغه بصبغة الزمان والمكان. ويلاحظ أن الملائكة الكرام لما أرادوا تنفيذ الحكم بعذاب قوم لوط عليه السلام نزلوا ابتداءا بصورة ضيوف من البشر على ابراهيم عليه السلام وأخبروه بذلك، ثم وردوا على لوط عليه السلام وبعد محادثات بينهم وبينه وخروجه مع اسرته نفّذوا العذاب. وهذا بالطبع يستلزم زمانا وتأخيرا. واللّه العالم.
يزيد في الخلق ما يشاء ان اللّه على كل شيء قدير... لعله اشارة الى ان زيادة الاجنحة لا تنحصر في ذلك، ولا تتوقف عند حد. والظاهر انه قانون عام ينطبق في المقام وغيره ولا ينحصر به، فالكون كله في زيادة، سواء في ذلك عالم المادة والعوالم الغيبية. وليس هذا غريبا على اللّه سبحانه فانه على كل شيء قدير، ولعله لم يكتف بذكر الضمير، بل أعاد ذكر الاسم الجليل تنبيها على أن عموم القدرة من شؤون الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال.
وأما القول بأن الملائكة لها أجنحة كأجنحة الطير تطير بها في الاجواء العليا فكلام سخيف، وتصور ساذج عن حقائق الكون، وفهم خاطئ لكلام اللّه سبحانه، نظير ما يقال في العرش والكرسي، والنظر الى اللّه، ولقاء اللّه، ووجه اللّه، ويد اللّه، وغير ذلك من الكنايات والاشارات والرموز التي امتاز بها هذا الكتاب العظيم.
ومن المضحك ما في تفسير الكشاف من البحث عن موضع الجناح الثالث في الملائكة الذين لهم ثلاث اجنحة.
فهذا النوع من التفسير يبتني على سد باب الكنايات، كما ان هناك ما يقابله وهو الافراط في التاويل الذي يستوجب حمل كل كلام على خلاف ظاهره بل صريحه، كما ذهب بعض الناس الى تفسير الايات الواردة في يوم القيامة الى يوم قيام الناس بوجه الظلم والطغيان الى اخر ما يستتبعه هذا التاويل. وهذا باطل قطعا كالاول.
ما يفتح اللّه للناس من رحمة فلا ممسك لها... كأنّ الآية الاولى مقدمة لهذه، فاللّه تعالى فاطر السماوات والارض، وهو الذي جعل الملائكة وسائط رحمته، وهو يزيد في خلقهم كخلق غيرهم كما يشاء، فكل امر بيده، وكل خير منه، وكل ضرر منه ايضا، ولا احد يستطيع منع وصول خيره او ضرره، وهذه الآية تبعث في نفس الانسان الطمأنينة والسكون الى الحياة، وتؤيسه من الركون الى غير اللّه سبحانه.
والتعبير بالفتح يقرب الرحمة اكثر فاكثر، فان مفاده ان خزائن الرحمة مليئة، وانما يتوقف الامر على فتح الباب فحسب. وعبّر بالناس لان الرحمة لا تخص المؤمنين باللّه تعالى، بل انه يفتح ابواب رحمته للناس جميعا.
وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم... التعبير بالامساك باعتبار ان الفتح يستلزم الارسال، ويقابله الامساك والمنع. والضمير في (له) يعود الى (ما).
وربما يستغرب التعبير بقوله (من بعده) بناءا على رجوع الضمير الى اللّه تعالى اذ ليس له تعالى قبل ولا بعد. والصحيح أن الضمير يعود الى الامساك اي من بعد امساكه، ويمكن أن يكون المعنى فلا مرسل له غيره، كقوله تعالى (فَذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) يونس: 32، اي غير الحق.
وقوله (وهو العزيز الحكيم) يفيد انه بالرغم من تمنّعه من ان يغلبه ويؤثر في ارادته شيء كما هو مقتضى عزته، الا ان الفتح أو الامساك لا يكون الا لحكمة تقتضي أحدهما.
و(ما) في الجملتين شرطية تفيد معنى الموصول ايضا ولذلك صدّر الجواب بالفاء.
ثم ان هذه الآية ونظائرها لا تمنع من التوسل بالاسباب، سواء كانت طبيعية ام غيرها كما يتصور، بل المراد تنبيه الانسان الى ان كل شيء يعود اليه سبحانه، وان كان عن طريق الاسباب والسنن التي جعلها اللّه وسائل للوصول الى الاهداف، فلا يظنّنّ احد ان هذه الاية وامثالها تدعو الى نقض السنن الالهية، بل الصحيح ان الاسباب سواء كانت طبيعية ام غيرها كالتوسل باوليائه سبحانه هي ابواب رحمته التي فتحها للناس، فمن ترك التوسل بها لم يصل الى هدفه وغايته.
يا ايها الناس اذكروا نعمت اللّه عليكم هل من خالق غير اللّه يرزقكم من السماء والارض لا اله الا هو... خطاب للبشرية بأن لا يحيدوا عن عبادة اللّه تعالى شكرا له على ما أنعم به عليهم. فقد رزقهم كل ما يحتاجون اليه وتتوقف عليه حياتهم على هذا الكوكب. والسؤال الوارد في الآية للانكار اي ليس هناك خالق غيره تعالى يرزقكم.
وجملة (يرزقكم) وصفية، ويشير بذلك الى أن الرزق من شؤون الخلق بمعنى أنه تعالى خلقكم وخلق الكون بحيث ينال كل أحد وكل موجود حيّ رزقه من الطبيعة، والرزق هو كل ما يحتاج اليه من ماء وغذاء وهواء وعلم ومعرفة وغير ذلك، فالمراد تنظيم وسائل الارتزاق والتعيش في الكون لكل موجود حيّ حسب ما يناسبه ويناسب بيئته. وليس المراد بالرزق ايصال الطعام والشراب كما يتوهم.
وهذه الآية بمنزلة النتيجة لما سبق من ان اللّه تعالى فاطر السماوات والارض، وجاعل الوسائط بينه وبين خلقه، فكل تدبير منه، ولا احد يمكنه أن يسد بابا فتحه، ولا يفتح بابا سدّه، فهو الخالق، وهو الرازق، وكل نعمة منه تعالى، فأين تذهبون؟ ومن تعبدون؟ ومن تطيعون؟ وحدوا كلمتكم في عبادته وطاعته فلا منعم غيره.
والناس يذكرون النعم ويعرفون قسما كبيرا منها، ولكن الذي يجهلونه او يتجاهلونه هو انها من اللّه تعالى. والمخاطبون ــ وهم مشركو العرب ــ يعترفون بان خالق الكون هو اللّه، ولكنهم يظنون أن الرزق من غيره، فيعبدون الاصنام طلبا للرزق، وخوفا من بطش الارواح الخبيثة. والآية تدعوهم الى تذكر نعم اللّه سبحانه، وتذكرهم بان الرزق من شؤون الخلق، وحيث لا خالق غير اللّه تعالى فلا رازق غيره. والامر لا يختص بالمشركين فهناك بيننا من يعتبر مجاري الرزق رازقين، ويطيع غير اللّه سبحانه ويعبده لانه يرى رزقه بيده.
وأما قوله تعالى (من السماء والارض) فيمكن ان يريد به الرزق النازل من جهة العلو كالمطر، والرزق الحاصل في الارض كالنبات والحيوان. واذا كان الرزق كله منه فلا معبود سواه (لا اله الا هو) فهذه الجملة كالنتيجة للمضمون السابق.
فأنى تؤفكون... الافك هو الصرف. والتعبير بالمبني للمجهول يوحي بأن الانسان بفطرته لا ينحرف عن ربه، وانما هناك موجبات تصرفه عنه من شهوات، ووساوس شيطانية، ودعايات معادية.
وان يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك والى اللّه ترجع الامور... الآية الكريمة تسلّي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن لا يهتم بتكذيب قومه إيّاه، فليس هو أوّل رسول يكذّبه قومه، مع ان الامور كلها ترجع الى اللّه تعالى وهو الحكم العدل، ولا يخاف الفوت فيجازي كل عامل بعمله.
وأتى بالفعل المضارع (يكذّبوك) لأن تكذيبهم مستمر. والامور بمعنى الشؤون. والاتيان بالمبني للمجهول (ترجع) للتنبيه على أن اللازم في كل حال هو ارجاع الامور الى اللّه تعالى. وفي ذلك مضافا الى تسلية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم تهديد للمكذّبين.