وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم اذا مزقتم كل ممزق انكم لفي خلق جديد... وفي لهجة ساخرة يقول مشركو مكة لمن يلقونه، ويحاولون اغفاله بالدعاية ضد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: هل ندلكم على رجل... او يقولون ذلك في ما بينهم.
والتعبير يفترض مسبقا ان الامر مخالف للعقل وغير قابل للتصديق، وان السامع مسلم لهذا الرفض، وانه اذا سمع ذلك يحلو له ان يجد هذا الانسان الغريب، الذي يصدر منه هذا الكلام، فلا يحتاج الا الى الدلالة عليه ليراه مستغربا. والتمزيق هو تفريق الاجزاء. والممزق مصدر ميمي، اي مزقتم كل تمزيق، اي تمزيقا كاملا بحيث لا يبقى جزء منكم قابلا للتجزئة.
أفترى على اللّه كذبا أم به جنة... (أفترى) اي أإفترى، فحذفت الهمزة الثانية، لانها همزة وصل. و(الفرية) في الاصل بمعنى القطع. و(افترى) اي اقتطع. والمراد هنا اختلاق الحديث. وكذبا مفعول به اي اختلق حديثا كاذبا.
وهنا يردد المشركون حال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بين أمرين، لغرابة ما يقول: فهو اما ان يكون قد اصيب بالجنون لان هذا الكلام لا يصدر من عاقل، او يكون من الذين يفترون على اللّه الكذب لانه ينسب ذلك الى اللّه. وتراهم يتحمسون هنا للّه سبحانه كأنهم انصاره تعالى.
بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد... ويأتيهم الرد من اللّه تعالى من دون خطاب اذ لا يستحقونه فلا يقول: بل انتم في العذاب.. بل لا يأتي ايضا بالضمير الغائب فيقول: بل هم في العذاب.. بل يركز على الوصف (الذين لا يؤمنون بالآخرة) تنبيها على العلة فهم في العذاب والضلال البعيد لانهم لا يؤمنون بالآخرة.
والجواب مصدر بـ (بل) اي ليس كما قالوا فليس به جنة ولم يفتر على اللّه تعالى بل ان مناوئيه هم الذين في العذاب والضلال البعيد.
وربما يتساءل انهم حين ما قالوا هذا الكلام وحين ما كانوا غير مؤمنين بالآخرة لم يكونوا في عذاب فما هو المراد من التعبير الذي يؤكد كونهم في العذاب بالفعل؟
والجواب ان في العبارة احتمالين:
1- ان المراد بالعذاب عذاب الآخرة بدعوى انهم الآن محاطون بالعذاب، وان لم يشعروا به نظير قوله تعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) التوبة: 49، بناءا على ما قيل من انه يدل على الاحاطة الفعلية، وكذا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) النساء: 10.
ومهما كان فهذا تعبير ادبي يكنى به عن الحتمية والقطعية او انه ــ كما قيل ــ اشارة الى حقائق في باطن العالم لا يدركها الناس بحواسهم ومشاعرهم الاعتيادية، فاذا وهب اللّه احدا نظرة ثاقبة تنفذ الى ملكوت هذه النشأة لرأى أنّ كثيرا ممن نجدهم اناسا يعيشون كسائر بني آدم انما هم حيوانات مفترسة او أنعام سائمة.
2- ان المراد به العذاب النفسي والقلق والاضطراب، فان الانسان محاط في هذه الحياة بالمكاره، ومهدد بالمخاطر، فاذا آمن بالآخرة فانه يمنّي نفسه بحياة ينبسط فيها العدل والسلام والأمان، ويبلغ كل انسان فيها ما يستحقه، ويجازى بعمله، وبذلك يشعر بالسعادة.
وحيث يجد أن ما يعمله في هذه الحياة منشأ لسعادته الابدية فهو واثق من نفسه وهدفه، واما الذي لا يؤمن بالآخرة فانه يعيش في اضطراب وقلق مستمر، لا يجد لهذه الحياة هدفا، ولا لعمله نتيجة. قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا..) طه: 124.
وهو مضافا الى ذلك في الضلال البعيد اي البعيد عن الحق.
والانسان الذي يضل الطريق تارة يكون قريبا من الجادّة، فهناك أمل في أن يهتدي اليها، وتارة يتوغل في البعد عن الجادّة بحيث لا يؤمّل منه الرجوع اليها.
ويقابله العبد المنيب الذي يكثر من الرجوع الى اللّه تعالى فلا يتوغل في الاخلاد الى الارض والبعد عن اللّه تعالى.
أفلم يروا الى ما بين ايديهم وما خلفهم من السماء والارض ان نشأ نخسف بهم الارض او نسقط عليهم كسفا من السماء... الظاهر أن هذه الآية تهديد ووعيد للمستكبرين المعاندين للرسالات، وتنبيه للانسان بوجه عام بانه محصور ومحاط بالخطر من فوق رأسه ومن تحته، فأين ما يذهب الانسان فالسماء فوقه والأرض تحته، ألا يخاف أن يسقط عليه ربه من السماء اي من جهة العلو ومما فوقه، كسفا اي قطعا من الصواعق المحرقة او الشهب وغيرها، أو يأمر الارض فتخسف به كما خسفت من قبل بأقوام وحضارات وأشخاص؟!
والظاهر ان الضمير يعود للمشركين المنكرين للمعاد والمستهزئين بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، فيسأل منهم سؤال استنكار (أفلم يروا) ومعنى ذلك انه يكفي في الامر أن يشاهدوا ما حولهم فيروا الخطر بأم أعينهم، فالامر لايحتاج الى تفكر وتدبر، فان الانسان يرى فوقه سماءا كم سقطت منها على الخلق صواعق وحجارة، ويجد حوله ارضا كم ابتلعت اناسا بل قرى ومدنا وحضارات، فهذا تهديد للمشركين وللبشر عامة بأن لا يأمنوا عذاب اللّه ولا يتمادوا في غيهم.
ولكن يقع السؤال بناءا على هذا التفسير عن وجه التعبير عن السماء والارض بما بين ايديهم وما خلفهم حيث ان (من) في قوله تعالى (من السماء والارض) بيانية، مع أنّ السماء فوقنا والارض تحتنا، فقيل: إنّ المراد هو الاحاطة من كل جانب، فكأنه قال: (وعن ايمانهم وعن شمائلهم) ثم حذف الباقي.
ويحتمل أن يكون المراد من (ما بين ايديهم) ما يرونه بالعين من حوادث السماء والارض. ومن (ما خلفهم) ما لم يروه ولكنهم سمعوه بحيث كان ذلك كالرؤية. وهذا أقرب مما قاله المفسرون. والحمد للّه .
وقيل: ان المراد بالآية ليس تهديد المشركين، بل حثّهم على النظر في السماء والارض ليتبين لهم أن اللّه الذي خلق الكون من العدم، وأنشأ هذا النظام الكوني الدقيق قادر على اعادة الحياة، فهو اسهل بكثير من خلق الكون العظيم. واما جملة (ان نشأ نخسف بهم الارض...) فهي جملة معترضة جيء بها للتهديد والتحذير.
ولكن الاحتمال الاول اقرب لئلا يلزم كون هذه الجملة معترضة لا تناسب السياق .
إنّ في ذلك لآية لكل عبد منيب... اي كفى بالنظر في السماء والارض وتذكر المخاطر آية تبعث في الانسان تقوى اللّه تعالى، وعدم تكذيب رسله في اخبارهم عن المعاد، ولكنها انما تكون آية كافية لكل عبد ينيب الى ربه، ولا يبعد عنه بالتوغل في شؤون الحياة الدنيا وشهواتها.
والانابة هي الرجوع والعودة. فالذي ينجي الانسان من القلق، وينقذه من الهلع والاضطراب، ويبعث فيه الامل، هو الرجوع الى ربه وايكال الامر اليه، فبرجاء رحمته تحلو الحياة، وبذكره تطمئن القلوب.