وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
واذكر عبدنا أيوب... تذكـّر الآيات بمقام نبي آخر من انبياء اللّه السابقين ليكون مثلا وقدوة في الصبر وتحمل الاذى والتوكل على اللّه، وهو أيّوب عليه السلام الذي اشتهر بصبره على البلاء. ولكن الآيات لا تصرّح بنوعية البلاء وما اصابه من متاعب الحياة الدنيا فان الاهتمام ليس بذلك، وانما هو بصبره على ما ابتلي به وتوجهه الى ربه بخلوص وحب وتذلل، مما استوجب نزول الرحمة عليه.
وقد ورد ذكر أيّوب عليه السلام في سورة الانعام والنساء ضمن مجموعة من الانبياء للدلالة على نبوته، خلافا لما يحكى عن التوراة. والتعبير هنا يصف النبي الكريم باحسن وصف وهو العبودية للّه تعالى، وهذه شهادة من اللّه لعبوديته، بل هذا النوع من التعبير يدلّ على اختصاص في هذا المضمار حيث يضيف العبد الى نفسه، فهو عبد له مقام خاصّ ومنزلة خاصة في العبودية.
اذ نادى ربّه أنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب... قوله (اذ نادى) ظرف للذكر اي اذكره حين نادى ربه فهو زمان مناجاته وتوسله واسترحامه حيث بلغ مرتبة من التذلل استوجب نزول الرحمة وزوال البلاء. ولم يقل (اذ نادانا) مع أنه الانسب بقوله (عبدنا) بل قال (نادى ربه) للتأكيد على أن ما حصل له من البلاء والدعاء واستجابته كان دخيلا في تربيته ليبلغ مرتبة الكمال المتوقع له.
ثم التعبير بالنداء بدلا عن الدعاء يدل على غاية الضيق والحرج عليه. ولم يعبّر ايوب في دعائه انه قد ضاق ذرعا بالعذاب ولم ينسبه الى اللّه تعالى تأدّبا، مع ان كل شيء منه بل نسبه الى الشيطان لكونه سببا. ومسّني بمعنى أصابني.
والنصب: التعب والانزعاج، وقد قيل انه مرض مرضا شديدا وطال به المرض سنين. وورد في بعض الروايات ان جسمه انتن من القروح واضطر الى الخروج من البلد او اخرج منه. ولا دليل على صحة شيء من ذلك بل ورد في بعض الروايات نفيه ايضا. وهو في حد ذاته مستبعد مع ان ابتلاء الانبياء بما يوجب تنفر الناس عنهم مستبعد جدا ومردود حسب بعض الروايات.
والآيات لا تدل على شيء من ذلك فكأنّ الاخفاء مقصود، وكذلك أجملت قصته عليه السلام في سورة الانبياء قال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدينَ) الانبياء: 83ـ84.
ومهما كان فانه عليه السلام ضاق ذرعا بما أصابه فدعا بهذا الدعاء، ومن الملفت أنه تعالى ذكر الجواب من دون فصل حتى بكلمة قلنا او اوحينا للدلالة على سرعة استجابة دعائه، مما يدل على ان طول مرضه انما كان بسبب صبره وعدم اعلان تذمره وانزعاجه حتى بلغ غايته. ولا نعلم ما الذي حصل حتى استوجب منه التوسل والدعاء، ولعل الآيات التالية تكشف عنه نوعا ما.
اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب... الركض هو الضرب بالرجل. ومن هنا اطلق على العدو والمشي السريع، فالظاهر أن اللّه تعالى أمره بأن يضرب برجله الارض ليخرج منها الماء فيغتسل به ويبرد نفسه ويشرب منه، ففيه الشفاء بامر من اللّه سبحانه. والمغتسل بمعنى الماء الذي يغتسل به، والتعبير بالبرد ربما يدل على أنّ جسمه كان مقروحا فكان بحاجة الى ما يبرد جسمه.
وهذا ايضا مما يشهد على أن اللّه تعالى لا يستجيب دعوات انبيائه واوليائه عليهم السلام الا بعمل منهم، فمع انه كان بالامكان أن يشفيه اللّه تعالى بدون سبب الا انه امره ان يعمل شيئا ليصل الى بغيته، فيركض برجله ليستخرج الماء الذي اودعه اللّه تعالى في ذلك المكان فيستشفي به، وكان ايصاله اليه من دون ذلك ممكنا ايضا، كما امر نوحا عليه السلام ان يصنع الفلك، وامر مريم عليها السلام ان تهزّ بجذع النخلة، وامر موسى عليه السلام ان يلقي عصاه او يضرب به البحر.
ووهبنا له اهله ومثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لأولي الالباب... الآية تدل على انه حرم من رؤية اهله، ولعل هذا هو الموجب لبلوغه غاية التأذّي حتى شكى الى ربه حاله. وقد قيل: إنّ أهله تركوه لمرضه، فلو صحّ ذلك كان أبلغ في تذمره.
والمنقول عن التوراة كما في الروايات انه كان كثير الأموال والأولاد، ومن الطبيعي ان الانسان اذا عاش في مثل هذه البيئة ثم فقد أهله وأمواله جميعا ورأى نفسه وحيدا مبتلى بنفسه فانه يصل الى غاية التذمر بالحياة، فلولا صبره العجيب وركونه الى ربه وإيكال امره اليه ورضاه بما ابتلاه به لكان كغيره من البشر يتمنى الموت بل ربما يستقبله بالانتحار.
واللّه تعالى جازاه بصبره في الدنيا قبل الآخرة ليكون مثلا وقدوة، فآتاه ما اخذ منه وزاده مثل ذلك بأن ولد له اولاد وأحفاد فتضاعف عددهم. كل ذلك رحمة منه تعالى حيث استحقها بصبره، وليكون ذكرى لاولي الالباب فيعلمون ان هذا جزاء من صبر للّه سبحانه.
وقيل: إنّ أهله ماتوا فأحياهم اللّه تعالى وزاده مثلهم. وورد ذلك في بعض الروايات الضعيفة التي لا معوّل عليها، وليس في الآية ما يشير الى ذلك.
وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث... ظاهر الآية أنّه كان قد حلف ان يضرب احدا عددا من الضربات ثم ندم على حلفه، ولعله لتبين عدم الاستحقاق، ولا شك ان هذا الحلف باطل لا اثر له، ولكنه لمقام نبوته كان يصعب عليه أن يحنث حلفه فأجاز اللّه تعالى له أن ياخذ ضغثا اي مجموعة من الاعواد مربوطة بعضها ببعض ويضرب بها مرة واحدة ولا يحنث، مع انه لو فرض صحة الحلف فان هذا لا يعتبر عملا به، ولكن اللّه تعالى قبل منه ذلك، وهذا كله ارفاق به عليه السلام.
ويظهر من الآية مكانة الحلف باللّه تعالى وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يحنث به حتى لو لم يكن العمل به واجبا. كما يظهر منها شدة عنايته تعالى بعباده المخلصين حيث قبل منه ذلك رعاية لتحرجه نفسيا من الحنث بالقسم.
انا وجدناه صابرا نعم العبد انه أوّاب... ما أجمل هذا المديح والثناء، وما أجمل هذا الشكر من اللّه المنعم، وماذا يبتغي المؤمن جزاءا أفضل من هذا؟! فلو ابتلي الانسان بأعظم بلاء في الدنيا، ثم تعقبه مثل هذا الاطراء من الرب الجليل لكان كل ذلك البلاء حسنا جميلا، ولانقلب كل تلك المصائب نعما يعجز الانسان عن الشكر عليها. وفي الروايات انه رأى من امراته ما استوجب هذا الحلف ثم تبيّن له عدم استحقاقها ذلك.
والآية في مقام التعليل للحكم السابق، وهو قبوله تعالى للضرب بالضغث بدلا من الضرب بالعدد المقسوم به. وقوله وجدناه صابرا أي تبيّن بهذا الابتلاء أنه صابر، واللّه تعالى لا يضيع أجر الصابرين. ومنه يعلم عظم مقام الصبر لديه تعالى.
والظاهر أن قوله تعالى (نعم العبد) من ضمن التعليل وهو ايضا معلل بالجملة التالية. ويمكن أن يكون ذلك انشاءا لمدحه. ومهما كان فقد علل التمجيد بكونه أوابا اي كثير الاوبة والرجوع الى اللّه تعالى وقد مرّ بعض الكلام فيه.