مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللّه وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللّه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

 

قل من يرزقكم من السماوات والارض قل اللّه... هذه محاجّة اخرى مع المشركين واستدلال على الربوبية والالوهية بالرزق، والمراد به اعداد وسائل الارتزاق وهي كلها مخلوقات للّه تعالى حتى حسب العقيدة الوثنية اذ هو خالق الكون لا يشاركه فيه أحد.

واسباب الرزق بعضها سماوية وبعضها ارضية، ولذلك قال (من السماوات والارض) فكل هذه الاسباب من مخلوقات اللّه سبحانه، سواء فسرنا السماوات بالعوالم الغيبية، او بالاجرام الفلكية وكل ما يعلو الارض من هواء وفضاء وسحاب وغيرها، فللشمس والقمر والغلاف الجوي والسحب وغيرها تأثير على ما نرتزق به من محاصيل الارض.

وحيث ان المشركين يعترفون بان الخلق كله من اللّه تعالى، وهذا يستلزم ما ذكر من أن الرزق منه فكأنّه ايضا امر يعترفون به في قلوبهم وان كانوا لا يصرّحون به، فيأمر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يبادر بالجواب (قل اللّه) ولا تنتظر جوابهم. وهذه طريقة لطيفة في المحاجّة وهي تلقين الخصم ما يعترف به قلبا ويأبى من التصريح به.

وانا او اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين... أروع مثال لإنصاف الخصم، وأحسن تعبير عن احترام الرأي الآخر مهما كان محتواه، فيأمر الله تعالى رسوله أن يقول: إنّ احدنا على هدى والآخر في ضلال مبين. ولعل المبين وصف لهما معا.

وعبّر عن الهداية بان المهتدي على الهدى وعن الضال بانه فيه، ولعله لان المهتدي على الطريق الصحيح او الجادّة، واما الضالّ فهو متوغل في الصحراء لا يهتدي الى الجادّة فهو محاط بالضلال من كل جهة.

قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون... تعبير أوضح عن إنصاف الخصم حيث عبّر عن فعله بالاجرام ــ وحاشاه ــ وعبّر عمّا صنعه الاعداء بالعمل، وكل انسان مسؤول عن عمله، وكل مجتمع ايضا مسؤول عمّا اتفقوا عليه، فهناك مسؤوليات شخصية وهناك مسؤوليات على عاتق المجتمع، ولا يتحمل مجتمع مسؤولية مجتمع آخر.

ويوم القيامة تجد لكل انسان كتابا ولكل مجتمع كتابا، قال تعالى: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجاثية: 28.

والاجرام في الاصل القطع. قيل: ويطلق على ما يكتسبه الانسان كأنه يقتطع لنفسه شيئا ولكن لا يستعمل الا في اكتساب الاثم. وقلنا مرارا ان السبب في تسميته بالاجرام لعله ليس هو كونه اكتسابا كما قيل، بل لانه يوجب قطع علاقة الانسان بالمجتمع، ولذلك لا يطلق على كل اثم او كل مخالفة للسنن والقوانين الوضعية، بل على ما يستعظمه عامة الناس كالقتل والسلب.

قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم... الآية تنبئ عن الحقيقة الكبرى في مستقبل البشرية يوم يجمع اللّه كل الاجيال وكل المجتمعات، ويا له من جمع، ثم يحكم اللّه بينهم وهو خير الحاكمين، ويفصل بينهم وهو خير الفاصلين، ويفتح بينهم وهو الفتاح العليم.

وهو الفتاح في كل مراحل الكون. والفتّاح مبالغة في الفتح، لان الكون قائم على اساس الرتق والفتق، والجمع والفتح، فاللّه تعالى يفصل بين الحقائق المندمجة ويفتحها وتتولد بذلك حقائق اخرى. وعلى هذا الاساس بني التولد والتكاثر، فكل ذلك يرجع الى جمع ثم فصل، وهو عليم بمقومات كل حقيقة يفصلها عن غيرها في المجموعة المندمجة.

وكما هو الفتاح العليم في هذه المرحلة من الكون كذلك في المرحلة الاخيرة حيث يجمع بين الامم والافراد ثم يفصل بينهم، ويضع كل احد وكل مجموعة في مرتبته ومقامه اللائق به، وهو عليم بما يليق بكل احد وبكل امة.

ويمكن ان يكون المراد الجمع في الدنيا اي في ميادين الصراع الجسمي والعقلي، فربما يكون للباطل جولة يغلب فيها على الحق او يشتبه به، كما هو الحال في كثير من المجالات، ولكنه يفصل بينهما في النهاية حيث يتميز الحق عن الباطل، وتكون الغلبة في النهاية للحق. قال تعالى: (كَتَبَ اللّه لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي...) المجادلة: 21، وقال ايضا: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) الصافات: 171 ــ 173.

قل اروني الذين ألحقتم به شركاء... ازدراء واحتقار للاصنام وكل ما يعبد من دون اللّه تعالى، فكأنه يقول لا أرى شيئا! اين هؤلاء الذين تدعون انهم شركاء للّه؟!

وحقا انها دعوى غريبة! اللّه خالق الكون بيده ملكوت كل شيء، هل يمكن ان يقارن به شيء وكل شيء مخلوق له؟! حتى لو فرضنا ان هناك شيئا عظيما يملأ العين، ولكن اين هو من خالق الكون وخالق العظمة؟ فكيف بهذا الجماد الذي لا يعقل والذي صنعه الانسان بيده؟!

عجيب امر هذا الانسان الى أيّ حد ينحط في التفكير والذوق؟!

وقيل: ان المراد بهذه الجملة طلب الاراءة واقعا لكي يلاحظ هل في الاصنام ما يبرر دعوى الربوبية؟ وهل فيها الصفات المعتبرة في الاله المدبر للكون؟

وهذا غير صحيح لانه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يراهم وهم بالمرأى العام مضافا الى أن هذا التقدير لا دليل عليه من اللفظ ولا السياق، فالظاهر أن المعنى أروني ما تزعمون أنهم شركاء للّه تعالى خالق الكون فاني لا اكاد اراهم لحقارتهم.

كلا بل هو اللّه العزيز الحكيم... وهكذا يأمر رسوله أن لا ينتظر جوابهم، بل ينفي وجود شيء يلحق به شريكا مهما كان. كلا! اي ليس له شريك، بل هو اللّه العزيز الحكيم. فهو عزيز غالب لا يغلبه شيء فلا يمكن ان يكون هناك شيء لا يملكه ولو كان له شريك في ملكه كان مغلوبا على امره في مورد الشركة.

وهو الحكيم لا يتخذ شريكا، وهذا رد لتوهم آخر وهو ان هؤلاء الشركاء هم بانفسهم ملك للّه وانما اتخذهم اللّه شركاء له، وقد كانوا يقولون في تلبية الحج: (لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك) فهذه الاية ترد على ذلك بأن هذا مناف للحكمة وهل ينقصه شيء حتى يكمله باتخاذ شريك؟!

قال تعالى: (مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) الكهف: 26، اي لا يمكن ان يشرك في حكمه احدا فالربوبية ليست امرا يحال الى مخلوق لانه محدود. والربوبية تتوقف على السعة والاحاطة بكل شيء.