[H

مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

الاستصحاب - القسم الاول

بسم الله الرحمن الرحيم

ما أوردته هنا من تقارير عن بحوث سيدنا الاستاد المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني دام ظله انما هو ما فهمته من ابحاثه وقد بذلت غاية جهدي في معرفة ما يلقيه علينا من تحقيقات عميقة ولكنه حفظه الله تعالى كان غواصا قديرا فيدخل في أعماق البحوث والمعارف ولست واثقا من بلوغ كنه ما أراد فان كان فيه خطأ فهو من فهمي القاصر وأجلّ سيدنا الاستاد دام علاه عن قول ما لا يليق بعلوّ مكانته العلمية وأعتذر منه ومن القرّاء الأعزّاء عن كلّ ما فيه من أخطاء والجدير بالذكر ان هذا التقرير مرتبط بدورة سابقة لمحاضرات سماحته في الاصول وهناك اختلاف كثير بينها وبين محاضراته الاخيرة والله تعالى المسدّد والموفّق للصواب.

مرتضى المهري
2جمادى الثانية 1436
23/3/2015

بسم الله الرحمن الرحيم

 الاســــــــتصحـــاب

 

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.

الكلام في قاعدة الاستصحاب ويقع البحث قبل التعرض لوجوه الاستدلال عليها في جهتين: الجهة الاولى في تعريفها والثانية في الفرق بينها وبين القواعد المشابهة:

ما هو الاستصحاب ؟

قال الشيخ الانصاری قدس سره: (وعند الأصوليين عرّف بتعاريف أسدّها وأخصرها [إبقاء ما كان] والمراد بالإبقاء الحكم بالبقاء. ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعليته للحكم فعلة الإبقاء هو أنه كان فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علته أو دليله). [1]

وقال المحقق الخراساني قدس سره (لا يخفى أن عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتى إلا أنها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه). [2]  

ولم يرتض بعض الاعلام المتأخرين كلامهما فاعترضوا عليهما بوجوه ثلاثة:

الاول: ان الاستصحاب لا يمكن تعريفه على كل المباني بتعريف واحد لاختلافهم في حقيقته فبعضهم يراه من قبيل الامارات العقلائية وبعضهم يراه اصلا عمليا واختلف القائلون بكونه امارة فبعضهم اعتبره حجة من باب الظن الشخصي فيكون الاستصحاب عنده عبارة عن الاعتقاد الراجح بالبقاء المبني على اليقين السابق لا الحكم بالبقاء وبعضهم اعتبره من باب الظن النوعي فيقال ان الاستصحاب كون الشيء يقيني الحدوث سابقا ومشكوك البقاء لاحقا مما يستوجب الظن بالبقاء نوعا كما ان من اعتبره اصلا عمليا تبعا للاخبار لا يمكنه تعريفه بانه الحكم بالبقاء بل هو الجري العملي وفقا لليقين السابق.

ومرجع هذا الاشكال الذي رفضه قوم واعترف به آخرون الى أن القول برجوع جميع التعاريف الى تعريف واحد غير سديد فان محل البحث عند بعضهم هو أن الظن الشخصي الناشئ من اليقين السابق هل هو حجة ام لا؟ وعند بعض آخر أن كون الشيء متيقن الحدوث مشكوك البقاء هل هو امارة على البقاء ام لا؟ وعند آخرين أنه هل حَكَم الشارع ببقاء المتيقن السابق في ظرف الشك من حيث الجري العملي ام لا؟ ولا معنى على هذا القول للبحث عن حجية شيء وعدمه بل محل البحث الحكم الشرعي.

الثاني: ان اشتقاق الاستصحاب يقتضي ان يكون من فعل المكلف فانه هو الذي يستصحب الحكم السابق فلا يمكن تعريفه بانه الحكم ببقاء ما كان فان هذا من فعل الشارع اذا استندنا الى الاخبار بل حتى لو استندنا الى ايجابه الظن النوعي فان الذي يوجبه هو كون الشيء يقيني الحدوث مشكوك البقاء وليس من فعل المكلف.

الثالث: ان الاستصحاب ان كانت حقيقته حكم الشارع ببقاء ما كان فلا معنى للبحث عن حجيته وانما يصح البحث عن ثبوت هذا الحكم من الشارع.

ويرد النقض على المستشكل بانه لو لم يتم رجوع التعاريف الى معنى واحد هو الحكم ببقاء ما كان لزم ان يعقد ثلاث مسائل في هذا الباب فمسالة في حجية الظن الشخصي في مورد الاستصحاب ومسالة ثانية في أن كون الشيء يقيني الحدوث مشكوك البقاء هل هو حجة على البقاء من باب الظن النوعي أم لا؟ ومسالة ثالثة في ان الشارع هل حكم ببقاء اليقين السابق من حيث الجري العملي أم لا؟ مع ان المستشكل بنفسه لم يعقد البحث عن هذه المسائل.

والصحيح ان تعريف الاستصحاب بانه الحكم ببقاء ما كان على ما كان تعريف صحيح على جميع المباني وذلك لانا لو قلنا بان الاستصحاب حجة من باب الظن الشخصي فان الظن نوع من التصديق اي الاذعان بثبوت النسبة او لا ثبوتها والذي يلاحظ الامر المتيقن سابقا والمشكوك لاحقا اذا ترجح عنده بمقتضى حساب الاحتمالات وملاحظة موجبات الانتفاء ومقتضيات البقاء أنه باق على ما كان فان حصول هذا الظن لديه هو حكم وإذعان ببقاء ما كان على ما كان وان لم يكن حكما جزميا ويصح اسناد هذا الحكم الى المكلف.

واذا قلنا ان حجيته ليست من باب الظن الشخصي فالمراد انه حجة من جهة انه اعتقاد ببقاء الشيء على ما كان سابقا لا على اساس حساب الاحتمالات بل على اساس التأثر الاحساسي. والظن يطلق في كلمات القدماء على كل اعتقاد لا يستند الى دليل علمي ومنه ما يكون بتأثير من التلقين والاعلام ومتابعة الآباء والاهواء. وما ورد في القرآن الكريم من النهي عن متابعة الظن يقصد به ايضا هذا المعنى لا الظن بمعنى الاعتقاد الراجح فان المتاثر من هذه الامور قد يحصل له العلم ولكنه ليس مستندا الى دليل. كما أن الطمأنينة ايضا تنقسم الى قسمين إدراكية وإحساسية فقد يطمئن الانسان بشيء على أساس المحاسبة المنطقية وقد يحصل الاطمئنان بتأثير في شعوره واحساسه من دون أن يستند الى برهان ومحاسبة.

ومن الامور التي تؤثر في مشاعر الانسان وتتأثر بها نفسه هو اليقين السابق بالشيء ومن هنا يهتم الناس باول لقاء لهم مع الشخص الذي يهتمون به في المجامع السياسية والتجارية والادارية ونحوها. وكذلك المراة تهتم ايضا باول لقاء لها مع الخاطب من حيث التزيين فهي تعلم ان النظرة الاولى تؤثر في نفسيته فيراها بعد ذلك بنفس الجمال والانوثة واما اذا لم تعجبه في النظرة الاولى فربما لا يؤثر التزيين بعد ذلك. 

ومن هنا ايضا نجد ان من عرف لدى الناس ابتداءً بدرجة ضعيفة من العلم فهم ينظرون اليه بنفس النظرة بعد عشر سنين مع ان استمراره في الدراسة يوجب بالطبع تكامله في العلم الا ان النظرة الاولى تبقى مؤثرة في نفوس من يعرفونه وكذلك نجد ان الابطال يحاولون في اللقاء الاول الغلبة على الخصم فان ذلك يؤثر في نفسية الخصوم في اللقاءات التالية. [3]

وبناءا عليه نقول ان مراد من قال ان حجية الاستصحاب من باب الظن ولكنها لا تتقيد بايجاب الظن الشخصي لا يقصد انه حجة من باب الظن النوعي بمعنى أنه يحكم النوع بذلك ليقال ان كون الشيء متيقن الحدوث مشكوك البقاء هو الموجب للحكم بالبقاء لينافي التعريف السابق ولا يكون هنا حكم من المكلف ولا يصح اسناده اليه بل يقصد انه حجة من جهة ايجابه الظن الاحساسي وهو ايضا حكم ببقاء ما كان على ما كان ويصح اسناده الى المكلف. وحجيته لدى العقلاء من جهة انهم يرون التوسعة في المنكشف وأنهم يرون المتيقن السابق باقيا على ما كان ما لم يثبت خلافه فيكون البحث في أن الشارع هل امضى هذه الرؤية بالروايات الآتية؟ وهل اعتبر حكم العقلاء بالبقاء تبعا لهذه الرؤية الاحساسية حجة ام لا؟ فلا حاجة الى تغيير الموضوع وطرح بحث آخر.

ويلاحظ ان بعض التعابير الواردة في الاستصحاب موجودة في بعض نصوص القانون المدني الذي يعتمد على المرتكزات العقلائية فقد نقل في الوسيط نصوصا عن القانون المدني العراقي من هذا القبيل (اليقين لا يزال بالشك) (يضاف الحادث الى اقرب اوقاته) (الاصل بقاء ما كان على ما كان) (الاصل في الصفات العارضة العدم) (ما ثبت في زمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه). وهذا مما يؤكد استناد الظن الحاصل ببقاء ما كان الى أمر احساسي يشعر به العقلاء من دون استنادهم الى النصوص الدينية.

واذا قلنا ان حجيته تعبدية من جهة الاخبار فان قلنا انها تشير الى امضاء بناء العقلاء كما يستفاد من قوله عليه السلام (لا ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك) فمفادها ان هذا الحكم الصادر من المكلف تبعا لحكم العقلاء حجة وان قلنا ان مفاد الاخبار تأسيس لا امضاء فالحكم ايضا كذلك ولكنه بحاجة الى توضيح اكثر فنقول:

ان هناك من ينكر بناء العقلاء على الاستصحاب كما قال صاحب الكفاية في رد الاستدلال ببناء العقلاء (وفيه اولا منع استقرار بنائهم على ذلك) [4] ومثله كلام بعض آخر ولكنهم مع ذلك لا ينكرون وجود هذا الحكم في مرتكز العقلاء قال في الكفاية في شرح صحيحة زرارة الاولى (وهو اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية الغير المختصة بباب دون باب). [5]

ومثل ذلك يقال في البحث عن حجية مفهوم الشرط فانه ربما يناقش فيه بان الشرط ان كان له مفهوم وهو الظهور في الانتفاء عند الانتفاء فهو حجة لا محالة ولا معنى للبحث عن حجيته بعد كونه ظهورا وان لم يكن له مفهوم وظهور فلا يبقى شيء يبحث عن حجيته فالبحث يجب ان يكون حول اصل وجود المفهوم لا حجيته. والجواب ان الشرط له اشعار بالانتفاء عند الانتفاء ولكنه قد لا يبلغ حد الظهور ليكون حجة فيصح البحث عن انه هل بلغ حد الظهور ام لا؟

فيعلم من ذلك ان هناك احكاما في مرتكز العقلاء ولكنها لم تبلغ حد القانون العقلائي الذي يلزم الانسان به فاذا حكم الشارع وفقا لهذا الحكم الارتكازي يكون تاسيسا لا امضاءً لحكمهم اذ لا يحكمون به حكما قانونيا فالبحث عن حجية الاستصحاب يعود الى البحث عن ان الشارع هل اعتبر هذا الحكم الارتكازي الخفيف لدى العقلاء حجة تعبدية ام لا؟

واذا تمت حجيته بجعل شرعي فهو وان كان تأسيسا الا انه في الواقع تنفيذ لحكم عقلائي غير قانوني فهو حكم من المكلف ويصح الاسناد اليه ويشهد لذلك أن الخطاب في الروايات موجه الى المكلف بعدم نقض اليقين بالشك مما يعني أنه فعله. ويمكن ان يكون الاسناد الى المكلف على اساس التبعية لحكم الشارع نظير ما يقوله اصحاب مسلك التعهد في الوضع بان الواضع الاول تعهد بارادة المعنى حين استعمال اللفظ والمستعملون من اصحاب اللغة ايضا متعهدون تبعا. ومثله ما يقال من أن الاحكام الصادرة في موارد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أحكام تبعية مماثلة للاحكام الاصلية.

الجهة الثانية :

الفرق بين الاستصحاب وقاعدتين مشابهتين له

 

وهما قاعدة اليقين ، وقاعدة المقتضي والمانع.

وقد اختلف في أن المراد بالاخبار الآتية هل هو الاستصحاب او قاعدة المقتضي والمانع أو قاعدة اليقين أو الجامع بينها وبين الاستصحاب . وكذلك بناء العقلاء فقد ادعى بعضهم فيه أنه موافق لقاعدة المقتضي والمانع لا الاستصحاب بل ان كلام الفقهاء في الموارد التي حكموا فيها بالبقاء بعد الشك قد يكون موردا للشك في انه هل يبتني على الاستصحاب ام على القاعدة المذكورة. وربما اعتبر بعضهم قاعدة الفراغ مبنية على قاعدة اليقين بناءا على أنها لا تجري الا مع القطع بالصحة حال العمل وهو ما يسمى بالفراغ البنائي فلا يعتنى بالشك الحادث بعده ولكن المشهور أنها مبنية على الفراغ الواقعي بمعنى أن المكلف يجد نفسه فارغا من العمل ولا يعتبر كونه متيقنا بالصحة حين العمل.

ولتوضيح الفرق بين قاعدة اليقين والاستصحاب نقول :

ان متعلق الشك واليقين اذا كان امراً واحداً ولم يختلف المتعلق حتی من جهة الزمان فلابد من أن يكون زمان الشك واليقين بنفسهما مختلفا اذ لا يمكن تعلق الشك واليقين بامر واحد وفي زمان واحد فان كان زمان الشك سابقا على زمان اليقين فلا اثر لهذا التقدم والتاخر بل يعمل في كل زمان بموجب ما حصل فيه واما اذا تقدم زمان اليقين فهنا مورد قاعدة اليقين مثال ذلك ما اذا تيقن احد في يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة وشك فيها أيضاً ولكن زمان الشك يوم الاحد مثلاً فبناءا على قاعدة اليقين يحكم بعدالته يوم الجمعة ويقال للشك فيه الشك الساري لانه يسري الی اليقين السابق فيرفعه .

وان كان متعلق الشك واليقين مختلفا من حيث الزمان فقط فان كان المتيقن متأخراً عن المشكوك فهو عكس الاستصحاب ويسمی بالاستصحاب القهقرائي وقد ذكروا ان هذا لا دليل علی حجيته الا في باب الالفاظ وهو المعروف باصالة عدم النقل وادّعوا انه من الاصول العقلائية والا لم يترتب علی التبادر استكشاف المعنی الحقيقي في اصل اللغة. وعهدة هذه الدعوی علی مدعيها وقد ذكرنا في محله ان التبادر ظاهرة اجتماعية متطورة تتغير حسب تغير المجتمعات وارتباطها بالقوميات المختلفة وهو مستند الی تداعي المعاني وهذا مخالف لاصالة عدم النقل التي تقتضي جمود اللفظ علی المعنی الاول وقلنا ان معرفة معنى اللفظ في زمان صدوره قبل قرون تتوقف على ممارسة طويلة وبحث عميق لاستكشاف ما كان يتبادر من اللفظ في ذلك الزمان.

وان كان متعلق اليقين متقدماً علی متعلق الشك كان هو الاستصحاب بالمعنی المشهور سواء كانت القضيتان (المتيقنة والمشكوكة) في الزمان الماضي أم كانتــا في المستقبل او كانت المتيقنة في الحال أو الماضي والمشكوكة في المستقبل علی ما هو التحقيق خلافاً لصاحب الجواهر وسيأتي مفصلاً ان شاء الله تعالى فالمناط هو تقدم المتيقن علی المشكوك زماناً .

واما قاعدة المقتضي والمانع فموردها ما لو علم الانسان بالمقتضي (بالكسر) وشك في المانع فانه يبني على أن المقتضي يؤثر اثره. ويدّعى أن عليها بناء العقلاء وأنها المراد بالاخبار الآتية وأن مفادها لا تنقض اليقين بالمقتضي بالشك في المانع. وسيأتي الكلام فيه مفصلا ان شاء الله تعالی .

ثم ان الاستصحاب وقاعدة اليقين قد يتحد مؤدّاهما وقد يختلف فاذا علمنا بعدالة زيد في يوم الاحد ثم شككنا فيها في يوم الاثنين ثم علمنا بها في يوم الثلاثاء ثم شككنا فيها في يوم الثلاثاء أيضاً بنحو الشك الساري فان مقتضى قاعدة اليقين والاستصحاب البناء علی عدالته واذا علمنا بالوضوء ثم علمنا بالحدث ثم شككنا فيه بنحو الشك الساري فمقتضى الاستصحاب الطهارة لان الحدث مشكوك فعلا ومقتضى القاعدة الحدث لليقين السابق به وان ارتفع بالشك الساري وموارد الاختلاف كثيرة .

وقد يتفق الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع كما اذا علمنا بالوضوء وشككنا في الحدث فالاستصحاب جار بلا شك وكذلك القاعدة باعتبار أن الوضوء مقتض لبقاء الطهارة لولا الرافع فيحكم بالبقاء. وقد يختلفان وقد مثّل له الاعلام بما اذا علمنا بالنار وشككنا في الرطوبة فمقتضى الاستصحاب عدم الاحتراق بخلاف القاعدة ولكن القائلين بالقاعدة لا يقبلون هذا المثال ولا يقولون بجريانها في مثل ذلك. وسيأتي تمام الكلام فيه ان شاء الله.

وقد تتفق القاعدتان كما اذا علمنا بعد البيع بعدم الغبن ثم شككنا فيه فمقتضاهما اللزوم لان البيع يقتضي اللزوم والغبن مانع عنه وقاعدة اليقين ايضا جارية لان الشك حسب الفرض سار الى تحقق الغبن بعد العلم بعدمه. وقد يختلفان كما اذا علمنا بالوضوء ثم علمنا بالحدث ثم شككنا فيه بنحو الشك الساري فقاعدة المقتضي والمانع تقتضي بقاء الوضوء للشك الفعلي في الرافع وهو الحدث واما قاعدة اليقين فتقتضي الحكم ببقاء الحدث لليقين به سابقا ولا يعتنى بالشك الساري.

 

ادلة الاستصحاب

 

الدليل الأول :  الاجماع . نقله العلامة قدس سره في المبادي . ولكن لا يبعد ان يكون مراده الاجماع العملي اذ لم يتعرض الفقهاء لهذا البحث بل قال السيد البروجردي قدس سره ان أول من دوّن الاصول من الشيعة المفيد والمرتضى والشيخ رحمهم الله وقد ذهب الأول الی حجيته وأنكره الثاني وتردد فيه الثالث فاين الاجماع الكاشف عن قول المعصوم؟! والصحيح أن الاجماع ليس كاشفا أصلاً بل هو مرشد ومنبه يدعونا الی التحقيق والبحث عن وجه اتفاق العلماء علی قول واحد وكذلك الشهرة.

وأما علماء العامة فقد اختلفوا أيضاً وانكره جماعة من المتكلمين . ونلاحظ هنا ان السيد المرتضى رحمه الله الذي أنكره يعتبر أيضاً من متكلمي الامامية . والظاهر ان السبب في ذلك هو تأثير علم الكلام الذي يبحث عن الحقائق الكونية في علم اُصول الفقه الذي ينظر في الامور الاعتبارية وكان لابد للمتكلم من انكار حجية الاستصحاب اذ لا يمكن للاستصحاب الكشف عن حقيقة كونية واقعاً. وممّا مُني به علم الاصول والفقه هو تأثير علم الكلام والفلسفة في مسائلهما .

وأما الاجماع العملي بمعنى ان الفقهاء قد حكموا بموجب الاستصحاب في موارد عديدة من الفقه حسب الاستقراء فهو غير بعيد في نفسه الا انه لا يتبين منه انهم اعتمدوا على الاستصحاب ام قاعدة المقتضي والمانع فلا يمكن الاعتماد على هذا الاستقراء الا من جهة كشفه عن ان المرتكز لديهم هو بناء العقلاء مع عدم وضوح مفاده.

الدليل الثاني : الظن من باب ان الظن يلحق الشيء بالاعم الاغلب.

ولا يخفی ان حجية الظن بقول مطلق لا دليل عليها. واما قانون الغلبة فانما يفيد بعد افتراض حجية الظن مطلقا وفي حال افادته الظن الشخصي. ويختلف ذلك حسب اختلاف موارد الشك في البقاء فربما يفيد الظن وربما لا يفيده بل ربما يكون الظن في الجانب المخالف. الا ان يقال بإلحاق موارد الشك والوهم بالظن من باب الغلبة أيضاً.

قانون الغلبة:

ولابد من ملاحظة قانون الغلبة بنحو عامّ ثم انطباقه علی المورد .

ويصح قانون الغلبة في موردين :

الأول : ان يكون أحد طرفي المعلوم بالاجمال اقل عدداً من الآخر بنسبة كبيرة يصح معه الحكم علی المشكوك بكونه من الاغلب كما اذا كان لدينا مائة آنية وعلمنا اجمالاً بكون أحد الأواني بيضاء والباقي سوداً فان قانون الغلبة يحكم علی كل ما اخرج منها عشوائياً أنّها من الاواني السود وذلك لان احتمال كونها سوداء 99% واحتمال كونها بيضاء 1% وهذا يعتبر بموجب حساب الاحتمالات ظنّـا اطمينانياً معتبراً .

الثاني : ان يكون جميع الافراد مشكوك الصفة ولكنّا جربنا اغلبها عشوائياً فرأيناها علی صفة خاصة فنحكم بموجب قانون الغلبة أنّ الباقي أيضاً كذلك. وهذا أيضاً مستند الی قانون حساب الاحتمالات وذلك لأنّا لو فرضنا أنّ في كيس مقدار مائة ورقة مثلا نحتمل ان يكون كلها سوداء أو كلها بيضاء أو بالاختلاف ففي هذا الحال اذا اخرجنا منها سبعين ورقة مثلا ووجدنا انها كلها بيضاء الا ورقة واحدة فاذا اردنا ان نخرج ورقة اخرى فاحتمال ان تكون بيضاء 70 %  واحتمال ان تكون سوداء واحد من سبعين وهكذا تختلف النسبة كلما زاد عدد الاوراق المستخرجة والتي تبين انها بيضاء فاذا وصلنا الى آخر ورقة كان احتمال كونها سوداء ضعيفا جدا بحيث يقطع بعدمه وهذا معنى الحاقه بالاعم الاغلب.

والذي يقال في تطبيق قانون الغلبة في مورد الاستصحاب وجهان :

الأول : ان اكثر الامور المعاصرة لهذا المتيقن السابق في زمان اليقين بوجوده باقية حتی الآن قطعاً فالظن يلحقه بالاغلب .

الثاني : ان اكثر الامور التي كانت متيقنة سابقاً وهي مشكوكة حالاً نراها باقية بعد الفحص فنحكم بموجب الغلبة ان هذا المشكوك أيضاً كذلك .

اما الوجه الاول فيردّه أولاً أنّ بقاء أغلب الاشياء علی الوضع السابق غير صحيح بل الاشياء غالباً كالهلال تزيد وتنقص، والامور متطورة ومتغيرة .

وثانياً لا ينطبق علی هذا شيء من الطريقين السابقين من قانون الغلبة اذ ليس هنا علم اجمالي بل بعض الاشياء مقطوع البقاء وبعضها مقطوع الزوال وبعضها مشكوك فلا ينطبق الطريق الاول وكذلك الثاني اذ ليس الجميع مشكوكاً .

وثالثاً : ان المقارنة يجب ان تكون مع لحاظ المماثلة في مقتضيات البقاء والموانع وغير ذلك من الملابسات فلا تصح المقارنة المطلقة بين هذا المشكوك وما هو باق جزماً .

واما الوجه الثاني فهو وان انطبق عليه الطريق الثاني الا ان دعوی الفحص عن اكثر الامور المتيقنة الحدوث المشكوكة البقاء مع مراعاة المماثلة في مقتضيات البقاء وعدم الموانع في جميع موارد الاستصحاب غير معقولة لعدم امكان الفحص غالباً. والاقتصار في حجية الاستصحاب علی امكان مثل هذا الفحص يفقده قيمته.

الدليل الثالث : بناء العقلاء علی الجري بموجب الحالة السابقة وعدم اعتنائهم بالشك بل الظن بالخلاف . ونحن نذكر بعض الامثلة ثم نبيّن منشأ هذا البناء .

اما الاول فانا نجد سيرة العقلاء في اُمورهم الفرديّـة والاجتماعيّـة علی البناء علی الحالة السابقة فالانسان في معاملته ومعاشرته مع الآخرين مثلاً لا يعتني باحتمال عروض العوارض في المستقبل علی نفسه من موت او جنون او عجز او مرض. وكذلك في الآخرين فيذاكر من يشاركه في الحزب السياسي مثلا بالامور الخاصة الحزبية من دون تحقيق عن رجوعه عن رأيه أو انتمائه الی حزب معارض مع احتمال ذلك وحدوثه كثيراً ويفاوض صديقه باسراره الشخصية ولا يعتني باحتمال انقلابه من الصداقة الی العداوة مع كثرة اتفاق ذلك وكذلك يعامل وكيله في الاُمور المالية وغيرها وكذلك في معاملاته التجارية المبتنية علی الثقة بالتجار فلا يعتني باحتمال عروض العوارض النفسية الموجبة للخيانة أو العوارض الجسمية الموجبة لاختلال المشاعر أو الموت أو المشاكل المالية الموجبة للافلاس أو غير ذلك وكذلك في حياته الزوجية اذ لا يعتني باحتمال حدوث الحرمة بالرضاع أو الارتداد. ونجد ايضا أن الركاب في السيارة او الطائرة لا يهتمون باحتمال عروض ما يمنع من القيادة على السائق والطيار او على السيارة والطائرة مع انه امر خطير يتعلق بارواحهم وأن الحكومات ايضا تخوّل من تثق به امورا مهمة من شؤون الدولة والشعب من دون اعتناء باحتمال عروض مانع فيه ما لم تقم امارة عليه وأن القضاء ايضا في كل المجتمعات يبتني على استصحاب الحالة السابقة من المالكية والزوجية وغيرهما ما لم يقم الآخر بينة على خلافه الی غير ذلك من الامثلة الكثيرة الكثيرة التي نشاهدها كل يوم في جميع جوانب حياتنا الاجتماعية .

واما منشأ هذا البناء فامران :

الأول : ما ذكرناه من الانفعال النفسي من ادراك الشيء بصورة خاصة ومن هنا يهتم الناس بمظهرهم وحديثهم وتعاملهم في اللقاء الاول الذي يجمعهم مع من يهمهم شأنه ليكون له اثراً اكبر في نفسه ومن المعلوم ان الانسان يتبع احاسيسه ومشاعره النفسية اكثر من متابعته لادراكاته المنطقية.

الثاني : ان الحياة الاجتماعية لا يستقيم شأنها الا بعدم الاعتناء بالشكوك والوساوس والا لم يمكن للانسان ان يعيش الا في عزلة عن المجتمع البشري فلذلك التزم العقلاء باعتبار الحالة السابقة باقية ما لم يعلم خلافها.

وسيأتي ان الشارع المقدس امضی هذا البناء ولا اقل من عدم الردع كما سنبينه مفصلا ان شاء الله تعالى ولا يخفى ان عطف سيرة المتشرعة علی بناء العقلاء في هذا المقام وغيره خطأ فان الامضاء والردع انما يبحث عنهما في بناء العقلاء دون سيرة المتشرعة الكاشفة بنفسها عن رأي المعصوم. [6]

وقد استشكل في هذا الدليل بعدم تحقق بناء العقلاء علی الاستصحاب أولاً وبردع الشارع عنه ثانياً فالكلام في مقامين :

المقام الاول في منع تحقق البناء العقلائي وذلك لوجهين:

الوجه الأول : ان الانسان ليس تابعاً لأحاسيسه النفسية كما يتوهم بل هو تابع لاداركاته العقلية وما ذكر من موارد البناء لا يخلو شيء منها عن أحد اُمور :

الأول : أنه كثيرا ما يحصل الاطمئنان بالبقاء بسبب عوامل خارجية تقتضيه.

الثاني : أن العمل وفق الحالة السابقة قد يكون برجاء اصابة الواقع كما هو الحال في موارد اهمية المحتمل وان كان غير محرز بل حتى لو لم تكن له حالة سابقة.

الثالث : الغفلة عن احتمال الخلاف فالانسان كثيرا ما يعمل حسبما هو معتاد وفق الحالة السابقة غفلة عن احتمال حدوث تغير في الامر وربما ي   توقف اذا نبه عليه.

والجواب ان الاطمينان ان كان المراد به الاطمينان النفسي الذي يشعر به الانسان ارتكازاً فهو ما ذكرناه. وان كان المراد به الاطمينان الادراكي أي العلم عن طريق المحاسبة العقلية فهو نادر جداً ولا يمكن حمل هذا البناء مع كثرة موارده علی ذلك .

واما الرجاء والاهتمام بالمحتمل فلابد من ان يكون بلحاظ المحاسبة بين قوة الاحتمال واهمية المحتمل ثم ترجيح جانب الفعل أو الترك ولو كان كذلك لم يكن الاحتمال قويا في اكثر الموارد لملاحظة كثرة التغيرات والطوارئ مع انا نری في موارد الاستصحاب قوة احتمال البقاء بل يری السابق بعين الحالة السابقة اي كونه متيقنا. والرجاء لا يوجب الرؤية والاحساس. مضافاً الی ان اكثر موارد الرجاء يعارضه الخوف واحتمال الضرر فلا مرجح الا البناء علی الحالة السابقة .

واما الغفلة عن احتمال الخلاف فلا تصح الا في القليل من موارد البناء ويكفي الباقي .

هذا ومن العجيب ان هؤلاء الاعلام لم يذكروا هذا الاشكال في سائر موارد بناء العقلاء مع ان كلها تحتمل ذلك كخبر الثقة واصالة عدم النقل .

الوجه الثاني : ان بناء العقلاء يمكن ان يفسر بقاعدة المقتضي والمانع بل هي اقرب اليه من الاستصحاب. والسر في ذلك ان بين موارد القاعدة والاستصحاب عموما من وجه فيفترق الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي علی القول به وتفترق القاعدة في موارد الشك في الدافع لا الرافع ويجتمعان فيما عدا ذلك من الشك في البقاء.

اما موارد افتراق الاستصحاب فليس لها شواهد من بناء العقلاء اذ كل موارد البناء العقلائي من الشك في الرافع لا الشك في المقتضي. واما موارد افتراق القاعدة فلها شواهد لا يمكن تفسيرها بالاستصحاب نذكر بعضها في ما يلي:

 1- موارد اصالة الحقيقة والاطلاق والعموم . وقد ذكر الشيخ قدس سره انها لا يمكن ان تعلل بالاستصحاب اذ هي متفق عليها والاستصحاب مختلف فيه فكيف يفسر مورد الاتفاق بامر اختلافي، مع انها ليست من موارد القطع بالحالة السابقة اذ عدم الاتيان بالقرينة أو المخصص أو المقيد ليس له حالة سابقة فهذا لا ينطبق الا علی قاعدة المقتضي والمانع فان اطلاق اللفظ يقتضي الحمل على الحقيقة، والقرينة تدفعه. والمراد بالمانع اعم من الرافع والدافع .

2- القول باللزوم في مورد احتمال الغبن اذ ليست اصالة عدم الغبن من موارد الاستصحاب وليست لها حالة سابقة فالحكم باللزوم ليس الا لتطبيق قاعدة المقتضي والمانع باعتبار أن العقد يقتضي اللزوم والاصل عدم تحقق الغبن الموجب للخيار.

3- صحة النكاح مع احتمال الرضاع أو النسب من اول الامر .

قاعدة المقتضي والمانع:

ولتقييم هذا الوجه لا بد من دراسة قاعدة المقتضي والمانع. وربما يلاحظ على هذه القاعدة بان المراد بالمقتضي ان كان هو المقتضي التكويني فلا يمكن الالتزام به . فلو فرض ان احداً مرض مرضاً يفضي الی الموت لولا العلاج وشك في العلاج كان مقتضى القاعدة الحكم بالموت وترتيب الآثار عليه من تقسيم الاموال وغيره ولا يمكن الالتزام به قطعا. وان كان هو المقتضي الشرعي بمعنی موضوعات الاحكام الشرعية وكان المراد بالمانع القيود العدمية فهذا غير صحيح اذ أنّ المقتضي الشرعي حسب ظواهر الادلة هو مجموع الموضوع والقيود ولا فرق بين القيود العدمية والوجودية وان كان المراد ملاكات الاحكام الشرعية فهي مستورة علينا لا سبيل الی احرازها.

والجواب ان المراد بالمقتضي هنا الموجود الذي يقتضي بذاته الثبوت لولا تحقق مانع يوجد او انعدام شرط. فهو نفس المعنی الذي ذكره الاعلام في شرح مراد الشيخ قدس سره من المقتضي والرافع في تفاصيل الاستصحاب الا أنّـه يختلف عنه في مورد الشك في الدافع ولذلك عبّرنا بانه يقتضي الثبوت ليعم البقاء والحدوث . والحاصل انه ما لا يفنيه الزمان بل تفنيه العوارض بخلاف الامور الموقتة .

ومن هنا يظهر ان هذه القاعدة تختص بالامور الاعتبارية لا التكوينية فالنقض بالمرض غير وارد. والسرفي ذلك ان القاعدة في هذه الموارد تتعارض مع نفسها فان الحياة أيضاً تقتضي البقاء بنفسها لولا عروض ما يعدمها فيتعارض جريان القاعدة في الحياة مع جريانها في المرض . فهو نظير موارد تعارض الاستصحابين .

وللقول بهذه القاعدة جذور في الفلسفة حيث يقال ان العلة التامة تتركب من المقتضي ووجود الشرط وعدم المانع . ثم يشكل علی ذلك بان العدم لا يؤثر فكيف يكون منشأً للوجود وان الموجود لا يتركب من الموجود والمعدوم . ويجاب عن ذلك بان عدم المانع ليس مؤثراً في الوجود بل هو ظرف لتأثير المقتضي .

والقائل بقاعدة المقتضي والمانع لم يرتض هذا القول فقال : بل المانع حائل بين المقتضي واقتضائه للأثر فعدم المانع ليس شرطاً لتأثير المقتضي بل المقتضي يؤثر اثره الا ان يحول المانع بينه وبين الأثر ومن هنا لابد في احراز الأثر من احراز المقتضي والشرط واما المانع فيكفي عدم احرازه .

وحيث ان الاُمور الاعتبارية انعكاس للاُمور التكوينية فهذه القاعدة تجري فيها أيضاً ومنها الاحكام الشرعية في متعلقاتها وموضوعاتها . فالمانع عن صحة الصلاة مثلاً كاستصحاب اجزاء ما لا يؤكل لحمه انما يعتبر مانعاً عن اقتضاء الصلاة تحقيق الملاك أو عن انطباق الكلي علی هذا الفرد .

هذا كله مبنى هذه القاعدة وقد عرفت انه يشهد لها الاُصول اللفظية ولزوم البيع مع احتمال الغبن وصحة النكاح مع احتمال وجود الموانع.

ولكن لا يخفی ضعف المبنى من اصله اذ لا وجه للفرق بين عدم المانع ووجود الشرط من حيث وجوب الاحراز . ولا وجه لقياس الامور الاعتبارية بالاُمور التكوينية اذ كما يمكن ان يعتبر المعتبر الشيء مقيداً بقيد وجودي كذلك يمكنه ان يقيده بقيد عدمي . ولم يثبت في مورد من الاحكام الشرعية ان يكون الشارع قد اعتبر امراً مقتضياً للحكم وجعل له شروطاً وموانع بل المقتضي ــ بمعنی ما يترتب عليه الاثر فيها ــ هو مجموع الموضوع مع القيود الوجودية والعدمية . وفي كل ذلك لا اشكال في أن التقيد وهو الداخل في اجزاء العلة امر وجودي . مع ان عدم الملكة له حظ من الوجود.

واما الاُصول اللفظية فالتحقيق ان منشأ بناء العقلاء علی اصالة الظهور في الموارد الثلاث ليس الاعتماد علی أصالة عدم القرينة بل هو مبني علی أصالة الجد مع التعهد العقلائي بأن ما يفهم من الكلام ظاهراً هو مراده وهو مأخوذ به وليس هذا هو التعهد المدعی في معنی الوضع كما ذكره السيد الخوئي «دام ظله» فان ذلك في الدلالة التصورية وهذا في الدلالة التصديقية . وهذا التعهد مقيد من أول الأمر بعدم ايصال القرينة علی الخلاف الی السامع فاذا اوصله اليه لم يؤخذ بظاهر كلامه فظهر ان القرينة مانعة بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي .

وأما خيار الغبن فالامر فيه غير مسلم أولاً . ومع تسليمه لا نسلم استناده الی اصالة عدم الغبن اذ يمكن ان يكون المستند هو استصحاب الملكية الحاصلة قبل الفسخ . ويمكن ان يقال بعدم اللزوم لانه من التمسك بعموم اوفوا بالعقود في الشبهة المصداقية للمخصص.

واما مسألة النكاح فهي أيضاً تحتمل ان يكون مستنداً الی أمر آخر كخبر مسعدة بن صدقة في البينة أو استصحاب العدم الازلي .

واما سائر الشواهد من موارد البناء العقلائي فهي لا تستند الی هذه القاعدة جزماً اذ ان المشاهَد في هذه الموارد هو الانفعال النفسي والاطمينان بل رؤية الشيء علی ما كان عليه . وهذه الظاهرة لا يمكن ان تفسر بهذه القاعدة اذ لا تحتوي علی أمر نفسي يقضي بالبقاء .

فهذه القاعدة باطلة اساساً ولا شاهد لها ولا دليل علی حجيتها .

 (المقام الثاني) : في عدم ردع الشارع عن بناء العقلاء في الاستصحاب وقد ذكر في بيان الردع وجهان :

الأول : ادلة البراءة الشرعية فان الاستصحاب لو تم حتی في عدم التكليف لم يبق مورد لادلة البراءة .

والجواب أولاً : ان هذا الاشكال لو تم لاختص باستصحاب عدم التكليف فقط .

وثانياً : ان الاشكال يبتني علی حكومة الاستصحاب علی البراءة حتی في مورد التوافق وهو خلاف التحقيق والوجه فيه ملخصاً هو انّ سرّ تقديم الاستصحاب علی البراءة في مورد التخالف هو انتفاء موضوعه (وهو الحكم غير المعلوم) بالاستصحاب لكونه محرزاً . وهذا غير جار في صورة التوافق لتطابق العنوانين علی المورد بلا تمانع وهما الحكم غير المعلوم فعلاً والحكم معلوم العدم سابقاً فلا تنافي بين الموضوعين.

وكذلك الحال بين الاستصحاب وقاعدتي الحل والطهارة ففي صورة التخالف يحرز الاستصحاب موضوع الحكم المستفاد من الغاية وهي (حتی تعرف انه حرام، او قذر) باعتبار انه يعدّ معرفة إمّا تعبداً بالاخبار او اعتباراً لبناء العقلاء واما في صورة التطابق فيصدق موضوع الاستصحاب وهو (مشكوك الحرمة اوالنجاسة) كما يصدق موضوع منطوق القاعدتين وهو (معلوم الحلية والطهارة سابقاً).

ويشهد لذلك استدلال الفقهاء المتقدمين علی عصر الشيخ الانصاري قدس سره في كثير من الموارد بالاصل والامارة معاً وليس ذلك الا لعدم الحكومة في مقام التوافق .

الثاني : الآيات الناهية عن العمل بالظن أو عدم العلم وهي كثيرة .

منها قوله تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الانعام: 116. وقوله تعالى (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا...) يونس: 36. وقوله تعالى (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ..) الروم: 29.

وينبغي التنبيه علی ان هذا الاشكال لا يرد مع وجود الاخبار المصرّحة بحجية الاستصحاب مع ان لسانها لسان امضاء البناء العقلائي لانها اخص من الآيات فتقدم عليها .

ومع قطع النظر عن ذلك فلابد من ملاحظة جهتين في بناء العقلاء قبل مراجعة الآيات الكريمة :

الجهة الاُولی : ان الاستصحاب عند العقلاء ليس من الاُمور الكاشفة عن الواقع بل هو اعتبار عقلائي ببقاء ما كان أو بكون العلم بالشيء علماً بالبقاء . والاُمور الاعتبارية تُحدّد بحدود اعتبارها ولا يؤخذ بلوازمها اذ لا تكشف عن الواقع حتى تتبعه اللوازم فان اللوازم انما تتبع الوجود الخارجي لا الاعتباري فاذا اعتبرت زوجة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم مثلاً اما للمؤمنين باعتبار حرمة زواجها ولو بعد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او وجوب احترامها علی الامة أو غير ذلك فلا يلازمه اعتبار أخيها خالاً للمؤمنين مثلاً حتی تحرم المؤمنات عليه أو يجب احترامه . كما ان الامر كذلك في الاعتبارات الادبية فيقال مثلاً : ان فلاناً شمس ولا يراد به لوازمه حتی ان حجمه اكبر من الارض مثلاً، كل ذلك من جهة ان الاعتبارات لا تكشف عن الواقع وانما هو تنزيل للشيء منزلة الآخر في حدود خاصة .

الجهة الثانية :  ان بناء العقلاء في ترتيب الآثار علی شيء في الدرجة الاولی انما هو علی القطع والاطمينان . وفي الدرجة الثانية علی الامارات العقلائية كالرجوع الی اهل الخبرة فيه من جهة قانون تقسيم الاعمال . وفي الدرجة الثالثة علی قانون محاسبة الاحتمال والمحتمل فيرتبون الآثار علی المحتمل المهم وان كان الاحتمال ضعيفاً .

وأما الآيات ففيها احتمالات ثلاثة :

الاحتمال الأول : (وهو الصحيح) ان المراد بالظن هو الاعتقاد الخرافي الذي لا يدعمه دليل علمي بل هو من فعل النفس وتخيلاتها تحت تأثير الامنيات أو الشهوات أو الاعلام أو الحب أو البغض فينشأ منها اعتقادات لا يساندها دليل وما أنزل الله بها من سلطان وانما هي امور ذهنية من نسج الخيال ويعبر عنها القرآن بالظن والخرص والاماني والهوی وظن الجاهلية والجهالة في قوله تعالی : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) الحجرات: 6، أي بلا دليل . والمراد بالعلم هو الوصول الی الواقع والكشف عنه ويعبر عنه القرآن بالعلم والهداية والنور والبصائر الی غير ذلك من التعابير الكثيرة الواردة في القرآن المشيرة الی هذا المعنی . وقد امتلأ القرآن بالتنبيه علی هذا الموضوع وان الاسلام جاء ليخرج الناس من الظلمات الى النور ومن العقائد الخرافية والظنون الجاهلية الی الهدی والواقع والحق .

 ونذكر من باب المثال بعض الآيات المباركات ليتضح المراد منها :

قال تعالی في سورة النجم 21-24 : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى) الی ان يقول تعالی شأنه: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) 27-28.

وقال تعالی في سورة يونس 68 : (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) .

وقال تعالی في سورة البقرة 111 : (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) . ونظائر هذه الآيات كثيرة.

ولو كان المراد بالظن الاعتقاد الراجح لصح اعتذار الكفار بانهم جازمون.

وبناءاً علی هذا الاحتمال فالآيات الناهية لا تنظر الی الاصول العقلائية والامارات ولا الی قانون محاسبة الاحتمال وأهمية المحتمل بل انما تعارض العقائد الخرافية اي توجب في القسم الاول مما ذكرناه في الجهة الثانية آنفا وهو القطع والاطمينان ان لا يكون منشؤه فعل النفس ونسج الخيال . واما الظن الراجح الذي يكون حجة لدى العقلاء كما اذا بلغ قوة الاحتمال 90% مثلاً فالآيات لا ترتبط به كما لا ترتبط بالامارات العقلائية واعتباراتهم .

الاحتمال الثاني: ما ذكره السيد الخوئي دام ظله كما في تقرير بحثه وهو ان المراد بالعلم العلم بوجود المؤمّن من العقاب وبالظن احتمال عدم العقاب[7] فيكون ناظراً الی وجوب دفع الضرر المحتمل المبني علی قانون محاسبة الاحتمال والمحتمل. ولا اشكال في خروج الاستصحاب والامارات والاصول العقلائية عن مفادها. الا ان هذا الاحتمال لا شاهد له .

الاحتمال الثالث :  ان يكون المراد بالعلم العلم الجزمي وبالظن ما عداه من طرق الكشف والاحراز او ما يكون منشأ لترتيب الآثار علی الشيء فيشمل الاستصحاب وجميع الامارات والاصول العقلائية . ولا اشكال في فساد هذا الاحتمال .

الدليل الرابع : الاخبار ، وهي اما ادلة علی اعتبار الاستصحاب تعبداً او امضاء لبناء العقلاء وهي عدة روايات :

الرواية الاولى : ما رواه في الوسائل عن الشيخ باسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة قال : قلت له : الرجل ينام وهو علی وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن فاذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء . قلت : فان حرّك في جنبه شيء ولم يعلم به ؟ قال : لا حتی يستيقن انه قد نام حتی يجيء من ذلك أمر بيّن والاّ فانه علی يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين ابداً بالشك وانما ينقضه بيقين آخر . [8]

والكلام في الحديث من جهات أربع :

الجهة الاولی في سنده، والكلام في مقامين :

المقام الاول في صحة السند الی زرارة ، والملاحظ أنّ صاحب الوسائل نقله عن الشيخ باسناده الی الحسين بن سعيد وظاهره أنّه مما ابتدأ الشيخ قدس سره فيه باسم الحسين فيكون داخلاً في تلك المجموعة من الاخبار التي لنا طرق في تصحيحها .

ولكن هذا خلاف ما هو في التهذيب وقد غفل عنه الاعلام فان الشيخ يروي رواية قبل هذا الحديث عن الشيخ المفيد عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد عن أبيه عن محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن محمد بن عيسی والحسين بن الحسن بن أبان عن الحسين بن سعيد ... ثم نقل هذا الحديث وقال (وبهذا الاسناد عن الحسين بن سعيد) فاللازم هو ملاحظة هذا السند بناءاً علی حجيّة خبر الثقة .

اما الحسين بن الحسن بن أبان فانه وان لم يوثق الا انه معطوف علی احمد بن محمد بن عيسى فلا اشكال من هذه الجهة انما الاشكال في احمد بن محمد بن الحسن بن الوليد فانه لم يوثق ولم يذكر في كتب الرجال فالوجه في تصحيح ما نقل عنه امران :

الاول: رواية الاجلاء كالمفيد وابن الغضائري عنه. وبطلان هذا الوجه واضح اذ مجرد الرواية عنه لا تدل على توثيقه من قبلهم.

الثاني : ان المفيد قدس سره ليس له كتاب حديث وكذلك أحمد بن محمد بن الحسن والحسين بن الحسن بن أبان وحيث ان التأمل في ما نقله الشيخ من الروايات في التهذيبين وملاحظة طريقة نقله وتأليفه يقضي بانه لا ينقل الا عن الكتب الموجودة عنده عن طريق اجازة المشايخ فذكر هذه الأسناد انما هو من باب الاجازة فلابد ان يكون النقل اما من كتاب ابن الوليد أو الصفار أو أحمد بن محمد بن عيسى أو الحسين بن سعيد وكلها كانت موجودة عنده لنقله عنها في سائر الموارد واذا كان كذلك فتصحيحه انما يكون باعتبار صحة طريق الشيخ الی هذه الكتب غير هذا الطريق وهي منقولة في المشيخة . واما احتمال كون هذه الرواية منقولة يداً بيد بهذا الطريق من دون تدوينها في هذه الكتب فهو بعيد جداً بملاحظة طرق نقل الرواية آنذاك .

المقام الثاني : في من يروي عنه زرارة فان الرواية مضمرة وقد يقال : ان جماعة من الاعلام كالمحدث الاسترابادي والعلامة بحرالعلوم والمحقق النراقي ذكروها مسنداً الى ابي جعفر عليه السلام.

ولا يخفى ان هذا لا يفيد وثوقا فانها لم تنقل في شيء من كتب الحديث التي بأيدينا الا في التهذيب وهي مضمرة هناك واحتمال وجودها في كتاب اطلعوا عليه وخفي عنا احتمال بعيد في حد ذاته لقرب عهد المذكورين مضافا الى أنه لا يفيد أيضاً في تصحيح الرواية اذ لا طريق لنا الی تصحيح ذلك الكتاب المجهول .

وقد يقال : ان عظمة زرارة وعلو مقامه تمنع من احتمال سؤاله عن غير الامام.

ويرده ان عظمة الشخص وجلالة شأنه مهما كان لا تمنع من ذلك وكم له من نظير وزرارة كان أهلاً للنقاش والبحث مع علماء العامة وغيرهم .

فالصحيح في الجواب ان زرارة قد ذكر المسؤول عنه قطعاً اذ لولاه لبقي الضمير بلا مرجع وهو غير صحيح ولو اراد الاخفاء لقال قلت للرجل مثلاً . اذن فلابد ان يكون الحذف عند تقطيع الحديث في أحد الكتب المذكورة وهنا يتردّد الامر أيضاً بين المعصوم وغيره وحيث إن هذه الكتب موضوعة لجمع أحاديث الائمة عليهم السلام فذكر الرواية من غيرهم من دون اشارة الی ذلك تدليس يجب ان ينزه عنه اصحاب هذه الكتب فانه ينافي وثاقتهم .

الجهة الثانية في فقه الحديث : لا شك أن المراد بالنوم فيه مرتبة ضعيفة منه فيكون السؤال عن مورد الشبهة المفهومية وانه هل يشمل الخفقة والخفقتين أم لا ؟

وقد وقع الكلام في جواب الشرط في قوله عليه السلام والاّ ــ اي وان لم يستيقن انه قد نام ــ فانه علی يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبداً .

فهنا أربعة احتمالات :

الاحتمال الأول : ان يكون الجزاء جملة لا ينقض اليقين بالشك وتكون الجملة الاولی إمّا متمماً للشرط فيكون مفاد الجملة : (وان لم يستيقن أنّه قد نام وهو علی يقين من وضوئه فلا ينقض..) وإمّا تمهيداً للجزاء فيكون مفادها هكذا ، (وان لم يستيقن انه قد نام فحيث انه علی يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين..) .

ويضعّف هذا الاحتمال ان دخول الفاء علی الجملة الاولی لا وجه له علی كلا التقديرين بل لابد من دخوله علی الجملة الثانية . وكذلك الواو في الثانية بلا وجه .

الاحتمال الثاني: ما ذكره الشيخ الانصاري قدس سره وتبعه اكثر من تأخر عنه وهو ان يكون الجزاء محذوفاً وهو (فلا يجب الوضوء) دلت عليه الجملة الاولی فالفاء مناسبة لكونها علة للجزاء سادة مسدّه. ونظائره في القرآن الكريم وكلمات العرب كثيرة. وقد ذكر الشيخ  شواهد عديدة من الكتاب العزيز فمنها قوله تعالی : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) آل عمران: 97، اي فلا يضر الله شيئاً. ومنها قوله تعالی : (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يوسف: 77، اي فلا عجب .

واعترض عليه المحقق النائيني قدس سره (علی ما نسب اليه) بانه يستلزم تكرار الجزاء فان قوله عليه السلام في الجواب أولاً : (لا) يريد به لا يجب الوضوء وهو عين المقدر هنا فهذا تكرار بلاوجه.

الاحتمال الثالث : ما نسب الی المحقق النائيني من ان الجزاء هو نفس الجملة الاولی ولكنها خبرية في مقام الانشاء اي وان لم يستيقن فليكن جريه علی يقينه السابق بالوضوء والجملة الثانية تأكيد له .

وقد ردّ بوجوه :

الوجه الأول: أنّ هذا يستلزم التكرار أيضاً فان قوله (لا) بمعنى (لا يجب الوضوء) مغن عن قوله (فانه على يقين..) اذا كان معناه (فليبن علی الوضوء). بل إنّ هذا أسوأ حالاً من التكرار علی الاحتمال السابق فانه مقدر وهذا مصرّح به.

الوجه الثاني : ان الجملة الاسمية وان جاءت في مورد الانشاء نادراً الا انه ليس في الجملة الطلبية بل في غيرها من الانشائيات كقولنا هي طالق .

الوجه الثالث : ان كونه في مقام الانشاء يقتضي طلب اليقين لانه متعلق الانشاء وطلب اليقين لا معنی له .

الاحتمال الرابع : ان يكون الجزاء هو نفس الجملة الاولی وهي في مقام الانشاء ولكن ليس انشاءا طلبيا بل الأمر المنشأ هو كونه علی يقين اعتباري من وضوئه. وحينئذ فالجملة الاولی هي التي تبين الاستصحاب لا الجملة الثانية . وهذا هو الاظهر. ولعل المحقق النائيني أراد هذا المعنی.

ولا يرد عليه شيء من الاشكال سوی ما قد يقال من ان كونه علی يقين ينافي الشك الذي صرّح به في الرواية. وجوابه ان المراد بالشك في جملة (ولا ينقض اليقين بالشك) هو الوسوسة التي تجتمع مع اليقين فان اليقين الادراكي لا ينافي الاضطراب والقلق النفسي فهذه الجملة ليست في مقام بيان الاستصحاب اصلاً ويدل علی ما ذكرنا بعض الروايات وسيأتي ذكرها ان شاء الله تعالى.

الجهة الثالثة : في ان مفاد الحديث هل هو الاستصحاب او قاعدة المقتضي والمانع كما قال الشيخ هادي الطهراني رحمه الله بدعوی ان قوله عليه السلام (لا حتى يستيقن أنه قد نام) يوافق القاعدة حيث جعل الغاية اليقين بالنوم الذي هو مانع من تأثير المقتضي للطهارة وهو الوضوء ولو كان المراد التمسك بالاستصحاب لقال (حتی يستيقن ببطلان الوضوء) وعليه فالمراد بقوله فانه علی يقين من وضوئه أي الوضوء السابق لا المستصحب وبقوله لا ينقض اليقين بالشك اي لا ينقض اليقين بالوضوء السابق أيضاً بالشك في النوم الذي هو مانع من تأثير المقتضي.

ومن الواضح ان هذا البيان لا يأتي علی ما ذكرناه من أنّ المراد بالجملة الاولی انه علی يقين بالفعل من وضوئه ولكن اعتباراً لا حقيقة فانه لا يناسب القاعدة المبتنية علی ان المراد بها اليقين بالوضوء السابق.

واما علی المسلك المشهور فيمكن ان يجاب عما ذكره بان عنوان النقض في قوله عليه السلام (ولا تنقض اليقين أبدا بالشك) يقتضي ان يكون متعلق الشك واليقين امراً واحداً والا لم يصدق النقض فهذه قرينة واضحة على أن المراد بهذه الجملة الاستصحاب ولا يعارضه ظاهر قوله عليه السلام : (لا حتى يستيقن أنه قد نام حتی يجيء من ذلك أمر بيّن) لو سلّم ظهوره في القاعدة فان هذه الجملة في مقام الافتاء والجواب عن المسألة الفرعية وهي ان تحريك الشيء في جنبه وهو لا يعلم به هل يعتبر امارة علی النوم أم لا ؟ وأما الجملتان الاخيرتان فهما في مقام التعليم وبيان القاعدة الكلية .

بيان ذلك أن هناك فرقا بين الفتوی والتعليم ولا بد من ملاحظة هذا الفرق في جميع الروايات وهو ان الفتوی لا يذكر فيها الموضوع الواقعي للحكم بل يهتم المجيب بافهام المخاطب وظيفته العملية وان ادی الی اخفاء موضوع الحكم الواقعي فلا يمكن ان يؤخذ بالموضوع المذكور في مقام الفتوی . واما التعليم فحيث انه في مقام بيان القاعدة الكلية لابد من ذكر الموضوع الواقعي، كما يلاحظ ان مراجع الطبيب مثلا قد يذكر في مقام الاستشارة عدة امور بظن انها منشأ مرضه فلا يبين له الطبيب ما له دخل في المرض وما ليس له دخل فيه بل يكتب له الوصفة الطبية فلا مجال لتوهم ان هذه الوصفة تفيد في كل مورد تتحقق فيه الامور المذكورة. فظهر ان ما في الصدر ليس موضوعاً واقعياً للحكم فلا يعارض ذيل الحديث .

الجهة الرابعة : في أن الحكم المستفاد من الرواية هل هو عام كما فهمه المتأخرون او خاص بالوضوء كما فهمه القدماء مع عدم الاختصاص بالنوم من بين النواقض للقطع بعدم الاختصاص. ونعيد نقل الرواية للتركيز قال عليه السلام (لا حتی يستيقن انه قد نام حتی يجيء من ذلك أمر بيّن والاّ فانه علی يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين ابداً بالشك وانما ينقضه بيقين آخر).

ويمكن ان يؤيّد الاحتمال الثاني بوجهين :

الأول : تقييد الجملة الاولی بالوضوء. ولو كان للعموم لقال فانه علی يقين ولا ينقض اليقين أبدا بالشك .

الثاني : الاتيان بصيغة المعلوم في الجملة الثانية الذي هو بمنزلة ذكر المسند اليه وهو يدل علی اختصاص الحكم به ولو كان للعموم لكان ينبغي ان يقول ولا يُنقض اليقين بصيغة المبني للمجهول . والدليل علی انه للمعلوم ذيل الجملة ولكن ينقضه بيقين آخر .

ولا بدّ من ملاحظة الاحتمالات الاربعة المذكورة في اول البحث عن مفاد الحديث وامكان دلالة الرواية على العموم على ضوء كل منها مع قطع النظر عن هذين المؤيدين.

أما على الاحتمال الاول وهو أن الجزاء جملة (ولا ينقض اليقين أبدا بالشك) والجملة الاولی اي قوله عليه السلام (فانه على يقين من وضوئه) إمّا متمم للشرط وإمّا تمهيد للجزاء وعليه فالجملة الاولى ليست كبرى تستفاد منها قاعدة عامة والجملة الثانية اي قوله (ولا ينقض اليقين..) هي جزاء الشرط اي قوله عليه السلام (والا) فان معناه وان لم يستيقن انه قد نام.. ولا شك في أنها تختص بالوضوء ليوافق الشرط.

واما علی الاحتمال الثاني وهو أن الجزاء محذوف تدل عليه الجملة الاولى وهو جملة (فلا يجب الوضوء) مثلا، ففي تقريرات السيد الخوئي أيده الله : ان اليقين حيث انه من الامور النفسية المتعلقة بالامور الخارجية فيتقوّم بامرين: محله وهو النفس، ومتعلقه وهو الامر المعلوم. فذكر الوضوء في الجملة الاولی ليس للتقييد بل لذكر المتعلق الذي لا يستغني عنه اليقين .

ويلاحظ على ما ذكره أن الكلام في استفادة العموم من الجملة الثانية اي قوله عليه السلام (ولا ينقض اليقين..) واليقين فيها تابع لليقين في الجملة الاولی من حيث العموم والخصوص وذلك كما لو قال المولی (اكرم زيداً العالم بالفقه لان اكرام العالم واجب) حيث لا يمكن استفادة العموم من التعليل لكل عالم لاحتمال اختصاصه بالفقيه فلا ينعقد له ظهور في غيره بخلاف ما لو حذف قيد (بالفقه) . فقوله من وضوئه مهما كان شأنه يمنع من ظهور الجملة الثانية في الاطلاق لان ظاهر القيد الاحتراز ولا اقل من احتماله .

وأما على الاحتمال الثالث فالجزاء هو الجملة الاولى وهي خاصة بالوضوء والجملة الثانية التي يتوقع أن تكون كبرى عامّة ليست الا جملة مؤكّدة.

وكذلك القول على الاحتمال الرابع الذي قويناه بالنسبة الى الجملة الاولى وأما الثانية فقد مرّ أنه لبيان أمر آخر ولا ربط له بالاستصحاب كما مرّ.

وقد يقال : بان كلمة أبداً تدلّ علی العموم . ويرده انه تأكيد لاستمرار الحكم في المستقبل لا لجميع افراد الموضوع .

وقد يقال : بأنه حيث كان من المرتكزات العقلائية فلا بد من ان يكون عاماً. وهذا حق ولكنه لا ينبغي ان يصدر ممن انكر بناء العقلاء . نعم هو صحيح علی مسلكنا.

وهنا وجهان في تصحيح هذا الارتكاز من دون الاعتراف ببناء العقلاء.

الوجه الأول ما ذكره السيد الحكيم قدس سره من ان المراد بالارتكاز ليس هو بناء العقلاء علی الجري الاستصحابي بل العقلاء يعلمون من هذه الجملة بمناسبة الحكم والموضوع ان المراد باليقين مطلق اليقين كما انه لو قيل اكرم زيداً العالم يعلم منه تعميم الحكم للعلماء بمناسبة الاكرام للعلم ولو قيل اكرم زيداً الطويل مثلاً لم يعلم ذلك لعدم المناسبة فكذلك في المقام فان عدم النقض يناسب اليقين بما انه يقين لا لخصوصية في الوضوء .

والجواب ان هذه المناسبة لا تقاوم ما ذكرناه من المؤيدين القويين في استفادة الخصوص .

الوجه الثاني : ما ذكره اكثر الاعلام من ان اليقين امر مبرم والشك امر غير مبرم ومن هنا حسن التعبير بالنقض وهذا لا يختص بباب الوضوء بل هو جار في جميع الموارد .

والجواب عنه يحتاج الی مقدمة وهي :

ان المجاز والاستعارة عبارة عن إعطاء حدّ شيء لشيء آخر للتأثير في نفوس المستمعين طلباً لمقصد وغاية اسمی وذلك لاكتساب الشيء المشبه به شهرة عند الناس امكن ان يكون وسيلة للتشهير . فاذا قيل فلان اسد الاسود فان المقصود هو تخويف الناس من شجاعته ولاشتهار الاسد بالشجاعة يقال إدّعاءاً وبالعناية: إنّ هذا اسد . وقد يقال لنفس هذا الشخص في مورد آخر هذا ثعلب مثلاً من جهة دهائه ومكره . او هذا شمس او قمر من جهة حسنه وجماله . وغير ذلك من انحاء الاستعارات فهي ليست الا وسيلة للتأثير في النفس تتخذ تبعاً للمصالح والمقاصد.

والمقام من هذا القبيل فليس لليقين والشك إبرام واسترخاء واقعيان مستفادان من التعبير بالنقض حتی يستكشف منه بعد فرض اختصاص المورد بالوضوء عموم الحكم لجميع موارد اليقين لوجود هذا الامر الواقعي في جميعها . بل النقض والابرام تعبير أدبي يقصد به التأثير في النفس وحينئذ فكما يصح ان يعتبر اليقين مطلقاً امراً مبرماً كذلك في مورد خاص دون غيره فان ذلك تابع للمقاصد .

فالحاصل انا لو كنا وهذه الرواية لم نكن نستفيد منها العموم ولكنا حيث ذكرنا ان الاستصحاب من المرتكزات العقلائية في نفسه ولابد ان يكون التعليل بامر ارتكازي ، وبضميمة سائر الروايات التي وردت في مختلف الموارد يمكننا استفادة العموم .

الرواية الثانية :

 روى زرارة قال : قلت له أصاب ثوبي دم رعاف او غيره او شيء من مني فعلّمت اثره الی أن اُصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئاً وصليت ثم إنّي ذكرت بعد ذلك قال : تعيد الصلاة وتغسله .

قلت : فاني لم اكن رأيت موضعه وعلمت انه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته قال : تغسله وتعيد .

قلت : فان ظننت انه قد أصابه ولم اتيقن ذلك فنظرت فلم أر فيه شيئاً ثم صليت فرأيت فيه. قال : تغسله ولا تعيد الصلاة.

قلت لم ذاك؟ قال : لانك كنت علی يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبداً .

قلت : فاني قد علمت انه قد أصابه ولم أدر اين هو فاغسله . قال : تغسل من ثوبك الناحية التي تری انه اصابها حتی تكون علی يقين من طهارتك.

قلت : فهل عليّ إن شككت في انه أصابه شيء ان انظر فيه ؟ قال : لا ولكنك انما تريد ان تذهب الشك الذي وقع في نفسك.

قلت : ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة قال: تنقض الصلاة وتعيد اذا شككت في موضع منه ثم رأيته. وان لم تشك ثم رأيته رطباً قطعت وغسلته ثم بينت علی الصلاة، لانك لا تدري لعله شيء أوقع عليك، فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك أبداً .[9]

والرواية  مروية في التهذيبين مبدوّة باسم الحسين بن سعيد ولنا طريق خاص في تصحيح هذه الروايات.

وكيف كان فلا اشكال في اعتبارها من هذه الجهة . واضمارها قد عرفت الجواب عنه، مع انها مرويّة في كتاب العلل للصدوق قدس سره مسنداً الی أبي جعفر عليه السلام وطريقه صحيح أيضاً وبينهما اختلاف يسير يؤثر في فهم المراد كما سيأتي. وقد يقال ان نسخة الصدوق اوثق باعتبار كونها أسبق، ولانه ينقله إمّا عن حمّاد او حريز وسنده اليهما سند اجازة بخلاف الشيخ قدس سره فانه ينقله عن كتاب الحسين بن سعيد وهو متأخر عنهما كثيراً. وسيأتي بعض الكلام فيه ان شاء الله تعالى.

ثم إنّ السؤال الاول وارد في الصلاة مع نجاسة الثوب ناسياً فحكم عليه السلام بوجوب الاعادة، وعليه الفتوی، وان ذكرنا في محله تبعاً لروايات أخرى أنّ الاعادة أحوط فيمن لم يكن متحفظاً بل اهمل الامر والا فلا تجب. والسؤال الثاني وارد في صورة العلم الاجمالي وسيأتي الكلام فيه وفي سرّ التدرج في السؤال .

انما الاشكال في الفقرة الثالثة من حيث عدم تطابق السؤال والجواب فان زرارة لم يفرض في السؤال شكه في النجاسة بعد الصلاة بل رأی النجاسة بعد الصلاة فلو بنى علی النجاسة كان من نقض اليقين باليقين لا بالشك فلا يصح التعليل حسب الظاهر.

ولدفع هذا الاشكال وجوه ثلاثة :

الوجه الأول :  ان الظاهر من قوله (فنظرت فلم أر فيه شيئاً) انه حصل له الاطمينان بعدم النجاسة اذ الامور المحسوسة اذا تفقدها الانسان في موضعها ولم يرها يتيقن بعدم وجودها غالباً ولا ريب انه كان قابلاً للرؤية اذ قد رآه بعد الصلاة . وقوله (ثم صليت فرأيت فيه) ظاهر في انه رأی نجاسة وشك في انه هو ما اصابه قبل الصلاة او انه شيء آخر وقع عليه بعدها فيشك في صحتها مع كونه متيقناً حالها بالصحة . ويؤيده أنه قبل النظر لم يتيقن بالاصابة بل ظن بها فحكم الامام عليه السلام بالصحة جرياً علی قاعدة اليقين .

وقد يناقش فيه بان قوله (فنظرت فلم أر فيه شيئاً) نظير قوله في السؤال السابق (فطلبته فلم أقدر عليه) ولا يدل علی انه قد تيقن بالعدم . وقوله (فرأيت فيه) ظاهر في رؤية نفس النجاسة المظنونة مع ان في نسخة العلل (فرأيته فيه) وقد قيل انها اوثق من نسخة الشيخ. مع انه لو كان شاكاً في النجاسة لكانت صحة الصلاة مستندة الی قاعدة الفراغ فلا وجه لاستغراب زرارة مع انه راوي روايات القاعدة .

والجواب عنه ان قوله (فنظرت فلم ار فيه شيئاً) ليس نظيراً للجملة السابقة فان المفروض هناك انه كان يعلم بالنجاسة وهو هنا يظن فالقرينة هناك قائمة علی عدم حصول اليقين بالعدم لان المفروض علمه بالاصابة . واما قوله (فرأيت فيه) فظهوره في نفس النجاسة ممنوع. ولذلك رجع عن التعبير بقوله (وجدته) في السؤال السابق الی هذا التعبير، والا لكان ينبغي الاتيان بالضمير .

واما كون نسخة العلل أوثق فغير معلوم وذلك لان عدم الضمير قد تطابق عليه التهذيبان، وهما كتابا فقه، وعليهما مدار البحث، ولذلك كانا مورد اهتمام المشايخ فكانا يُقرءان عليهم ويُتداولان يداً بيد. فالواصل الينا هو ما قرأه المشايخ بخلاف العلل، فانه ليس من الكتب الفقهية، ولم يكن مدار البحث، ولم يُقرأ على المشايخ، ولم يتداول يداً بيد، وكثير من رواياته غير معتمد عليها .

واما انه لا وجه لسؤال زرارة مع كون المسألة مورداً لقاعدة الفراغ فالجواب عنه ان قاعدة الفراغ عند القدماء هو قاعدة اليقين فقد وقع الخلاف في ان الفراغ المعتبر في قاعدة الفراغ هل هو الفراغ البنائي أم الواقعي فبناءاً علی الاول ــ كما اختاره المحقق العراقي والسيد الحكيم ــ يكون متحداً مع قاعدة اليقين كما ان الوارد في رواية محمد بن مسلم من روايات قاعدة الفراغ هو اعتبار اليقين .

هذا والظاهر ان القدماء فهموا من هذه الرواية قاعدة اليقين المنطبق على قاعدة الفراغ فقد نقل الشيخ الانصاري عن السبزواري ان مفاد هذه الرواية هو قاعدة اليقين. ثم ذكر انه لعله اخذه من الحلي. ثم قال : انه مذهب جماعة من القدماء . وقد ذكر الشيخ المفيد في المقنعة ان من عرض له شك فيه بعد فراغه منه وقيامه من مكانه لم يلتفت الی ذلك وقضی باليقين عليه . وذكر في الفقه الرضوي الذي هو نفس كتاب التكليف للشلمغاني : وكل سهو بعد الخروج من الصلاة فليس بشيء ولا اعادة فيه لانك قد خرجت علی يقين والشك لا ينقض اليقين .

ومن هنا يعلم ان هذا الوجه هو مسلك القدماء اذ هذه التعابير يناسب الاخذ من هذه الرواية، ولا يمكن تطبيقها علی القاعدة الا علی هذا الوجه. ويمكن ان يجعل هذا ايضا مؤيدا لنسخة الشيخ فإنّ فهم القدماء دخيل في تصحيح متون الاحاديث وسيأتي الاشكال فيه.

الوجه الثاني : ما ذكره الشيخ الانصاري وتبعه المحقق العراقي والسيد الحكيم وهو ان الجملة الاولی لا تدل علی حصول اليقين، والجملة الثانية لا تدل علی ان المراد نفس النجاسة المظنونة. فوافقوا القدماء في الشق الثاني . وعليه فلا يرد اشكال علی الصحيحة لانه ليس من نقض اليقين باليقين وتدل علی الاستصحاب أيضاً اذ الطهارة السابقة علی ظن الاصابة لم يعلم زوالها فيستصحب .

الوجه الثالث : وهو المشهور بين المحققين الاعلام وهو ان الجملة الاولی لا تدل علی حصول اليقين، والثانية ظاهرة في نفس النجاسة المظنونة. ومع ذلك فالحكم بالصحة موافق للقاعدة ودليل علی حجية الاستصحاب .

بيان ذلك : ان مراجعة الادلة تقضي بان الشرط في صحة الصلاة ليس هو الطهارة الواقعية بل الجامع بين الطهارة الواقعية التي دلت عليها قوله عليه السلام (لا صلاة الا بطهور) والطهارة الظاهرية والطهارة الاحرازية. وقد وردت روايات حكم فيها بالصحة فيمن صلّی جاهلاً بالنجاسة. وحينئذ فصحة الصلاة في مفروض هذا الحديث من جهة انه مستصحب للطهارة السابقة. وتعتبر الاعادة نقضا بالشك لهذا اليقين الحاصل من الاستصحاب فنهاه الامام عليه السلام عنها فيصح الاستدلال ويرتفع الاشكال .

ويلاحظ على هذا الوجه أنّ دليلهم في كفاية الطهارة الاحرازية هو هذا الحديث وارتفاع الاشكال عن هذا الحديث يتوقف علی كفاية الطهارة الاحرازية حسب هذا الوجه، وهذا دور. مع ان الاشكال يندفع بتطبيقه على قاعدة اليقين ايضا فلا يكون دليلا على كفاية الطهارة الاحرازية. مضافا الى ان هذا الجواب يتوقف علی قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وهو خلاف التحقيق ولذا قلنا بعدم جواز الاخبار علی طبقه . ومن هنا وقع صاحب الكفاية في مشكلة لالتزامه بهذا الجواب وبعدم قيامه مقام القطع الموضوعي .

واستشهدوا علی ان المراد بنقض اليقين بالشك ليس الا الاستصحاب بان ذيل الحديث ذكر فيه هذه العبارة أيضاً والمراد بها هناك هو الاستصحاب قطعاً فلابد ان يكون الصدر كذلك أيضاً .

ويردّه انّ هذه كناية وليس بتصريح والكناية يقصد بها في كل مورد معنىً يعلم بالمناسبات .

واغرب ما وقع هنا ما ذكره بعضهم من انه وان لم نتمكن من تطبيق الكبری علی المورد الا ان الكبری دالة علی الاستصحاب وفيه الكفاية . مع ان الكلام في فهم معنى الكبری ولعل التطبيق قرينة علی ان المراد بها قاعدة اليقين .

والتحقيق هو ان معنی الرواية يجب ان يلاحظ بحسب معلومات السائل ومكانته العلمية وبحسب سائر الروايات وبحسب الترابط بين هذه الاسئلة .

ونحن نلاحظ ان زرارة هو الذي روی صحيحة لا تعاد وقد ذكرنا في البحث عن قاعدة (لا تعاد) ان الكبری في الحديث هو قوله عليه السلام (ولا تنقض سنة فريضة) وأيّدنا ذلك بروايات أخرى واستخلصنا منها قاعدة عدم نقض السنة الفريضة وقررنا بموجبها ان الاركان وهي الفرائض لا تسقط بالاعذار بخلاف السنن وعلمنا ان ما دل الدليل علی قبول العذر فيه من اجزاء الصلاة وشرائطها فهي من السنة .

ونلاحظ أيضاً ان الخلاف وقع في ان المراد بالطهور في صحيحة لا تعاد وغيرها مما دل علی كونها من الفريضة هل هو ما يشمل الطهارة الخبثية كما استفيد من رواية (لا صلاة الا بطهور ويجزيك في الاستنجاء ثلاثة احجار) بقرينة ذكر الاستنجاء ام الحدثية فقط لورودها في الكتاب العزيز : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) المائدة: 6، وقد دلت الروايات علی ان ما فرضه الله تعالى هو الفريضة؟

ونلاحظ أيضاً ان زرارة ليس من المستفتين العاديين بل هو فقيه كان يناظر الصادقين عليهما السلام ليستنتج من أحاديثهما قواعد فقهية يفتي بها .

بعد هذه الملاحظات نعلم ان الوجه في سؤاله الاول بقرينة تدرجه في السؤال وتعجبه في الأخير كما سنبيّن هو الاستفسار عن كون الطهارة الخبثية من السنة أم من الفريضة فسأل اولاً عن صورة النسيان ولم يفرض فيها التحفظ علی عدم النسيان فيكون عذراً في السنة قطعاً بل فرض نحو اهتمام بالنجاسة حيث علّم أثره وقد ذكرنا سابقاً أنّ الاحوط هو عدم العذر في نسيان النجاسة الخبثية الا اذا كان متحفظاً كما دلت عليه موثقة سماعة [10]  ولذلك أجابه الامام عليه السلام بوجوب الاعادة .

ولكنه لم يتضح له عدم كونها من السنة اذ لا يتوقف ذلك علی قبول جميع الاعذار فابدل السؤال ليذكر عذراً آخر وهو مورد العلم الاجمالي ولكنه قرنه بان العذر هو عدم القدرة علی الغسل حيث طلبه فلم يقدر عليه لا ان العذر هو الجهل بخصوص الموضع . فاجاب عليه السلام بوجوب الاعادة فعلم ان هذا أيضاً ليس عذراً .

ولكنه بقي متردداً حيث ان وجوب الاعادة يمكن ان يكون من جهة عدم قبول هذا العذر ويمكن ان يكون من جهة كونها فريضة لا يقبل فيها عذر فابدل السؤال ثالثة وسأل عن صورة عدم العلم قبل الصلاة وعلمه بعدها بانها وقعت في النجس ، فحكم عليه السلام بعدم وجوب الاعادة فتعجب زرارة عن قبول هذا العذر وعدم قبول غيره فبين الامام عليه السلام ان الوجه فيه هو استصحاب الطهارة .

ومن هنا علم ان قوله (ثم صليت فرأيت فيه) يقصد به نفس النجاسة المظنونة والا لم يكن ربط لهذا السؤال بما سبق، كما علم ان المراد بقوله (فنظرت فلم أر فيه شيئاً) ليس هو حصول الاطمينان بالعدم بل كان جاهلاً بالنجاسة قبل الصلاة، ونسخة الصدوق ظاهرة بل صريحة في ذلك فان الوارد فيها ثم طلبت فرأيته فيه بعد الصلاة ولو كان مطمئناً بالعدم لم يكن وجه للطلب .

وتضعيف هذه النسخة بفهم القدماء خلافه كما مر ذكره ضعيف اذ لم يعلم استنادهم في اشتراط اليقين في قاعدة الفراغ اليها بل يمكن ان يكون مستنداً الی رواية محمد بن مسلم الواردة في قاعدة الفراغ واما كلام المفيد فهو في مسأله الوضوء لا الطهارة الخبثية فليس استناداً الی هذه الرواية جزماً. نعم كلام صاحب الذخيرة صريح في الاستناد الی هذه الرواية ولكنه ليس من القدماء مع انه يحتمل ذهابه الی شمول اللفظ في هذا الحديث لقاعدة اليقين والاستصحاب معا كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

فتبيّن أننا نوافق القوم في فهم الاستصحاب من هذه الرواية وانه العذر الموجب للحكم بصحة الصلاة ولكن نختلف معهم في أن الشرط عندنا ليس هو الجامع بين الطهارة الواقعية والظاهرية والاحرازية كما ذكروه بل هو خصوص الطهارة الواقعية ولكن الاشتراط ليس بنحو الارتباطية المطلقة بل ارتباط مقيد بصورة العلم .

ثم ان زرارة بعد ان علم بان الارتباط ليس مطلقا رجع الی ما سأله سابقاً ليبين ان صورة العلم الاجمالي أيضاً لا يخلو من العذر فقال : (فاني قد علمت انه قد اصابه ولم ادر اين هو فاغسله) فاجاب الامام عليه السلام بان هذا ليس عذراً اذ يمكنك تحصيل اليقين بالطهارة فقال : (تغسل من ثوبك الناحية التي تری انه قد اصابها حتی تكون علی يقين من طهارتك) وذكر هذه الغاية لدفع توهم انه يكفي غسل ناحية واحدة لارتفاع العلم الاجمالي اذ تكون الشبهة في الطرف الآخر بدوية فعلم مما ذكره سلام الله عليه ان خروج بعض الاطراف بعد تحقق العلم الاجمالي لا يمنع من تنجيزه .

ثم عاد زرارة ليتحقق من شرط اجراء الاستصحاب في السؤال الثالث وانه هل يتوقف علی الفحص حيث ذكر في سؤاله السابق : (فنظرت فلم ار فيه شيئاً) فاراد ان يستعلم ان الجواب هل كان متوقفاً علی هذا الفرض فيكون للنظر والفحص مدخلية في الحكم أم لا؟ فقال : (فهل عليّ ان شككت في انه اصابه شيء ان انظر فيه ) فاجاب عليه السلام بعدم وجوب الفحص الا ان رفع الشك حسن ذاتاً فقال : (لا ولكنك تريد ان تذهب الشك الذي وقع في نفسك) . هذا كله في القسم الأول من الصحيحة .

واما القسم الثاني فالجواب فيه يحتوی علی فرضين :

الفرض الأول : ان يكون ما رآه خلال الصلاة في موضع قد شك فيه سابقاً بعينه فحكم عليه السلام بالبطلان فان حساب الاحتمالات في مثل هذا الامر يقضي بالقطع بانه عين النجاسة السابقة .

الفرض الثاني : ان لا يكون شك من أول الامر وقد رآه رطباً فيكون محتملاً لوقوع النجاسة اثناء الصلاة فحكم عليه السلام بعدم البطلان وهنا تمسك بالاستصحاب .

وفي الرواية إشكال بناءاً علی مسلكنا وما هو المشهور بين المتأخرين وهو ان الفرض الأول قد حكم فيه بالبطلان فهو اما من جهة بطلان الاجزاء السابقة من الصلاة واما من جهة بطلان المقدار القليل الذي يقع بعد العلم وان كان من السكنات . وعلى كلا التقديرين يشكل الحكم بالبطلان اما في الأول فلما مر في صدر الرواية ان الصلاة مشروطة بالطهارة بالمعنی الاعم أو الشرط محدود بصورة العلم واما في الثاني فللروايات الواردة في الرعاف من انه لا يبطل الصلاة بل يغسل ويبني عليها .

وفي الفرض الثاني قد علل الحكم بالصحة بالشك في كونه من أول الصلاة ولعله شيء اوقع عليه مع ان اليقين بكونه سابقاً لا يضر بالصحة أيضاً لما مرّ في صدر الرواية .

وهذان الاشكالان لا يأتيان علی المسلك الاول والثاني في صدر الرواية لعدم التزامهما بصحة الصلاة في النجاسة مع الجهل . بل علی الأول يكون الذيل أيضاً مبنياً علی قاعدة اليقين اذ انه فرض فيه عدم الشك فهو متيقن بالطهارة ثم شك في انه كان سابقاً أو لاحقاً فهو شك سار ومع ذلك حكم الامام عليه السلام بالصحة .

ولهذا لا يرد علی هذا القول ما ذكروه ومرّ سابقاً من ان ذيل الصحيحة في الاستصحاب قطعاً فبقرينة وحدة السياق نحكم علی الصدر بذلك أيضاً فإنّه ليس أمرا مسلّماً .

ولكي نفهم معنی الرواية لا بدّ من مراعاة المناسبة بين هذا السؤال والاسئلة السابقة والظاهر انه بعد ان علم زرارة ان الارتباط بين الصلاة والطهارة الخبثية ليس مطلقاً كما ان قبول العذر ليس علی وجه مطلق اراد ان يذكر وجهاً آخر من العذر وهو صورة الاضطرار المشوب بالجهل بكونه من السابق ففرض انه رآه في ثوبه اثناء الصلاة مع انه كان جاهلاً قبلها وهو الآن في حال الاضطرار فحكم عليه السلام بالبطلان فعلم ان هذا العذر أيضاً غير مقبول فهو ليس كالرعاف الحادث اثناء الصلاة فان الاضطرار هناك عذر مقبول واما في المقام فالنجاسة كانت من أول الامر ولا يفيد فيه الاضطرار .

ثم أضاف الامام عليه السلام صورة اُخری وهي صورة الشك في أن ما رآه هل كان هو النجاسة السابقة فلا تصح الصلاة او شيء حادث أوقع عليه فيكون داخلاً في روايات الرعاف وتصح الصلاة فقال عليه السلام : ليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك أبداً فاليقين بعدم تحقق النجاسة سابقاً لا ينقض بل يحكم بتأخر الحادث .

واعترض بعض الاعاظم علی هذا التقرير بان استصحاب عدم وقوع النجاسة السابقة لا يثبت ان هذه النجاسة الموجودة متصفة بالتأخر الا بلسان الاثبات وقال : ان الحق ان اجراء الاستصحاب انما هو لتصحيح الصلاة قبل التلبس بالعلم واما بعده فالمستند هو أصالة البراءة للشك في مانعية هذه النجاسة من جهة احتمال السبق فيكون مانعاً واحتمال الحدوث فلا يكون مانعا.

والجواب أولاً ان الادلة لم يظهر منها كون الموضوع لعدم مانعية النجاسة هو عنوان الحدوث بل هي ساكتة من هذه الجهة وانما تدل علی ان النجاسة المعلومة السبق مانعة فاصالة عدم سبق النجاسة كافية في عدم المانعية .

وثانياً ان النجاسة موجودة واتصافها بالسبق غير معلوم فاستصحاب العدم الازلي كاف في اثبات عدم مانعية هذا الشيء بالذات . الا أن صاحب هذا الاشكال لا يقول باستصحاب العدم الازلي .

وثالثاً ان اجراء الاستصحاب قبل التلبس بالعلم لا وجه له لانه في تلك الحال اما ان يكون قاطعاً بعدم النجاسة أو غافلاً عن ذلك .

الرواية الثالثة :

صحيحة زرارة ايضا قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو ام في ثنتين وقد احرز الثنتين ؟ قال : يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه. واذا لم يدر في ثلاث هو او في أربع وقد احرز الثلاث قام فاضاف اليها اخری ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم علی اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات . [11]

وقد رواها الشيخ في التهذيبين عن الكافي فالمصدر هو الكافي عن علي بن ابراهيم عن أبيه ومحمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن حماد عن حريز عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام . والسند معتبر بحسب الشق الاول. واما محمد بن اسماعيل فهو النيشابوري وهو مجهول الحال. ونقل الكليني والصدوق عنه لا يدل على وثاقته.

وكيف كان فالرواية معتبرة مع ان الظاهر انه اخذها عن كتاب حماد او حريز وهما من الكتب المشهورة التي نحن في غنىً عن البحث عن اسنادها . واما الترديد بين أحدهما اي ابي جعفر وابي عبدالله عليهما السلام فليس من زرارة قطعاً ولم يعلم وجه ذلك ولو كان الامام مذكوراً كان له دخل في فهم معنی الرواية لان تاريخ صدور الرواية ولو اجمالاً له اثر هام كما هو واضح . وفي خصوص هذه الرواية اذا كانت من الامام الباقر عليه السلام فهذا الامر يناسب ما سنذكره من احتمال التقية لصدور الحديث في اوائل تشيع زرارة رضوان الله عليه بخلاف ما اذا كان من الامام الصادق عليه السلام.

والكلام في جهات ثلاث :

الجهة الاُولی في فقه الحديث:

من الواضح ان هذه الجمل المتعاقبة لا تخلو من اجمال. والابهام في الحديث من جهة أن الحكم فيه مخالف للمذهب وموافق لبعض المذاهب الاخرى فان الظاهر من قوله يركع بركعتين... هو اضافة الركعتين الى ما صلى والواجب عندنا كون صلاة الاحتياط منفصلة واوضح منه الجملة التالية فان قوله عليه السلام (قام فاضاف..) ظاهر في الاتصال.

ولتوضيح معنی الحديث لابد من ذكر ثلاث ملاحظات.

الملاحظة الاولی : ان مسألة الشك في عدد الركعات مورد الخلاف بين العامة فالمشهور بينهم هو القول بالبناء علی الاقل وإتمام الصلاة ونسبوه الی علي عليه السلام وأبي بكر وعمر وسعيد بن المسيب وسفيان الثوري وربيعة ومالك. ونسبه السيد المرتضى في الانتصار الی عامة علمائهم. ونسبه الشيخ في الخلاف الی الشافعي . وذهب احمد والاوزاعي وابن عباس وابن عمر وعبيد الله بن عمرو بن العاص الی البطلان وذهب ابو هريرة وانس والحسن الی البناء علی الاكثر وإتمام الصلاة ولا شيء عليه . وذهب أبو حنيفة الی البطلان في المرة الاولی والی القول الأول اذا تكرر الشك.

ومن هنا كان احتمال التقية قوياً لان أحداً منهم لم يوافق رأي الائمة عليهم السلام خصوصاً بملاحظة نسبة القول الأول الی ثلاثة من الخلفاء وفيهم علي عليه السلام الذي هو منبع علوم الائمة عليهم السلام فاما ان يكذّبوا روايتهم او يخالفوا قول امير المؤمنين عليه السلام. وكذلك مع مخالفة مالك وهو فقيه المدينة وسعيد بن المسيب المعتمد عند الفريقين والاوزاعي وهو فقيه الشام. والحاصل ان احتمال التقية وارد في مثل هذه الاحكام خصوصاً بملاحظة انها ليست مما لها دليل ظاهر من الكتاب أو السنة وقد ورد عنهم عليهم السلام انهم لا يتقون في مثل الحكم بالمسح علی الرجلين لان الدليل عليه من الكتاب واضح .

الثانية : ملاحظة حال زرارة فانه في أوائل تشيعه لم يكن من الايمان بالائمة عليهم السلام بمرتبة يتحمل كل ما يسمع منهم حتى لو خالف جمهور العلماء في ذلك الوقت فيحتمل صدور هذه الرواية مداراة لحاله وقد ورد عنهم عليهم السلام انهم قد لا يفتون بالواقع مداراة للشيعة لعدم تحملهم بعض الحقائق من جهة قسوة الاعلام المخالف. فالتقية في هذه الرواية وان احتمل كونه من غير زرارة الا انه يحتمل بالنسبة اليه أيضاً مداراة لحاله كما يعلم ذلك بمراجعة بعض الروايات الواردة عنه الحاكية لحاله في أوائل أمره .

الثالثة : ملاحظة احتمال التورية في المقام . والمراد بالتورية ذكر كلام له معنى قريب الی الذهن وارادة المعنی البعيد ليلتبس الامر علی السامع وقد ورد في الروايات عنهم عليهم السلام أنهم يذكرون الكلام وله معان متعددة ولكل منها لهم المخرج وغير ذلك من التعابير كقوله عليه السلام (حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه ولا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجها لنا من جميعها المخرج) [12]. فالفقيه هو الذي يتعب نفسه في استخراج الحكم الواقعي من معاريض كلامهم.

ثم ان في قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) ثلاث احتمالات :

الاول : وهو الاقرب ان يريد به الاستصحاب اي استصحاب عدم الاتيان بالرابعة وهو رد على من قال بالبناء على الاكثر وعلى القائل ببطلان الصلاة.

وعليه فقد يكون المراد من قوله عليه السلام (ولا تدخل الشك في اليقين) ادخال ما شك في اتيانه فيما تيقن باتيانه بان يعتبر الصلاة تامة فيكون رداً على البناء على الاكثر، او يكون المراد لا تبطل ما تيقنته بالشك فيكون رداً علی مذهب البطلان أو يكون المراد لا تدخل الركعتين اللتين تضيفهما وهما مشكوكا الجزئية في الركعات المتيقنة الجزئية فيكون اشارة الی المذهب الحق وهو وجوب الاتيان بصلاة الاحتياط مفصولة .

الثاني : ان يريد به قاعدة اليقين في ركعات الصلاة لا قاعدة اليقين بالمعنی الآخر المختصة بالشك الساري . وهذه القاعدة هي اساس المذهب الحق في هذه المسألة ومفادها انه يجب تحصيل اليقين بصحة الصلاة وهذا اليقين لا يحصل الا بالاتيان بالركعة الناقصة مفصولة فان في الاتيان بها موصولة احتمال زيادة الركعة وهي مبطلة وأما الاتيان بها مفصولة فلا يلزم منه الا احتمال زيادة السلام والتكبيرة. وزيادة السنة في مورد الاضطرار لا مانع منه. واما علی احتمال تمامية الصلاة فتقع صلاة الاحتياط نافلة كما صرّح به في الروايات. ومن هنا سميت هذه القاعدة المطردة في شكوك الصلاة بقاعدة اليقين .

وهذا الاحتمال استقربه الشيخ الانصاري قدس سره من هذه الصحيحة فيكون المعنى وجوب تحصيل اليقين بصحة الصلاة وعدم رفع اليد عنه بمجرد الشك .

ولكنه بعيد جدا لان قوله (لا تنقض اليقين بالشك) ظاهر بل ربما يكون صريحا في اليقين الفعلي ولا يفهم منه تحصيل اليقين بالصحة .

الثالث : أن يكون المراد لا تنقض المتيقن بالشك ويكون المراد بالمتيقن الركعتان المتيقنتان وبالشك الشك في الركعتين الاخيرتين او احداهما وبالنقض الابطال فالمراد هو الحكم بصحة الصلاة في مقابل القول بالبطلان . وهذا الاحتمال ذكره المحدث الكاشاني في الوافي وذكر ان المراد بعدم ادخال الشك في اليقين عدم البناء على الاكثر باعتبار الركعة المشكوكة مأتيا بها كما هو مذهب ابي هريرة.

وذكر محشيه بعد قبول الاحتمال في الجملة الاولی ان المراد بادخال الشك ادخال الركعة المشكوكة في المتيقنة اي الاتيان بها موصولة .

ويضعّف هذا الاحتمال أولاً : انه موجب للتفكيك بين المراد باليقين والمراد بالشك بأن يراد بالاول المتيقن وبالثاني نفس الشك مع ان الظاهر من المقابلة خلاف ذلك .

وثانياً : انه ليس تعليلاً بامر واقعي ارتكازي مع ان الظاهر من التعليلات هو ذلك كما يلاحظ في الاحتمال الاول .

وثالثاً : ان هذه الجملة كناية قطعاً والكناية من الظواهر الاجتماعية فلا يصح الاتيان بكل كناية عن كل معنى جدي وان كان ملازماً له بل لابد من معهوديته في المجتمع ولو في الجملة وليس هذا من هذا القبيل بخلاف نقض الحالة السابقة .

واما ما ذكره المحشي فهو صحيح في نفسه الا انه ليس علی نحو الظهور بل التورية والا لصرح بذلك.

الجهة الثانية: في دلالة هذه الصحيحة علی الاستصحاب:

تبيّن بما مرّ أنّ قوله عليه السلام (ولا ينقض اليقين بالشك..) ظاهر في الاستصحاب  والذي يلاحظ في المقام هو ان العامة أيضاً رووا روايات في هذا الباب بتعبيرات مقاربة للتعابير الواردة في هذه الصحيحة واستدلوا بها علی الاستصحاب بنحو عام. ويلاحظ ان الوارد فيها أيضاً هو مسألة الشك بين الثلاث والاربع فيعلم من ذلك ان هذا التعبير كان تعبيراً متعارفاً عن الاستصحاب ومن ذلك يمكن ان يستكشف أيضاً وجه التورية في كلام الامام عليه السلام اذ من المحتمل ان يكون زرارة مسبوق الذهن بهذه الروايات لما ذكرناه في الملاحظة الثانية من المقدمة. ولعل زرارة علم بعد حين المقصود الواقعي ولذلك ورد عنه رواية بنفس هذا السند وفي نفس هذه المسألة يصرّح بالمذهب الحق ولعله نقل نفس هذا الحديث بالمعنی. [13]

ثم ان فتاوی الاصحاب في هذه المسألة مختلفة فقد حكم جماعة بوجوب الاتيان بركعتين جالساً تعييناً طرحاً لهذه الرواية رأساً من جهة التقية ولكثرة الروايات الواردة عنهم عليهم السلام في تعيين الجلوس وللتعليل في بعض الروايات بان صلاة الاحتياط اما مكملة واما نافلة ولا تكون النافلة اقل من ركعتين .

ونسب الی أبي علي وعلي بن بابويه القول بالتخيير بين ركعة متصلة اخذاً بظاهر هذه الرواية وبين ركعتين من جلوس منفصلتين لسائر الروايات .

وذهب المشهور الی التخيير بين ركعة قياماً وركعتين جلوساً مع الانفصال علی كلا التقديرين اما لاستظهار الانفصال من هذه الرواية أو للتورية كما ذكرناه .

ويمكن القول بناءاً علی ان التورية انما تجوز في الموسعات بجواز الامور الثلاثة .

ويمكن ان يقال بالتورية في محل آخر من الصحيحة أيضاً وهو قوله عليه السلام (قام فاضاف إليها اُخری) . فان الوارد في غير الاستبصار هو هكذا من دون كلمة ركعة . والوارد في الاستبصار : (قام فاضاف اليها ركعة اُخری). وبناءاً علی نسخة غير الاستبصار يمكن ان يكون المراد واقعاً صلاة اُخری وقوله (قام) وان كان ظاهراً في القيام في مقابل الجلوس الا انه يمكن ان يراد به الشروع علی وجه التورية. ومن هنا يكون القول بتعيين الركعتين جالساً هو الاحوط لتطابق عدة روايات عليه وعدم ذكر القيام الا هنا وقد عرفت ما فيه، وفي مرسلة جميل ولا اعتماد عليها.

ثم انه لو استشكل في التورية وقيل بكونها من باب التقية جزماً امكن استفادة الاستصحاب منها أيضاً باعتبار أن التقية انما هي في مقام تطبيق الكبری لا بيان الكبری بنفسها كقوله عليه السلام في جواب الخليفة العباسي حيث سأله عن الهلال : (ذاك الى الامام ان صمت صمنا وان افطرت افطرنا) [14].

وقد يناقش في حمل الرواية علی الاستصحاب بوجوه ثلاثة :

الوجه الأول : ان استصحاب عدم الرابعة لا يثبت ان ما يلحقها هي الرابعة حتی يتشهد ويسلم الا بلسان الاثبات . وهذا الاشكال ذكره المحقق العراقي قدس سره .

واجيب عنه أولاً : انه لا دليل علی الموالاة ووجوب اتيان التشهد والتسليم بعد الرابعة متوالياً وانما الواجب هو الترتيب وهو يحصل بأدائهما بعد الركعة الاخيرة .

وثانياً: بان الاستصحاب وان لم يثبت الرابعة الا أنه بعد الاتيان بركعة اُخرى - بمقتضى استصحاب عدم الاتيان بالرابعة - يتيقن بكونه في الركعة الرابعة ، غاية الامر أنه لا يدري أن الكون في الركعة الرابعة هو الآن أو في ما سبق فيجري استصحاب عدم الخروج عن الكون في الركعة الرابعة ، ويترتب عليه وجوب التشهد والتسليم ، ولا يضر بالاستصحاب المذكور عدم العلم بخصوصية الكون لصحة استصحاب الکلي المردد بين الفردين .

هذا ولكن الجواب الثاني لا يتم علی رأي المحقق العراقي لانه لا يقول بجريان استصحاب الكلي في مجهول التاريخ .

الوجه الثاني : ان هذا الاستصحاب مخالف لقاعدة اليقين في الركعات التي تطابقت عليها الروايات.

والجواب عنه : ان مقتضى الروايات هو البناء علی الاكثر من جهة وجوب اتيان التشهد والتسليم لا كونه الركعة الرابعة .

الوجه الثالث : ان مقتضی الاستصحاب الاتيان بركعة موصولة وهو مخالف لمذهب الامامية .

واجاب عنه المحقق النائيني بان الادلة دلت علی ان من شك في الرابعة فليأت بها مفصولة واستصحاب عدم الرابعة لا ينافيه وانما يثبت عدم الاتيان بالرابعة وهو يقتضي اتيانها موصولة بموجب الادلة الاولية الا ان ادلة الشك في الصلاة تدل علی تبدل التكليف بالنسبة الی الشاك وان الوظيفة حينئذ هو الفصل وهذا لا ينافي الاستصحاب .

فان قلت: لو كان هذا من تبدل الوظيفة واقعاً أشكل فيما اذا شك واتی بالركعة موصولة جهلاً ثم علم بالنقصان حال الشك فتكون الصلاة أربع ركعات مع انه ليس مطابقاً للوظيفة ومقتضاه وجوب الاعادة ولازمه كون المعاد مثل المعاد عنه تماماً.

والجواب ان ترك الوظيفة هنا لا يوجب الاعادة لصحيحة لاتعاد بناءاً علی شمولها للجاهل اذ ما تركه من الوظيفة الواقعية وهو التسليم والتشهد من السنة فتشمله الصحيحة .

 

الجهة الثالثة : في استفادة التعميم من الرواية.

مقتضی الاحتجاج في قبال الاقوال المخالفة في المسألة ان يكون التعليل بامر ارتكازي متفق عليه بين العقلاء وقد بيّنّا أنه عام لا يختص بباب دون باب. الا ان يقال: إنه في مورد السؤال في الصحيحة مما اجمع عليه المسلمون فيصح الاحتجاج به وان لم يكن امرا ارتكازيا متفقا عليه. ولكن الظاهر بعد ما مر بيانه من بناء العقلاء علی ذلك أنه هو المستند في الحديث خصوصاً بملاحظة الجملة الاخيرة : (ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات) فانها ظاهرة في عدم الاختصاص بمورد السؤال .

 

الرواية الرابعة : 

ما رواه الصدوق باسناده عن اسحاق بن عمار قال: قال لي أبو الحسن الاول عليه السلام: اذا شككت فابن علی اليقين. قال: قلت: هذا اصل؟ قال: نعم . [15]

وفي طريق الصدوق الی اسحاق علي بن اسماعيل ولم يوثقه احد الانصر بن الصباح وهو بنفسه لم يوثق وتوثيقه برواية اكابر الاصحاب عنه ليس بوجه لروايتهم عن الضعفاء كثيراً وبالجملة فلا وثوق بصدور هذه الرواية والمناط عندنا حصول الوثوق.

وفي هذه الرواية احتمالات أربع :

الاول : ان يراد بها قاعدة اليقين في الشك الساري .

الثاني : ان يراد بها قاعدة اليقين في ركعات الصلاة .

ويضعفهما ان الظاهر من الرواية اليقين الفعلي مع انه علی الاول يقين زائل وعلی الثاني طلب لليقين . ومجرد ذكر الصدوق لها في أبواب الخلل في الصلاة لا يدل علی اختصاصها بها مع ان الظاهر منها عدم الاختصاص لقوله انه اصل.

الثالث : ان يراد بها ما ذكرناه سابقاً من عدم الاعتناء بالوسوسة مع العلم بالشيء ويضعفه ان هذا ليس اصلاً وقاعدة .

الرابع : الاستصحاب وهو الصحيح المتعين .

الرواية الخامسة :

حديث الاربعمائة وفي سنده قاسم بن يحيى والحسن بن راشد ولم يوثقا بل ضعفهما ابن الغضائري ونحن نعتمد على كتابه والتشكيك في نسبته اليه لا موجب له خصوصا مع اعتراف العلامة قدس سره وغيره بذلك. ويبدو أن منشأ التشكيك قدحه في كثير من الرواة وهو غير قادح مع جلالة شأنه فتضعيفه عندنا معتبر ولو سلمنا فيكفي عدم التوثيق مضافاً الی استغراب صدور هذا الحديث من جهة اشتماله علی أربعمائة اصل من اصول الشريعة ذكرها أميرالمؤمنين عليه السلام في مجلس واحد .

وكيف كان فقد استدل بقطعة منه علی الاستصحاب وهي : من كان على يقين ثم شك فليمض علی يقينه فان الشك لا ينقض اليقين .[16]

والوارد في هذا الحديث هو ترتب الشك علی اليقين زماناً فقد يراد به الترتب في الحدوث فيحتمل الاستصحاب وقاعدة اليقين معاً وقد يراد به الترتب في الوجود بحيث لم يعاصر اليقين الشك اصلاً فيتعين ارادة قاعدة اليقين الا ان الظاهر من قوله فليمض علی يقينه هو بقاء اليقين فيتعين الاستصحاب ولكن يبقی احتمال آخر وهو عدم الاعتناء بالوسوسة الا ان الظاهر من الشك خصوصاً في مقابلة اليقين هو صفة التردد لا القلق النفسي اذ لا شك في انّ المراد باليقين العلم الادراكي . فدلالته علی الاستصحاب لا بأس بها.

الرواية السادسة :

خبر علي بن محمد القاساني روی الشيخ باسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن علي بن محمد القاساني قال: كتبت اليه وانا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخل فيه الشك صم للرؤية وأفطر للرؤية. [17]  

والكلام في مقامين:

الاول: في سندها. وليس فيه من ينظر فيه الا علي بن محمد القاساني وهو الاصبهاني ولم يوثّق في كتب الرجال بل ضعّفه الشيخ وقد يتوهم انه علي بن محمد بن شيرة القاشاني وهو ثقة وثّقه الشيخ . ولكنّ الظاهر هو التعدد وقد ذكر السيد الداماد في الرواشح السماوية (ان قاسان بلدة في ما وراء النهر وناحية في اصبهان. وقاشان هو كاشان معربا). وهذا يؤيّد التعدّد وكيف كان فاما ان يكونا متحدين فيتعارض الجرح والتوثيق او متعددين فيقع الشك في توثيقه فلا اعتماد علی سند الرواية . واما إضمارها فلا يضرّ لا من جهة علو مقام الراوي واستبعاد سؤاله عن غير الامام لعدم ثبوت هذا المقام لهذا الراوي بل لما ذكرناه في الصحيحة الاولی .

الثاني: في معناها. ذكر الشيخ قدس سره انه اظهر الروايات دلالة علی الاستصحاب لسلامته عن المناقشات . والوارد في كتب الاستدلال (اليقين لا يدخله الشك) فيمكن القول بأنه من باب دخل يدخل دخَلاً بمعنی أفسد فتكون الدلالة واضحة . ولكن الوارد في كتب الحديث : (اليقين لا يدخل فيه الشك) فلا يأتي هذا الوجه .

وذكر السيد الخوئي دام ظله علی ما في التقريرات (مباني الاستنباط) من ان يدخل فيه بمعنی الافساد لان دخول الشيء في الشيء يستلزم تفرق اجزائه وتفسخها.

 ولا يصح هذا لانه من اثبات اللغة بالاجتهاد مضافاً الی انه غير مطرد وما اكثر الاشياء التي تدخل في اشياء اخر ولا تفسدها وهو واضح .

وذكر المحققان الخراساني والنائيني قدس سرهما انها لا ظهور لها في الاستصحاب اصلاً وذلك لان المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان المعتبر في صحة الصوم واليقين بشوال المعتبر في وجوب الافطار . والمراد انه لا يجوز الصوم بنية رمضان في أوله الا باليقين ولا الافطار في أول شوال الا باليقين ولا تدخل في هذا الحكم حالة الشك.

والظاهر ان هذا هو الصحيح بملاحظة الروايات المشابهة لها في هذا الباب ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال : (اذا رأيتم الهلال فصوموا واذا رأيتموه فافطروا وليس بالرأي والتظني ولكن بالرؤية..) الحديث . وفي موثقة اسحاق بن عمار عن أبي عبدالله عليه السلام انه قال: (في كتاب علي عليه السلام : صم لرؤيته وافطر لرؤيته وإياك والشك والظن فان خفي عليكم فأتمّوا الشهر الأول ثلاثين). وفي صحيح أبي أيوب الخزاز عن أبي عبدالله عليه السلام (في حديث) قال : (ان شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظني) . [18] ويلاحظ في هذه الصحيحة بيان الوجه في ذلك وهو ان صوم رمضان فريضة من فرائض الله تعالى فلا بد فيه من اليقين .

وقد يناقش في ذلك بوجهين :

الأول : ان مقتضی القول بتوقف صحة صوم شهر رمضان علی اليقين بالشهر هو عدم جواز صوم يوم الشك من شوال وبطلانه مع انه مخالف لقوله عليه السلام: (أفطر للرؤية) ولا فرق بين ثبوت شهر رمضان وثبوت شهر شوال من حيث اعتبار اليقين كما هو مفاد الروايات السابقة .

والجواب عنه : ان توقف الصحة على اليقين انما هو في أول شهر رمضان بقرينة التفريع عليه بقوله : صم للرؤية . واما قوله افطر للرؤية فمفاده ان وجوب الافطار متوقف علی اليقين أيضاً . غاية الامر ان تكون هذه الرواية دالة بالملازمة علی قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي فتكون صحة صوم يوم الشك من شوال من هذه الجهة لا انها تدل علی حجيته بالمطابقة .

الثاني ما ذكره بعض الاعاظم من انه يستلزم عدم كفاية البينة في ثبوت الهلال اذ مقتضی ما ذكر كون اليقين مأخوذاً علی نحو الموضوعية والمحقق الخراساني قدس سره لا يقول بقيام الامارات مقامه الا بدليل خاص .

والجواب : ان من حسن الاتفاق ورود الدليل الخاص في المقام.

الرواية السابعة :

صحيحة عبدالله بن سنان قال : (سأل أبي أبا عبدالله عليه السلام وانا حاضر: اني اعير الذمي ثوبي وانا اعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده عليّ فاغسله قبل ان اصلي فيه ؟ فقال أبو عبدالله عليه السلام : صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك فانك اعرته اياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجّسه فلا بأس ان تصلي فيه حتّی تستيقن انه نجّسه) . [19]

ولا يخفی ان عدول الامام عليه السلام عن الفتوی الی بيان سبب الحكم بقوله (فانك أعرته..) مشعر بل ظاهر نوعاً ما في تعميم الاستصحاب. وبملاحظة ان سنان لم يكن من الفقهاء فلابد ان يكون التعليل بامر ارتكازي عقلائي .

انما الاشكال في ان هذه الرواية معارضة برواية عبدالله بن سنان نفسه بطريق صحيح أيضاً وهي تدل علی النجاسة . قال : سأل أبي أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يعير ثوبه لمن يعلم انه يأكل الجرّي ويشرب الخمر فيردّه . أيصلي فيه قبل ان يغسله ؟ قال : لا يصلي فيه حتّی يغسله .[20]

ويلاحظ ان السائل هنا أيضاً هو سنان والمسؤول عنه أبو عبدالله عليه السلام والفرق يسير ولا يبعد ان تكون كلمة الجرّي محرّف كلمة الخنزير الوارد في الرواية الاولی لعدم نجاسة الجرّي قطعاً . وتؤيد هذه الرواية برواية اخری رواه الكليني عن على بن محمد عن سهل بن زياد عن خيران الخادم قال : كتبت الی الرجل اسأله .... الخ . [21] وهي مثل هذا الحديث تماماً . وقد وقع نظير هذا التناقض عن عبدالله بن سنان بهذه الكيفية أيضاً وهي سؤال أبيه وهو حاضر في مسألة البلوغ. [22] وقد اشكل علينا وجه التوفيق وسرّ هذا التناقض .

الرواية الثامنة :

ما رواه الشيخ باسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن بن علي عن عمرو بن سعيد عن مصدق بن صدقة عن عمار الساباطي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سئل عن الكوز (الی ان قال): (كل شيء نظيف حتی تعلم انه قذر، فاذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك). [23]

وهذه الرواية طويلة وليس في سندها اشكال الا من جهة احمد بن يحيى الذي لم يوثق ولنا الی تصحيحها طريقان :

الطريق الأول : اثبات زيادة هذا الاسم . وذلك لان نسخة الوسائل والنسخ الموجودة عندنا من التهذيب فيها هذا الاسم ولكن نسخة الوافي خالية منه وحيث ان من الممكن رجوع هذه النسخ الی نسخة الوسائل فلا تكون المعارضة الا بين النسختين ودعوی ان صاحب الوسائل ينقل هذه الاحاديث باسانيدها بسنده الى اصحاب الكتب معارضة بمثلها في الوافي أولاً، وبالقطع بعدم نقله تمام الجزئيات بالاسناد وانما هو سند اجازة فقط ثانياً. والترجيح مع نسخة الوافي لان الشيخ وان روى هذا الحديث في التهذيب بكامله مبدواً باسم محمد بن احمد بن يحيى وفيه هذا الاسم[24] الا انه نقل قطعة منه مع قوله (في حديث طويل) بدون هذا الاسم في التهذيب والاستبصار.[25]

وربما يقال: انه نقل القطعة المذكورة في ص242 عن الشيخ المفيد عن الصدوق عن محمد بن الحسن عن محمد بن يحيى عن محمد بن احمد بن يحيى ، ولم يذكر في المشيخة ضمن طرقه الی محمد بن أحمد بن يحيى هذا الطريق فالظاهر ان هذه القطعة ليست من نفس ذلك الحديث وبنفس السند فلا يكون قرينة على زيادة الاسم.

والجواب انه ذكر هذا الطريق في الفهرست وهو كاف في الدلالة على وحدة الحديث ووحدة السند. ويؤيد ذلك أنه نقل في الاستبصار والتهذيب في أكثر من مورد قطعات من هذا الحديث من دون هذا الاسم عن طريق الكليني وكذلك نقل الكليني والصدوق قدس سرهما هذا الحديث باختلاف يسير عن هذا الطريق من دون هذا الاسم. مضافاً الی ان هذا السند قد تكرر في موارد كثيرة جداً وليس في شيء منها أحمد بن يحيى غير هذا المورد وطبقة محمد بن أحمد بن يحيى يناسب النقل عن أحمد بن الحسن بلاواسطة. [26] ولعل منشأ الاشتباه هو رواية الكافي عن محمد بن أحمد بن يحيى بواسطة محمد بن يحيى ــ وهو العطار ــ فاضيف اسمه إلى سند الشيخ أيضاً ثم تبدل مكانه فاصبح منقولاً عنه وتبدل اسمه الى احمد ولذا ورد في جامع الاحاديث ان في بعض نسخ التهذيب محمد بن يحيى بدلا عن أحمد بن يحيى.

ولا يتوهم انه محمد بن يحيى المعاذي الذي استثني من روايات نوادر الحكمة فانه لم يرد في شيء من الروايات التي بهذا السند علی كثرتها وانما ورد في مورد واحد محمد بن أحمد عن محمد بن يحيى الطيالسي.

الطريق الثاني :  انه لو فرض وقوع هذا الاسم في السند ــ ولم يقع قطعاً ــ فالظاهر بحسب الطبقة انه الاودي الثقة .

وكيف كان فمورد الاستدلال من هذه الرواية ذيلها اي قوله عليه السلام : (كل شيء نظيف حتی تعلم انه قذر ، فاذا علمت فقد قذر . وما لم تعلم فليس عليك). وسيأتي البحث عنها بعد ذكر سائر روايات قاعدة الطهارة والحلية اي الرواية التاسعة والعاشرة.

الرواية التاسعة :

ما رواه الشيخ والكليني قدس سرهما عن أبي عبدالله عليه السلام قال : الماء كله طاهر حتی يعلم انه قذر . [27]

ولكل منهما سندان وكلها ضعيفة بجعفر بن محمد الذي هو علی الظاهر ابن عبيدالله الاشعري وهو لم يوثق في كتب الرجال الا أن يكتفى بما ذكره صاحب المستدرك رحمه الله من نقل الاجلاء عنه وعدم استثنائه عن رواة نوادر الحكمة أو يعتمد علی وروده في اسناد كامل الزيارات . وفي جميعها نظر .

وفي أحد السندين لكل منهما الحسن بن الحسين اللؤلؤي وهو ممن استثني من رواة نوادر الحكمة . ولكن النجاشي وثقه .

الرواية العاشرة :

ما رواه المشايخ الثلاثة قدس الله اسرارهم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتی تعرف الحرام منه بعينه فتدعه).[28] وهي صحيحة عن طريق الشيخ والصدوق .

ويقع البحث في هذه الاحاديث الثلاثة من جهتين :

الجهة الأولی : في دلالتها على الاستصحاب وقد اختلف الاصحاب في ان المستفاد منها هل هو الحكم الواقعي ام الظاهري اي قاعدة الحلية والطهارة ام الاستصحاب ام تدل علی اثنين منهما أو ثلاث ام بعضها يدل علی بعض وبعضها علی بعض آخر .

وكيف كان ففي هذه الغاية اي قوله (حتى تعلم..) أربع احتمالات :

الاحتمال الاول : ان يكون غاية للموضوع وهو كل شيء مثلاً . قال السيد الخوئي ايده الله ويستفاد منه حينئذ القاعدة . وهو يتم اذا كان معنی الجملة : (كل شيء قبل العلم بحرمته حلال) . واما اذا كان معناها (كل شيء مستمر حتی العلم بحرمته حلال) فلا تدل علی ذلك وليس لها حينئذ معنىً محصّل اذ لا يتحقق هذا الموضوع الا اذا احرز زمان في المستقبل سيعلم بحرمته فيه . وحيث ان الظاهر من (حتی) هو الاستمرار  فيتعين المعنی الثاني وبذلك يسقط هذا الاحتمال . مضافاً الی بعد تعلق حتی بكلمة شيء .

الاحتمال الثاني : ان يكون قيداً للمحمول . وفيه حينئذ ثلاث وجوه :

الوجه الأول : (وهو الصحيح) ان يراد به القاعدة لأن الحلية مغياة بالعلم بالخلاف فلابد من ان يكون امراً ظاهرياً .

الوجه الثاني : ما ورد في (مباني الاستنباط) من ان المراد بالعلم ليس هو العلم بحقيقته بل باعتبار انه مرآة يكشف عن الواقع ذكر موضوعاً لما بعد الغاية وانما موضوعه واقعاً هو حدوث الحرمة الواقعية فالمفاد هو الحلية الواقعية ولاشك انه مغيىً بعدم حدوث الحرمة الواقعية .

ولكن لا وجه للعدول عن الظاهر الذي تقضي به اصالة التطابق بين القضية اللفظية والقضية اللبية فالعلم هو الموضوع لما بعد الغاية . ويمكن ان يكون منشأ العدول هو ان الحكم الظاهري يجب ان يقيد بالشك ولم يقيد الحكم به في الروايات والحكم الواقعي لا يناط بالعلم فلابد من ان يكون المراد بالعلم جهة مرآتيته فقط. وسيأتي الكلام حول تقيد الحكم الظاهري بالشك قريبا ان شاء الله تعالى.

الوجه الثالث : ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره من انه يدل علی الاستصحاب فقط لدلالة (حتی) علی الاستمرار .

وفيه ان هذا جعل لحكم مستمر وليس جعلا لاستمرار الحكم الثابت الذي هو معنى الاستصحاب.

الاحتمال الثالث : ان يكون قيداً للنسبة . والكلام فيه كالكلام في الاحتمال الثاني من الوجوه الثلاثة المذكورة.

الاحتمال الرابع : ان يكون المتعلق محذوفاً وهو (والحلية مستمرة) ولاشك انه حينئذ يدل علی الاستصحاب . وهذا الاحتمال قواه المحقق الخراساني قدس سره .

ويشكل بانه لا داعي للتقدير وفي الكلام ما يصلح لكونه متعلقاً .

ويمكن ان يجاب عنه بما ذكره المحقق النائيني قدس سره في استصحاب حكم المخصص اذا كان العموم ازمانياً من ان الاستمرار قد يكون تحت دائرة الحكم وقد يكون فوقها فاذا كان الاستمرار في جانب متعلق الحكم وكان استمرار الحكم باعتبار استمرار متعلقه كما اذا قال : (يحرم شرب الخمر دائماً) كان تحت دائرة الحكم واذا كان في جانب نفس الحكم كما اذا قال : (يحرم شرب الخمر، وهذه الحرمة دائمة) كان فوق دائرة الحكم وكلما كان من قبيل الثاني لا يمكن ان يتكفله دليل اصل الحكم بل لابد من بيانه بجملة أخری كقوله : حلال محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم حلال الی يوم القيامة. وفي المقام حيث كان الاستمرار فوق دائرة الحكم فلابد من ان يبين بجملة أخری ولابد من تقدير هذه الجملة ، وحيث انه مغيیً بالعلم فلابد من ان يكون حكما ظاهرياً وهو الاستصحاب .

وقال السيد الخوئي «دام ظله» ان توقف بيان الاستمرار علی جملة اُخری انما هو في مقام الجعل لا المجعول .

ولكن الصحيح ان بيان استمرار الحكم في جملة اخری غير التي تبين اصل الحكم غير معقول اصلاً وذلك لانه انشاء حكم جديد مستمر فلا يعقل ان يكون استمراراً لحكم منشأ سابقاً الا ان يكون بنحو الاخبار لا الانشاء . والحاصل انه لا وجه لتقدير هذه الجملة .

وفصّل الشيخ الانصاري قدس سره وتبعه عليه بعض من تأخر عنه فذهب الى ان رواية طهارة الماء بالخصوص تدل علی الاستصحاب للعلم بطهارة الماء سابقاً من الآيات والروايات كقوله تعالی (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا)[29]  فلابد من ان يكون هذا الحديث في مقام بيان استمرار الحكم .

ويلاحظ عليه ان طهارة الماء بجميع اقسامه وافراده حتی اذا كان مشكوك الطهارة لم يكن معلوماً قبل صدور هذه الرواية. والآية واردة في خصوص المطر.

الجهة الثانية: في دلالتها علی قاعدتي الحل والطهارة فقد أشكل الامر من جهة عدم تقيد الموضوع فيها بالشك ويعتقد الاعلام ان الحكم الظاهري لابد من اخذ الشك في موضوعه فحكم بعضهم بان المراد بها الحكم الواقعي وذهب المحقق الخراساني في الكفاية الی استفادة الحكم الواقعي من الصدر والاستصحاب من الذيل علی ما بينا. وذكر في الحاشية علی الرسائل ان المستفاد منها ثلاث امور : الحكم الواقعي والحكم الظاهري والاستصحاب . بتقريب ان الصدر مطلق من حيث الشك فيه ففي صورة عدم الشك يكون واقعياً وفي صورة الشك يكون ظاهرياً .

اما ان الحكم الظاهري لابد من أخذ الشك في موضوعه فغير صحيح بل الحكم بالطهارة والحلية وسائر الاحكام سواء كانت وضعية او تكليفية قد تكون واقعية وهي الموجودة في اصل القانون وقد تكون تنزيلية وهو الحكم الذي يعتبر بمنزلة الحكم القانوني في ظروف خاصة . والاعتبار في الأول اعتبار قانوني وفي الثاني اعتبار ادبي كقولك زيد اسد لبعض الدواعي الخاصة المصححة للتنزيل فليس هنا في مرحلة الظاهر وعدم العلم حكم مجعول شرعي بل تنزيل ما هو غير معلوم الحكم منزلة الحلال واقعاً .

وقوله عليه السلام: (فاذا علمت فقد قذر) يؤكد هذا المعنی فان القذارة هنا ليست ظاهرية لانه في فرض العلم وليست واقعية لتقيده بالعلم، والواقع لا يتقيد بالعلم. فالقذارة هنا قذارة تنزيلية وكذلك الطهارة المقابلة لهذه القذارة التي حكم بها الامام عليه السلام في الصدر وهو مطلق من حيث كونه في الواقع قذراً او طاهراً.

وهذا هو الذي ذكره المحقق الخراساني في مسألة الاجزاء فتوهم ان مراده الحكم الظاهري فاشكل عليه بان الماء النجس واقعاً اذا لم يعلم بنجاسته فلابد ان يكون مطهراً وهو غير مطهر قطعا. وهذا الاشكال غير وارد عليه فان المطهرية من احكام الماء الطاهر واقعاً والتنزيل انما يكون في حدود خاصة.

واما ما ذكره هنا من استفادة الحكم الواقعي من الصدر نظراً الی اطلاق الموضوع ففيه ان اطلاقه لا ينافي التنزيل في مرحلة عدم العلم وقد عرفت انه لا حاجة الی اخذ الشك في موضوع الحكم التنزيلي .

والعجيب منه كيف غفل عما ذكره من التحقيق في مسألة الاجزاء فذكر هنا ما يخالفه.

واما ما ذكره في الحاشية فقد اعترض عليه بوجوه :

الاعتراض الأول : ما ذكره المحقق النائيني من ان الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين اذ اخذ في موضوعه الشك في الحكم الواقعي فالشك مقدم علی الحكم الظاهري بمرتبة لكونه في مرتبة الموضوع ومتأخر عن الحكم الواقعي بمرتبة لتعلقه به . فالجمع بينهما يستلزم اجتماع المختلفين من حيث الرتبة في الوجود الواحد وهو محال .

وعلق عليه السيد الخوئي ايده الله بان هذا يصح بناءاً علی كون الانشاء ايجاداً واما بناءاً علی انه ابراز لامر نفساني فلا اشكال اذ ليس هذا اجتماعاً في الوجود بل في الابراز .

اما كون الانشاء ابرازاً فقد ذكرنا المناقشة فيه في محله. واما اصل الاشكال فعليه عدة ملاحظات:

الاولى:ان الشك في الحكم الواقعي كيف يكون متأخراً عنه؟! وهل يحتاج الشك في الشيء الی وجود ذلك الشيء والمفروض انه شك في وجوده وعدمه؟! فهذا غريب جداً .

الثانية: انه لو فرض ذلك فانما يكون في تحقق شك المكلف خارجاً اما الشك العنواني الذي اخذه الشارع في موضوع الحكم الظاهري علی الفرض فليس متأخراً قطعاً .

الثالثة: سلمنا ذلك ولكنه يتم بناءاً علی عدم الانحلال. والا فاذا انحل عنوان الشيء المذكور في الحديث الی اشياء فلا مانع من اعتبار بعضها موضوع الحكم الواقعي وبعضها موضوع الحكم الظاهري .

الرابعة: ان هذه القاعدة لا دليل عليها . وما المانع من اجتماع المختلفين رتبة في الوجود؟! نعم لا يمكن ذلك في المختلفين زماناً وفي العلة والمعلول . واما الاختلاف الرتبي فلا يمنع من ذلك . كيف والكل مقدم علی الاجزاء رتبة ومتحد معها وجوداً.

الخامسة: ان هذا لو تم فانما يتم في التكوينيات لا الاعتباريات .

السادسة: انه سيأتي ان شاء الله تعالى ان اخبار الائمة عليهم السلام كلها اخبار عن الحكم الواقعي فليس المقام مقام الجعل حتی يمتنع اجتماع المراتب .

الاعتراض الثاني: ان الحكم الواقعي مطلق من حيث الشك وعدمه، والحكم الظاهري مقيد بالشك، والاطلاق رفض القيود لا جمعها فكيف يصح الجمع بين اللحاظين المتنافيين؟!

ويمكن الجواب عنه أولاً بان المراد بالشيء هو المعرف للاشياء الخارجية فليس عنوان الشيء بنفسه مأخوذاً في موضوع دليل الحكم والاشياء الخارجية قد تكون ملحوظة بنحو الشك في طهارتها مثلاً وقد تكون ملحوظة بنحو الاطلاق.

وثانياً : ان الفرق بين الاطلاق والعموم هو ان موضوع الحكم في الاطلاق نفس الطبيعة واما في العموم فالموضوع هو الافراد . وما يقال في الفرق بينهما من ان الاطلاق يستفاد من مقدمات الحكمة والعموم يستفاد من نفس اللفظ غير صحيح. والمفروض ان الموضوع في ما نحن فيه ليس مأخوذاً بنحو الاطلاق بل بنحو العموم لمكان كلمة كل الدالة علی تكثرات الافراد فليست هذه الجملة ناظرة الی مطلق الشيء بل الی الاشياء الخارجية.

والجواب اما عن الأول : فبأن الشيء يكون مرآة للاشياء بحسب تحصصاتها النوعية . واما من جهة كونها في حيز الشك لاحد وعدمه فليس موجباً لتحصصها فلا يكون الشيء معرفاً عنها من هذه الجهة .

واما عن الثاني : فبفساد المبنی كما ذكرناه في محله .

فالحق ان هذا الاعتراض وارد عليه رحمه الله ولعله لذلك رجع عنه في الكفاية .

الاعتراض الثالث : ما ذكره بعض اعاظم العصر من ان بيان الحلية والطهارة الواقعيتين اخبار والظاهريتين انشاء ولا يمكن الجمع بين الاخبار والانشاء . وذلك لان المجعول شرعاً ليس الا النجاسة والحرمة واما الحلية والطهارة فلا يمكن ان تكونا مجعولتين اذ يلزم من جعل النجاسة والحرمة في بعض الاشياء وجعل الطهارة والحلية في البعض الآخر ان يكون هنالك اشياء لا حلال ولا حرام ولا نجس ولا طاهر .

والجواب أولاً :  ان الحق ان اخبار الائمة عليهم السلام كلها اخبار وليس فيها انشاء الا ما هو في مقام الولاية واما ما جعل للمصالح الدائمية فهي مجعولة في أصل الشريعة والائمة عليهم السلام مبلغون عنها كما ورد في الاخبار من ان جميع الاحكام الشرعية مذكورة في كتاب علي او مصحف فاطمة عليهما السلام، وانا لو حكمنا بالرأي لهلكنا .

وثانياً ان الحلية والطهارة أيضاً قابلتان للجعل الشرعي وليس جعلهما لغواً، اما الحلية فقد ذكرنا في محله انها حقيقة عبارة عن حل عقدة الحظر ورفعها والرفع انشاء . ويمكن القول بذلك في الطهارة أيضاً .

 واما استلزام ذلك ان يكون بعض الاشياء لا نجساً ولا طاهراً ففيه ان ذلك انما يلزم لو لم ينظر الی هذه الروايات والا فان مضمونها هو عموم الطهارة والحلية لكل الاشياء فلا يبقى مورد لا يكون حلالاً ولا حراماً ولا طاهراً ولا نجساً .

 

القول بالتفصيل بين موارد الاستصحاب

 

قد ذكر في جريان الاستصحاب تفاصيل عديدة الا ان المهم منها ثلاثة:

الاول : القول بجريانه في موارد الشك في الرافع دون الشك في المقتضي.

الثاني : القول بعدم جريانه في الاحكام وجريانه في الموضوعات.

الثالث : القول بعدم جريانه الا في الاحكام الوضعية وما يتبعها من الاحكام التكليفية فقط .

التفصيل الأول:

الفرق بين موارد الشك في الرافع والشك في المقتضي واختار هذا التفصيل الشيخ الانصاري وتبعه عليه جماعة من الاعاظم ونسب الی المحقق الحلي والمحقق الخوانساري قدس سرهما.

والكلام يقع أولا في اقامة الدليل علی صحة هذا التفصيل ثم في تشخيص موارد الشك في المقتضي عن الشك في الرافع فالكلام في مقامين:

المقام الاول: الدليل على التفصيل الاول:

يستدل على التفصيل المذكور تارة بالروايات وتارة ببناء العقلاء والكلام اولا في ملاحظة الروايات وأنها هل تفرق بين موارد الشك في المقتضي والشك في الرافع؟ وقد ذكر في وجه الاستناد الى الروايات عدة تقارير ولعل اوجهها هو ما ذكره المحقق الهمداني في حاشيته علی الرسائل ويبتني بيان ذلك بتقريب منا علی ثلاث مقدمات :

المقدمة الاولی : ان النقض ضد الابرام والابرام عبارة عن ايجاد التماسك او شدته في اجزاء الشيء والنقض عبارة عن ايجاد التفسخ والانحلال بينها وعليه فلا يحسن اسناد النقض الی شيء الا اذا كانت اجزاؤه متماسكة بعضها مع بعض.

المقدمة الثانية : ان اسناد النقض وعدمه الی الشيء لا يختص بما اذا كانت اجزاؤه موجودة بالوجود الفعلي بل يكفي فيه ان يكون بعضها تقديرياً أيضاً فاذا قال: الطهارة تُنقض بالحدث مثلاً فالمراد ان مجموع الطهارة من وجودها الحقيقي قبل الحدث ووجودها التقديري ــ اي لولا الحدث بعده ــ تنقض بالحدث .

والسرّ في ذلك انه لابد من تماسك الاجزاء حتی يصح القول بالنقض وعدمه وحيث ان الطهارة بعد الحدث غير موجودة فلا معنی لتماسكها مع الطهارة الموجودة قبله فلابد من القول بكفاية الوجود التقديري والمراد به وجود المقتضى بوجود المقتضي الذي هو نحو من انحاء الوجود وهو الوجود بالعرض والمجاز فان وجود المقتضى حينئذ ليس حقيقياً وانما هو في الحقيقة عارض للمقتضي وينسب الی المقتضى مجازاً. وحينئذ فيقال في المقام ان المتيقن بالنسبة الی الحدوث موجود واقعاً ولكنه بالنسبة الی البقاء موجود تقديراً وباعتبار اقتضائه البقاء. وعليه فلا يصح اسناد النقض الا في صورة كون الشك في الرافع واقتضاء المتيقن البقاء.

المقدمة الثالثة : ان المراد باليقين الوارد في الاحاديث اما هو المتيقن مجازاً كما ذهب اليه الشيخ الانصاري قدس سره واما هو نفس صفة اليقين لكن بما هي مرآة للمتيقن واسناد النقض الی اليقين بناءاً علی الاول واضح كما ذكرنا واما بناءاً علی الثاني فاسناد النقض انما هو باعتبار كونه مرآة للمتيقن وحيث ان المتيقن فيه ما يقتضي البقاء فهو موجود بوجود المقتضي فينعكس هذا الاقتضاء في اليقين باعتبار كونه طريقاً ومرآةً له.

والنتيجة من هذه المقدمات هو ان التعبير بالنقض في الروايات باعتبار دلالته علی كون متعلقه متماسك الاجزاء يقتضي ان يكون المراد خصوص صورة اقتضاء المتيقن البقاء ليصح التماسك بين الاجزاء الموجودة والمقدرة . ويبقی في المقام التعبير باليقين مع ان تماسك الاجزاء انما هو في المتيقن فذكرنا لوجهه المقدمة الثالثة.

هذا ولا ينبغي الاشكال في المقدمة الاولی وفي ضعف القول بان حسن اسناد النقض انما هو من جهة استحكام اليقين في قبال الشك.

واما المقدمة الثانية فممنوعة. والوجه في ذلك ان مقتضى ما ذكر أنّ هناك ثلاث مراتب من الوجود أحدها الوجود الحقيقي التكويني وهو واضح. الثاني: الوجود الاعتباري وهو ان يكون الشيء موجوداً فعلاً ولكن بموجب اعتبار معتبر. الثالث: الوجود التقديري وهو ان يكون مقتضي الشيء موجوداً فقط فيقال انه موجود لولا تحقق المانع . وهذه المراتب الثلاثة مترتبة من حيث التحقق بمعنى أنه اذا كان الشيء موجودا تكوينا فلا يمكن أن يكون موجودا بالاعتبار اذ لا معنى لاعتبار الموجود موجودا وكذلك اذا كان موجودا في عالم الاعتبار لا يصح القول بأنه موجود بوجود المقتضي لأنه ليس وجودا بالحقيقة بل هو بالعرض والمجاز والوجود الاعتباري وجود حقيقة وان كان في عالم الاعتبار. والمفروض أن الوجود الاعتباري للمتيقن متحقق في المقام فلا يصح الحكم بأنه موجود بوجود المقتضي.

والسبب في ذلك ان الصحيح في حقيقة الاستصحاب انه من باب توسعة المنكشف اعتبارا لا إبقاء الكاشف اعتبارا اذ اليقين باق بحاله فمرجع اعتبار الاستصحاب الی توسعة وصف كاشفيته فهو كما كان كاشفاً عن مرحلة الحدوث حقيقة كاشف عن مرحلة البقاء اعتباراً فاليقين بكاشفيته عن البقاء موجود بعد الشك اعتباراً فاذا قال لا تنقض اليقين فانما يقول باعتبار ان اليقين بالحدوث متماسك مع اليقين بالبقاء اعتباراً وهو موجود حقيقة ويكون الاسناد من باب الاستعارة بالكناية بمعنی انه يعتبر اليقين بالبقاء موجوداً ومبرماً مع اليقين بالحدوث ويضمر هذا الاعتبار في نفسه ويطبق عليه القانون الطبيعي القائل بان الشيء المتماسك لا يفصل بين اجزائه بالشيء غير المتماسك. والهش لا يقطع الصلب. ثم لا يبرز هذا التخييل في اللفظ وانما يثبت له بعض لوازمه وهو النقض كقول الهذلي (واذا المنية انشبت اظفارها) حيث شبهها بالسبع في نفسه قبل استعارة الاظفار ثم اثبت لها الاظفار ونظير ذلك ما اذا قال ان الطهارة لا تنقض بالرعاف مثلاً فانه يعتبر الطهارة بعد تحقق الرعاف موجوداً ومتماسكاً معها قبله فيحسن التعبير بالنقض .

نعم لابد من القول بالوجود التقديري في صورة التعبير بالنقض ايجاباً كما اذا قال الطهارة تنقض بالحدث اذ لا معنى لاعتبار الطهارة حينئذ بعد الحدث حتی يتماسك معها قبله فلابد من القول بالوجود التقديري كما مر بيانه .

والحاصل أن التعبير بالنقض لا يتوقف في المقام على الوجود التقديري حتی نحتاج إلی القول باختصاصه بصورة اقتضاء البقاء .

واما المقدمة الثالثة فهي ممنوعة أيضاً اما الوجه الاول فلوجهين :

الاول : ان الاستعمال المجازي يحتاج إلی قرينة وهي مفقودة في المقام.

الثاني : ان التناسب الملحوظ بين اجزاء الكلام إنما يكون باعتبار المعنی الحقيقي لا المراد الجدي فلو قلت: (جاء اسد) واردت الرجل الشجاع فان اردت ان تعطف عليه مجيء ابنه فلا بد من ان تقول وشبله لا وولده. ومن هنا صح التعجب في قوله :

قامت تظللني من الشمس      نفس اعـــــز عليّ من نفسي  

قامت تظللني ومن عجب      شمس تظللني من الشمس

اذ لولا ذلك لكان التظليل غير عجيب باعتبار المراد الجدي من الشمس فانه انسان وانما هو عجيب باعتبار المعنی الحقيقي . ومن هنا أيضاً صح النفي في مثل قوله تعالی: (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) يوسف: 31 . اذ نفي البشرية انما هو بلحاظ المراد الاستعمالي لا المراد الجدي. وعليه فاسناد النقض باعتبار المعنی الجدي من اليقين غير صحيح بل لابد من ملاحظة اليقين بمعناه الحقيقي في تناسب اجزاء الكلام ولا يصح التعبير بالنقض بملاحظته.

وأمّا الوجه الثاني ففيه ان المقتضي للمعلوم والمتيقن لا يجب أن يقتضي العلم والطريق فان العلم قد ينشأ من علة المعلوم التامة دون المقتضي فقط بل لا يرتبط به اصلاً وقد ينشأ من معلوله وقد ينشأ من أمر آخر كتجمع الاحتمالات علی المحور الواحد. فلا يصح اسناد النقض الى اليقين باعتبار اقتضاء المتيقن البقاء.

هذا كله بالنظر الی الروايات.

واما بناء العقلاء فيمكن ان يقال : إن بناءهم انما هو في موارد الشك في الرافع فقط وانهم يلاحظون في حكمهم بالبقاء استعداد الشيء للبقاء وهو يختلف حسب اختلاف الاشياء ولذلك استشكل الشيخ قدس سره في التمسك ببناء العقلاء بانه يبتني علی تشخيص استعداد المستصحب للبقاء وهو مشكل في نفسه مضافاً الی انه لا يدخل تحت ضابط معين اذ يتردد الامر بين كون المناط هو الجنس او النوع أو الصنف وليس لشيء منها دليل معيّن .

هذا ويلاحظ ان بناء العقلاء فيما اذا شك في أمد اجازة المالك للتصرف في ملكه علی عدم الجواز أكثر من القدر المتيقن وكذلك فيما اذا وقع النزاع في أمد الاجارة فانهم لا يحكمون بكونه الامد الطويل بمقتضى الاستصحاب.

ويمكن القول علی ضوء هذا التفصيل في بناء العقلاء بان اطلاق الروايات ــ لو سلم ــ مقيد أيضاً بهذا البناء نظراً الی ان ظاهر قوله ولا ينبغي ان تنقض اليقين بالشك هو امضاء ما لدى العقلاء. ولكنا قد ذكرنا في باب التمسك ببناء العقلاء ان للاستصحاب اساسين نفسي واجتماعي وبمراجعة الامثلة التي ذكرنا يعلم انه لا فرق عندهم بين الموردين اي الشك في المقتضي والشك في الرافع.

اما اشكال الشيخ فسيأتي جوابه. واما ما استشهد به من الموردين فالجواب عن الأول بأنه لو سلم يمكن ان يكون من جهة احتياج كل تصرّف بشخصه الی اجازة المالك فيختلف الموضوع ولا يجري الاستصحاب. واما عن الثاني فبانه لو سلم أيضاً فيمكن ان يكون من جهة معارضة الاستصحاب الوجودي لاستصحاب عدم كون الاجارة اكثر من القدر المتيقن. ثم لو سلم جميع ذلك فتقييد الاخبار به لا وجه له. ودعوی أن قوله عليه السلام: (ولا ينبغي أن تنقض اليقين بالشك) امضاء لبناء العقلاء لا دليل عليها.

 

المقام الثاني في بيان ضابط المقتضي والرافع:

قد ذكر المحققون الاعلام الضابط في ذلك واختلفت تعابيرهم ونحن ننقل ما ذكره المحقق النائيني قدس سره وحاصله ان الشيء ان كان من الاُمور التكوينية فاستعداده للبقاء وامد استعداده موكول إلی نظر العرف وان كان من الاحكام الشرعية فان كان الشك في بقاء الموضوع وكان منشأ الشك تغير ما هو مقوم للموضوع عرفاً فعدم جريان الاستصحاب من جهة تبدل الموضوع وان كان منشأه تغير ما ليس بمقوم له فلا يجري الاستصحاب لان الشك في المقتضي اذ نسبة الموضوعات الی الاحكام نسبة المقتضي الی المقتضى وان كان الشك في بقاء الحكم فان كان الحكم بالنسبة الی الزمان مهملاً غير مقيد بوقت وأمد معين فهو شك في المقتضي وان كان مطلقا بالنسبة الی الزمان فالرافع له امر زماني كالطلاق فهو شك في الرافع وان كان مقيداً بزمان خاص فالشك في بقاء الحكم انما يكون من جهة الشك في تحقق الغاية فان كان لشبهة حكمية محضة او مفهومية فالشك في المقتضي وان كان لشبهة موضوعية فالشك في الرافع .

ويمكن الايراد عليه بأربعة وجوه :

الوجه الأول ما نقلناه عن الشيخ قدس سره من ان احراز حدود الاستعداد للبقاء في الاُمور التكوينية غير معلوم وكون المدار هل هو الجنس البعيد او القريب او النوع أو الصنف او الشخص غير معلوم أيضاً . وقد ذكر ذلك ضابطاً للاُمور التكوينية .

الوجه الثاني : ان استصحاب عدم النسخ جار قطعاً بل يكاد يكون من الضروريات مع ان الحكم المنسوخ مهمل بالنسبة إلی الزمان فالشك في المقتضي .

الوجه الثالث : ان استصحاب الطهارة بعد زوال التغير بنفسه جار عندهم مع أنه علی هذا الضابط من الشك في المقتضي لكونه شكاً في الموضوع وهكذا جميع موارد الشك في الموضوع.

الوجه الرابع: انه لا فرق بين جعل الزمان امداً للحكم وبين غيره من الاُمور الزمانية اذ كل منهما غاية ينتهي عنده الحكم فكون الشك في احدهما شكاً في المقتضي والآخر شكاً في الرافع يشبه الاُمور التعبدية لا العلمية البحتة .

ولكن يمكن توجيه ما ذكره من الضابط بوجه لا يرد عليه بعض المناقشات وهو : ان المناط في تعيين الضابط هو التشخيص العرفي لموارد امكان الوجود التقديري بعد الشك وهذا يختلف في الاُمور التكوينية بحسب استعداد الاصناف وهو امر عرفي محض فيقال في مورد موت بعض الاحياء انه انقطع عمره ويقال في بعضها انه انتهى عمره والوجه في ذلك ان الاول كان بنظر العرف يقتضي البقاء فهو يری له بعد الموت وجوداً تقديرياً ويری الموت حداً لوجوده التحقيقي دون التقديري واما في غير الاُمور التكوينية فهو يری في الاحكام المجعولة بموجب العناوين الثانوية كالاضطرار والاكراه ان الملاك موجود وان الحكم موجود تقديراً وهذا واضح واما في غير ذلك فان التعبيرات الواردة في ما يرفع الحكم يدل علی النظر العرفي في بقاء الوجود التقديري كالتعبير بالنقض والفسخ والنسخ والازالة.

فيندفع الوجه الاول بان المدار في ذلك نظر العرف والظاهر انهم يلاحظون في ذلك الصنف الخاص كما ذكرنا. ويندفع الوجه الثاني بان التعبير بالنسخ يدل ان نظر العرف في الاحكام هو اقتضاء البقاء لولا النسخ فالشك في الرافع . ويندفع الوجه الثالث بان زوال التغير لا يضر بالاستصحاب هناك لانه في العرف لا يعتبر مقوماً للموضوع فليس من الشك في الموضوع. ويندفع الوجه الرابع بان الشك في مورد جعل الزمان امداً للحكم شك في المقتضي بنظر العرف دون غيره من الامور الزمانية واما الاستدلال برواية القاساني (الرواية السادسة من ادلة الاستصحاب) ففيه ما ذكرناه هناك من عدم صحة السند وعدم الدلالة مضافاً الی امكان الالتزام بجريان الاستصحاب في خصوص مورده تعبداً وان كان شكا في المقتضي.

 

التفصيل الثاني:

الفرق بين الشك في الحكم فلا يجري الاستصحاب والشك في الموضوع فيجري وهذا ما ذهب اليه جماعة من الاخباريين نظراً الی عدم الاطلاق في أدلة الاستصحاب وقد ذكرنا سابقاً الوجه في اطلاقها وذهب إليه أيضاً المحقق النراقي قدس سره وتبعه عليه جماعة منهم السيد الخوئي أيّده الله وان اختلفوا في التفاصيل.

ومنشأ هذا القول هو تعارض الاستصحاب الوجودي والعدمي في الحكم دون الموضوع. والشك في بقاء الحكم انما يكون من جهة سعة جعل الحكم وضيقه فاذا شك في بقاء النجاسة بعد الغسلة الاُولی مثلا أو بعد زوال التغير بنفسه أو بعد تتميم القليل كراً فانما هو من جهة الشك في سعة جعل النجاسة وضيقه.

والضابط هو ان يكون الشك في سعة الحكم وضيقه موجباً للشك في استمرار الحكم وانقطاعه فاذا لم يوجب ذلك فالاستصحاب الوجودي غير جار رأساً كما اذا شك في ان حرمة وطء الحائض هل ترتفع بنفس النقاء ام لابد من الغسل فان هذا الشك لا يوجب الشك في الاستمرار لان الحرمة مجعولة لكل وطء بخصوصه فاختلاف الموضوع مانع من الاستصحاب الوجودي فلا يصل الدور الی المعارضة .

ثم ان الحكم له مرحلتان: الانشاء والفعلية. ويعبر عنهما بمرحلتي الجعل والمجعول. وسعة الحكم في المرحلة الاُولی عَرْضية اذ الجعل امر وحداني فإما ان تجعل النجاسة لما تغير وان زال تغيره بنفسه أو تجعل للمتغير مادام متغيراً ولكنه في المرحلة الثانية طولي واستمراري فهو قابل للزوال والبقاء وبعبارة اُخری الاُمور المتفرقة بحسب الزمان في المرحلة الثانية بالتقدم والتأخر مجتمعة في المرحلة الاولی باعتبار وحدة الجعل فالاستصحاب الوجودي انما يجري في المرحلة الثانية واما المرحلة الاُولی فهو مجرى الاستصحاب العدمي لما ذكرنا من ان سعة الحكم هناك عرضي بحسب الافراد العرضية فيستصحب عدم الجعل لهذا الفرد الذي يوجب جعله له بقاء الحكم في المرحلة الثانية وبذلك يتعارض الاستصحاب الوجودي للحكم في المرحلة الثانية واستصحاب عدم الجعل في المرحلة الاولى.

و قد ناقش في ذلك المحقق النائيني قدس سره باختلاف موضوعي الاستصحابين فلا يتعارضان اذ الحكم في المرحلة الاولى غيره في المرحلة الثانية فإثبات العدم في الثانية باستصحابه في الاُولی من أوضح أفراد الاصل المثبت. وأما إجراء الاصل في نفس الحكم الانشائي فلا أثر له اذ الاثر ــ وهو وجوب الاطاعة في الاحكام التكليفية، وكونُه موضوعاً للحكم التكليفي في الاحكام الوضعية ــ مختص بالحكم الفعلي وأيضاً الحكم المؤثر هو الذي له قابلية القيادة وتوجيه النفس الی الفعل أو الترك وهذا من خصوصيات الحكم الفعلي.

ويتوقف دفع هذا الاشكال علی اثبات وحدة الحكم في المرحلتين وهنا ثلاث محاولات لاثبات ذلك.

الوجه الأول ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من أن الفرق بينهما اعتباري كالفرق بين الايجاد والوجود.

ويرده ان الايجاد والوجود أمر واحد يعبر عنه بالتعبيرين باعتبار نسبته إلی الفاعل والقابل والمقام ليس من هذا القبيل اذ الحكم الانشائي لا يتوقف على وجود الموضوع بخلاف الحكم الفعلي وبينهما فاصلة زمنية ومن الواضح ان ما يتوقف علی الشيء مغاير لما لا يتوقف عليه.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الخوئي دام ظله من ان الفرق بينهما انما هو في انضمامه في المرحلة الثانية الی الموضوع وعدم انضمامه اليه في المرحلة الاُولی فهو هو بعينه وانما الفرق بالتركب وعدمه كالجدار اذا انضم الی جدران اخری فاصبح بيتا فانه لا يؤثر في اختلاف حقيقته.

ويمكن ان يؤيّد ذلك بان الاول مجعول للشارع والمفروض ان الشارع لم يجعل الاحكماً واحداً فلو كان الثاني غيره لم يكن مجعولا له فلا يكون حكماً شرعياً.

ولكن للتأمل فيه مجال اذ انهما لو كانا متحدين فلِمَ لم يكن الاول قابلاً للاطاعة والعصيان كما هو الحال في الثاني؟! ولِمَ كان الثاني متوقفاً علی تحقق الموضوع دون الاول؟! مضافاً الی ان المفروض جريان الاستصحاب العدمي والوجودي في نفسهما في ذلك ويلزم منه ان يكون الحكم الواحد في الزمان السابق علی زمان الشك متصلاً به موجوداً ومعدوماً. وهذا دليل واضح علی الاثنينية .

ولكن قد عرفت ان القول بالمغايرة أيضاً مشكل من جهة ان الاعتبار الشرعي للحكم واحد فليس هنا الا حكم مجعول واحد. وهنا يأتي دور المحاولة الثالثة لاثبات وحدة الحكم بحيث يندفع الاشكال.

الوجه الثالث : ان الحكم واحد من حيث الجعل والاعتبار ومتعدد من حيث الارتباط وبيان ذلك يتوقف علی مقدمة وهي ان الأعراض علی قسمين:

القسم الأول: ما يكون معروضه المقوم لوجوده متحد مع الموصوف به كالبياض فانه عارض علی الجسم وهو المتصف بكونه أبيض وكالكلّيّة التي تعرض مفهوم الانسان فانها تعرض الوجود الذهني للإنسان وهو المتصف بها دون الانسان الخارجي فمعروض العرض والمتصف به في المثالين أمر واحد .

القسم الثاني : ما يختلف المعروض والموصوف فيه وهو ما يسمى بالمعقولات الثانية في الفلسفة كالابوة فانه يتقوم بوجود الاب في الذهن باعتبار كونه منشأً لوجود الابن ويتصف به الاب في الخارج وكالعلم والارادة فانهما تعرضان الامور الذهنية ويتصف بهما الامور الخارجية فاذا علمت بمجيء زيد غداً فان معروض العلم ليس هو المجيء الخارجي اذ لم يتحقق بعد والموصوف به هو المجيء الخارجي فتقول بعد مجيئه : كنت اعلم بهذا، وتشير الی وجوده الخارجي وكذلك الارادة والكراهة وجميع الاُمور الانتزاعية والاعتبارية.

والحكم الشرعي ايضا من الامور الاعتبارية فان معروضه الذي يتقوم به الحكم هو العنوان الذهني الذي يتصوره المولی كعنوان مستطيع الحج والموصوف به هو نفس المستطيع المتحقق خارجاً فالاعتبار الشرعي واحد والحكم بالوجود المحمولي واحد وانما المتعدد هو الارتباط فانه يرتبط بموضوعه في مرحلة الجعل وهو معروضه ويرتبط أيضاً بموصوفه في الخارج وبهذين الارتباطين تنشأ قضيتان الموضوع في إحداهما هو العنوان المتصور في ذهن المولی وفي الثانية هو الموجود الخارجي الذي انطبق عليه ذلك العنوان . ولكن المحمول فيهما واحد وهو الحكم الاعتباري الذي أنشأه الشارع. فتبين ان الجعل واحد والمجعول واحد والارتباط متعدد وهو منشأ المغايرة .

وبهذا البيان يظهرأن الوحدة التي يدعيها السيد الخوئي دام ظله انما هو باعتبار الجعل بوجوده المحمولي وهو صحيح في نفسه . ولكن لا يندفع به الاشكال الذي ذكره المحقق النائيني قدس سره بتوجيه منا. وذلك بان يقال : لعلّ مراده هو اختلاف القضيتين في الاستصحاب باعتبار اختلاف الارتباط بين الحكم المستصحب ومعروضه والارتباط بينه وموصوفه فنـفي الارتباط الأول لا ينـفي الارتباط الثاني الذي هو موضوع الأثر .

هذا ويمكن الاشكال في تعارض الاستصحابين بوجه آخر وهو أن جعل النجاسة لملاقي البول الی ما بعد الغسلة الاولی مغاير لجعلها له الی ما قبله ففي مرحلة الجعل ليس جعل أحدهما استمراراً للجعل الآخر حتی يقال بأن جعله الی كذا متيقن والی كذا مشكوك فيه بل المجعول أحد الأمرين المتغايرين ففي ظرف الشك يجري في كل منهما استصحاب عدم الجعل لو فرض ترتب أثر عليه.

ولكنّا بيّـنّا ان الأثر ليس للحكم في مرتبة الجعل. وأما في الحكم الفعلي فالشك بين فرد طويل وفرد قصير اذ علی فرض جعل الحكم بأحد النحوين في مرحلة الجعل لابد من كونه في مرحلة المجعول بالنحو الطويل وعلی فرض جعله بالنحو الآخر لابد من كونه بالنحو القصير . والأثر ــ وهو وجوب الاطاعة في الأحكام التكليفية وكونه موضوعاً للحكم التكليفي في الاحكام الوضعية ــ لا يترتب علی خصوصية الطويل والقصير بل علی الجامع بينهما فيستصحب ولا مانع منه . ولو فرض ترتب أثر علی الخصوصية الفردية فيهما فاستصحاب العدم في كل منهما يتعارض مع الآخر ويتساقطان ويجري استصحاب الكلي بنحو القسم الثاني من انحاء استصحاب الكلي.

هذا تمام الكلام في وجه هذا التفصيل. وبقي الكلام في مورد جريان التعارض بين الاستصحابين المتقدمين فقد وقع الخلاف في موارد:

منها : مورد الشك في الرافع بناءاً علی عدم الفرق في أصل جريان الاستصحاب بين الشك في الرافع والشك في المقتضي فان المحقق النراقي رحمه الله بعد ان ذكر هذا التعارض في  (المناهج) مطلقا رجع في (العوائد) ففصّل بين الشك في الرافع والمقتضِي وذكر ان هذا الاشكال مختص بالثاني وقال : ان مثل النجاسة والزوجية والملكية مما يقتضي بنفسه البقاء فلا يمكن تحديده بالزمان وانما يحدد بالرافع ويكفي في استمرار النجاسة مثلا أصل جعلها واعتبارها الی أن يحدث الرافع وحينئذ فاستصحاب عدم الجعل الی ما بعد الغسلة الاُولی غير جار فلا يعارض استصحاب النجاسة المجعولة. وقال : ان من له خبرة في فهم كلمات الاصحاب «قدس الله أسرارهم» والروايات يعلم ان النجاسة ونظائرها مستمرة الی زمن حدوث الرافع بمعنی انها  بنفسها تقتضي البقاء لولا الرافع.

وذكر مثل هذا الاشكال علی ما ذكره المحقق المذكور في المناهج الشيخ وصاحب الكفاية غفلة عن رجوعه عنه في العوائد. ولكن الظاهر أن الحق بعد فرض صحة أصل الاشكال عدم التفصيل كما ذكره السيد الخوئي أيده الله .

والوجه في ذلك انه لا فرق بين تحديد الحكم بالزمان وتحديده بالزماني وان استمرار الحكم الی زمان خاص او الی حدوث رافع تابع لاعتبار المعتبر فان ذلك من حدود الأمر المعتبر وهو تابع للاعتبار فلا مانع من أن يكون جعل النجاسة من أول الأمر محدوداً بحدّ وهو حدوث الرافع فيستصحب عدمه .

واما كلمات الاصحاب والروايات فمنشأ التوهم فيها هو التعبير بالفسخ والرفع والنقض وقد ذكرنا في بيان ضابط المقتضي والرافع ان بعض التعابير يدل على أنّ العرف يری بعض الحدود حدوداً للشيء تحقيقاً فقط ويری ان الوجود التقديري باق فيعبر عن انعدامه بالزوال والرفع والانفساخ بخلاف بعض آخر فان الحدود فيها حدود لوجوداتها تحقيقاً وتقديراً وذلك كما في جميع موارد التحديد بالزمان فان العرف يری الزمان حينئذ حداً للشيء تحقيقاً وتقديراً وهذا الفرق انما يجدي في صحة التعبير في القسم الأول بالنقض ونظائره دون الثاني ولا يؤثر فيما نحن بصدده شيئاً .

ومنها : الحرمة والاباحة . فان هذا الاشكال يختص بالوجوب والاستحباب من بين الاحكام التكليفية ولا يأتي في الحرمة والكراهة وذلك لان الحكم بالحرمة والكراهة اما أن يكون انحلالياً كمثال وطء الحائض المذكور في أول هذا البحث ومن الواضح ان حرمة الوطء في زمان لا يقتضي حرمته في زمان آخر فالحكم ينحل بحسب الزمان والاستصحاب الوجودي في مثل ذلك غير جار فلا مورد للمعارضة . والكراهة كالحرمة كما ان الاستحباب كالوجوب أي لا فرق بينهما في كيفية الجعل .

وإما أن يكون الحكم بالحرمة غير انحلالي فيكون من موارد الشك في الأقل والأكثر ومن الواضح ان الأقل والأكثر في الوجوب والحرمة متعاكسان فالأقل في الواجب متيقن والأكثر مشكوك بخلاف الحرمة إذ الاكثر متيقن . وعليه فاذا شككنا في حرمة الجلوس إلی الزوال وحرمته إلی الغروب فالاستصحاب الوجودي أي حرمة الجلوس إلی الغروب غير جار فانه القدر المتيقن من الحرام لاستلزامه الجلوس الی الزوال أيضاً .

وأما الاباحة فالاستصحاب العدمي غير جار . وقد ذكر السيد الخوئي «دام ظله» في وجه ذلك ان افعال المكلفين قبل الاسلام كانت علی الاباحة وقد ارتفعت عن بعضها بصورة تدريجية فكل ما يشك في اباحته فلابد من ان يكون مسبوقاً بزمان في أوائل التشريع كان حكمها الاباحة فلا يجري اصالة عدم الاباحة .

ويلاحظ عليه : ان الاباحة في أوائل التشريع لو سلم كونه مجعولاً شرعياً لم يعلم كونه مجعولاً الی زمان الشك فيستصحب عدم جعلها في هذا الزمان نظير ما قاله في استصحاب عدم النسخ من جريان استصحاب عدم جعل الحكم في زمان الشك ومعارضته له.

والصحيح ان اصالة عدم الاباحة غير جار لوجهين :

الأول : ان الاباحة ليست حكماً شرعياً وانما هي نفي الحكم فهي تثبت في كل مورد لا يصرّح فيه القانون بحكم تكليفي لا انه مما صرّح القانون بكونه مباحاً فهي ليست مجعولاً شرعياً حتی يبحث عن اصالة عدم الجعل فيه . نعم المجعول هو الحل وهو معنىً آخر غير الاباحة وحقيقته رفع عقدة الحظر فيما كان محرما سابقا او توهم فيه الحرمة كالبحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك.

الثاني : انه لو فرضنا كونه حكماً شرعياً فالاصل غير جار أيضاً للغويته إذ انه بنفسه غير مجد حيث لا يمكن له قيادة ارادة المكلف وسوقه نحو الفعل أو الترك لان مفاده ان العمل غير مباح ولا يعلم انه حرام أو واجب ولا يمكن اثبات الحرمة او الوجوب به لعدم امكان اثبات احد الضدين بعدم الضد الآخر الا بلسان الاثبات.

ومنها : الاحكام الجزئية . فان هذا التعارض غير جار فيها ولم يذكرها السيد الخوئي في دورته الاولی ولكن الذي يظهر من (مباني الاستنباط) انه ذكر في دورة أخرى ان هذا التعارض يجري حتی في مورد الشبهة المصداقية كما اذا شك في تحقق المغرب فقال : ان استصحاب وجوب الصوم يعارضه استصحاب عدم جعل الوجوب أكثر من المتيقن .

ولكن الشك هنا ليس في مقدار الجعل وانما الشك في تحقق الغاية فلا يجري استصحاب عدم الجعل. واستصحاب عدم الوجوب قبل النهار يردّه ان زمان اليقين غير متصل بزمان الشك لتخلل الوجوب .

ومنها: الاحكام الوضعية التي لا تترتب عليها احكام تكليفية فيها كلفة كالطهارة فانها لا تترتب عليها الا التوسعة بخلاف النجاسة فان الحكم التكليفي المترتب عليها فيه كلفة علی المكلف فذكر السيد الخوئي «دام ظله» ان التعارض المذكور غير جار في القسم الأول.

ولم يظهر لنا الوجه في ذلك فان المناط في صحة الاستصحاب هو كونه حكماً شرعياً سواء كانت فيه كلفة ام رخصة فلا وجه للتفصيل.

التفصيل الثالث:

 

الفرق بين الاحكام الوضعية والتكليفية. وقد جری دأب الاصحاب علی ذكر التحقيق عن حقيقة الاحكام الوضعية في المقام فنقول:

حقيقة الاحكام الوضعية:

 

ولبيان ذلك لابد من ذكر مقدمات خمسة:

المقدمة الاُولی في بيان الاعتبار الادبي والاعتبار القانوني:

من الواضح أن الحكم الشرعي كأي حكم آخر نوع من الاعتبار. والاعتبار عبارة عن فعل بداعي التأثير في مشاعر الناس بنحو خاص. ويتحقق بذلك الموجود الاعتباري وهو في قبال الموجود التكويني فالموجود التكويني هو ما ينفعل الانسان بادراكه ويصل بذلك الی أمر واقع في الخارج سواء كان جوهراً ام عرضاً . والموجود الاعتباري هو فعل من افعال الانسان تابع في حدوده لاعتبار المعتبر.

وهو على قسمين :

الأول : الاعتبارات الادبية . والمراد بها اعطاء حدّ شيء لشيء آخر بداعي التأثير في المشاعر بشرط كون الشيء الآخر (المشبه به) مما له تأثير في المشاعر كقولك زيد أسد . سواء كان المشبه به امراً واقعياً ام خيالياً كرستم او كان تأثيره في المشاعر بسبب الاعلام كحاتم. وهذا الاعتبار يختلف باختلاف المجتمعات والطبقات والازمنة والامكنة فربما كان تشبيه في زمان لتفهيم معنىً خاص حسناً وفي زمان آخر مستهجناً كالحمار الذي كان يقال للرجل الصبور الذي يقدم على امور صعبة كمروان آخر ملوك بني امية الذي لقّب بالحمار من أجل ذلك مع انه في زماننا تعبير مستهجن اذ يستعار للرجل البليد.

الثاني: الاعتبارات القانونية وهو أيضاً للتأثير في المشاعر فالحكم بنجاسة المشرك أو البول أو الغائط أو غير ذلك انما شرّع ليستقذر العرف هذه الاُمور فيجتنب عنها لدواع صحيّة كالاخيرين او سياسية كالأول .

والفرق بين  هذين القسمين انما هو في أن الارادة الجدية في الأول مخالف للارادة الاستعمالية فحينما تقول زيد أسد لا تقصد أنه أسد واقعا بخلاف الثاني كما هو واضح .

وقد يشتبه الامر فيخلط بين الموجودات التكوينية والاعتبارية أو بين الاعتبارات الادبية والقانونية فالأول كما صدر عن الشيخ رحمه الله حيث قال بان النجاسة والطهارة أمران واقعيان كشف عنهما الشارع. وكما توهم كثير من ان الملكية من مقولة الجدة مع ان الجدة امر واقعي ومن الاعراض والملك أمر اعتباري. وقد يتوهم الوجود الواقعي اعتبارياً كقول الملاحدة في الباري تعالی حيث توهموا انه مخلوق الاذهان.

ومن هذا الاشتباه ما ورد في بعض الكلمات من الحكم علی الموجودات الاعتبارية باحكام خاصة بالموجودات الحقيقية كاجتماع الضدين فيتوهم استحالتها في الاحكام مع أنّ هذا لا يجري في الاعتباريات ولذلك صحّ قول الشاعر : (اسد عليّ وفي الحروب نعامة). ومنه ايضا ما يقال من عدم امكان تأثير المتأخر في المتقدم فيتوهم انه جار حتی في الاعتباريات ولذلك اشكل الامر عليهم في الشرط المتأخر. 

  والثاني كقول بعضهم: يمكن للشارع جعل الجزئية والسببية لشيء فيقول هذا واجب، ثم يقول بعد ذلك جعلت هذا جزءاً له. أو يقول جعلت دلوك الشمس سبباً لوجوب الصلاة . مع ان هذا من قبيل الاعتبارات الادبية فالمجعول جزءاً بهذا النحو ليس جزءاً في الاعتبار القانوني إلا ان يتبدل الواجب وحينئذ فلا يكون أيضاً جزءاً للمشار إليه بل جزءاً لمركب آخر وكذلك السببية فالتعبير بجعل السببية والجزئية لا يراد به اعتبار قانوني .

المقدمة الثانية الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي :

الحكم التكليفي هو الاعتبار القانوني الذي يرتبط بعمل المكلف مباشرة فيوجهه نحو الفعل أو الترك بمعنی انه يوجد الداعي لاحدهما في نفسه فيسوقه اليه . ومن هنا يعلم أن الاباحة ليست حكماً شرعياً وانما هو نفي الحكم. والحكم الوضعي هو الاعتبار القانوني الذي يرتبط بعمل المكلف بالواسطة فان النجاسة والملكية بنفسها لا ترتبط بعمل المكلف ولكنها تؤثر في عمله بواسطة الحكم التكليفي المتعلق بها .

وبهذا الضابط يتبين موارد الخلط الذي صدر من الاصحاب بين الاحكام التكليفية والوضعية فذهب بعضهم الی ان الاباحة من الاحكام الوضعية كما ذهب السيد الخوئي «أيده الله» الی ان الحقوق كلها يرجع الی الحكم التكليفي فالقصاص عبارة عن جواز القتل وليس حقا لولي الدم. ومن المعلوم ان القصاص ينتقل الی الوارث فاذا كان صغيراً مثلاً فجواز القتل انما هو لوليه لا للصغير فيتبين أن حق القصاص مغاير للحكم بالجواز. كما أنه لو حلف الولي بعدم قتل هذا الرجل فان الحكم التكليفي بالجواز يتبدل إلی الحرمة مع أن الحكم الوضعي باق ولذا لا يعتبر متعدياً عليه لو قتله وان فعل حراما لمخالفته اليمين. كما انه لو حلف ان لا يأكل من حق المارة شيئاً فان جواز الاكل يرتفع بالنسبة اليه مع ان اكله لا يوجب الضمان.

المقدمة الثالثة في بيان العلاقة بين الاعتبار القانوني والاعتبار الادبي :

يمكن فرض ارتباط بين الاعتبار القانوني والاعتبار الادبي بأن يقال: إن كل اعتبار قانوني مسبوق باعتبار ادبي فمثلاً الحكم بالوجوب اعتبار قانوني ولكن معنی الوجوب في اللغة هو الثبوت فيمكن ان يكون في بادیء الأمر يطلق بنحو الاستعارة باعتبار تخيّل هذا الحكم أمراً ثابتاً في ذمة المكلف ويقصد به ترتب العقاب علی الترك ثم بالتطور والتكامل أصبح اعتبار الوجوب بنفسه اعتباراً متأصلاً فاصبح اعتباراً قانونياً كما يقال في الوضع التعييني من أن كثرة الاستعمال يوجب الوضع . فهنا أيضاً كثرة الاعتبار الادبي يوجب تبدل الاعتبار بمعنی ان الارادة الجدية توافق الارادة الاستعمالية بعد ما كان مخالفاً له .

وكذلك اللزوم فانه بمعنى مصاحبة الشيء للشيء من دون مفارقة او لمدة طويلة وفسره بعضهم باللصوق فلا يبعد أن يكون في الاصل تعبيرا أدبيا كانه اعتبر الحكم أمرا لاصقاً بالمكلف الى ان يأتي بالفعل في الخارج . وكذلك البعث والاغراء وكل ما يعبر به عن الوجوب .

ومن هنا يعلم انه لا وجه للاختلاف في حقيقة الوجوب وأنه هل هو البعث والاغراء او الزام المكلف بأمر او تعلق الارادة التشريعية بالفعل وغير ذلك، بل هو اعتبار قانوني متطور عن اعتبار اللزوم والثبوت والبعث بالعناية بقصد اشعار المكلف بترتب العقاب علی الترك.

وكذلك الحال في الحرمة فانها عبارة عن المحرومية الاعتبارية حيث عبّر بذلك بالعناية الادبية ابتداءا لاشعار المكلف بما يترتب علی الفعل من العقاب ثم أصبح اعتباراً قانونياً متأصلاً. وكذلك النجاسة التي هي نفس القذارة العرفية. والملكية ان كانت مأخوذة من الملك بمعنی السلطنة فانها تعتبر أيضاً سلطة بنحو العناية أولاً ثم تعتبر أمراً قانونياً. وكالميتة فانها في اللغة عبارة عن ما مات حتف أنفه ثم اطلقت على كل ما فقد شرطاً من شروط ذبحه بالعناية لايجاد النفرة والاشمئزاز من اكله ثم أصبحت اعتباراً قانونياً .

وكما تختلف الملل والحضارات في الاعتبارات الادبية ــ كما مر ــ كذلك يختلفون في الاعتبارات القانونية فيعبر كل منهم عن الوجوب والحرمة بتعبير وان كان الجوهر والمعنی متحداً ومنشأ ذلك هو ما ذكرنا انه تطور للاعتبار الادبي فكل من الاقوام والملل يعبّرون عن الحرمة مثلاً بنحو العناية بلفظ مّا حسب اختلاف الاذواق في اختيار الاستعارات ثم يصبح هذا الاعتبار الادبي اعتباراً قانونياً فيختلف التعبير عن الامر القانوني الواحد لهذا السبب.

المقدمة الرابعة في بيان الترابط بين الاعتبارات القانونية:

الاعتبارات القانونية مرتبطة بعضها ببعض والكلام انما هو في كيفية هذا الارتباط فان الترابط بين الموضوعات التكوينية والاحكام أمر وضعي اعتباري خاضع للجعل والاعتبار كالترابط بين دلوك الشمس ووجوب الصلاة ولذلك لا يری العقل ولا العرف مانعاً من اعتبار ضد هذا الحكم لنفس الموضوع . واما الترابط بين الاعتبارات القانونية بعضها مع بعض فليس علی هذا النحو.

وتفصيل ذلك أنّ الاعتبارات القانونية علی أربعة أقسام :

الأول : الاحكام الجزائية كوجوب الاعادة أو الحكم بالقتل والقصاص أو الحد أو التعزير أو بيان العقوبة الاخروية .

الثاني : الاحكام التكليفية من الوجوب والحرمة وغيرهما.

الثالث : الاحكام الوضعية كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة .

الرابع : العقود والايقاعات.

وكل مرتبة من المراتب المتأخرة في هذه الاقسام بمنزلة الموضوع للمرتبة المتقدمة فعقد البيع مثلاً موضوع للحكم بحصول الملكية وحصول الملكية موضوع للحكم بعدم جواز التصرف فيه الا باذنه وهو موضوع للحكم بالعقاب الاخروي أو الضمان . وهكذا غيره من العقود والايقاعات . وكذلك الاحكام الوضعية الاخرى فالنجاسة مثلاً موضوع للحكم بوجوب الاجتناب في الاكل والشرب والصلاة مثلاً وكذلك الاحكام التكليفية كوجوب الصلاة موضوع للحكم الجزائي وهكذا . والی هذا يرجع كلام الشيخ قدس سره في المكاسب من أن الاحكام التكليفية كالمقوم بالنسبة للاحكام الوضعية .

والذي يلاحظ في هذا المقام امران :

الأمر الأول : ان جعل كل مرتبة متأخرة من المراتب السابقة بدون المرتبة المتقدمة يعتبر عند العرف والعقلاء لغواً من دون العكس فلو فرضنا جعل حكم تكليفي شرعاً أو عرفاً من دون ترتب جزاء عليه كان لغواً إذ لا يترتب عليه الأثر المطلوب منه وهو الاندفاع نحو الفعل أو الترك. وكذلك لو فرضنا جعل حكم وضعي من دون ترتب حكم تكليفي عليه كان لغواً أيضاً كالحكم بنجاسة شيء وعدم وجوب الاجتناب عنه . وكذلك لو فرضنا جعل عقد أو ايقاع لا يترتب عليه اثر وضعي.

الأمر الثاني : ان هذا الترابط ليس بين كل حكم من المرتبة المتقدمة وآخر من المتأخرة بل المعتبر هو السنخية بين الحكمين فالذي يناسب الحكم بالنجاسة من الحكم التكليفي مثلاً هو الحكم بوجوب الاجتناب وكذا غيرها. والعرف يری بين جعل النجاسة والحكم بعدم وجوب الاجتناب تناقضاً كما يری بين جعل لفظ بعت لانشاء عقد البيع والحكم بعدم ترتب الملكية عليه تناقضاً وكما يری بين جعل الوجوب لشيء والحكم بعدم ترتب العقاب علی تركه تناقضاً .

والذي ينتج من هذين الأمرين الذين نلاحظهما في هذه الاعتبارات الاربعة هو ان الترابط بين هذه الاحكام ترابط ذاتي لا جعلي خاضع للاعتبار والا لم يكن وجه للّغوية في صورة الانفكاك وللتناقض في صورة عدم السنخية.

ومما ذكرنا يستفاد في المقام أربعة اُمور :

الأمر الأول : ان الاحكام الوضعية أمور تمهيدية لجعل الاحكام التكليفية فبدلاً من القول بوجوب الاجتناب عن الشيء في الاكل والشرب والصلاة وغيرها وبترتب احكام اخرى يجعل عنوان النجاسة رمزاً لوجوب الاجتناب ولغيره من الاحكام فيكفي لبيان ذلك جعل النجاسة لكل ما يراد جعل تلك الاحكام التكليفية له.

الأمر الثاني : أنّ المصلحة في جعل الحكم الوضعي تابعة لمصلحة متعلق الحكم التكليفي المترتب عليه فالمصلحة في جعل النجاسة هو المصلحة في الاجتناب خلافاً لما ذكره السيد الخوئي أيده الله من كون المصلحة في نفس الحكم الوضعي .

الأمر الثالث : ان ما ذكره الشيخ رحمه الله نقلاً عن المحققين من أن مرجع الحكم الوضعي الی الحكم التكليفي حق ولكن لا يترتب عليه كون جعل الحكم الوضعي تابعاً لجعله وغير مستقل بل المراد ان الحكم التكليفي مضمون الحكم الوضعي بنحو الاندماج والاستبطان.

الأمر الرابع : ان التضاد بين الاحكام الوضعية انما هو من جهة التضاد بين الاحكام التكليفية المترتبة عليها من حيث المبدأ والمنتهی أي من حيث المصلحة ومن حيث قيادة المكلف إلی الفعل أو الترك .

المقدمة الخامسة في بيان كيفية استبطان الاحكام الوضعية للاحكام التكليفية وفي بيان تنوع الاحكام الوضعية واختلافها بحسب الحضارات:

ولابد من ذكر مقدمة وهي:

أنّ الوضع عبارة عن ارتباط بين اللفظ والمعنی ينشأ من تداعي المعاني وله اسباب منها الاقتران في الحسّ، فاذا اقترن بالحسّ لفظ ومعنىً مكرراً نشأت منه ملازمة يعبّر عنها بتداعي المعاني، والارتباط الذي يحصل بين اللفظ والمعنى من هذه الجهة يسمى بالوضع التعيّني، فاذا اطلق لفظ اسد واريد تطبيقه على الرجل الشجاع فلابد من ان يكون بعناية ثم اذا كرّر ذلك الى ان يصير وجه الشبه مغفولاً عنه بحيث لا يلاحظ في تطبيق لفظ الاسد علی الرجل الشجاع شباهته بالاسد في الشجاعة، وبعبارة أوفق بمسلكنا: يتكرر إعطاء حدّ شيء لشيء آخر الی حدّ يغفل عن كونه حدّاً للشيء الأول، فيكون انطباق الاسد علی الرجل الشجاع بنحو الحقيقة. وهذا هو الوضع التعيّني.

وقد يستعمل اللفظ الموضوع لمعنىً في شيء آخر أو يطلق ويطبّق في النفس علی شيء آخر (بناءاً علی مسلكنا) بلحاظ الاحكام المترتبة علی المعنی الحقيقي ثم يكرر هذا الاطلاق بهذا اللحاظ حتی يكون ذات المشبه به مغفولاً عنه ويكون الملحوظ نفس الاحكام وينشأ من ذلك وجود معنیً اعتباري وماهية اعتبارية هو كل ما له هذه الاحكام.

فمثلاً يطلق لفظ الميتة حقيقة في كل عرف علی ما مات حتف انفه ثم يطلق علی ما فقد شرطاً من شرائط الذبح في ذلك العرف بلحاظ ترتب احكامه عليه ويتكرر بحيث يغفل عن ذات الميتة حين الاستعمال والتطبيق بل تكون الميتة عبارة عن ماهية اعتبارية تترتب عليها هذه الاحكام. وكذلك النجاسة والملكية والزوجية .

ومن هنا تنشأ الماهيات الاعتبارية باسرها وهي علی قسمين فمنها ما يحمل علی افرادها بنحو هو هو ومنها ما يحمل عليها بنحو ذوهو . فالاول كالدينار والصلاة فانهما أيضاً من الماهيات الاعتبارية وان اشتبه الامر علی بعض الاعلام ولذلك تعجبوا من كلام الشهيد رحمه الله حيث عبّر عن الصلاة والصوم بالماهيّات الجعليّة وذلك لان الصلاة في اللغة عبارة عن الانعطاف والخضوع وحيث إنّ الافعال الخاصة المختلفة حسب اختلاف المذاهب يعتبر انعطافا وخضوعاً لله تعالى فيطلق لفظ الصلاة على هذه الافعال بهذا اللحاظ مكررا الی أن تتحقق الماهية الاعتبارية .

وكذلك الدينار فانه موضوع في الأصل اي في أوائل التمدن البشري للنقد الذهبي بلحاظ أمرين: التوسيط في المبادلات ومقياس القيم في الاموال. ثم لمّا كان النقد الورقي الحديث عند الدول حائزاً علی الاعتبارين اطلق علی بعضها الدينار بهذا الاعتبار وكرر حتی غفل عن ذات الدينار السابق بل كان الدينار كل ما يترتب عليه هذان الاثران وهذا معنىً اعتباري حصل من هذا الاستعمال المتكرر.

وهذا القسم من الماهيات الاعتبارية تحمل علی افرادها بنحو هو هو فتقول هذا دينار وهذه صلاة والثاني كالنجاسة والملكية ولا يقال لموردها هذا نجاسة وملكية بل نجس ومملوك ونحو ذلك.

فتبين مما ذكرنا أولاً كيفية تحقق الماهيات الاعتبارية وكيفية استبطان الاحكام الوضعية للاحكام التكليفية إذ علم أنّ وجود الماهيات الاعتبارية الوضعية ليس إلاّ بلحاظ الاحكام التي تترتب عليها.

ثم ان هذه الماهيات كما توجد بلحاظ هذه الاحكام تتلوّن بها أيضاً فيحدث من ذلك اختلاف في نوعية هذه الماهيات بحسب اختلاف الاحكام المترتبة عليها في الحضارات البشرية فتری الزوجية مثلاً نوعاً من الاسترقاق في بعض الحضارات السابقة ونوعاً من المشاركة في الحياة بضميمة الاستمتاع الجنسي في التمدن الحديث ونوعاً من قيمومية الرجال علی النساء في التمدن الاسلامي (الرجال قوامون على النساء) أو عكس ذلك في بعض الحضارات السابقة كما ينقل في التاريخ. وترى الاجارة تمليكاً للمنفعة في القوانين القديمة والقانون الاسلامي ومن قبيل تمليك العين من جهة خاصة في القانون الحديث.

الى هنا انتهينا من المقدمات الخمس.

ويقع الكلام حينئذ في حقيقة الاحكام الوضعية وكيفية جعلها. وقد نقلنا سابقاً عبارة الشيخ قدس سره نقلاً عن المحققين من أنّ الاحكام الوضعية مرجعها إلی الاحكام التكليفية. وقال الشيخ: ان الاحكام الوضعية أمور اعتبارية منتزعة من الاحكام التكليفية.

وقال المحقق الخراساني قدس سره: (إنّ ما عدّ من الوضع علی انحاء منها ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعاً أصلاً لا استقلالاً ولا تبعاً وان كان مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك، ومنها ما لا يكاد يتطرق اليه الجعل التشريعي الا تبعاً للتكليف، ومنها ما يمكن فيه الجعل استقلالاً بانشائه وتبعاً للتكليف بكونه منشأً لانتزاعه وان كان الصحيح انتزاعه من انشائه وجعله وكون التكليف من آثاره واحكامه). ثم مثّل للاول بالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه. وللثاني بالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعه وقاطعه. وللثالث بالحجية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية إلی غير ذلك .[30]

وبملاحظة كلامه رحمه الله تنقسم الاحكام الوضعية الى ثلاثة أقسام ونحن نرتبها بوضع آخر يناسب أبحاثنا:

القسم الاول ما يكون من قبيل الزوجية والملكية ونحوهما وهذا ما ورد في عبارة المحقق الخراساني قسما ثالثا.

القسم الثاني ما يكون من قبيل السببية والشرطية والمانعية والرافعية للتكليف.

القسم الثالث ما يكون من قبيل الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية للمكلف به.

أما في القسم الأول فنلاحظ كلام الشيخ رحمه الله والقدماء (بناءاً علی نقله) من أن الاحكام الوضعية منتزعة من الاحكام التكليفية. وقد اعترض عليه المحققون تبعا للمحقق الخراساني قدس سره. وحاصل اعتراضاتهم عليه يرجع إلی أربعة وجوه:

الوجه الأول: ان الاحكام الوضعية موضوعات للاحكام التكليفية فكيف تكون منتزعة منها ومتأخرة عنها؟!

الوجه الثاني: ان الاُمور الانتزاعية تابعة في وجودها ومرتبة وجودها لمناشئ انتزاعها مع أن الاحكام الوضعية نسبتها الى الاحكام التكليفية المترتبة عليها بحسب المورد عموم وخصوص من وجه فان الزوجية بالنسبة الی جواز الوطء قد يتخالفان في الصدق فانه يجوز بالملك و التحليل وقد لا تحل الوطء مع بقاء الزوجية لظهار وشبهه. وكذلك الملكية فقد تكون ولا تحل التصرف فيه لحجر مثلا وقد تجوز التصرف في غير الملك كحق المارة. وقد يحل أكل النجس للاضطرار مثلاً إلی غير ذلك من موارد عدم التصادق ويلاحظ ايضا أنّ الضمان يتحقق في إتلاف غير البالغ تحقيقاً مع أنّ الحكم التكليفي المترتب عليه تقديري متوقف علی البلوغ. فكيف يمكن أن ينتزع الحكم الوضعي من أمر لا يلازمه؟!

مضافاً إلی ما ذكره المحقق النائيني قدس سره علی ما في تقريرات العلامة الكاظمي أن الوضعيات اُمور عقلائية لا تختص بدين وملة والاحكام التكليفية أمور مخترعة شرعية فكيف ينشأ منها تلك الاحكام العقلائية ؟!

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن الملكية والزوجية ونظايرهما تحققها بيد العاقد ولا يعتبر في تحققها اكثر من الانشاء ولو كانت منتزعة عن الاحكام المترتبة لما كاد يصح اعتبارها الا بملاحظتها وللزم ان لا يقع ما قصد ويقع ما لم يقصد لأن المتعاقدين لا يلاحظان الاحكام المترتبة بل قد لا يعلمانه وانما ينشئان نفس هذه الموضوعات.

الوجه الرابع : ما يمكن أن يقال بناءاً علی هذه النظرية من أن الاحكام الوضعية إذا كانت مشتملة علی الاحكام التكليفية ومنتزعة عنها فجعلها مغن عن جعل الاحكام التكليفية فيكون لغواً .

ومما ذكرنا من المقدمات يتبين الجواب عن هذه الوجوه الاربعة . أما الأول فلان المدعی ليس كون الاحكام الوضعية بحسب وجودها الخارجي أي كل فرد من افرادها منتزعة من الحكم التكليفي المترتب عليها اذ لا شك في كونها موضوعات للتكاليف في مثل قوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم: (الناس مسلطون علی اموالهم) أو (لا يجوز التصرف في مال الغير) مثلاً فان المال هو المملوك لغة وان اختلف المال والملك اصطلاحاً فالملكية مفروضة قبل انشاء الحكم وانما الكلام في تحقق الاحكام الوضعية في مرحلة تطور الفكر البشري وتكوّن الحضارات في المجتمعات البشرية والصحيح هو ما ذكرناه وقد بيّنّا في ما سبق أن الاحكام الوضعية موضوعات تمهيدية للاحكام التكليفية لتسهيل البيان من جهة قانون اختيار الاسهل.

وأما الثاني فلأن كون الاُمور الانتزاعية تابعة في الوجود لمناشئ انتزاعها بل في مرتبة وجودها أيضاً مختص بالاُمور التكوينية ولا يجوز قياس الاُمور الاعتبارية عليها . مع أن الامر هناك أيضاً مورد للاشكال فقد ذكر في الفلسفة أن شيئية الشيء بصورته لا بمادته فالجنس وان كان مقوماً للشيء إلا أنه مقوم بوجوده الابهامي فمثلاً الجسم والنامي جنسان بعيدان للانسان الا ان تقومه ليس بمرتبة خاصة منهما بل بوجودهما الابهامي فهو في هذا العالم متقوم بالجسم المادي والنمو المادي وهو في عالم آخر متقوم بالجسم المثالي والنمو المعنوي.

وهذا الكلام وان لم يكن تحقيقاً علمياً بنظرنا الا انه شاهد علی عدم صحة ما ذكر حتی في الاُمور التكوينية فيمكن في المقام ان يكون منشأ الحكم الوضعي الاحكام التكليفية المترتبة عليها بوجودها الابهامي والمراد ليس الا ان الحكم الوضعي في مرحلة تطور جعل القوانين والنظم العرفية ناشئ من الاحكام التكليفية المترتبة علی متعلق الوضع مستبطنا لها بالنحو الذي ذكرناه فهو وجود اجمالي للاحكام التكليفية المندمجة فيه ومن هنا يعلم ان الانتزاع هنا ليس بالمعنى المعروف في الفلسفة بل المراد كون الاحكام الوضعية مستبطنة للأحكام التكليفية ومشتملة عليها بنحو الاندماج.

وأما ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أن الاحكام التكليفية مأخوذة من الشارع وليس للعرف احكام تكليفية فهو عجيب جداً لا ينبغي أن يصدر من مثله بل ممن هو دونه.

ومن هنا يعلم وجه الجواب عن الاخيرين فان المتعاقدين يعتبران مشرّعين في جعل الاحكام الوضعية التي هي اجمال عن الاحكام التكليفية لا بوجودها التفصيلي بل بوجودها الابهامي وليس المراد من الانتزاع الا هذا فلا يتوقف تحقق الملكية علی لحاظ الاحكام بتفاصيلها كما ان ما وقع هو الذي يقصد. والحكم الوضعي المجعول الذي هو وجود اجمالي للاحكام التكليفية المندمجة فيها لا يغني عن وضع تفاصيلها.

فتحصل من مجموع ما ذكرنا أن الاحكام الوضعية قد تلاحظ بحسب وجودها الخارجي أي وجود كل فرد منها خارجاً فلا اشكال في أنها موضوعات للاحكام التكليفية فيصح القول بهذا اللحاظ انها مسبوقة بالوجود في الخارج وقد تلاحظ بحسب تكونها في نظام جعل القوانين البشرية وتطورها فلا ريب في أنها متأخرة عن الاحكام التكليفية وعلی كل تقدير فان وجودها الخارجي مسبوقاً أو ملحوقاً ليس الا وجوداً اجمالياً للاحكام التكليفية ووسيطاً تسهيلياً لبيانها ومستبطناً لها بنحو الاندماج.

وبهذا يمكن الاصلاح بين الفريقين فيقال بأن من قال بانتزاعية الاحكام الوضعية لا يقصد بها الانتزاع الفلسفي بل انما يلاحظ تكوّن هذه الظاهرة في المجتمع البشري فيراها متأخرة عن الاحكام التكليفية، أو يلاحظ أن الاحكام التكليفية أوعية لملاكات الاحكام الوضعية لما ذكرناه في المقدمات من أن الملاك والمصلحة ليس في جعل الوضعيات بأنفسها بل في متعلقات الاحكام التكليفية المندمجة فيها، أو يلاحظ لغوية جعل الاحكام الوضعية من دون التكاليف المترتبة عليها، أو يلاحظ حصول التناقض فيها إذا تبدل احكامها التكليفية الی نقائضها. ومن قال باستقلالها في الجعل لاحظ وجودها الخارجي الذي ينشئها الجاعل أو المتعاقدان فرآها موضوعات للاحكام التكليفية وسابقة عليها في الحمل علی الاعيان الخارجية فتقول : هذا نجس والنجس يجب اجتنابه مثلاً.

فان امكن هذا الاصلاح والا فنحن نأخذ من كل من الفريقين ما هو المناسب للمقدمات السابقة فنقول : بانها مستقلة في الجعل ولكنها وجود اجمالي للتكاليف ومتأخرة عنها في التكون بين المجتمعات والنظم.

واما القسم الثاني وهو مثل السببية والشرطية والمانعية للتكليف فالاقوال فيها ــ على ما يقال ــ ثلاثة : القول بعدم جعلها اصلاً استقلالاً ولا تبعاً بل هي اُمور تكوينية، والقول بجعلها تبعاً، والقول بجعلها استقلالاً.

ولابد قبل بيان ما هو الصحيح من ذكر مقدمة وهي:

ان هذه الاُمور من مصطلحات الفلسفة والكلام وليس لها في لسان الشارع عين ولا أثر وانما الذي أتی بها في الشرعيات هو أن أول من تصدی لتنقيح أصول الفقه والتأليف فيه هم المتكلمون من أمثال يونس بن عبدالرحمن وابن أبي عمير وفضل بن شاذان والنوبختيون فقد كتب كل منهم رأيه في بعض المسائل الاصولية ولما وصل الدور الی الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيد المرتضى قدس الله أسرارهم ألّفوا كتباً في الاُصول وهم متضلعون في الكلام ونشأ من ذلك اختلاط المصطلحات حتی إنّ السيد المرتضى هو بنفسه يشكو في أول كتابه طريقة التأليف في الاُصول وان بعض الناس يكثرون من ذكر المسائل الكلامية فيه.

والحاصل أن هذا كان سبباً في استعارة المؤلفين بعض المصطلحات الفلسفية في تفهيم مقاصدهم وبعد تطور الاصول اصبحت هذه الالفاظ المستعارة المستعملة في غير معانيها الاصلية أو بالاصح التي تطبق علی غير افرادها الحقيقية اصبحت في انظار المؤلفين معبرة عن نفس المفاهيم الفلسفية فتبعتها احكامها هناك ونشأ منه هذا الخلاف والاّ فعنوان (السبب) الذي يطلق في الاُصول والفقه ليس المراد به الا موضوعات الاحكام كالزوال بالنسبة الی وجوب الصلاة. وعنوان (الشرط) و(المانع) ليسا الاما تقيّد به التكليف او المكلف به في لسان الشارع وجوداً وعدماً. وليس شيء منها من اجزاء العلة التي هي المعنی الاصطلاحي لهذه الالفاظ وهي أمور تكوينية.

ومن هنا اختلفوا في ما هو المراد بهذه العناوين في الاُصول على ثلاثة آراء:

الاول: أن المراد بها نفس معانيها الاصلية في اصطلاح الفلسفة أي اجزاء العلة التكوينية.

الثاني: أن المراد بها نفس معنی الموضوعية والتقييد وجودا وعدما والاستعمال اما بالعناية والمجاز والاعتبار الادبي وإما أنها أصبحت اسماء لها بالوضع التعيّني.

الثالث: أنها مفاهيم اعتبارية قانونية متأصلة مستقلة في الجعل نشأت من الاعتبار الادبي نظير ما بينا سابقاً في كيفية تكون المفاهيم الاعتبارية فيصح أن يقال جعلت الدلوك سببا لوجوب الصلاة.

والمنسوب الی المحقق الخراساني هو الأول واعترض عليه من تأخر عنه وذهبوا الی القول الثاني بفرعيه وذهب بعض الاعاظم الی الاخير ونسبه في حقائق الاصول الی المشهور.

وبالامكان ان نصلح بين الفريقين الاولين فنقول: ان عبارة المحقق الخراساني تختلف في أول البحث عنها في آخره فهو وان عبرّ عنها بالاُمور التكوينية التي لا تقبل الجعل الا انه بعد الاستدراك بقوله: (نعم لا بأس باتصافه بها عناية وإطلاق السبب عليه مجازا) سلّم كونها مستعملة في هذه الموارد بالعناية والمجاز. وهو لا يقصد بكونها اموراً تكوينية انها اسباب تكوينية للحكم الانشائي بل الذي يظهر من كلامه ان مراده كون الملاك والمصلحة سببا تكوينيا للحكم الاقتضائي.

وبهذا يقع الصلح بين الفريقين فان مورد كلام من قال بانها اسماء للموضوعية والتقييد أو يطلق عليها بالعناية والمجاز هو الحكم الانشائي وهو أيضاً يسلّم ذلك ومورد كلامه من كونها اموراً تكوينية هي التي بين الملاكات والاحكام الاقتضائية .

ولكن الصلح بينهما وبين القول الاخير غير ممكن. وهو في نفسه غير صحيح فان هذه الالفاظ لم تذكر في القانون الاسلامي حتی يبحث عن كونها قد استقلت في المفهومية واصبحت مفهوماً اعتبارياً متأصلاً بل المجعول ليس الانفس الاحكام . ولو فرضنا ان جملة كهذه وردت من الشرع: (جعلت الدلوك سبباً لوجوب الصلاة) فان المفهوم القانوني المجعول إمّا ان يكون السببية وإمّا ان يكون الوجوب وجعل كليهما معاً لغو فلابد من ان يكون ذكر أحدهما من باب الاستعارة والمجاز ولا ريب ان القول بان السببية هو المستعار دون الوجوب هو المناسب للمقام .

ثم ان ما ذكره المحقق الخراساني في نفسه أيضاً غير صحيح فإن الملاكات ليست أموراً تكوينية أيضاً بل هي المصالح والمفاسد التي هي أيضاً من سنخ الامور الاعتبارية.

فالمتحصل ان الموجود بالوجود الانشائي الجعلي حقيقة هو التكاليف مترتّبة علی موضوعاتها متقيدة بقيودها الوجودية والعدمية واما نفس التقيد والموضوعية المعبر عنها ــ بالعناية ـــ بالسبب والشرط والمانع فهي موجودة بالعرض لا بالتبع بمعنی أنّ إسناد الوجود اليها مجازي بملاحظة وجود نفس التكاليف المتقيّدة بها.

ثم انه قد يلاحظ في ألسنة الروايات التعبير بالمطهّر والمنجّس الظاهر في التأثير والسببية التكوينية. ولكن الوجه في ذلك هو ان الطهارة والنجاسة الجعليتين حملتا علی القذارة والنظافة العرفيتين فعبّر عنهما بنفس التعبير الذي يعبر عنهما والعرف يعبر عن سراية القذارة والنظافة بالتأثير.

وأما القسم الثالث اي ما هو من قبيل الجزئية والشرطية والمانعية فتحقيق القول فيه أنّ الاجزاء والشرائط والموانع علی قسمين :

القسم الأول: ما يكون تأثيره في تحقق المركب دائمي وغير مختص بحال دون حال.

القسم الثاني: ما يكون تاثيره فيه مختصاً بحال دون حال.

اما القسم الاول فجعلها لا يكون إلا بالامر بنفس المركب وبعد تعلقه به يكتسب المركب من الامر وحدة اعتبارية بين اجزائها ويكتسب الامر من تعلقه بالمركب كثرة اعتبارية يعبّر عنها بالانحلال، وبعد تعلق الامر الضمني الانحلالي بكل جزء أوشرط تنتزع الجزئية والشرطية منه. فالجزئية والشرطية والمانعية امور انتزاعية والامور الانتزاعية وجودها وجود بالعرض أي بالمجاز وذلك لان وجودها ليس الا وجود منشأ انتزاعها فوجود الامر الانتزاعي ووجود منشأه واحد حقيقةً وليس وجودها بالتبع فان الوجود التبعي انما يصدق في مثل وجوب المقدمة بوجوب ذيها والوجود هناك متعدد الا انه يوجد بتبع وجود آخر.

وهذا الذي ذكرناه من كون الجزئية والشرطية منتزعين من الامر الضمني المتعلق بالجزء أو الشرط لا يختلف الحال فيه بين الاُمور التكوينية والامور الاعتبارية فالانسان مثلاً تتحقق اجزاؤه تكويناً وتتحقق الجزئية بالانتزاع. والاُمور الاعتبارية وان لم تكن خاضعة للقوانين التكوينية مطلقاً الاّ أن بعض القوانين مشترك بينهما. والسرّ في ذلك أنّ الامور الاعتبارية أيضاً من شؤون التكوين فالفرق بينهما انما هو في أصل التحقق فالامر التكويني متحقق واقعاً من دون الحاجة في تحققه الی اعتبار معتبر بخلاف الامور الاعتبارية ولكن بعد تحققه وتحقق أجزائه خارجاً بالاعتبار تتحقق الامور الانتزاعية بتحقق الاجزاء تكويناً كعدد الاجزاء مثلاً فاذا تعلق الامر بمركب ذي عشرة اجزاء فانتزاع العدد الخاص امر تكويني خاضع لقوانين التكوين وكذلك انتزاع عنوان الجزئية.

وأما القسم الثاني فجعلها يتوقف علی متمم الجعل كما ذكرناه مفصلاً في شرح قاعدة (لا تنقض سنة فريضة). وبيان ذلك اجمالاً: ان الأمر يتعلق أولاً بالاجزاء والشروط من القسم الاول وهي المعبّر عنها بالاركان وهذا الامر مطلق لا يختص بحال. ثم يتعلق أمر آخر بالاجزاء والشروط من القسم الثاني مقيداً باتيان القسم الأول مع الالتفات الی هذه الاجزاء والشرائط أو غير الالتفات من القيود كعدم الاضطرار مثلاً. والی هنا لا تتحقق الجزئية والشرطية وانما يكون واجباً في واجب ثم يرتّب الحكم الجزائي كوجوب الاعادة والقضاء أو العقوبة الخاصة الدنيوية أو الاخروية علی ترك المجموع من القسمين الاول مطلقاً والثاني في الصورة المقيدة به وهذا الترك يتحقق بترك كل منها فيتحقق الارتباط في هذه المرتبة وتنتزع الجزئية والشرطية. وفي هذه المرتبة يمكن تقييد الجزء أو الشرط بالعلم إذ لا يمكن ذلك في الأمر الثاني الذي هو متمم الجعل لعدم امكان أخذ العلم بالحكم في موضوعه.

فتحصل ان الجزئية والشرطية والمانعية امور انتزاعية يختلف منشأ انتزاعها باختلاف القسمين.

وبالمناسبة لا بد من التنبيه علی أمور:

الأمر الأول: ذكر بعض الاعاظم أنّ جعل الجزئية والشرطية والمانعية بالاستقلال أمر ممكن فيصح ان يقول الشارع جعلت هذا جزءاً مثلاً واستشهد لذلك بمثل (لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه) و (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) ونظائرهما. وذكر أنّ الالتزام باختلاف المأمور به إذا جعل شيء آخر جزءاً له يستلزم أمرين لا يمكن الالتزام بهما، الاول : عدم وجوب الاطاعة حينئذ علی العبد بدعوی عدم امكان جعل الشيء جزءاً . الثاني كون هذه الاوامر ناسخة للاوامر المتعلقة بالاجزاء السابقة.

ونقول: لا اشكال في امكان التلفظ بمثل هذه الجملة جعلت هذا جزءاً ولا اشكال في وجوب اطاعة العبد. وانما الكلام في أن هذا التعبير هل هو اعتبار أدبي أو اعتبار قانوني وقد مرّ بيان الفرق بينهما؟

الشواهد تدل علی انه اعتبار أدبي وان الامر الواقعي غير ما هو ظاهر هذه العبارة وانه في الواقع قد رفع اليد عن المركب السابق وأمر بمركب آخر قوامه تلك الاجزاء منضمة الی هذا الجزء وذلك لعدم تعقل بقاء المركب الاول الذي لا يدخل هذا الجزء في قوامه بعد جعل هذا جزءاً وقد عرفت عدم الفرق في هذا القانون بين الامور الاعتبارية والاُمور التكوينية فكما يختلف المركب التكويني باختلاف جزء منه كذلك المركب الاعتباري واما صحة هذا التعبير فانما هو لاعتبار أدبي ولا كلام لنا فيه.

وبهذا البيان ظهر الجواب عن الاشكال الاول وأن وجوب الاطاعة انما هو للعلم بتبدل المركب الواجب اتيانه.

واما الاشكال الثاني فيدفعه وجهان:

الوجه الاول: ان ما استشهد به انما هو من القسم الثاني من الاجزاء والشرائط التي قد عرفت ان جعلها انما هو بمتمم الجعل فلا يكون ناسخاً مضافاً الی ان متمم الجعل لا يكون الا في السنة وهي ما سنّه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والجعل الاول فريضة من الله تعالی ولا يمكن ان ينسخ الرسول ما فرضه الله.

الوجه الثاني: ان النسخ تعبير أدبي عن انتهاء امد الحكم. وصحة التعبير تابع لنظر العرف. والعرف لا يستحسن  القول بالنسخ في مثل المقام نظراً إلی وحدة الحكم والمتعلق بنظر العرف.

الأمر الثاني : أنّه ان قلنا في الصلاة ونظائرها من الماهيات المجعولة الاعتبارية أنّها مأخوذة في الأمر بنحو المرآتية والمعرفية لمصاديقها فالأمر فيها واضح إذ الامر لم يتعلق حقيقة إلا بالمرئي والمعرّف وهو ذو أجزاء فان كان الجزء من القسم الاول فالجزئية فيه منتزعة من الامر بالمجموع وان كان من القسم الثاني فالجزئية فيه منتزعة من متمم الجعل بالنحو المذكور.

وان قلنا بأنّها بنفسها مأخوذة في الأمر وأنّ المصاديق محققة لتلك الماهية الاعتبارية فلا يكون المأمور به ذو اجزاء ويتوقف انطباقها علی الخارج علی متمم الجعل التطبيقي لان اعتبار الماهيات الاعتبارية يحتاج إلی مرحلة من التطور ثم بعد تكونها يحتاج في انطباقها الی متمم الجعل فمثلا اعتبار الدينار يتحقق بالتطور في الاعتبار الادبي كما مر ولكن انطباقه علی النقد الخارجي يتوقف علی جعل آخر من قبل من بيده الاعتبار. وحينئذ لا تجري البراءة عند الشك إذ يكون من قبيل الشك في المحصِّل. ولكن الظاهر هو الاول كما اثبتناه بالشواهد في بحث الصحيح والاعم.

الامر الثالث: ان الطهارة والنجاسة امران تشريعيان لا تكوينيان كما قال الشيخ قدس سره لوضوح انهما لو كانتا تكوينيتين لكانتا في جميع الشرايع بنحو واحد من حيث أصل النجاسة والطهارة وسراية النجاسة ومطهرية المطهرات وكيفية التطهير وعاصمية الماء الی غير ذلك ولم يمكن النسخ في احكامهما اذ النسخ لا يتعلق بالامور التكوينية. فالحق انهما امران اعتباريان خاضعان للجعل القانوني. وقد ذكرنا فيما سبق كيفية جعل الماهيات الاعتبارية وتطورها من الاعتبارات الادبية. ففي ما نحن فيه مثلاً تستعمل القذارة والنجاسة فيما تترتب عليه أحكام القذارة العرفية بالعناية والاعتبار الادبي ثم بالتكرر وكثرة الاستعمال تتكون ماهية اعتبارية قانونية باسم القذارة والنجاسة.

واما الطهارة الظاهرية فهي عندنا اعتبار أدبي بل ليس لنا حكم ظاهري اصلاً ففي موارد توهم الطهارة الظاهرية بنحو الجعل القانوني نلتزم بأنه حكم تنزيلي واعتبار أدبي والمراد تنزيل ما ليس طاهراً بمنزلة الطاهر بملاحظة ترتب احكامه وهذا اعتبار ادبي كما لا يخفى.

فالمتحصل من مجموع ما ذكرنا ان ما عدّه القوم من الاحكام الوضعية علی اقسام:

القسم الأول : ما له اعتبار قانوني متأصل كالزوجية والملكية وان كان منتزعاً من الاحكام التكليفية وهذا الانتزاع لا ينافي الاستقلال في الجعل والموضوعية للحكم التكليفي بل ذكرنا انها موضوعات تمهيدية للاحكام التكليفية وذلك لان المراد بالانتزاع هو استبطانها للاحكام التكليفية واندماجها فيها بلا فرق في ذلك بين الشريعة الاسلامية وساير الشرايع إذ ليس الكلام هنا حول اسباب تحقق الاحكام الوضعية وانما الكلام في مفرداتها القانونية وهذا القسم هو الذي يعتبر عندنا من الاحكام الوضعية.

القسم الثاني : ما له اعتبار ادبي محض كاطلاق السببية والشرطية علی موضوعات الأحكام سواء كانت تكليفية أم وضعية فان اطلاق هذه الالفاظ ليس لاعتبار قانوني بل بلحاظ مشابهتها للاسباب والشرائط التكوينية فلا يصح اعتبارها من الحكم الوضعي ومن هذا القسم الحلية الظاهرية والاباحة التي اعتبرت من الأحكام التكليفية فهما عندنا من الاعتبارات الأدبية.

ومن هذا القسم أيضاً الجزئية التي تنتزع بعد وجوب الجزء بمتمم الجعل من مرتبة الحكم الجزائي إذ ليس هذا جزءاً من المأمور به حقيقة وانما يطلق عليه الجزء بملاحظة ترتب الحكم الجزائي علی الاخلال به كترتبه علی الاخلال بالجزء الحقيقي.

القسم الثالث ما ينتزع من الأمر الاعتباري بما أنه أمر تكويني كالجزئية والشرطية التي تنتزع من المأمور به بالأمر الوحداني فقد ذكرنا أن الوجوب مثلاً إذا تعلق بالصلاة التي هي ذات اجزاء فالوجوب أمر اعتباري والاجزاء وإن كانت اجزاءا لأمر اعتباري إلا ان اعتباريته لا تنافي كونه أمرا تكوينيا فالجزئية وعددها من الامور التكوينية التي لا تخضع للجعل والاعتبار بنفسها وانما الجعل والاعتبار لمنشأ انتزاعها وقد عرفت ان الاُمور الانتزاعية وجودها ليس الا وجود مناشئ انتزاعها.

انما الكلام في أن الاُصول العملية والاستصحاب خصوصاً تجري في أيّ قسم من هذه الأقسام وفي أي منها لا تجري ؟

أما القسم الأول فلا اشكال في جريان الاستصحاب فيها باعتبار كونها موضوعات للاحكام التكليفية .

وأما القسم الثاني فليس اعتبارها الا طريقة أدبية للتفهيم فلا تكون من الاُمور الواقعية ولا تقع مجرى للاستصحاب قطعاً .

وأما القسم الثالث فهي أيضاً ليست من الاُمور القانونية ولا من شؤونها بل هي منتزعة من الاُمور الاعتبارية بما أنها أمر تكويني فلا تكون مجرى للاستصحاب بل ولا البراءة . فما ذكره المحقق الخراساني في مبحث الشك في الأقل والأكثر من عدم جريان البراءة بالنسبة الی الامر الضمني الا أن الجزئية ترتفع بحديث الرفع غير صحيح .

وأما الاحكام التكليفية فالاستصحاب جار فيها كما مر إلا انه ليس في الحكم المتعلق بالفعل الخارجي بل المتعلق بالذمة فاستصحاب وجوب الجلوس إلی ما بعد الزوال ليس المراد به الوجوب المتعلق بالجلوس الخارجي إذ هو مسقط للوجوب واسناد الحكم اليه من قبيل المجاز في الاسناد بل متعلق الحكم حقيقة هو ذمة المكلف .

 

 

[1] فرائد الاصول ج2 ص541

[2] كفاية الاصول ص384

[3] اقول ومن هذا الباب ما ورد في نهج البلاغة (وَ قِيلَ لَهُ بِأَيِّ شَيْ‏ءٍ غَلَبْتَ الْأَقْرَانَ؟ فَقَالَ عليه السلام: مَا لَقِيتُ رَجُلًا إِلَّا أَعَانَنِي عَلَى نَفْسِه قال الرضي: يومئ بذلك إلى تمكّن هيبته في القلوب)

[4] كفاية الاصول ص387

[5] المصدر ص 389

[6]  سيأتي ان شاء الله تفصيل الفرق بين سيرة المتشرعة وبناء العقلاء في مبحث اصالة الصحة

[7] مصباح الاصول ص233

[8] الوسائل باب1 من نواقض الوضوء ح1

[9] الوسائل باب 41 من النجاسات ح1 انظر الى التعليقة

[10] الوسائل باب 42 من ابواب النجاسات ح5

[11]  صدرها في الوسائل باب 11 من الخلل في الصلاة ح3 وذيلها في باب 10 ح3

[12] معاني الاخبار ص2

[13] لعل المراد ما رواه في الكافي ج3 ص350 وهو كما يلي:

محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أحدهما عليهما السلام قال: قلت له: رجل لا يدري واحدة صلى أم ثنتين؟ قال: يعيد، قال: قلت له: رجل لم يدر أثنتين صلى أم ثلاثا؟ فقال: إن دخله الشك بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ثم صلى الاخرى ولا شيء عليه ويسلم. قلت: فإنه لم يدر في ثنتين هو أم في أربع؟ قال: يسلم ويقوم فيصلي ركعتين ثم يسلم ولا شيء عليه.

[14] الكافي ج4 ص83

[15] الوسائل باب 8 من ابواب الخلل في الصلاة

[16] الوسائل باب 1 من ابواب نواقض الوضوء ح6

[17] الوسائل باب 3 من ابواب احكام شهر رمضان ح13

[18] الوسائل باب 3 من ابواب احكام شهر رمضان ح2 و11 و16

 

[19] الوسائل باب 74 من ابواب النجاسات ح1

[20] نفس الباب ح2

[21] ذيل الحديث السابق

[22] لعل المراد ح8 من الباب 44 من كتاب الوصايا وح5 من الباب2 من كتاب الحجر في الوسائل

[23] الوسائل باب 37 من ابواب النجاسات ح4 راجع باب 53 ح1 فالسند مذكور هناك

[24] التهذيب ج1 ص285 ح832

[25] التهذيب ج1 ص242 ح699 / الاستبصار ج1 ص39 ح104

[26] أقول : ومضافاً الى ان صاحب الوسائل ينقل سائر قطع الحديث عن التهذيب أيضاً بدون هذا الاسم.

[27] الوسائل باب1 من ابواب الماء المطلق ح5

[28] الوسائل باب 4 من ابواب ما يكتسب به ح1

[29] الفرقان: 48

[30] كفاية الاصول ص400