وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه تَبْديلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه تَحْويلاً (43) أَوَلَمْ يَسيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللّه لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَليماً قَديراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللّه النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللّه كانَ بِعِبادِهِ بَصيراً (45)
وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الامم... أي أقسم المشركون. و(جهد ايمانهم) مصدر اضيف الى المفعول واقيم مقام الفعل، فهو في الاصل يجهدون جهد ايمانهم، اي جاهدين في ايمانهم، فالمصدر هنا وضع موضع الحال، اي اقسموا جاهدين، فالمعنى أنهم أتوا بأغلظ الأيمان تأكيدا على هذه الدعوى.
والآية تدل على ان مشركي العرب لما سمعوا تعنّت الامم السابقة، ورفضهم لرسالات السماء، وسوء معاملتهم لأنبيائهم، بل قتل بعضهم حتى نزل العذاب كما كان مشهورا ومتداولا في الالسن، تبجّحوا بهذه الدعوى الفارغة، وأقسموا بها أغلظ الأيمان، وهي أنه اذا جاءهم رسول من اللّه تعالى ــ وهو المراد بالنذير ــ فسيؤمنون به ويكونون أهدى من احدى الامم السابقة. والمراد تلك الامة التي آذت نبيها فيكون ذلك تعريضا بهم، و قيل انهم بنو اسرائيل. والجملة ليست منقولة بالقول والا لقال (لئن جاءنا) بل قولهم منقول بالمعنى.
فلما جاءهم نذير ما زادهم الا نفورا... المراد بالنذير هو الرسول صلى اللّه عليه واله وسلم، فلم يزدهم انذاره هداية وتقوى من اللّه تعالى، بل زادهم نفورا عن الحق. ومعنى ذلك أنهم نافرون بذاتهم ورافضون للحق كما هو مقتضى الجاهلية، ولذلك لم يؤمنوا بالرسالات السابقة ايضا. والنذير زاد في نفورهم وتمسكهم بباطلهم وتعاضدهم على ذلك كما هو مقتضى التعصب الجاهلي. والتعصب له جذور صحيحة في الروح الاجتماعية للبشر، ولكن بعض الجوامع او اكثرها تفرط فيه فتجانب الحق.
والتعصب الممدوح هو تماسك الامة وتجمعها على محور الزعامة اللائقة حين تحوّل الاحوال، كهجوم جيش اجنبي. والتعصب المذموم هو الانحياز الى الباطل في مواجهة الحق تمشيا مع العصبة والقوم، ومنه التعصب للعقائد الفاسدة، والثقافة البائدة التي تربّوا عليها في مقابل كل جديد، وان كان حقا ناصعا يدعمه البرهان والوجدان، وهو ما ابتلي به عرب الجزيرة. والسبب في ذلك ما تبينه الآية التالية.
استكبارا في الارض ومكر السيئ... الظاهر انهما مفعول لاجله وهما سببان للنفور، وليس بدلا عنه، فالسبب في زيادة نفورهم عن الحق بعد مواجهة رسالة السماء امران: الاستكبار في الارض والمكر السيئ. والاستكبار في الارض لعله يقابل الاستكبار في النفس، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) الفرقان: 21.
والمراد بالاستكبار في النفس ان يكون الانسان معجبا بنفسه، فالذي يطلب نزول الملائكة عليه ورؤية ربه مضافا الى سذاجة عقله وادراكه، معجب بنفسه غاية الاعجاب حيث يجد نفسه لائقا لذلك.
ولعل المراد بالاستكبار في الارض الفساد في المجتمع والظلم على الناس والطغيان، قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) القصص: 4.
واقبح الاستكبار، الاستكبار في السماء، قال تعالى خطابا لابليس: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) الاعراف: 13. ولعل المراد بالتكبر في السماء التكبر امام الامر الالهي الصريح المتوجه اليه. فان كان هذا هو المناط فما اكثر مصاديقه في البشر! والحاصل ان طلب الفساد في الارض وعدم التقيد باحكام الدين واوامر السماء المانعة من الاستكبار من دواعي طواغيت قريش في النفور عن الحق.
والامر الآخر المكر السيئ. وقوله تعالى (مكر السيئ) من اضافة الموصوف الى الصفة، ولذلك عبر عنه بعد ذلك باللام (ولا يحيق المكر السيئ..). والمكر هو الحيلة والخداع، والمكر السيئ ما يقصد به الشر. وبعبارة اخرى سياسة الشر. ولعل المراد بمكرهم انهم كانوا يعلمون ان ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حق، وانما لم يؤمنوا مكرا بالناس لكي يصرفوهم عن الهداية لمصالح سياسية واقتصادية تخصهم.
وقيل: المراد مكرهم بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وبالمؤمنين، ولكن ذلك لا يناسب كونه علة للنفور عن الحق وعدم الايمان، بناءا على ما قلنا من انه مفعول لاجله وبيان لسبب النفور، وذلك لان هذا المكر تحقق بعد النفور فلا يكون علة له.
ولكن بعضهم اعتبر الاستكبار والمكر بدلا عن النفور لا علة. وهو ابعد، وذلك لان معنى الآية يكون هكذا: الرسالة لم تزدهم الا نفورا واستكبارا ومكرا، ومقتضاه انهم كانوا قبل ذلك ايضا يمكرون بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والمؤمنين وزادوا في ذلك بعد الانذار، وهذا خلاف الواقع وانما زاولوا المكر السيء بعد الرسالة.
ولا يحيق المكر السيئ الا باهله... اختلف اللغويون في تفسير الحيق، فقال بعضهم: انه بمعنى الاحاطة. وقيل: انه بمعنى النزول بالشيء. وكلاهما يناسب المقام، والمعنى ان المكر السيئ لا ينزل الا بمن حاكه، او انه لا يحيط الا به. وهذا تعقيب على مكر المشركين، وان سنة اللّه تعالى في الارض ان لا ينزل او لا يحيط المكر السيئ الا باهله.
وهذا يمكن ان يكون مبنيا على المبالغة، كقولهم: (من حفر بئرا لاخيه وقع فيه) مع انه ربما يقع الاخ فيه ايضا، بل ربما لا يصيب الحافر في العاجل شيء الا انه غالبا لن يفلت. والمكر السيئ وان اضر بالممكور به الا انه يصيب الماكر في النهاية، والغالب في السياسات الشريرة انها تهدم اساس الظلم في النهاية، ولكن حصر احاطة المكر باهله كأنه لا يصيب الممكور شيء مبني على المبالغة.
ويمكن ان يكون بلحاظ ان الشر الحقيقي هو الذي يحيط بالانسان من نتائج عمله السيئ، وهو غضب اللّه تعالى وعقابه، وهو لا يحيط الا بالماكر فهو الخاسر والمتضرر حقيقة دون الممكور به. وهذا هو الاولى في تفسير الاية الكريمة خصوصا اذا لوحظ العقاب الدنيوي فانه يصيبه عاجلا ايضا وان تاخر بعض الزمان، والآية تركز على هذا الامر وتهددهم بان ذلك سنة اللّه في السابقين، فبهذا اللحاظ يكون نتيجة المكر في الواقع محيطة به في الحياة الدنيا ايضا.
فهل ينظرون الا سنة الاولين... اي هل ينتظرون ويتوقعون الا سنة اللّه في الاولين، وهو انزال العذاب على المكذبين الذين رفضوا الانصياع الى رسالات السماء، فالفاء هنا فاء تفريع بمعنى انهم حيث استكبروا ومكروا المكر السيئ، وحيث ان المكر السيئ لا يحيق الا باهله، فماذا يتوقعون الا ان يحيق بهم ما حاق بمن قبلهم. واضافة السنة الى الاولين باعتبار أنهم موضعها.
فلن تجد لسنة اللّه تبديلا ولن تجد لسنة اللّه تحويلا... الفاء هنا تعليل للجواب المقدر، اي انهم يجب ان لا يتوقعوا الا سنة الاولين، لان سنة اللّه تعالى لا تتغير، وذلك لأن القوم ربما توهموا انهم لا يستحقون ذلك لمكانة لهم عند اللّه تعالى، او ان اللّه لا يفعل ذلك بهم لميزة فيهم، فكل انسان يجد لنفسه ما يميزه عن الاخرين، وربما يجد له ولقومه قوة لم يبلغها الاخرون.
فالجواب عن ذلك ان سنة اللّه تعالى لا يتبدل من قوم الى قوم، فان كانت سنته انزال العذاب على المكذبين فلا فرق بين قوم وقوم، وليس لهؤلاء المشركين اي ميزة، بل العكس هو الصحيح حسب معاييرهم فالذين كانوا قبلهم كانوا اشد قوة، مع ان هذا ايضا لا يوجب امتيازا اذ ان اللّه تعالى لا يعجزه شيء، ونسبة كل الاشياء اليه واحدة، وليس هناك قوي وضعيف، اذ لا حول ولا قوة الا باللّه.
والتعبير يركز على الموضوع وهو سنة اللّه تعالى ولذلك يكرر قوله (لن تجد لسنة اللّه) ومن هنا لا يبعد القول بان التبديل والتحويل واحد وانما كرر للتاكيد. وقد ورد كل منهما في القرآن على حدة، قال تعالى: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) الاسراء: 77 وقال: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه تَبْدِيلًا) الاحزاب: 62.
وقال العلامة في الميزان: تبديل السنة ان توضع العافية والنعمة موضع العذاب، وتحويلها ان ينقل العذاب من قوم يستحقونها الى غيرهم.
وهو بعيد في حد ذاته لبعد توهم التحويل بهذا المعنى حتى يحتاج الى تأكيد القران لنفيه مضافا الى انه ليس من تحويل السنة بل تحويل للعذاب.
وقيل ان المراد تغيير حالات العذاب من الشدة الى الضعف.
وهو ايضا بعيد لما ذكر فان هذا من تحويل العذاب لا تحويل السنة. فالظاهر انهما بمعنى واحد كرر للتاكيد.
أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم... استفهام تقريري اي انه يطالبهم بذلك الاقرار بأنهم قد ساروا في الارض ورأوا آثار الذين كانوا من قبلهم، وعلموا بعاقبة كفرهم وعنادهم، وما نزل عليهم من العذاب. وهم فعلا قد ساروا ورأوا ذلك وسمعوا قصصهم وتاريخهم. والغرض من ذلك، الاعتبار بما يجدون في هذا السير، وأن عليهم أن يطبّقوا القانون على انفسهم، اذ لا تبديل لسنة اللّه تعالى ولا يختلف عنده قوم عن قوم.
وكانوا أشد منهم قوة... أي ربما يتوهمون في أنفسهم أنهم اقوياء ويعجبون بقوتهم كما هو عادة البشر، وهذا الاعجاب هو أساس هلاك الناس، وهلاك الاقوام، وسقوط الأنظمة، واهتزاز العروش، فان توهموا ذلك فليعلموا أن الطغاة السابقين الذين دمّرهم العذاب الالهي، كفرعون ونمرود وقوم عاد وثمود، كانوا اشد قوة واكثر اموالا واولادا، كما تشهد به آثارهم وحضارتهم.
وما كان اللّه ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الارض... أي لا يختلف بالقياس الى قوة اللّه وبطشه قوي او ضعيف، ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الارض اي في الكون كله، اذ هو مصدر كل قوة، فلا قوة لاحد الا به ومنه، فلا معنى للاعجاب بالقوة، ولا بمقايسة قوتهم الى من سبقهم.
انه كان عليما قديرا... تعليل لعدم العجز فهو عليم بكل شيء وبما يصلحه ويفسده، وقدير على كل شيء فكيف يعجزه شيء؟! والعجز ينشأ اما من نقص في العلم او في القدرة، فربما يعلم الانسان ما يجب ان يفعله ولكن لا يملك الاجهزة اللازمة فيعجز عنه، وربما يملك الاجهزة ولكنه لا يعلم كيف يستخدمها فيعجز عن معالجة الموقف، ولكن اللّه تعالى عليم بكل شيء، قدير على كل ما يريد، لا حدّ ولا نهاية لعلمه وقدرته، فلا يعجزه شيء.
ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة... يبدو أن الآية تردّ على سؤال يفرضه الموقف، وهو ان النتيجة المحتومة مما سبق، أن اللّه تعالى يعذّب الجميع على ذنوبهم، مع أنا نجد كثيرا من الاقوام أفسدوا في الارض، وظلموا، وأشركوا باللّه تعالى، وكفروا به، وأهلكوا الحرث والنسل، ولم ينزل عليهم العذاب!!
فالجواب أن اللّه تعالى جعل لكل فرد ولكل مجتمع أجلا لا يتقدمونه ولا يتأخرون منه، ويدخل في ضمن مقومات هذا الاجل والعوامل المؤثرة في تحديده، أعمالهم وجرائمهم. واللّه تعالى لا يستعجل في عذاب الناس، ولو كان يؤاخذ كل انسان او كل مجتمع بذنبه لم يبق على الارض انسان بل ولا حيوان.
ومثله قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللّه النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون) النحل: 61 وبيّن في آية اخرى ان ما يصيب الناس انما هو نتيجة اعمالهم ولكن اللّه يعفو عن كثير (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْديكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثير) الشورى: 30 .
والضمير في قوله (على ظهرها) يعود الى الارض المعلوم من سياق الكلام، والمراد بالدابّة كل ما يدبّ اي يتحرك على الارض فيشمل الحيوان، ولذلك وقع السؤال عن سبب الشمول مع ان الحيوان لا ذنب له، بل ليس كل البشر مذنبين، ففيهم الاطفال والقاصرون، وفيهم الانبياء والمعصومون!
ولذلك قيل: ان المراد بالدابة خصوص الانسان كما في تفسير الميزان.
ويرده: انه لا موجب لهذا التعبير، مع ان الاشكال باق كما تبين بما ذكرناه.
والظاهر ان السبب في التعميم هو ان العذاب النازل لا يبقي اثرا للحياة، وليس عذابا على خصوص الظلمة، كما هو الشان في ما نزل من العذاب على الاقوام السالفة فانه كان يشمل الاطفال والحيوانات، وقد قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ) الانفال: 25، فان ظاهرها ان الفتنة وهي العذاب او سبب العذاب ربما لا تختص بالظالمين، بل تعم غيرهم كما هو مشهود ومنقول. ولكن مع ذلك يبقى عموم الاية هنا لمثل المعصومين مبنيا على التغليب. وهو واضح.
ولكن يؤخرهم الى أجل مسمى... الاجل: الوقت المحدد في الدَّين وغيره، ومنه مدة حياة الانسان وحياة المجتمع. والمسمى أي المحدّد والمعين. والمراد به هنا على ما يبدو معنى يشمل يوم القيامة، كما يشمل الاجل الذي تعين بالقضاء والقدر الالهي حسب الظروف والعوامل التي تستوجب نزول العذاب، فليس كل عمل وفي كل ظرف يستوجبه. ولذلك نجد في زماننا هذا كثيرا من الذنوب التي استتبعت عذاب اللّه في الامم السالفة تفشو في المجتمع ولا يستنكر، واللّه تعالى يمهلهم ولا يعذبهم.
ويستفاد من الايات الكريمة ان من شروط عذاب الاستئصال هو مجيء الرسول قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) يونس: 47 وقال ايضا (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الاسراء: 15.
ويمكن ان يكون المراد بالاجل المسمى الموت، فيكون المعنى ان اللّه تعالى لا يعجل بافناء الناس بسبب ظلمهم، بل يؤخر كل واحد الى اجله المعين، اي الذي تعينه سلسلة الاسباب والمسببات التي تنتهي الى موته. ومثل ذلك قوله تعالى في حكاية كلام نوح عليه السلام: (أَنِ اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى..) نوح : 3و4 فهو وعد بعدم نزول عذاب الاستئصال.
فاذا جاء اجلهم فان اللّه كان بعباده بصيرا... الجواب محذوف، اما لوضوحه او ليذهب السامع فيه كل مذهب فيفيد التهويل، فالجواب المقدر يمكن أن يكون (يجازون بما عملوا) او (لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون) او نحو ذلك.
والجملة المذكورة اي قوله تعالى (فان اللّه كان بعباده بصيرا) جملة تعليلية سادة مسد الجزاء. ومثله كثير في القران وغيره. فاذا كانت الجملة الجزائية المقدرة (يجازون بما عملوا) فالتعليل يفيد أن اللّه تعالى يعلم بما عملوا وما يناسبه من الجزاء لانه بصير بهم وباعمالهم. والحمد للّه رب العالمين.