قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
قل إنّي نهيت ان اعبد الذين تدعون من دون اللّه لمّا جاءني البينات... أمر اللّه تعالى رسوله ان يعلن للمشركين ان اللّه تعالى قد رسم له طريقة حياته، وبعث اليه بالادلة البيّنة الواضحة ما لا يبقي مجالا للشك، وأنّه تعالى قد نهاه عن عبادة الاصنام وغيرها ممّا يعبده المشركون، ليؤيسهم ويقطع طمعهم في عدوله عن تبليغ رسالته، وتهاونه في مقاومة الاعداء.
وقوله تعالى (لمّا جاءني البينات) يمكن ان يكون ظرفا للنهي فالمعنى انّ النهي عن عبادة الآلهة المزيفة ورد حين نزول البينات والبراهين الواضحة وأن يكون ظرفا للعبادة فالمعنى أنه نُهي عن عبادتها بعد مجيء البينة بمعنى أنّ الانسان يمكن أن يكون معذورا في شركه قبل ذلك ولا يعذر بعده. ويمكن ان يكون تعليلا للنهي اي انّ السبب فيه هو الادلة الواضحة التي تبيّن للانسان أنّ الرب هو اللّه تعالى فلا وجه لعبادة غيره.
ثم إنّ النهي ان كان من اللّه تعالى فهو منبّه لما يحكم به العقل من قبح العبادة لغيره بعد ثبوت أنّ الرب هو اللّه تعالى، وأنه لا حياة لغيره حياة ثابتة مستقرة مستقلة فضلا عن التأثير المستقل والتدبير الأزلي والأبدي. ويمكن ان يكون النهي من العقل.
ثم إنّ النهي لا يختص بالاصنام وان كان الخطاب لعبّادها، وذلك بمقتضى اسم الموصول الخاص بذوي العقول (الذين تدعون من دون الله) فلا بدّ من شموله لبعض ذوي العقول ايضا. وكثير من البشر يعبدون بشرا او يعبدون الجنّ والملائكة وغيرهم.
ولم يقل (تعبدون من دون الله) بل (تدعون) اي (تدعونهم) والمراد بالدعاء طلب الحاجة منهم. والعبادة ايضا انما كانت وسيلة لطلب الحاجة ولا شك أن الانسان يطلب الحاجة من غير الله من الوسائط الطبيعية وغيرها ولا يلام عليه وانما يلام على طلب الحاجة من غير الله باعتباره ربا يؤثر في الكون باستقلال فهذا هو الشرك. والى هذا المعنى يشير قوله تعالى (من دون الله) اي بدلا عنه.
واُمرت أن اُسلم لربّ العالمين... مع النهي عن عبادة غير اللّه تعالى اُمر بالاسلام لربّ العالمين. والاسلام بحقيقته هو تسليم الامر اليه تعالى. وليس المراد أن لا يحاول الانسان تغيير ما حوله فانّ ذلك ينافي سنّـة اللّه في خلقه كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد: 11، بل المراد أن الانسان يطمئنّ ويثق بأنّ كل ما يعرض عليه انما هو بعين اللّه تعالى وبإرادته فاذا لم يكن هو سببا في ذلك فلا يجزع ولا يحزن، فانّ ذلك شيء اراده اللّه وهو خير له مما يريده امّا في الدنيا والآخرة او في الآخرة فحسب.
وفي الدعاء المنسوب الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (اللّهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك... ومن اليقين ما يهون علينا به مصيبات الدنيا...) والتوصيف بربّ العالمين للدلالة على علّة الحكم بمعنى أنّه انّما اُمر بالتسليم لانّ كل ما يصدر منه تعالى فهو مقتضى ربوبيته وتربيته للعالمين فليحسن العبد ظنّه بربّه.
هو الذي خلقكم من تراب... بيان لبعض ما اقتضته الربوبية بشأن الانسان وخلقته. وقوله تعالى (من تراب) لعله إشارة الى أنّه ــ كسائر ما على الارض ــ مخلوق من العناصر الارضية الموجودة في التراب.
ويمكن ان يكون اشارة الى خلق آدم عليه السلام من الطين، وان خلق نسله من حويمن الرجل وبويضة المرأة كما قال تعالى (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) السجدة: 7-8.
ثم من نطفة... (ثم) تدل على التراخي للدلالة على فاصل طويل ومراحل كثيرة بين المرحلة الترابية وتكوّن النطفة. والنطفة الماء القليل. ومن هنا تبدأ الاشارة الى مبدأ خلق الجنين. والمراد بالنطفة حويمن الرجل الموجود في المني.
ويمكن أن يكون (ثم) إشارة الى ما مرّ آنفا من أنّ نسل آدم عليه السلام خلقوا من نطفة، فالتراخي من جهة إختلاف مبدأ الخلق بينه وبين سلالته.
ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا... العلقة هي القطعة من الدم. وهي مرحلة اُخرى من مراحل تكوّن الجنين. وقد ورد في آيات اخرى ذكر مراحل اخرى من تكوّنه وهي المضغة اي القطعة من اللحم، ومرحلة اكتساء العظم باللحم، ومرحلة الخلق الآخر الذي يحتمل ان يكون اشارة الى خلق النفس والروح البشرية. ولم يذكر تلك المراحل هنا، وانما انتقل الى ذكر مراحل التطوّر بعد الولادة، واكتفى بالاشارة الى وجود تلك المراحل بقوله تعالى (ثمّ يخرجكم طفلا).
والطفل يطلق على المفرد والجمع اي يخرجكم اطفالا كقوله تعالى (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) النور: 31. واختلفوا في أصل معناه فقيل انّ الطفولة بمعنى النعومة وأنّ الطفل يطلق على الولد مادام ناعما، ومن هنا يقال للمرأة (طفلة)، وقيل انّه في الاصل بمعنى الولد الصغير وأنّ اطلاقه على المرأة تشبيه لها بالطفل في النّعومة.
ثم لتبلغوا أشدّكم... اللام في (لتبلغوا) للتعليل، ولم يذكر متعلقه فهو مقدّر، وهو المعطوف على الجملة السابقة بـ (ثم) فيمكن ان يكون التقدير (ثم طوّركم لتبلغوا اشدكم) او ما يفيد معناه.
واختلف اللغويون في (أشُدّ) فقيل جمع لا مفرد له، وقيل جمع شَدّ، وقيل جمع شِدّة، وقيل غير ذلك. ومهما كان فهو جمع ما يفيد معنى الصلابة والوثوق اي القُوى. وعلى ذلك فالمراد ببلوغ الأشدّ بلوغ مرحلة استكمال القوى. ويختلف معناه باختلاف الموارد، كما يختلف بلوغه حسب الاعمار، فقد يبلغ الانسان استكمال قواه قبل الثامنة عشر، وقد يبلغ في سنين متأخرة جدا، ولا يمكن أن يحدّد له عمر. والتحديد بالسنّ الخاصّ في القانون لضرورة التحديد في القوانين الاجتماعية، وعدم إحالة ذلك الى التشخيص الفرديّ لئلّا يدخل في تعيينه الأهواء والمصالح الخاصّة.
و المراد بالأشدّ في هذه الآية قوى الجسم في مقابل النعومة التي يختصّ بها الطفل، كما أنّ المراد بقولــه تعالى (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) الانعام: 152، بمعنى استكمال الرشد في الشؤون المالية خاصّة، مضافا الى البلوغ الجنسي الذي ربما يكون هو المناط في التكليف الشرعي لقوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ..) النساء: 6، فانّ هذه الآية المدنيّة تفسّر المراد ببلوغ الأشدّ في سورتي الانعام والاسراء المكيتين، وتبيّن أنّ المراد بلوغ النكاح واستيناس الرشد.
ولا ينافي ذلك الاختصاص ببلوغ الاربعين في قوله تعالى (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ..) الاحقاف: 15، على فرض كون الواو للتفسير، اذ يمكن ان يكون المراد هنا الكمال العقلي والجسمي، مضافا الى اكتساب الخبرة والتجربة، وتحصيل العلوم والمعارف الدينية، ليتحقق منه هذا التوجّه الى الله تعالى، كما انّه بمعنى آخر في قوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا..) يوسف: 22، مما يناسب الحكم والعلم والنبوة.
ثم لتكونوا شيوخا... وهنا ايضا تقدير نظير ما مر في الفقرة السابقة فيمكن أن يقدّر (ثم أبقاكم وعمّركم) والشيخ هو الانسان الكبير في السن.
ومنكم من يتوفى من قبل... اي لا يبلغ حدّ الشيخوخة او حتى حدّ بلوغ الاشدّ.
ولتبلغوا اجلا مسمى... اي وهكذا تنتقلون من مرحلة الى مرحلة وتصارعون الحوادث حتى تبلغوا الاجل الذي سمي لكم اي قدّر لكم فلكل انسان اجل قدّر له. واللام هنا لبلوغ الغاية وليس لبيان الغرض.
ولعلكم تعقلون... اي ان كل ذلك انما يحدث لكم في الحياة الدنيا لعلكم تعقلون. فالتعقل هو الهدف النهائي والغاية المنشودة للانسان. وتقديم (لعل) للدلالة على انّ ذلك ربما يترتب وقد لا يترتب كما هو الغالب. ولعل المراد بالتعقّل هنا ادراك عظمة الخالق بادراك عظمة الكون، فانه الغاية القصوى من نزول الانسان على هذا الكوكب ومروره بهذه المراحل الطبيعية للتكوين.
هذه هي مراحل تكوين الانسان من بدو الخلقة الى الموت وبلوغه اجله، وهكذا سائر الأحياء من الحيوان والنبات فلكل منها مراحل حتى نهاية الأجل. وقد اعترض بعض الجهلة على القرآن الكريم بأنّ الجنين لا ينتقل من مرحلة الى مرحلة، وانما يتطوّر تدريجيا بحيث لو تنظر اليه كل يوم لا تجد فيه تغييرا كليا عن يومه السابق، فليس هناك مراحل اربعة او خمسة بل آلاف المراحل لا يمكن تحديدها بهذه العناوين. وقال: إنّ ذكر هذه العناوين يدل على سذاجة القائل وعدم اطّلاعه على واقع الامر.. الى آخر ترّهاته المضحكة المخزية.
ومن الواضح أنّ الانسان وغيره من الحيوان والنبات لا يمرّ بمراحل تكوينه من مرحلة الى اخرى بالطفرة بل ينتقل تدريجا، ولكن ليس لكل مرحلة منها اسم، وانما يجعل الاسماء لبعضها مما له اثر خاص او حالة خاصة تظهر للعيان، فيقال مثلا ان التمر يمرّ بمرحلة يقال لها البسر ثم الرطب ثم التمر مع انه يمرّ بها تدريجا. والانسان بعد ولادته يمرّ بمرحلة الطفولة ثم الصبا ثم الشباب ثم الكهولة ثم الشيخوخة، ومن الواضح لدى كل احد من دون دراسة وتعلّم انه لا يمر بالطفرة بل بالتدريج، ولكن التسمية انما تكون لهذه المراحل فقط، وربما يذكر غيرها ايضا، وربما يحذف بعضها كما في هذه الآية الكريمة. وهكذا سائر التطورات في الحيوان والنبات وغيرهما فالغرض من ذكر هذه المراحل ليس هو تحديد التطوّر بها، بل الغرض هو الاشارة الى نفس التطور.
هو الذي يحيي ويميت... الجملة تدلّ على الحصر فليس غيره من يحيي ويميت، بل هو الخالق لكل حركة وسكون في الطبيعة. ولكنّ التركيز على خصوص الحياة والموت للتنبيه على كونهما من غرائب ما يحدث في الطبيعة، ولذلك لم يكتشف العلم سرّ هذا التحول بالرغم من الاكتشافات الهائلة التي حصل عليها في الطبيعة، وان كان كل ذلك بالنسبة الى كل ما في الكون من أسرار ليس الا قليلا من العلم.
فالتحول من كائن فاقد للحياة والحركة والحس الى موجود حيّ شاعر متحرك، ثم فقدانه لكل ذلك وعوده موجودا ميتا جمادا من أغرب التطوّرات في الطبيعة، وهو في نفس الوقت من اكثرها بروزا وتكررا على الساحة. وكل ذلك دليل واضح على انّ للكون ربّا حكيما مدبّرا. ولا ينافي ذلك كون هذه التطوّرات خاضعة لقوانين طبيعية.
والخطأ الفادح الذي يرتكبه بعض الباحثين أنّهم اذا اكتشفوا القوانين الحاكمة في الطبيعة ظنّوا ان ذلك دليل ينفي وجود الربّ المدبّر للكون، وكأنّهم يفرضون مسبقا أنّ وجود مدبّر يدير الكون ملازم للفوضى وعدم الانتظام تحت قانون واحد، بينما الامر بالعكس وإنّ أقوى دليل على وحدة الربّ المدبّر هو وحدة النظام وانسجام القوانين الحاكمة في الطبيعة.
ثم إنّ الاتيان بالفعل المضارع ليدلّ على أنّهما عمليّـتان متواليتان مستمرتان فلا ينفكّ الكون عن تكرّر الإحياء والإماتة في كل مستويات الحياة: في النبات والحيوان، وفي كل خلية من خلايا كل منهما. فهناك نباتات تموت وبموتها تحيا نباتات اخرى، وهناك حيوان وبشر يأكل بعضها البعض او يقتله او يموت البعض حتف انفه، والنظام الكوني بأمر من الله تعالى يحيي نسلا وجيلا آخر. وفي كل جسم من أجسام الاحياء تتبدّل بسرعة فائقة خلايا ميتة ويأخذ مكانها خلايا اخرى حيّة، وهكذا تستمرّ عملية الإحياء والإماتة دون توقف.
فاذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون... القضاء: الحكم والمراد أنه اذا أراد أن يحقق أمرا اي شيئا فانما يتوقف وجوده على ارادته تعالى فقط. والفاء للشرح وتوضيح كيفية تأثيره تعالى في الاحياء والاماتة، ولدفع استغراب السامع استناد كل هذه العمليات المتكررة الى إرادة واحدة، فإنّ الاستغراب ينشأ من عدم تعقّل تلك الارادة وكيفية تأثيرها في الكون، والانسان غالبا ما يقيس المفاهيم الالهية بما يجده في نفسه ونظرائه. والسبب أنّ الالفاظ لا تتمكن من التعبير عن تلك المفاهيم الغريبة لدى الذهن البشري الذي صنع الالفاظ، فيعبّر عنها بنفس تلك الالفاظ المتداولة ويلتبس الامر على الانسان المسكين.
فالفاعلية هناك واستناد الافعال والخلق الى اللّه تعالى ليس مشابها لاستناد الافعال الينا، ولذلك لا يتنافى ان يستند الفعل اليه والى غيره. وتاثير إرادته تعالى في الكون ليس كما نتصوّر بل هو فوق تصوّرنا وفهمنا، والالفاظ قاصرة عن أداء تلك المعاني، بل الأذهان ايضا قاصرة عن دركها، فغاية ما يمكن أن يقال فيها هو هذا التعبير المعجز الذي عبّر به اللّه سبحانه لإيصال هذه المعلومة (اذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون) فلا يحتاج الى التوسّل بسبب، فانّ السبب ايضا لا يوجد الا بإرادته ولا يتسبّب الا بإرادته، فالإرادة هناك هي السبب الوحيد.
والتعبير عن العملية بقول كلمة (كن) ايضا تعبير أدبي، وإلّا فليس هناك تلفّظ وخطاب، اذ المفروض أنّ الشيء غير موجود فكيف يوجّه اليه خطاب؟! وانّما هو تعبير عن تاثير الارادة بدون واسطة. وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير سورة يس الاية: 82.