مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

 

اللّه الذي جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون... اشارة الى بعض نعمه تعالى التي هي من آياته التي تدل على حكمته ورحمته وربوبيته الشاملة كنموذج من الآيات الكونية بعد أن رفض إرسال الآيات المقترحة رحمة بهم كما مرّ، فكأنّه تعالى ينبّههم على أنّ ما في الكون من الآيات يكفي لمن كان له قلب ولم يتّبع هواه.

ثم إنّ قوله (اللّه الذي..) يفيد الحصر، اي إنّ الذي جعل لكم الانعام هو اللّه تعالى لا غيره، وذلك للردّ على أوهام المشركين حيث ينسبون شطرا من الربوبية الى الاصنام او غيرها. والاستدلال يبتني على تسليمهم بأنّ اللّه تعالى هو الخالق للاشياء لا غيره كما هو معتقد الوثنية. قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ..) لقمان: 25، وحيث إنّ هذا الخلق يكشف عن هدف وحكمة للخالق يتبيّن منه انه هو الربّ الذي ينعم على الخلق ومنهم البشر بما يحتاجونه في معيشتهم على هذا الكوكب.

والمراد بجعل الانعام إمّا هو الجعل البسيط بمعنى أنّه خلقها لهذا الغرض، أو الجعل المركّب بمعنى أنّه جعلها بعد الخلق مسخّرة لكم. وعلى الاحتمال الثاني لا يدلّ على أنّ أصل خلقها كان لذلك، ولكنها كانت مستعدة لهذا الغرض فسخّرها اللّه تعالى له.

والانعام جمع لا مفرد له. وهو مأخوذ من النعمة، يطلق في الاصل على الإبل لكثرة فوائدها لدى العرب، حيث كانوا يعيشون في الصحراء. ثُمّ اُطلق على الإبل والبقر والغنم. فان اُريد بها هنا خصوص الإبل فالمعنى واضح لأنّها تستخدم في الأكل والركوب، وإن اُريد بها الاعم فالمراد أنّ منها ما يركب ومنها ما يؤكل. و(من) على كلا التقديرين تبعيضية.

ولكم فيها منافع... اشارة الى ما ينتفع به من جلودها وأشعارها وأوبارها وألبانها وغير ذلك، فإنّ الأنعام يستفاد من كل أجزائها. وتشمل المنافع المتاجرة بها وزيادة الإنتاج والركوب للزينة ونحو ذلك.

ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم... لعل المراد بالحاجة الانتقال الى بلد او مكان اخر، وكذلك نقل الاثـقال. ولا يشمل هذا سائر المنافع لقوله (عليها). فقوله (لتبلغوا عليها) يفيد أنّ الركوب عليها والمشي بها يوصلكم الى حاجة في صدوركم، فالمراد الاماكن البعيدة التي يصعب الوصول اليها بالسير على الأقدام.

وعليها وعلى الفلك تحملون... تكرار الحمل بالنسبة للانعام بعد ذكر الركوب وبلوغ الحاجة للتشريك بينها وبين الفلك، فالابل للحمل في البرّ والفلك للحمل في البحر. والفلك ايضا من النعم الطبيعية وان كان من صنع البشر، من جهة أنّ اللّه تعالى جعل هذه القوانين التي على أساسها يمكن استخدام الفلك في البحر، ومن جهة تأثير الرياح في حركة السفن سابقا. مضافا الى أنّ الظاهر أنّ اول من صنع السفينة هو النبي نوح عليه السلام بوحي وتعليم من اللّه تعالى كما قال (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا..) هود: 37.

ويُريكم آياته... اي وهكذا يريكم اللّه بهذا الكلام آياته في كل مخلوق، فإنّ الخلائق كلها آيات للّه تعالى تدل على عظمة الخالق وحكمته وتدبيره. ولعلّ المراد بالاراءة التنبيه على كونها آيات فإنّ الانسان يرى الأشياء بل يغور فيها وفي عجائبها وغرائبها ولكنه لا ينتبه الى كونها آية تدلّ على حكمة الخالق وقدرته وانعامه وربوبيّته فينبّهه الله تعالى على ذلك، ويمكن أن يكون المراد بالاراءة نفس ايجادها وتكوينها.

فأيّ آيات الله تنكرون... استفهام انكاري.. واستنكار لمن ينكر آيات اللّه الواضحة الباهرة. والانسان بفطرته لا يكاد ينكر آيات اللّه تعالى، وإن أنكرها بلسانه فهو معترف بها بقلبه، إلا أنّ الذي يدعوه الى الانكار هو اتّباع الهوى او متابعة الآباء والأجداد والتقاليد البالية. وإضافة الآيات الى اسم الجلالة دون الضمير للتأكيد على سخافة الانكار والتنديد به، لأنّه إنكار لآيات الله تعالى. وهل يمكن لعاقل أن ينكرها؟!

 <