[H

مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

المدخل وتقسيم ابحاث الاصول

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

 

لقد جرت سنة العلماء والباحثين في الاصول على ذكر بعض مقدمات تمهيدية لتحضير ذهنية الطالب لاستقبال المباحث المعقدة الاصولية. 

وهي عبارة عن تعريف العلم وتعيين موضوعه وغايته ويبحثون بالمناسبة عن موضوع كل علم وما الى ذلك من المطالب الممهدة لخوض المبحث الاساس. ونحن نقتفي أثرهم في أصل التمهيد وهدفه ومن اجل ذلك وضعنا هذا المدخل. 

ويتضمن عدة امور هي بعض ما جرت العادة بذكرها مع اضافة امور اخرى تحدّد منهج التفكير الاصولي وتوضح تأثر علم الاصول من العلوم المختلفة ومدى قابلية الاستمداد منه لعلوم اخرى غير الفقه الذي هو اساس الحاجة في وضع الابحاث الاصولية، ونبين على سبيل الاجمال تاريخ تدوين الاصول وادواره وموجبات تكامله. 

ومجمل القول: ان هذا المدخل يصور اجمالاً المنهج العام للتفكير الاصولي الذي نسلكه فهو اوسع مما ذكره الاصحاب في مقدمة المباحث الاصولية من جهات واضيق من جهات حيث انا لا نتطرق الى بعض التفاصيل التي تذكر عرضاً ولا تحتوي على اثر كبير في التمهيد للمباحث الاساسية. 

وكل امر يذكر في المقدمة انما نبحث عنه من زاوية مدخليته في التمهيد دون ما يرتبط به من جهات اخرى.

وبهذا الصدد نقسم المدخل الى جهات:

 

الجهة الاولى

 

في تعداد نوعيات الابحاث الاصولية. 

ولا نعني بذلك المنهاج الذي نسلكه في تبويبها، وانما نعني به عرضاً سريعاً لنوعيات المباحث الاصولية التي تشتمل عليها ابحاث اعاظم المتأخرين. او ما تستحق ان تعتبر قاعدتها الفكرية، مع ملاحظة تراثنا الثقافي الذي يشتمل عليه كتب القدماء. 

وغرضنا من ذلك ان تحصل لدينا صورة اجمالية شاملة عن تلك المباحث الامر الذي يمهد لنا الطريق في البحث الاجمالي عن المنهج الفكري العام في الاصول الذي نستحسن ان نسلكه ونعتبره كمنطق للاصول.

 

النوع الاول:في تمييز الامور الاعتبارية عن الامور التكوينية، وتمييز الاعتبار الادبي عن الاعتبار القانوني والترابط بين القسمين، وترابط الاعتبارات القانونية بعضها مع بعض. 

والبحث عن هذه المطالب كل بما يستحقه من التفصيل، وبما له من الدور الايجابي في حلّ الغوامض سيجئ في مواضعه المختلفة وقد اشير الى جملة منها في كلمات بعض المتاخرين في موارد متفرقة الا اننا نرى من المناسب ان نعطي صورة اجمالية عنها في هذا المقام لتحقيق الغرض الذي ذكرناه.

الامور الاعتبارية هي التي تخترع بداعي التأثير في المشاعر النفسية للوصول الى الاهداف عن طريق التأثير النفسي فالانسان المدرك للامور الاعتبارية نسبته اليها نسبة الفاعل الى فعله وهي من مبدعات الذهن البشري ولكن نسبته الى الامور التكوينية نسبة انفعالية فهي امور لها واقع موضوعي بقطع النظر عن الانطباعات البشرية وما تعكسها تلك الامور في ذهن الانسان. 

وبعبارة اخرى الامور التكوينية تختلف فيها الانظار والامور الاعتبارية تختلف باختلاف الانظار فالقسم الاول له واقع محفوظ يحاول البشر الوصول اليه مع اختلاف الانطباعات غالباً، والقسم الثاني ليس له واقع محفوظ، وانما واقعيته تابعة لاعتبار المعتبر.

والاعتبار على قسمين: اعتبار ادبي واعتبار قانوني. 

والقسم الاول عبارة عن إعطاء حد شيء لشيء آخر بداعي التأثير في المشاعر النفسية مع عدم تطابق الارادة الاستعمالية للارادة الجدية كقولنا (زيد اسد) فان إعطاء حد الاسد لزيد ــ في المجتمع الذي تركّز في نفوسهم الانطباع عن شجاعة الاسد وبأسه مما جعل لاسمه تأثيراً عميقاً في نفوسهم ــ ليس على وجه الحقيقة.

وسيجيء في موضعه ان لفظ الاسد في هذه الموارد مستعمل في معناه الحقيقي الا ان تطبيقها على زيد ليس على وجه الجدّ ولذا لو سئل القائل: (أحقاً هو أسد) لاجاب بالنفي قطعا وانما اعتبره اسداً بداعي اعلام شجاعته معتمداً على ما لهذا الاعتبار من تأثير نفسي مسبق فالواقع ان الاعتبار الادبي اعتبار مع العناية. وستتضح ان شاء الله ضمن المباحث الآتية جذور هذه الاعتبارات في كيفية التفهيم والتفهم.

واما الاعتبارات القانونية فهي وان كانت واقعيتها باعتبار المعتبر ايضاً الا انها اعتبارات متأصلة بمعنى ان الارادة الاستعمالية فيها مطابقة للارادة الجدية فهي لا تحتوي على عناية في الاعتبار كالقسم السابق فلو سئل المعتبر للوجوب القانوني مثلاً: (احقا هو واجب) لكان الجواب ايجابا فهو حقا واجب الا ان الوجوب ليس امراً واقعياً بقطع النظر عن اعتبار المعتبر. 

وكذلك سائر الاحكام التكليفية والوضعية، فالدار مثلاً ملك لزيد واقعاً اي بلا عناية الا ان واقعيته ليست كالامور التكوينية بل هي تدور مدار اعتبار القانون لها اما امضاءاً كما اذا انتقلت اليه بمعاملة صحيحة او تأسيساً كما اذا انتقلت اليه بارث مثلا. 

ولا صحة لما يتراءى من بعض كلمات متاخري الاصوليين حيث عدّ بعض الاعتبارات القانونية من المقولات العرضية وقد نجم عن ذلك بعض المشاكل كما ستجيء الاشارة اليها. 

ثم ان الاعتبار القانوني على اقسام عديدة. فمنها الاحكام التكليفية ومنها الاحكام الوضعية كالملكية والزوجية ومنها الماهيات المخترعة كالصلاة والصوم والميتة والمذكّى على رأي والكسر المشاع الذي هو على التحقيق نوع من الماهيات الاعتبارية ومنها العقود والايقاعات.

والحاصل ان تمييز الاعتبارات عن الامور التكوينية وتمييز الاعتبارات الادبية عن الاعتبارات القانونية وكذا الترابط بين نوعي الاعتبار من وظائف فن الاصول. 

ومن المناسب ان يبحث فيه مثلا عن أن الاعتبار القانوني هل هو في الغالب نفس الاعتبار الادبي الذي قطع علاقته مع الواقع التكويني واستغنى عن ملاحظته وتأصل بذاته فهو مسبوق باعتبار أدبي ام هو أمر يمكن فيه الارتجال والاختراع الفردي؟ 

وكذلك يبحث عن أنّ الاعتبار القانوني في الحكم الوضعي هل هو اعتبار اصيل ام تابع لاعتبار حكم تكليفي؟ وانه هل هناك ارتباط ذاتي بين الاعتبارين ام لا؟ 

والحاصل ان معرفة الاعتباريات وشؤونها من اصول الافكار الاصولية المعاصرة.

النوع الثاني:تمييز انواع الاعتبارات القانونية. كمعرفة انواع الواجب من التخييري والتعييني، والعيني والكفائي، والنفسي والغيري، والتعبدي والتوصلي، والموسع والمضيق، وتمييز كل منها عن الآخر. وهذا البحث ليس من ابحاث الالفاظ بل هو من معرفة انحاء التشريعات. 

وكمعرفة انواع الاحكام الوضعية كالتمييز بين الحق والملك، والتمييز بين انحاء الحقوق كحق الاختصاص والتحجير والرهانة والغرماء.

ومعرفة الفرق بين جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية وجعله بنحو القضية الخارجية ومعرفة مراتب الاحكام من الانشاء والفعلية والتنجز وما به يمتاز كل منها عن الآخر وأن القدرة بما لها من الأقسام والمراتب ترتبط باي مرتبة من الحكم وكذا الاضطرار والاكراه والحرج.

النوع الثالثمعرفة عوارض الاعتبار القانوني وهي كثيرة نذكر بعضها: 

القسم الاول الاطلاق والتقييد، والبحث عن حقيقتهما ونوع التقابل بينهما، والفرق بين الاطلاق والتقييد اللحاظيين والذاتيين، والفرق بينهما وبين الحيثية الاطلاقية والتقييدية، والفرق الثبوتي بين الاطلاق المستكشف بمقدمات الحكمة والاطلاق المقامي، وانه مع الاطلاق او التقييد بالنسبة الى الملزوم هل يبقى مجال للاطلاق والتقييد بالنسبة الى اللازم ام لا، وأن مرتبة الاطلاق والتقييد بالنسبة الى الاوصاف مقدمة على الاطلاق والتقييد بالنسبة الى المقارنات ام لا، وتقسيم المطلق الى الشمولي والبدلي في مرحلة الثبوت، والفرق بين الاطلاق والتقييد في المفاهيم الافرادية والتركيبية ونحو ذلك من المباحث المرتبطة بالاطلاق والتقييد.

القسم الثاني: التضاد بين الاحكاموانه هل هو التضاد بالمعنى الفلسفي او بمعنى آخر، وان مرجعه الى التضاد بينهما في مرحلة المبدأ او المنتهى؟ 

ومن شؤونه البحث عن امتناع اجتماع الامر والنهي، والبحث عن اجتماع الحكم الواقعي والظاهري، وان كل حكم يضاد الحكم الآخر حتى في مرحلة اتصاف العمل الخارجي به فلا يمكن ان يتصف عمل خارجي بانه واجب ومستحب مثلاً.

القسم الثالث: البساطة والتركّب في الأحكامفيبحث عن ان الوجوب مثلاً هل هو اعتبار بسيط او مركب، وعلى الثاني فما هي العناصر التي يتركب منها.

القسم الرابع: الشدة والضعف في الاعتبار القانونيفيبحث عن امكان اتصافه بهما، كما يبحث عن امكان طروّ الاشتداد والتأكد عليه.

القسم الخامس: انحلال الحكم بانحلال موضوعه اومتعلقه، وانقسام الاحكام المنحلة الى احكام استقلالية واحكام ضمنية، والبحث عن انه على القول به حقيقي أو اعتباري.

القسم السادس: البحث عن لوازم الاحكام بالمعنى الاعمالذي يشمل لزوم أحد الحكمين لعدم الآخر في موضوع او متعلق مغاير مع موضوع الآخر أو متعلقه، ويعبر عنه بالتعاند. 

ولوازم الاحكام كثيرة كالبحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدماته، والبحث عن سريان الحكم من الملزوم الى لازمه، والبحث عن الملازمة بين وجوب شيء وعدم وجوب ضده او حرمته، والبحث عن الملازمة بين حرمة العبادة او المعاملة وفسادهما، والبحث عن الملازمة بين الامر الالزامي بالطبيعي وعدم الامر الالزامي بحصة منه التي جعلت مقدمة للقول بلزوم حمل المطلق على المقيد اذا كانا غير انحلاليين.

والبحث عن الملازمة بين الامر بصرف وجود الطبعي مع الترخيص الشرعي في تطبيقه على كل فرد منه الذي هو احد المسالك لتقريب استحالة اجتماع الامر والنهي، وردّ القول بتقدم الاطلاق الشمولي على البدلي في صورة تعارض العامين من وجه.

النوع الرابع: البحث عما يدل على انواع الاعتبارات القانونية وعوارضها من القول والفعل والتقرير، وتقسيم الدال اللفظي وهو العمدة الى المنطوق والمفهوم، وتقسيم انحاء دلالته الى مطابقية وتضمنية والتزامية، وكيفية استكشاف الشمول اما بالوضع او بمقدمات الحكمة. 

وكذلك البحث عما به يمتاز الامر المولوي عن الارشادي والنهي ايضا. ويدخل في هذا النوع كثير من مباحث الاوامر والنواهي، والمفهوم والمنطوق، والعام والخاص، والمطلق والمقيد. ويلحق بهذا النوع بيانالفرق بين تبليغ الاحكام على مستوى التعليم وعلى مستوى الافتاء. 

النوع الخامس: قواعد استكشاف الاحكام القانونية عند تصادم الظهورات وتعارضها. فلو كان بين نصين من القانون سماويا او بشريّا عموم وخصوص من وجه وتعارضا في مورد الاجتماع فما هو الطريقة السليمة لاستكشاف المراد، وما هي المرجحات المعتمد عليها في تقديم احدهما. 

وكذا لو كان بينهما عموم وخصوص مطلق فهل يلتزم دائماً بحمل العام على الخاص ام له قواعد واسس؟ ويدخل في ذلك جميع ابحاث العام والخاص، ودوران الامر بين النسخ والتخصيص، وحمل المطلق على المقيد. ومباحث التعارض بين اكثر من دليلين الى غير ذلك من الابحاث المتنوعة التي تحاول اكتشاف الطريقة العقلائية في استنباط الحكم القانوني من النصوص المتصادمة ولو في بعض مدلولاتها. 

ومن هنا يعلم ان هذه المباحث ونظائرها لا يختص كأساس للتفكير بنصوص التشريع الاسلامي فحسب بل هي مما لا يستغني عنها الباحث في معرفة الاحكام والقوانين المجعولة البشرية ايضاً ولا يستغني عنها شراح النصوص القانونية والخبراء القانونيون ولا يستغني عنها كل من يمارس بحسب اختصاصه تطبيق المواد القانونية من القضاة والمحامين فضلاً عن المشرعين واعضاء المجالس التشريعية. بل كثيراً ما يحتاج اليها في معرفة نصوص المواثيق الدولية والاحكام الصادرة عن المجالس او المحاكم الدولية.

النوع السادس:البحث عن المصادر التي يستكشف منها الحكم الشرعي وهي الادلة الاربعة: الكتاب والسنة والاجماع والعقل.

ولكل واحد مباحث خاصة فمن المباحث المتعلقة بالكتاب المجيد حجية نصوصه وسلامتها عن التحريف، وحجية ظواهره، وان التمسك بها ليس من التفسير بالرأي وغير ذلك.

ومن المباحث المتعلقة بالسنة تقسيمها في مرحلة الثبوت الى انواعها التي تعرضنا لها في البحث عن علل اختلاف الأحاديث، وتقسيمها في مرحلة الاثبات الى انها منقولة اما بالتواتر او بالآحاد. والتواتر إما لفظي او معنوي او اجمالي. 

وان الخبر الواحد حجة في الجملة، وان الحجة من الاخبار هل هو خبر الثقة او الموثوق به، وطريق توثيق الرواة وانه هل يحتاج الى تزكية عدلين ام لا، والوجه في الاعتماد على توثيقات الرجاليين، وحكم تعارض الجرح والتعديل، وانه هل يعتمد على الكتب الحديثية التي ألّفها اعاظم المحدثين وشهدوا بصحة مافيها كالكافي والفقيه ام لا، ومعرفة الكتب المعول عليها وتميزها عن غيرها، وانه هل يعتبر في حجية الخبر ملاحظة مضمونه ووجدان شاهد عليه من الكتاب المجيد والسنة القطعية الى غير ذلك.

ومن المباحث المتعلقة بالاجماع البحث عن وجه حجيته، والمعاني التي تُستعمل فيها كلمة الاجماع، وتقسيمه الى محصل ومنقول، وبسيط ومركب،  والكلام في حجية كل قسم منه. 

ومن المباحث المتعلقة بالدليل العقلي البحث عن حقيقته، وقاعدة الحسن والقبح العقليين، وقاعدة الملازمة، وعدم حجية القياس.

النوع السابع:تعارض الادلة الشرعية، والاصل في المتعارضين، والمرجحات العقلائية او الشرعية، ومباحث الجمع الدلالي. ويلحق بها البحث عن علل اختلاف الاحاديث، وقواعد النشر والكتمان ونحوها.

النوع الثامن:تعيين الوظيفة العملية عند قصور وسائل الكشف عن الحكم الشرعي. 

والبحث في ذلك يذكر في فصل مباحث الاصول العملّية، كالبحث عن ان مقتضى الاصل هو البراءة أم الاحتياط مما يرجع الى انّ مجرد الاحتمال غير الواصل الى حد الاطمئنان هل هو منجز للتكليف كما يظنه الاخباريون، ام انه ليس منجزا الا ان يكون مقوماً للعلم الاجمالي فيقوى الاحتمال، او يكون المحتمل مورداً لاهتمام الشارع كالاعراض والنفوس؟ وكمباحث الاستصحاب ان لم نعتبره من وسائل الكشف لدى العقلاء.

النوع التاسع:البحث عن الوظيفة عند قصور القدرة. وللقدرة مراتب فيبحث في انها هل هي بجميع مراتبها دخيلة في مرحلة الانشاء أم الفعلية أم التنجز؟ وعلى افتراض عدم وفاء القدرة بالجمع بين امتثال تكليفين فما هي الوظيفة العملية؟ ويطلق على هذه المباحث باب التزاحم ومرجحاته.

وهكذا ننتهي من عرض اجمالي لنوعيات المباحث الاصولية لنكون عند الورود فيها على بصيرة من امرها.

 

 

الجهة الثانية: 

 

في الترابط بين علمي الكلام والاصول.

ان علم الاصول متأثر من بدو تأسيسه بافكار الفلاسفة والمتكلمين. واكثر من صنّف في الأصول – سواء بصورة رسائل خاصة ام بصورة مجموعة من المباحث – هم من المتكلمين كما سنوضحه ان شاء الله تعالى في ما سيأتي من التحقيق التاريخي لتدوين الاصول. 

ولا يختص تأثير الفلسفة بالاصول بل انها بعد ترجمتها الى العربية ورواجها أثرت تأثيراً عميقاً في اتجاهات العلماء في عامة العلوم الاسلامية بل حتى العلوم الادبية على ما قيل. 

والكلام وان كان اصل تأسيسه لغرض مواجهة التيار الفكري الفلسفي الا انه تأثر منه نتيجة المواجهة مما جعله فلسفة برأسه. 

ومما يشير الى الارتباط بين علم الاصول والعلوم العقلية ان بعضا من الاصوليين جمعوا الكلام والاصول في تصنيف واحد ومنهم العلامة الحلي قدس سره فان من تصانيفه (منتهى الوصول الى علمي الكلام والاصول)[1]وبعضهم جمعوا بين الاصول والجدل في تصنيف واحد. ويلاحظ ان ذكر خلاصة للمنطق في مقدمة علم الاصول كان امرا متعارفا.

ثم انه ربما أدخل بعضهم بعض مسائل الكلام في علم الاصول ومن هنا نجد السيد المرتضى قدس سره يشكو بعض من صنف كتاباً في الاصول ضمّنه مطالب عديدة من الكلام فخلط بذلك بين العلمين. 

قال في الذريعة: (فقد وجدت بعض من أفرد في أصول الفقه كتابا وإن كان قد أصاب في كثير من معانيه وأوضاعه ومبانيه قد شرد من قانون أصول الفقه وأسلوبها وتعداها كثيرا وتخطاها فتكلم على حد العلم والظن وكيف يولد النظر العلم والفرق بين وجوب المسبب عن السبب وبين حصول الشئ عند غيره على مقتضى العادة وما تختلف العادة وتتفق والشروط التي يعلم بها كون خطابه تعالى دالا على الاحكام وخطاب الرسول عليه السلام والفرق بين خطابيهما بحيث يفترقان أو يجتمعان إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص للكلام في أصول الدين دون أصول الفقه)[2]

ولعل تنبيه السيد وامثاله كان السبب في رفع التشابك بين مسائل العلمين نوعاً ما الاّ ان التفكير الاصولي متأثر بالفلسفة والكلام الى زماننا هذا. ولابد للباحث الاصولي من التنبه الى موارد هذا التأثير ليتسنى له التحفظ عن الخطأ في منهج التفكير. 

واليك فيما يلي بعض النقاط الرئيسية حول هذا الموضوع:

النقطة الاولى:ان البحث الاصولي كما ظهر من التنويع السابق كان يتصدى للتحقيق عن مطالب جديدة وافكار مستحدثة ولذلك احتاج بالطبع الى مصطلحات خاصة. ولهذا الغرض قام باستخدام بعض المصطلحات الفلسفية كالعلة والمعلول، والسبب والمسبب، والشرط والمشروط ونحو ذلك. 

وهذه الالفاظ تشير بحسب الاصطلاح الفلسفي والكلامي الى بعض الروابط الواقعية بين الامور التكوينية. والاصولي استخدمها لتفهيم الروابط الاعتبارية والقانونية، فالسبب مثلاً يعبّر في الاصول عن موضوع الحكم الشرعي الوضعي فيقال: ان الغسل سبب لحصول الطهارة مثلاً، والبيع سبب لحصول الملكية. والشرط قد يعبّر عن موضوع الحكم التكليفي كما يقال من ان الزوال شرط لوجوب صلاة الظهر، والاستطاعة شرط لوجوب الحج، ونحو ذلك. 

والسرّ في الحاجة الى هذا الاستخدام هو فقر اللغة العربية في المصطلحات القانونية حيث كانت في عهود وضع المفردات اللغوية لغة لمجتمع بدائي لم يحكمه قانون ولم يسيطر عليه نظام، واللغة وليدة حاجات المجتمع. ولذلك تكثر في اللغة العربية الالفاظ المعبّرة عن الابل وما يرتبط بشؤونه. 

ولما جاءت الشريعة الاسلامية بذلك النظام الشامل الذي يسيطر على جميع شؤون الحياة البشرية لم تجد الحدّ الكافي للالفاظ المفيدة للمعاني القانونية فاحتاجت في تفهيمها الى استعمال الفاظ تدل على تلك المعاني بصورة غير مباشرة، فالوجوب مثلاً لا يفيد في اصل اللغة المعنى الشرعي لثبوت فعل على ذمة المكلف ولم يستعمله الشارع في هذا المعنى وانما استحدث هذا الاصطلاح فكان الشارع يُفهم ذلك المعنى بلفظ الامر المؤكد مثلاً او بالوعيد على الترك ونحو ذلك. 

وكذلك الحرمة والاستحباب والكراهة، والحقوق بانواعها المختلفة حكماً ومفهوماً ليس لكل منها كلمة تفيد معناه في اللغة. وقد بينا في مباحث علل اختلاف الحديث ان فقر اللغة في المصطلحات القانونية كان من مشاكل نشر الاحكام وحصول التشابه في النصوص. واولى بذلك المصطلحات التي تفيد عوارض الاحكام كالاطلاق والتقييد وموضوعية الحكم ونحو ذلك. 

ومن هنا اضطر الباحثون الى استخدام المصطلحات الفلسفية مع ان نوع الترابط بين الحكم وموضوعه مغاير تماماً مع نوع الترابط بين السبب والمسبب. ونحو ذلك من التعبيرات لان الارتباط بين الحكم الشرعي سواء كان تكليفياً او وضعياً وبين موضوعه وشؤونه ارتباط خاضع للجعل والاعتبار وليس له واقع خارجي اصلاً. 

نعم اذا كان الموضوع من الاحكام الوضعية فالترابط بينه وبين ما يترتب عليه من الاحكام ترابط وثيق من جهة ما سيجئ توضيحه في مبحث الاحكام الوضعية من انها موضوعات جعلية تمهيدية تشتمل على ما يترتب عليها من الاحكام في الجملة على سبيل الاندماج والاستبطان. 

ولكن هذا لا يخرج كون الارتباط بين كل حكم بخصوصه وموضوعه الاعتباري عن كونه ارتباطاً اعتبارياً. فالمشرع هو الذي يربط بين زوال الشمس ووجوب الصلاة، وبين الملكية وعدم جواز تصرف الغير بدون اذن المالك. وهكذا... 

فليس هذا الترابط من قبيل الترابط بين السبب والمسبب، والعلة والمعلول، والشرط والمشروط، والمانع والممنوع ونحو ذلك. وانما سمّوا السببية والشرطية والمانعية ونحوها احكاماً وضعية لئلا يتوهم ان المراد بها معانيها التكوينية، والا فالاحكام التكليفية وضعية ايضاً الا انها ليست موردا للاشتباه بالامور التكوينية.

ثم ان الالفاظ عند ما تنتقل من معنى الى معنى آخر ولو في اصطلاح خاص لا يفقد عادة جميع ماله من التأثير بمعناه السابق. وهذا مما يخلق مشكلة كبيرة في نقل المصطلحات. وهو السبب فيما سيأتي من المشاكل الاصولية التي هي حصيلة رواسب الفكر الفلسفي انتقلت مع استعارة الالفاظ لمعانيها الجديدة.

النقطة الثانية:ان بعض الالفاظ المستعملة في الفلسفة والكلام في مصطلحهم الخاص كانت منقولة عن معان اخرى في اللغة فكثيراً ما يوجب ذلك اشتباه المعنيين في موارد الاستعمال فقد يتوهم ان اللفظ في استعمالات الكتاب والسنة يراد به نفس المعنى الفلسفي والكلامي. وهذا مما له اثر كبير في الانحراف عن المنهج الصحيح للتفكير الاصولي. 

ومن تلك الموارد كلمة العلم فمعناها في اللغة العربية هو التبصر ووضوح الشيء لدى الانسان، واستخدمت في ترجمة الفلسفة الى العربية في معنى الاعتقاد الجازم وبقي لها هذا المعنى في اذهان الباحثين عندما ارادوا تفسير الآيات القرآنية الكريمة والاحاديث الشريفة. 

وكذلك الظن فان معناه في اللغة العربية هو الاعتقاد غير المستند الى البرهان والدليل كما فصلنا القول فيه وفي العلم ايضاً في مباحث التعارض واستعمل في الفلسفة في معنى الاعتقاد الراجح مع ان القرآن استعمله في المعنى الاول سواء كان راجحاً او جازماً. 

وكذلك الشك يراد به في اللغة العربية الترديد وانتفاء العلم اي عدم وضوح الامر وفي الفلسفة بمعنى تساوي الاحتمال في الطرفين. وقد تنبه الاعلام عند شرح حديث الاستصحاب: (لا تنقض اليقين بالشك) انه يشمل موارد الظن ايضاً.

ومن هنا يظهر ضعف استناد بعضهم في المنع عن حجية خبر الواحد بالآيات الناهية عن العمل بالظن وكذا غيرها من الظنون.

وكثيراً ما يوجب هذا التشابه الاشتباه في فهم كلام القدماء ايضاً. فقد توهم ان مراد السيد المرتضى قدس سره ومن تبعه من عدم حجية الخبر إنْ لم يفد العلم هو الاحتمال الجازم 100% وليس كذلك بل مرادهم الوضوح والاطمينان.

ونشأ هذا التأثير من غلبة الثقافة المستوردة على الثقافة العربية وسيطرة الاولى على الثانية في كثير من شؤونها حتى في معنى الالفاظ، وكذا في تشكيل القضايا فالعرب عندما يشكل قضية (زيد قائم) مثلاً لا يقدّر بين الموضوع والمحمول شيئاً وذلك لانه يجدهما متحدين وجوداً، فالقضية تحكي عن الهوهوية بين المفهومين. 

ولكن حيث كان التفكير اليوناني والفارسي في ذلك مبنياً على اعتبار مدلول القضية ثبوت شيء لشيء ولذلك احتاجوا الى وضع لفظ آخر يحكي عن الرابط بين المفهومين وهو (است) و(استين). ولما تُرجمت الفلسفة واجه المترجمون مشكلة في الفهم العربي للقضية اذ لم يجدوا ما يحلّ محل الرابط. ولما كان تأثرهم الشديد بالثقافة المستوردة مانعاً من تجديد النظر في هذا الفصل منها حمّلوا الثقافة العربية قبوله واستعاروا للرابط (هو). وترتب عليه القضية الفرعية: (ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له).

وتفصيل الكلام في تأثر اللغة بالفلسفة له مقام آخر.

النقطة الثالثة:ان القواعد الفلسفية التي كانت تطبّق فيها وفي الكلام على الامور التكوينية تسرّبت نتيجة لما مرّ الى الابحاث الاصولية، وطُبّقت على الامور الاعتبارية، ونشأ من ذلك مشاكل علمية معقدة، وكان السبب في ذلك ان استعمال الفاظ السبب والعلة والشرط ونحوها أوهم للباحثين ان القواعد الفلسفية التي موضوعاتها هذه المفاهيم جارية في الاصول ايضاً. 

ولهذا الاشتباه عدة موارد نذكر فيما يلي بعضها:

  1. من الواضح عدم امكان سبق المعلول التكويني على علته زماناً بل هي مقارنة له او تتقدم بعض اجزائها زماناً، واما تأخر العلة ولو ببعض اجزائها فغير معقول. وعلى اساس هذا القانون الفلسفي نشأت مشكلة الشرط المتأخر حيث لاحظوا ان شرط الامور الاعتبارية والاحكام الشرعية قد تتأخر عن المشروط.
  2. من القوانين الفلسفية (الشيء لا ينقلب عما وقع عليه) وعلى اساس هذا القانون ذهب بعضهم الى بطلان الكشف الانقلابي في العقد الفضولي. وطُبّق ايضاً في مسألة تبدل الامتثال فقالوا بعدم جوازه لهذا القانون.
  3. قانون استحالة اجتماع الضدين في الامور التكوينية من القوانين الفلسفية الأصلية، وطُبّق في الاصول في مسألة اجتماع الامر والنهي حيث اعتبر من مقدمات منعه، بتوهم ان الاحكام الشرعية كالاعراض الخارجية تتصف بالتضاد. وحيث ان الضدين لا يجتمعان فلا يمكن اجتماع الامر والنهي كما يلاحظ ذلك في الكفاية. مع ان الامور الاعتبارية سواء كانت من الاعتبارات الادبية او القانونية لا يعقل فيها التضادّ.

وكذلك طُبّق هذا القانون في مسألة اجتماع الحكم الظاهري والواقعي حيث عُدّ من مقدمات منعه امتناع اجتماع الضدين والمثلين على بعض الوجوه المذكورة.

  1. قالوا في الفلسفة ان الاهمال في الواقعيات غير معقول لان الوجود مساوق للتشخص. وربما يستعمل ذلك لمنع انحاء من الجعل بدعوى ان تتميم الجعل يتوقف على كون الجعل الاول مهملاً في مقام الثبوت.
  2. استحالة تحقق العرض بدون المعروض من الواضحات في الفلسفة. وقد حكي عن المولى النراقي انكاره لتعلق الملكية بالكلي في الذمة اذ لازمه تحقق الملكية قبل تحقق معروضه وهو المال الخارجي، والعرض لا يتقوم بامر معدوم.
  3. انطباق الماهية على افراده لا تخضع للجعل في الامور التكوينية وقد قالوا ان الانطباق قهري. ولكن الماهيات الاعتبارية التي هي من انحاء الاعتبارات القانونية قد يتوقف انطباقه على متمم الجعل التطبيقي كالميتة والدينار والصلاة والزكاة وغيرها على ما سيأتي تفصيله ان شاء الله تعالى.
  4. الكليات المتأصلة التكوينية انما تنطبق على افرادها باجزائها التحليلية، وليس كذلك في الماهيات الاعتبارية فانها تنطبق على افرادها بتمام مفهومها، كما سياتي بيانه في مبحث الحقيقة الشرعية ان شاء الله تعالى.
  5. استحالة انفكاك الملزوم عن لازمه من القوانين المسلمة في الفلسفة، فقد يتوهم في مسألة الاصل المثبت في الاستصحاب ثبوت لوازمه ايضاً تبعاً لهذا القانون.

ومما ذكرناه في الجهة الاولى من هذا المدخل يتبين فساد جميع هذه الاوهام فان الامور الاعتبارية ليست كالامور التكوينية، ولا تنطبق عليها قوانينها فهي خاضعة للجعل والاعتبار بخلاف التكوينيات. وانما تتبع الامور الاعتبارية في قوانينها وكيفية جعلها واستكشافها حضارة المجتمع البشري وبناء العقلاء، وكلما تطورت الحضارة كثرت الاعتبارات القانونية وتشعبت. كما انها تختلف ايضاً باختلاف الحضارات.

 

 

 

 

الجهة الثالثة: 

 

في الترابط بين علم الاصول وعلوم الادب العربي من النحو والصرف والمعاني والبيان وغيرها من العلوم الباحثة عن اسرار اللغة العربية. وهذا الترابط في غاية الوثاقة والتأكد. 

ويشهد له اجمالاً جمع بعض العلماء بين العلمين في التصنيف كالشهيد الثاني قدس سره حيث قال في تمهيد القواعد: (لما كان اعظم مقدماته (الفقه) علم اصوله وعلم العربية اذ الاول قاعدته ودليله والثاني مسلكه وسبيله. وغيرهما من العلوم اما غير متوقف عليه (الى ان قال) فلا جرم رتبنا هذا الكتاب الذي استخرنا الله تعالى على جمعه وترتيبه على قسمين: احدهما في تحقيق القواعد الاصولية وتفريع ما يلزمها من الاحكام الفرعية، والثاني في تقريب المطالب العربية وترتيب ما يناسبها من الفروع الشرعية. واخترنا من كل قسم منها مائة قاعدة متفرقة من ابوابه)([3])

وهذا نظير ما مرّ من ان الجمع بين علمي الكلام والاصول في مصنف واحد يشير الى ترابط وثيق بينهما في ذهنية المصنف، وكذلك الجمع بين المنطق والمباحث الاصولية في مصنف واحد، والامر اوضح من الاستشهاد بهذه الامور. 

فمن المباحث المهمة التي تعرض في الاصول مباحث الالفاظ كالبحث عن الوضع والاستعمال وانحائهما من الحقيقي والمجازي، وعلائم الحقيقة والمجاز، وتعارض الاحوال ونحو ذلك. وما يذكر في تحقيق المفاهيم المفردة كالبحث عن المعنى الحرفي والمبهمات، وكذلك تحقيق الهيئات المفردة كالبحث عن مفاد هيئة المشتق، او الهيئات التركيبية كالبحث عن مفاد الجملة الخبرية او الانشائية، او مفاد المفاهيم بانواعها. ومن الواضح ان هذه المباحث من شؤون اللغة العربية والادب العربي.

كما ان هذا الارتباط وثيق ايضاً في مباحث حجية الحجج والاصول العملية وان لم يكن بتلك المثابة من الوضوح. ويقوى الارتباط بين تلك المباحث وعلم البيان بوجه خاص، ومنشأه ترابط الاعتبارات الادبية والاعتبارات القانونية، فالاعتبارات الادبية مركز البحث في علم البيان ولكن بصورة بدائية ويبحث عنها في الاصول بصورة متطورة. 

وللبحث عن ترابط نوعي الاعتبار مجال آخر ولنا هناك فرضية تكشف عن طريقة تكوّن الاعتبار القانوني نتيجة لتطور خاص في الاعتبار الادبي وسيجئ بيانها في محله ان شاء الله تعالى. 

ومهما كان فلا اشكال في اصل الترابط وقد استوجب ذلك بعض الاشتباهات مما نعدّها اضراراً نشأت من خلط بعض الباحثين بين نوعي الاعتبار، كما ان خلط الامور الاعتبارية بالامور التكوينية اوجب اخطاءاً في البحث. وقد ذكرنا سابقاً ان بعضهم اجرى قوانين الامور التكوينية في الامور الاعتبارية. 

وللبحث عن موارد الخلط بين نوعي الاعتبار وما نشأ منه من اخطاء في الاصول والفقه مجال واسع ولسنا الآن بصدد الاستقصاء وانما نحاول في هذا المدخل اعطاء صورة واضحة عنه بالتمثيل للغرض الذي اشرنا اليه وهو تخطيط المنهج الفكري العام بما في ذلك تجنب موارد الخطأ في التفكير الاصولي حسب الامكان. 

وقد وقع في المباحث الاصولية موارد كثيرة من الخلط بين نوعي الاعتبار مع ان الفرق بينهما في غاية الوضوح موضوعاً وحكماً. 

اما الفرق الموضوعي فمن جهة ان الاعتبار الادبي اعتبار مع العناية ومع عدم توافق الارادة الجدية للارادة الاستعمالية، والاعتبار القانوني اعتبار بلا عناية ومع توافق الارادتين. 

واما الفرق الحكمي فمن جهة جريان الاصول العملية في الاعتبارات القانونية وعدم جريانها في الاعتبارات الادبية وغير ذلك من الاحكام. 

وفيما يلي نذكر بعض موارد الخلط كنماذج ولا نريد الاستقصاء:

المورد الاول: تقسيم بعض الاصوليين الاحكام الى ظاهرية وواقعية فالقسم الاول كالبراءة التي تفيد ترخيصاً ظاهرياً، وقاعدة الحل ومفادها حلية ظاهرية. ويلحق بهما قاعدة الطهارة حيث قسموا الطهارة الى طهارة ظاهرية وطهارة واقعية والاولى مفاد قاعدة الطهارة. 

ويظهر من كلام جمع منهم انهم يعتبرون الطهارة والحلية الظاهريتين من الاحكام القانونية وقد ذكرنا في محله تفصيل القول في عدم كونهما من الاحكام القانونية وما يترتب على الخلاف من آثار ولكن نذكر هنا مجمل القول في الطهارة الظاهرية فقط فنقول:

ورد في موثقة عمار: (كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر فاذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك)([4])وهي مستند قاعدة الطهارة وفي تفسيرها رأيان:

الرأي الاول:ان المجعول هو الطهارة الظاهرية وهي حكم قانوني ايضاً كالطهارة الواقعية الا ان الفرق بينهما هو كون الموضوع في الاولى مأخوذاً فيه الشك بخلاف الثانية المترتبة على نفس الموضوعات الخارجية. وكل حكم اخذ في موضوعه الشك فهو ظاهري. واستشهد على ذلك في المقام بجعل العلم غاية للطهارة في الرواية. 

وعلى هذا الرأي فقاعدة الطهارة تختص بالشاك ولا يشمل القاطع بالخلاف اي الجاهل المركب. 

وعليه ايضاً تنتفي جميع آثار الطهارة من اول الامر بمجرد العلم بالنجاسة ولذا لا يمكن الحكم بالاجزاء فيما اذا صلى في نجس شاكاً في الطهارة الا بمعونة ادلة اخرى خارجية، والا فمقتضى قاعدة الطهارة عدم الاجزاء اذ المفروض ان مفادها حكم ظاهري ولا يترتب عليه آثار الطهارة الا ما دام الشك موجوداً.

الرأي الثاني:ان الرواية ليست بصدد جعل حكم ظاهري او واقعي وان مفادها اعتبار ادبي وتنزيل لما لم يعلم نجاسته منزلة الطاهر الواقعي والا فهو نجس واقعاً. 

وتوضيح الفرق بين هذا الرأي والرأي الاول ان النجس له قسمان من الآثار الشرعية:

القسم الاول:الآثار المقوّمة لماهية النجس كتنجس ملاقيه وكعدم مطهريته.

القسم الثاني:الآثار المجعولة له شرعاً من دون دخالة لها في ماهية النجس كمانعيته للصلاة في ملبسه ومسجده.

ومقتضى التنزيل المذكور حكومة موثقة عمار على ادلة القسم الاول من الآثار حكومة ظاهرية وعلى ادلة القسم الثاني حكومة واقعية. 

ونعني بالحكومة الظاهرية ان آثار الطهارة مترتبة على ما لم يعلم نجاسته الى زمان العلم بها، وبعده يحكم بالنجاسة من اول الامر بلحاظ هذه الآثار فيحكم بنجاسة ما لاقاه وما طهّر به في زمان الشك. 

ونعني بالحكومة الواقعية ان آثار الطهارة مترتبة عليه مطلقاً فيحكم بصحة الصلاة التي اتى بها في لباس نجس حال عدم العلم بالنجاسة فموثقة عمار حاكمة على وجه التوسعة لدليل اشتراط الصلاة بالطهارة

ويدل على صحة الرأي الثاني امران:

الامر الاول:ما ذكرناه في تمييز الاعتبارات الادبية عن الاعتبارات القانونية من عدم تطابق الارادة الجدية مع الارادة الاستعمالية في القسم الاول دون الثاني. فلو سئل الشارع: (أحقاً نظيف هذا الشيء مشكوك النجاسة) والمفروض انه من الاعيان النجسة واقعاً فلا ريب انه يجيب بالنفي ويبين ان المراد بكونه نظيفاً ترتيب آثار الطهارة. ومعنى ذلك ان هذا التعبير لا يقصد به اعتبار قانوني وانما هو اعتبار ادبي. 

الامر الثاني:سياق الكلام فان قوله عليه السلام: (فاذا علمت فقد قذر) لا يمكن ان يراد بها قذارة ظاهرية ولا واقعية اما الاولى فلانه لا يحكم بها في ظرف العلم بالقذارة واما الثانية فلانها لا تتقيد بالعلم وهذا قرينة على ان المراد بالطهارة والقذارة التنزيليتان منهما. والمراد ان القسم الثاني من احكام الطهارة تترتب في صورة عدم العلم بالقذارة والقسم الثاني من احكام النجاسة تترتب في صورة العلم بالقذارة.

وتفصيل القول في ذلك سيجيئ في بحث الإجزاء وغيره ان شاء الله تعالى.

وهكذا الكلام في قاعدة الحلية المستفادة من قوله عليه السلام: (كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه)[5]فلا يستفاد منها الا تنزيل الشيء الحرام منزلة الحلال في ترتب الاحكام والتعبير عنه بالحلال اعتبار ادبي لا حكم ظاهري وقد ظهر الفرق بين القولين. 

وكذلك اصالة البراءة الشرعية المستفادة من قوله صلى الله عليه واله وسلم: (رفع ما لا يعلمون) ونظائره فليس هناك امر مرفوع واقعاً او ظاهراً وانما هو تعبير ادبي يستهدف به التنبيه على عدم منجزية احتمال التكليف بمجرده والاعلام بعدم اهمية المحتمل. 

توضيحه اجمالاً: ان القاعدة العقلائية في سلوك المنهج الصحيح للوصول الى الاهداف هو إجراء معادلة بين الاحتمال والمحتمل ولو بصورة ارتكازية مطويّة المقدمات في منطقة اللاشعور من إدراكات النفس البشرية فلو كان المحتمل مهماً جداً يعتبره العقلاء منجّزاً بمعنى وجوب ملاحظته والاهتمام به وان لم يكن الاحتمال قويا كاحتمال وجود السمّ في الاناء. ولو لم يكن المحتمل بتلك المثابة وكان الاحتمال قويّاً جدّاً يعتبره العقلاء منجّزاً ايضا. 

وهكذا يلاحظون تناسب الاحتمال والمحتمل. وامتثال الاحكام الشرعية يعتبر كسائر الاهداف في اعمال البشر. 

والدور الذي تؤديه ادلة البراءة في هذا المضمار هو إعلام عدم اهمية الاحكام الشرعية بتلك الدرجة التي تستوجب وجوب الاعتناء بها بمجرد الاحتمال.

وهكذا الكلام في اوامر الاحتياط فانها ترجع الى احد امور ثلاثة:

  • ان تكون لبيان اهمية المحتمل كموارد النفوس والاعراض. ونظيره امر العقلاء بالاحتياط للمريض الذي لا ينتبه لاهمية مرضه.
  • ان تكون لبيان قوة الاحتمال كموارد اعتبار الامارة علماً تتزيليا. ونظيره في العرف علائم الخطر المنصوبة في الطرق فانها تقوي احتمال وجود الخطر.
  • ان تكون امراً نفسياً. 

ولكل من هذه الموارد تفاصيل ليس هذا محل ذكرها.

وفي الموردين الاولين ليس الامر بالاحتياط الا اعتباراً ادبياً يستهدف به تقوية الاحتمال أو بيان اهمية المحتمل.

المورد الثانيمن موارد الخلط: ما يقال في قبال ما اشتهر بين الاصوليين من عدم قبول السببية والجزئية والشرطية والمانعية لجعل مستقل من انه لا مانع من جعل هذه الامور بان يقول المشرّع بعد الامر بالاركان جعلت هذا جزءاً او شرطاً مثلاً. وقد ذكرنا في محله انه لا مانع من ذلك الا انه لا يرجع الى اعتبار قانوني بل هو اعتبار ادبي.

ولعل السر في ذلك ان مفردات المفاهيم القانونية لا تخضع للجعل الارتجالي الفردي وانما هي ظاهرة اجتماعية تنشأ في المجتمع نتيجة لتطور الاعتبارات الادبية وهذه المفاهيم الفردية المتحققة مسبقاً يعتبرها المقنن لموضوع أو متعلق ويعبر عن هذه العملية بالتقنين والتشريع. 

فاذا اوجب الشارع الحج على المستطيع او الصلاة عند الزوال او جعل الحيازة سبباً للملك وغير ذلك فليس مرجعه الى ارتجال الوجوب او الملكية مثلاً.

نعم تتغير محتوى المفاهيم الاعتبارية نتيجة لاستتباعها للاحكام المختلفة باختلاف القوانين والحضارات وتداول المفهوم الاعتباري مع ما يستتبعه الامر الذي يوجب استبطانه لتلك الاحكام كما سَتُبيّن في موضعه ان شاء الله تعالى. 

والكلام هنا في ان اعتبار الجزئية والشرطية ونحوهما هل استغنى عن ملاحظة الواقع وتأصل حتى نلتزم بصحة جعلها القانوني أم لا؟ الشواهد لا تساعد على ذلك كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله.

 

المورد الثالث: قد ورد في الحديث التعبير عن الزكاة باوساخ ايدي الناس فربما يتوهم ان هذا اعتبار قانوني ويرتب على ذلك آثار في الفقه وربما يتخذه ذريعة من يريد الوقيعة في الدين فيعدّ هذا التعبير اهانة للفقراء. فلننقل الرواية اولاً ثم نذكر السرّ في هذا التعبير:

(روى الكليني قدس سره في الكافي عن علي بن ابراهيم عن ابيه عن حماد عن حريز عن محمد بن مسلم وابي بصير وزرارة كلهم عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهما السلام قالا: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان الصدقة اوساخ ايدي الناس وان الله قد حرّم عليّ منها ومن غيرها ما قد حرّمه وان الصدقة لا تحل لبني عبد المطلب ثم قال اما والله لو قد قمت على باب الجنة ثم اخذت بحلقته لقد علمتم اني لا اوثر عليكم فارضوا لانفسكم بما رضي الله ورسوله لكم قالوا رضينا)([6]).

وكأنّ من توهم كونه اعتباراً قانونياً لاحظ الحديث في الوسائل وهو مذكور الى قوله (عبد المطلب) ولم يلاحظ باقي الحديث في المصدر وهو يدل على انّ الرسول صلى الله عليه واله وسلم ذكر هذا التعبير لصدّ بني عبد المطلب من مطالبتهم بجعلهم من عمال الصدقات. 

ويدل عليه حديث آخر وهو صحيح العيص بن القاسم عن ابي عبد الله عليه السلام قال: (ان اناساً من بني هاشم اتوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فسألوه ان يستعملهم على صدقات المواشي وقالوا يكون لنا هذا السهم الذي جعل الله عز وجل للعاملين عليها فنحن اولى به فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: يا بني عبد المطلب ان الصدقة لا تحل لي ولا لكم ولكني قد وعدت الشفاعة ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: والله لقد وعدها (صلى الله عليه وآله وسلم) فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة أتروني مؤثرا عليكم غيركم).[7]

فهذا التعبير من الرسول صلى الله عليه واله وسلم انما كان لارضاء نفوس بني عبد المطلب المتطلّعة الى اشغال المناصب التي تدرّ عليهم بالمال ولكن الرسول صلى الله عليه واله وسلم لم يكن يرضى بحصر وظائف الدولة في قومه واقاربه فاراد ان يكبح جماح نفوسهم بتعبير منفّر لطباعهم فيكون قد دفعهم عن مطالبهم بلطف. 

ولا يشترط في الاعتبار الادبي الّا حسن الموقع في نفس المخاطب للوصول الى الهدف دون ان يحتوي اللفظ على واقعية ترتبط بمدلوله برباط قانوني.

وقد ورد مثل هذا التعبير في روايات اخرى ولابد ان تفسر بما ذكرناه مع امكان المناقشة في اسانيد اكثرها.

المورد الرابع: ذكر بعضهم في الحديث النبوي المشهور (على اليد ما اخذت حتى تؤدي)[8]ان الماهية اعتبرت في ذمة المكلف ثم فرعوا عليه فروعاً في المعاملات مع ان هذا ليس الا تعبيراً ادبياً جيء به كناية عن الضمان على تقدير التلف. وله تفصيل في محله.

المورد الخامس: ذهب المحقق النائيني قدس سره الى ان الحق درجة ضعيفة من الملك. فاعترض عليه المحقق الاصفهاني قدس سره بما محصله ان الملك اما ان يكون من مقولة الاضافة او الجدة ولا يتصف شيء منهما بالشدة والضعف فكيف يمكن ان تكون الملكية الاعتبارية المأخوذة منهما متصفا بالشدة والضعف.

وهذا من الخلط بين الاعتبار الادبي والاعتبار القانوني ففي الاول يبقى المشابهة مع الاصل التكويني ملحوظاً عند الاعتبار ولذلك يتبعه في قبول الشدة والضعف واما في الاعتبار القانوني فالارتباط بينه وبين الاصل التكويني المشبه به مقطوع ويستقل الامر القانوني بالاعتبار ويتبع في شدته وضعفه وجميع شؤون وجوده اعتبار المعتبر فله ان يعتبر ملكية ضعيفة او ملكية مؤكدة.

 

 

الجهة الرابعة: 

 

في ارتباط علم الاصول بعلم الفقه وتفاعله معه. والملحوظ في هذا البحث ترابطهما من زاوية تأثير الفقه في الاصول واما الجانب المعروف من ترابطهما وهو كون الاصول منهجاً فكرياً للفقه فهو خارج عن محل البحث.

الفقه المتداول بين العلماء على قسمين: فقه خلافي وفقه على المذهب. ويختلف مفهوم كل منهما عند العامة والخاصة. 

اما الفقه الخلافي عند العامة فهو بان يختار احد من علمائهم احد المذاهب الاربعة المعترف بها عندهم ثم يحاول بعد ذلك الاستدلال لتأييد الرأي الفقهي لذلك المذهب. فتعيين الموقف الفقهي يكون مسبقاً على الاستدلال، وليس هذا الاستدلال الا من اجل الدفاع عن الموقف المختار للفقيه المتبوع. وبالطبع يتسم هذا النحو من الاستدلال بطابع الجدل والاحتجاج دون محاولة كشف الواقع واستنباط الحكم الشرعي.

قال ابن خلدون في المقدمة في كلامه حول اصول الفقه: (اقيمت هذه المذاهب الاربعة اصول الملة واُجري الخلاف بين المتمسكين بها والآخذين باحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والاصول الفقهية وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب امامه تجري على اصول صحيحة وطرائق قويمة يحتج بها كل على مذهبه الذي قلده وتمسك به واجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من ابواب الفقه (الى ان قال) وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الائمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات ولابد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها الى استنباط الاحكام كما يحتاج اليها المجتهد الا ان المجتهد يحتاج اليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج اليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من ان يهدمها المخالف بادلته (الى ان قال) وللغزالي فيه كتاب المآخذ ولابي زيد الدبوسي كتاب التعليقة ولابن القصار من شيوخ المالكية عيون الادلة وقد جمع ابن الساعاتي في مختصره في اصول الفقه جميع ما يبتني عليها من الفقه الخلافي)([9])

وقال ايضاً في نفس الباب: (واما الجدل وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين اهل المذاهب الفقهية وغيرهم فانه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج ومنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأ فاحتاج الائمة الى ان يضعوا آداباً واحكاماً يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول)([10]).

وهذا الجدل هو طريقة بحث الفقه الخلافي كما اشرنا اليه. ومن هنا جمع بعضهم بين الجدل والاصول في التصنيف. والاصول بهذا المفهوم اي لهذه الغاية يستمد بالطبع من الجذور العقائدية في اصول الدين. 

ونقل في كشف الظنون عن علاء الدين الحنفي انه قال في ميزان الاصول: (اعلم ان اصول الفقه فرع لعلم اصول الدين فكان من الضرورة ان يقع التصنيف فيه على اعتقاد مصنف الكتاب واكثر التصانيف في اصول الفقه لاهل الاعتزال المخالفين لنا في الاصول ولاهل الحديث المخالفين لنا في الفروع ولا اعتماد على تصانيفهم الخ)([11])اذن ففقه كل مذهب ومحاولة الاستدلال وتفنيد ادلة المدارس الفقهية الاخرى تؤثر في تكوين اسس الاصول عند العامة.

الفقه الخلافي عند الشيعة:

يمتد جذور هذا الفقه عند الشيعة الى اول زمان لزعامة الخلفاء اي بعد انتهاء عهد الرسالة الشريفة مباشرة. والسبب في ذلك ان الخلفاء قاموا بتغيير في الاحكام الشرعية وتمهيداً لذلك منعوا من تدوين السنة النبوية بل أحرقوا الكتب والصحائف ما قدروا عليه وامتد هذا المنع ودواعيه الى حوالي قرن ونصف كما اوضحناه في مباحث التعارض. 

وتدخل الخلفاء في شؤون الثقافة الاسلامية وفي تحديدها حسب مصالحهم خصوصاً في القوانين التشريعية بوجه عام ففي الجانب الاقتصادي ألغوا بعض مواد القانون كسهم المؤلفة قلوبهم وسهم ذوي القربى المعبر عنه بالخمس وفي الفرائض والمواريث شرعوا قانون العول والتعصيب وخالفوا عدة مواد من القانون المصرح به في السنة. 

وفي الجانب العبادي اسقط بعضهم متعة الحج وبعض فصول الاذان وزادوا بعضاً آخر وابتدعوا صلاة التراويح وفي شؤون تنظيم الاسرة شددوا في امر النكاح فمنعوا متعة النساء وقيدوا صحة العقد بحضور الشاهدين ونفذوا الطلاق من دون استشهاد خلافاً للآية الكريمة كما نفذوا الطلاق البدعي مع اعترافهم بانه بدعي والحلف بالطلاق والعتاق الى غير ذلك من موارد مخالفتهم لنصوص القانون الاسلامي على ما بدا لهم ان فيه صلاح دولتهم وهي كثيرة مذكورة في كتب الاحتجاج والتاريخ وخصص لها الامام شرف الدين كتابه القيم (النص والاجتهاد).

وفي قبال هذه الاجتهادات كانت مدرسة اهل البيت تحاول الحفاظ على الثقافة الاسلامية الاصيلة والسنة النبوية الشريفة حيث قامت بالدفاع عن تلك القوانين بالاحتجاج والمناظرة على اساس السنة النبوية وطالما صرّح الائمة عليهم السلام بأنهم لا يفتون الا طبقا للسنة النبوية.

ففي رواية عن الامام الصادق عليه السلام: (انا لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ولكنها اثار من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصل علم نتوارثها كابر عن كابر عن كابر نكنزها كما يكنز الناس ذهبهم وفضتهم)([12])

كما أنهم عليهم السلام ذكروا ايضا ان من مصادرهم صحيفة عليّ عليه السلام التي كتبها باملاء رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج اليه الناس حتى الارش في الخدش)([13])وورد ذكرها كثيراً في مصادر العامة ايضاً وقد بحثنا عنه بنحو من التفصيل في المدخل لحجية خبر الواحد. 

وآل الامر في هذه المقابلة الى المناظرات والاحتجاجات بين مدرسة اهل البيت والمدارس المعارضة بما فيها مدارس بعض الموالين لبعض السلالة النبوية كالزيدية حيث انهم تخلوا عن التشيع الثقافي وتبعوا في ذلك مدرسة ابي حنيفة لتأييده موقف زيد الثوري.

ومن تلك المناظرات مواقف ابن عباس الشهيرة التي منها نقاشه في العول والتعصيب والمتعة وغير ذلك. ومنها ايضاً مناظرة الرجل الشامي مع زرارة وحمران وابان بن تغلب ومؤمن الطاق وهشام بن سالم وهشام بن الحكم بامر من الامام الصادق عليه السلام في شؤون مختلفة منها الفقه التي آلت الى تشيعه.([14])

ومنها ما ذكره الكليني في باب مستقل وضعه في اثبات بطلان الطلاق البدعي[15]فروى عن حمدان القلانسي انه قال: قال لي عمر بن شهاب العبدي: من اين زعم اصحابك ان من طلق ثلاثاً لم يقع الطلاق فقلت زعموا ان الطلاق للكتاب والسنة فمن خالفهما رد اليهما قال فما تقول فيمن طلق على الكتاب والسنة فخرجت امرأته او اخرجها فاعتدت في غير بيتها (الى ان يقول) فاجبته بجواب لم يكن عندي جواب ومضيت فلقيت ايوب بن نوح فاخبرته بقول عمر فقال: ليس (لسنا ظ) نحن اصحاب قياس انما نقول بالآثار فلقيت علي بن راشد وسألته عن ذلك واخبرته بقول عمر فقال قد قاس عليك وهو يلزمك فسألتُ معاوية بن حكيم عن ذلك...) ثم نقل عنه جوابا غير قاطع للفرق الذي سأل عنه عمر. 

وكأنّ ايوب وابن راشد توهما ان كل مسألة ترجع الى بحث اصولي فهي من القياس ويظهر مما ينقل عن ايوب بن نوح انه كان مخالفاً للمفكرين من العلماء فقد نسب اليه انه كان يقع في يونس.

ثم قال الكليني: وقال الفضل بن شاذان في جواب اجاب به ابا عبيد في كتاب الطلاق: ذكر ابو عبيد ان بعض اصحاب الكلام قال: ان الله تبارك وتعالى حين جعل الطلاق للعدة لم يخبرنا ان من طلق لغير العدة كان طلاقه ساقطاً. ثم نقل كلام الفضل بطوله في توضيح الفرق بين الاوامر الارشادية والاوامر المولوية حيث كان كلام بعض اصحاب الكلام ناظراً الى ان الامر في قوله تعالى (وطلقوهن لعدتهن) دالاً على الوجوب دون اشتراط الحكم الوضعي ومحاولة الفضل ناجحة نوعاً ما.

وكانت هذه المناظرات - بالطبع - متوقفة على اصول ومبان خاصة تمتد جذورها الى اول عهود تأسيس المدرسة المدافعة عن السنة. 

ويعتبر مما ينبه على تلك الاصول رواية سليم بن قيس الهلالي (قال قلت لامير المؤمنين (عليه السلام) اني سمعت من سلمان والمقداد وابي ذر شيئاً من تفسير القرآن واحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه واله وسلم) غير ما في ايدي الناس ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في ايدي الناس اشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الاحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه واله وسلم) انتم تخالفونهم فيها وتزعمون ان ذلك كله باطل أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم قال فأقبل علي عليه السلام فقال قد سألت فافهم الجواب ان في ايدي الناس حقا وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على عهده) الحديث([16]).

وهو طويل وانما ذكرنا هذا المقدار منه لانه يدل على ما ذكرناه من مقابلة مدرسة اهل البيت من اول الامر مع ما اشتهر بين الناس تبعاً للسلطة، ولانه يشير الى منهج الفقه الخلافي وهو معرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمحكم والمتشابه وتمييز ما كذب على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن غيره الى غير ذلك من اصول هذا المنهج التي تحتوي عليها الرواية.

ومما ينبّه على ذلك ايضاً رواية الميثمي عن الامام الرضاعليه السلام([17])حيث سئل عن الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في الشيء الواحد فبيّن عليه السلام قواعد واسس يتبين بها وجه الاختلاف وتمييز الحجة بين الاحاديث المختلفة واموراً اخرى يبتني عليها الاحتجاج مع من بدّل سنة الرسول صلى الله عليه واله وسلم.

فظهر مما ذكرناه البون الشاسع بين الفقه الخلافي عند الشيعة والفقه الخلافي عند العامة فهو عندهم يمثل دفاعاً عن مذهب سلكه فقيه حسبما أدّى اليه ظنه مع عدم العلم تفصيلا بمداركه وموجبات ظنه ومن الواضح ان هذا لا مبرر له في عالم الثقافة (والحق احق ان يتبع). 

وهو عندنا دفاع عن السنة النبوية وقوانين السماء التي صدع بها الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم او شرّعها بتفويض من الله تعالى في قبال من بدّلها وحاول إخفاءها على الامّة فهو اذن امتداد طبيعي لعلم الكلام ومباحث العقائد وقد جعل علماؤنا من سبل المناظرة والاحتجاج على الخلفاء الاعتراض على اجتهادهم في قبال النصّ.

وقد صنف علماؤنا رسائل في الفقه الخلافي وفي اصوله. وكثيراً ما نجد في كتب الرجال وفهارس الكتب في ضمن تآليفهم رسائل في ابطال القياس كما نسب الى بعض بني نوبخت او في معرفة الناسخ والمنسوخ او في ابطال حجية خبر الواحد حيث كانت مدرسة اهل الحديث من العامة تعتمد على خبر الواحد وان لم يوثق به. 

ومن كتبهم الفقهية في هذا الشأن كتاب الاحتجاج في الطلاق ليونس بن عبد الرحمن وله ايضاً كتاب علل النكاح وتحليل المتعة وله كتاب المتعة وكتاب الفرائض([18])ولابن ابي عمير ايضاً كتاب المتعة([19]). الى غير ذلك مما يطول ذكره. 

وكثيراً ما كانوا يتعرضون لمسائل اصول الفقه الخلافي في الكتب الكلامية فالشيخ المفيد قدس سره يذكر كثيراً من تلك المسائل في اوائل المقالات كمسألة القياس وخبر الواحد والاجماع والعام والخاص وناسخ القرآن ومنسوخه ونسخ القرآن بالسنة. 

والشيخ الصدوق قدس سره ذكر في اعتقاداته اعتقاده حول الحظر والاباحة وحول الأحاديث المختلفة وان لم يكن على سبيل الاحتجاج وفصّل القول في تفسيره الشيخ المفيد في شرحه على اعتقاداته. 

والّف المفيد ايضاً كتاب الاعلام الذي وصل الينا ناقصاً وذكر في مقدمته انّه الّف ذلك تكملة لاوائل المقالات حتى ينجلي الفرق بين مدرسة الشيعة والمدارس المعارضة في جميع شؤون العلم الديني من العقائد والفقه والاصول. 

وقد شرح كتابه ايضاً بنفسه ولكنه لم يصل الينا ويمكن ان يعتبر كتاب الانتصار للسيد المرتضى قدس سره شرحاً لكتاب الاعلام حيث ان العناوين التي يذكرها السيد ويشرحها شرحاً استدلاليّاً تطابق في الغالب عناوين كتاب الاعلام. 

ومن الكتب المفصلة في الفقه الخلافي كتاب الخلاف للشيخ الطوسي وكتاب نهج الحق للعلامة حيث فصل البحث في الخلافيات من الجوانب الثلاثة: العقائد والفقه والاصول. وكتاب الناصريات للسيد المرتضى في الفقه الخلافي بين الشيعة الامامية والزيدية الذين تاثروا في الشؤون الثقافية بمدارس العامة وبمدرسة اهل الرأي بالخصوص.

فالفقه الخلافي في مرحلة التصنيف والنشر هو ايضاح موقف اهل البيت عليهم السلام في مواجهة من يحاول تغيير شريعة السماء ذلك الفقه الذي قابله الآخرون بالاهمال بل بالقدح. 

قال ابن خلدون في المقدمة: (وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلها أصول واهية وشذ بمثل ذلك الخوارج ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الانكار والقدح فلا نعرف شيئا من مذاهبهم ولا نروي كتبهم ولا أثر لشيء منها إلا في مواطنهم فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن...). ([20])

ولا حاجة الى تعليق فقوله لا نعرف شيئاً من مذاهبهم اقوى حجة على جهله في ما يحكم به وكيف يمكن الحكم على قول او مذهب بالفساد والبطلان دون ان يعرف شيئاً عنه. ولابد ان يكون المراد بقوله ابتدعوها اي خرجوا عن طريقة الجمهور في متابعة الخلفاء الذين بدلوا سنة الرسول صلى الله عليه واله وسلم واما مخالفة شريعة الله فليس من البدعة في رأيه. 

الا ان الامر لم يبق كما تمناه ابن خلدون بل انتشر فقه اهل البيت عليهم السلام على ايدي علماء الشيعة واصبح الآن يتدخل في وضع بعض القوانين المدنية حتى في بلاد العامة حيث اخذ ينضج عندهم شيئاً فشيئاً ما يتمتع به فقه اهل البيت من اصالة وعمق الامر الذي يميزه عن كل فقه معارض ولابد للامة الاسلامية ذلك اليوم الذي تفيق فيه فترجع الى القرآن وعديله العترة الطاهرة عليهم السلام.

وبهذا ننهي الكلام عن الفقه الخلافي لدى العامة والشيعة.

واما الفقه على المذهب فهو عند العامة متمحض غالباً في بيان فتاوى امام المذهب وتقريبها في الجملة والتفريع على اصوله ويمتاز عن الفقه الخلافي بعدم التعرض هنا لردّ سائر المذاهب.

وهو عندنا في غاية السعة والشمول حيث تعد احاديث الائمة الطاهرين عليهم السلام من صلب النصوص الاسلامية اذ كانوا هم وسيلتنا الوحيدة للوصول الى السنة النبوية بصورتها الاصلية بعيدة عن تدخّل الآخرين وتلاعبهم. فاساس الشريعة عندنا هو الكتاب العزيز والسنة النبوية الواصلة الينا عن طريق الائمة عليهم السلام. وباب الاجتهاد مفتوح عندنا بمصراعيه ولذلك توسع الفقه الشيعي وتطورت اصوله كما سننبه عليه في الجهة الخامسة ان شاء الله تعالى.

واصول الفقه على المذهب يختلف عن اصول الفقه الخلافي في طرح المسائل التي لا ترتبط بالمناظرة والردّ على المذاهب المعارضة ولذلك ترك البحث اخيراً عن مسألة عدم حجية القياس لتسالم الشيعة عليه. 

ومن جهة اخرى تطورت المباحث الاصولية واتسمت بالتعمق والشمول نتيجة لتوسع الفقه وقد وصل في عهد الشيخ الانصاري قدس سره الى حدّ بالغ الاهمية وغاية في الغنى واصالة التفكير وحرية الرأي. 

وهذا الاصول المتكامل بمباحثه العميقة وليدة الحاجة في الممارسات الاستنباطية الفقهية في كل زمان وعصر بالنسبة الى مستحدثات المسائل وتجديد النظر في المسائل المطروحة على مائدة البحث سابقاً.

وهكذا تبين مدى تأثير الفقه بنوعيه في تكوّن المباحث الاصولية وتكاملها. 

 

الجهة الخامسة: 

 

في تاريخ ادوار المباحث الاصولية. 

ولهذا الغرض نقسم ادوار الاصول الشيعي الى ثلاثة بلحاظ اختلاف هذه الادوار في المباراة الثقافية الموجبة لتكامل الاص، اذ لا اشكال في ان من اسباب تطور الفكر وتعمقه هي المعارضات الثقافية في كل علم وفن كما ان المعارضة سبب لتكامل كل مجتمع وكل انسان بل كل موجود حيّ في كل شأن من الشؤون الحيوية من سياسة وثقافة وحرب وحضارة بل قيل: ان من اسباب نمو الجسم مدافعة جبهته الدفاعية عنه في مواجهة الجراثيم. وهكذا يتطور العلم بتجدد نوع المعارضة.

الدور الاول:ويبدأ كما ذكرناه بعد انتهاء عهد الرسالة مباشرة وكان طرف المباراة في هذا الدور مدارس علماء العامة في بدو تشريعهم للقانون الاسلامي او ما يزعمونه استنباطاً. 

وكان اساس هذا التشريع في مدرسة العراقيين المتمثلة في ابي حنيفة واتباعه (اهل الرأي) هو القياس والاستحسان وفي مدرسة الحجازيين المتمثلة في مالك والشافعي (اهل الحديث) هو حجية الخبر فكانوا يعتمدون عليه بمجرد كونه منقولاً عن الثقات (ثقة عن ثقة) واما العراقيون فكانوا يعتبرون النقد الداخلي ومقايسة متن الحديث بالكتاب والسنة المسلّمة كشرط في العمل بالخبر. 

وقد بينا في مبحث التعارض نقلا عن كتب العامةأنّ مأخذهم في ذلك كان هو الحديث الذي حدّثهم به ابن ابي كريمة السدّي المقرئ المعروف عن الامام الباقر عليه السلام وكان السدي من اصحابه كما في ترجمته.

وهذه الطريقة هي التي وردت في كثير من اخبارنا وقد عقد الكليني والبرقي قدس سرهما في الكافي والمحاسن باباً في الاخذ بشواهد الكتاب والسنة وتمام الكلام فيه قد مر مفصلاً في مبحث التعارض.

وفي قبال هاتين المدرستين قام علماء الشيعة بتأسيس الاصول المبتنية على ابطال القياس وابطال العمل بخبر الواحد فألّفوا في المسألتين رسائل متعددة كما ألّفوا في مسألة الحديثين المختلفين التي هي من اهم المسائل الاصولية وقد ذكرنا في مقدمة مبحث التعارض بعض مصنفي الشيعة في ذلك ومنهم ابن ابي عمير المتوفى سنة 217 ويونس بن عبد الرحمن المتوفى سنة 208.

اذن فقد أُسّس اصول الفقه الشيعي على اساس المعارضة مع افكار مدارس العامة الا ان من شأن البحث على اساس المعارضة ان يقوى ويتشعب اذا تأثر بعض افراد مدرسته من الافكار المخالفة حيث يشعر اصحاب المدرسة بالخطر الثقافي الذي يهددهم وكان هذا هو السبب في القفزة الثقافية لدى الشيعة في عهد الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي قدس الله اسرارهم حيث وجدوا بعض الشيعة قد مالوا الى القول بالقياس كما نسب الى ابن الجنيد فقام اولئك الاعلام بردّه بل حكموا على كتبه وآرائه بالسقوط لقوله ذاك. 

كما ان بعض الشيعة مالوا الى مذهب الحشوية من اهل الحديث من العامة فاعترض عليهم المفيد قدس سره بكتابه: (مقابيس الانوار في الرد على اهل الاخبار) وكذلك غيره من الاعلام في ذلك العصر وما يقاربه فالرد على القول بالقياس وحجية الخبر بقول مطلق كما كان نقاشاً خارجياً اصبح نقاشاً داخلياً ايضاً. 

وهكذا اتسم الاصول في ذلك العهد بطابع خاص على يد اكابر الطائفة وخصوصاً السيد والشيخان واخذ الشيخ الطوسي بوجه خاص نوعاً من الاعتدال في مسألة حجية خبر الواحد وسائر المسائل الخلافية كما يظهر من العدة. 

وبذلك كان التنازع الثقافي خارجياً وداخلياً سبباً لتكامل العلم ثم بعد الافراط في المعارضة اخذ يعتدل شيئاً فشيئاً فبقيت ثمرة المعارضة وزال ضررها.

وقد انتهى هذا الدور من تطور الاصول بانسداد باب الاجتهاد عند العامة حيث انسحبوا عن ميادين المناظرة وانكمشت مباحثات الفقه الخلافي عندهم شيئاً فشيئاً واصبحوا بحالة تقليد بحت للسلف كما صرّح بذلك في (تاريخ التشريع الاسلامي).

ولما زالت المعارضة او كادت ان تزول هبطت درجة التكامل في الاصول الشيعي وزاد في ذلك الاختناق الفكري وتحديد المذاهب من قبل السلطة. 

ولما حدثت فتنة التتر في بغداد منحت الحرية للمذاهب فقام المحقق والعلامة قدس سرهما ونظائرهما من علماء ذلك العصر باتباع المنهج الذي رسمته مدرسة الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي قدس الله اسرارهم ولذلك نجد الفقه الخلافي متمثلاً في المعتبر وتذكرة الفقهاء والمنتهى وغير ذلك من كتب المحقق والعلامة قدس سرهما. الا ان هذه الجولة لم تدم طويلاً. ومع قصرها كانت مركزة جداً ولذلك أثّرت افكار علماء الشيعة في تغيير المنهج الفكري لبعض العامة نوعاً مّا. 

ونجد هذا التأثير واضحاً في بعض كلمات ابن تيمية مع تعصبه الشديد ضد الشيعة حيث نجده يميل الى رأي الشيعة في عدة مسائل ذكرها محمد ابو زهرة في كتابه (ابن تيمية) ومنها مسألة الطلاق. ولهذا التبدل الذي حصل له من جرّاء تأثّره بفقه الشيعة اصبح مجدّد الفقه عند جمع من العامة.

وعادت النهضة الثقافية الى الانطواء نتيجة لزوال المباراة واصبح علماء الشيعة مشغولين بفقههم عن النقاش مع العامة، ويظهر ذلك من كتب الشهيدين حيث لم يتعرضوا لآراء العامة اصلاً. وأثّر ذلك في الاصول فلم يكونوا يهتمون بالتوسع فيه وربما كانوا يكتفون بقراءة بعض كتب العامة في الاصول كما يظهر بملاحظة قراءة صاحبي المعالم والمدارك على الاردبيلي قدس الله اسرارهم كتاب شرح العميدي.

الدور الثاني:ويبدأ من اوائل القرن الحادي عشر. وذلك بعد ان قوي المذهب الجعفري بقيام الدولة الصفوية في ايران في اوائل القرن العاشر فتأسست في أوائل القرن الحادي عشر مدرسة الاخباريين من الشيعة تحت عوامل مختلفة لا نتعرض الا للجانب الثقافي منها. 

وهو ان المحدث الاسترابادي حيث تراءى له ان علم الاصول الجامد في ذلك الوقت غير صالح لاستكشاف الاحكام الشرعية نظراً الى توغله في العقليات المتوقفة على مقدمات بعيدة وبراهين معقدة لا توجب اطميناناً بالنتيجة ووجد تأثر الفقه والاصول بالمسائل الفلسفية والكلامية قام بمعارضة شديدة للاصول المتداول آنذاك وساعده على ذلك رد الفعل في نفوس الكثيرين الناجم من جمود الاصول وتأثره بالفلسفة فأيّدوا الحركة الثقافية الاخبارية كالمجلسيين والمحدث الفيض والحر العاملي والمحدث البحراني قدس الله أسرارهم. وسيأتي البحث عنهم وعن منهجهم الفكري في مبحث القطع ان شاء الله تعالى. 

ومهما كان فقد اثرت هذه المباراة في بعث النشاط والحركة في اصول الشيعة وقد اختفت - تقريباً - المعارضة الثقافية الاخبارية في النصف الاول للقرن الثالث عشر الا ان آثارها الحسنة في تنمية الفكر الاصولي ونشاطه بقيت الى اليوم واما اثره السيء وهو الانقسام الداخلي فنرجو ان يزول نهائيا بفضل الشعور بالحاجة الى الوحدة. وبوادره مشهودة ولله الحمد.

ويجب ان لا ننسى ما للمحقق الوحيد البهبهاني قدس سره وجهابذة تلامذته من اثر كبير في تجديد الاصول وتكامله السريع. وقد تبعهم العلماء في هذا المنهج وتمثّل كتاب الرسائل لشيخنا الاعظم الانصاري قدس سره أجود نتائج هذا الجهود الفكري مع ما أضافه اليه من نفائس تحقيقاته. ولم يتوقف النشاط العلمي بعده بل استمر في تقدمه في كل دور على ايدي اكابر العلماء.

الدور الثالث:وهو الدور الحالي للاصول. وهو الآن في حال النضج والتكامل نتيجة لاجتياح التيارات الفكرية الغربية والشرقية ميادين الثقافة الاسلامية حتى تغلغل في افكار بعض المفكرين المسلمين حيث نجد هنا وهناك من يحاول المقارنة بين الشريعة الاسلامية والقوانين التي صنعها الفكر الغربي او الشرقي. هذا من جهة. 

ومن جهة اخرى أفاق بعض علماء العامة من هجعتهم الطويلة نتيجة الخطر الذي داهمهم كما داهمنا على حد سواء فجددوا النظر في فتح باب الاجتهاد والتقريب بين المذاهب والمقارنة بين المدارس الفقهية واخذوا يستمدون من فقه اهل البيت شيئاً فشيئاً وقاموا بدراسة اصول الفقه الشيعي في الجملة. 

وهذا ايضاً يسبب المواجهة وبالطبع نحتاج الى توسع في المنهج وتطوير للابحاث فالآراء الاصولية المبتنية على مبادئ وافكار وقعت مورداً للشك حتى في الامور التكوينية - وهي مجراها الاصلي - لابد ان يجدد النظر فيها وتبنى على اساس أتقن يلائم المرحلة الاخيرة لتكامل الفكر.

وهكذا الكلام في الجانب اللغوي والادبي من الاصول فلابد من تجديد النظر في الاصول المسلمة عند قدماء الادباء حيث تعرض الادب بدوره لتطور في المدارس الحديثة فلابد من ان نأخذ بعين الاعتبار كل ما طرأ على هذه المسائل من تغيير وتعديل.

وكذلك لابد من ملاحظة سائر النظريات الحديثة التي يمكن ان يستفاد بها في تكميل المنهج الاصولي، فمنها حساب الاحتمالات الذي انتشر في شتى ميادين الحياة وصنع من اجل تركيزه العقول الالكترونية واخذ يحدد مسيرة المستقبل في السياسة والحرب والثقافة والصحة وغير ذلك من جوانب الحياة البشرية. 

وهذا القانون يعالج كثيراً من المشاكل الاصولية بوجه عام ومسائل العلم الاجمالي بوجه خاص ومن تلك المسائل عدم تنجيز العلم الاجمالي في موارد الشبهة غير المحصورة. وكان علماؤنا الاصوليون بفضل ارتكازهم القوي يشعرون بذلك ولكن جماعة من المتأخرين الذين حاولوا التخريج الفني له لم تنجح محاولاتهم فصارت الفكرة في اصلها موردا للانكار. 

ولكن قانون حساب الاحتمالات يكشف لنا السرّ العلمي لذلك وهو ان احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على احد اطراف الشبهة يضعف كلما تكثرت الافراد المشتبهة فاذا كانت من الكثرة بمكان يعدّ احتمال الانطباق على كل واحد منها احتمالاً موهوماً سقط العلم الاجمالي عن التنجيز في وجوب الموافقة القطعية وذلك لان المنجز في موارد التنجيز هو احتمال المطابقة الذي اكتسب قوة من جهة تقوّم العلم الاجمالي به فاذا ضعف الى هذا الحد لم تبق له قابلية التنجيز.

ومن تلك المسائل ايضاً مسألة التواتر المعنوي واللفظي وكيفية ايجابهما للعلم فان السبب فيه ليس الا تجمع الاحتمالات في المحور الواحد الذي سبق وان اشرنا اليه اجمالاً في هذا المدخل.

ومن تلك المسائل ما يقال في مبحث حجية الظن الانسدادي من احتمال انحصار التكاليف في المحتملات الموهومة فان ذلك على حساب الاحتمالات امر غير معقول الى غير ذلك من المسائل التي سيجيء تحقيقها في مواضعها ان شاء الله تعالى.

هذا إذا أردنا ان نحرّر اصولاً حيّة تتمكن من مواجهة الثقافات الاخرى كما ان اصحاب الدور الاول وهم السلف الصالح قدس الله اسرارهم استمدوا من الكلام والفلسفة لتثبيت دعائم اصولهم. 

والثقافة في اي مضمار كانت وليدة حاجة المجتمع ولابد ان تتبع في تشكله وتكامله حاجات المجتمع ايضاً والا فهي ثقافة جامدة. 

ويلاحظ ان علم الاصول في كل من الدورين السابقين كانت تفي برفع حاجات المجتمع الثقافي آنذاك ولذلك استحقت كل هذا التقدير. 

وخلاصة القول انّا نبحث ونصب اعيننا قوله تعالى (فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).([21])

واما من جهة الفقه العامّي فقد تأثر بعض عامة الشيعة ببعض آرائهم فأنكروا مثلا ثبوت الخمس في ارباح المكاسب تاريخياً ولابد ان يكون الفقه واصوله في هذا العصر متمكنا من الدفاع ضد هذه الهجمات التي قد تؤثر في داخل البيت الشيعي وربما يصل من بعض الكتاب غير المتخصصين ان أحاديث العامة أقرب الى الوثوق بها من أحاديثنا لقلة تعرضها للتغيير والتبديل. 

وقد عقدنا في مبحث حجية خبر الواحد باباً في تاريخ تدوين الحديث وبيّنّا هناك ان الامر ربما يكون بالعكس وقد أشرنا اليه في هذا المدخل وفي مبحث التعارض حيث ذكرنا تأخر تدوين الحديث عندهم وانه ظل زهاء قرن ونصف منقولاً من الافواه مما يعرضها للزيادة والنقصان. وقد توجه بعض العامة الى ذلك ايضاً فاعترفوا به على مضض ومنهم محمود ابو رية في كتابه اضواء على السنة المحمدية. 

ونظراً الى هذه المواجهة بحثنا عن عدم حجية القياس في فصل خاص بتفصيل، ولم نكتف في البحث عن حجية قول اللغوي بالطريقة التقليدية من التحقيق حول حجية قول اهل الخبرة ومن دليل الانسداد الصغير بل تعمّقنا في اسس التفكير اللغوي والاسباب التي تفرض على اللّغوي ان يختار احد المعنيين او ان يضيف معنى آخر الى قائمة المعاني بما في ذلك السبب الطائفي حيث وجدنا ان بعضهم انما يذكر المعنى انتصاراً لمذهبه الذي سلكه او اعتنقه في الفقه. 

وكذلك سائر جوانب الادب العربي وكشفنا بذلك عن السرّ في بعض خلافات مدرستي الكوفة والبصرة في النحو حيث كان الاساس فيها هو الخلافات الفقهية.

 

الجهة السادسة: 

 

في توضيح حقيقة الاسناد الاعتباري (المجاز في الاسناد) وبعبارة اخرى توضيح الفرق بين العرض الذاتي والعرض الغريب. 

والسبب في تشكيل هذا البحث هو تقيد القدماء ببيان موضوع العلم قبل الخوض فيه وقد عرّفوه بوجه عام بقولهم: (ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية) وفسّر صاحب الكفاية الذاتي بقوله: (بلا واسطة في العروض) ولما كان اصل توقف العلم على معرفة موضوعه ليتميز عن غيره امراً تقليدياً محضاً اعتبر هذا البحث بجميع جوانبه بحثاً تقليدياً ايضاً. 

ولكنا نجد الحاجة الى هذا البحث قائمة فمعرفة الاسناد المجازي وحقيقته دخيلة جداً في العلوم الدقيقة كالمنطق والفلسفة والفقه. فالعلم يحتاج الى معرفته كما ان الاديب يحتاج اليها ايضاً. اما الاديب فلانه يبحث عن انحاء الاسانيد بما فيها الاسناد الى غير من هو له. الا ان المجاز في الاسناد في اصطلاح الاديب يختلف عنه في اصطلاح العلوم. والواسطة في العروض هو المعنى الشامل للاصطلاحين فبعض اقسامه ينطبق على المجاز في الاسناد في اصطلاح الادباء وبعضها عليه في اصطلاح العلوم. 

وحيث انا سنفصل البحث عن اقسام الواسطة في العروض فلابد من تمهيد نقسم فيه الواسطة ونتعرض لبعض موارد الحاجة الى معرفتها في الفقه والاصول بصورة اجمالية وما استوجب الاشتباه فيها من اخطاء حتى لا يتوهم انه بحث تقليدي محض وان كان محل بحثه تقليدياً.

 

تقسيمات الواسطة:

 

الواسطة تنقسم – كما ذكروا – الى ثلاثة اقسام: الواسطة في الاثبات والواسطة في الثبوت والوسطة في العروض. 

فالاولهو الذي يوجب العلم بثبوت محمول لموضوع ويعبر عنه في المنطق بالحد الاوسط ويقسم هناك الى ما يكون علة لثبوت المحمول للموضوع خارجا فيكون البرهان لميا وما ليس كذلك فيكون إنّيا. 

والثانييبحث عنه في الفلسفة في مبحث العلل والمعلولات ويقسم هناك الى علة فاعلية وعلة غائية حيث ان العلة الغائبة ترجع الى التأثير في فاعلية الفاعل فالغاية وان كان وجودها متأخراً عن المعلول الا ان وجودها الذهني مؤثر في نفس الفاعل وباعث له الى العمل ومنشأ لتحقق الارادة.

واما الواسطة في العروض فلم يبحث عنها في الفلسفة والكلام الا بالمقدار الذي يقتضيه الاستطراد ولم يخصص لتوضيحها بحث هناك.

وقد تبين بما ذكرنا ان النسبة بين الواسطة في الاثبات والواسطة في الثبوت عموم من وجه ويتصادقان في الحد الاوسط للبرهان اللمي ويفترقان في البرهان الإنّي وكذلك فيما اذا كان ثبوت المحمول للموضوع بديهياً لا يتوقف على واسطة في الاثبات.

والفرق الاجمالي بين الواسطة في الثبوت والواسطة في العروض ان العارض على الشيء قد يكون وصفاً لذي الواسطة واقعاً فيقال للواسطة انها واسطة في الثبوت وقد يكون وصفاً للواسطة واقعاً وانما يوصف به ذو الواسطة مجازاً فتكون واسطة في العروض. 

والمراد بالعارض اعم من العرض ولذا يجمع بالعوارض لا الاعراض وقد يطلق العارض على الوجود ايضاً كقول السبزواري (ان الوجود عارض المهية). والخلط بين الامرين استوجب بعض الاشتباهات ولعلنا نشير اليها.

ولنذكر الآن بعض الموارد التي نحتاج فيها الى معرفة الواسطة في العروض: 

فمنها ما ذكره المحقق النائيني في مفهوم الموافقة حيث فصل بين ما اذا كانت العلة المذكورة واسطة في العروض فيستفاد المفهوم وهو تعميم الحكم وما اذا كانت واسطة في الثبوت فلا يستفاد التعميم فالاول كقوله: (لا تشرب الخمر فانه مسكر) حيث انه ظاهر في ان الحرمة عارضة للمسكر واقعاً والثاني كقوله (لا تشرب الخمر لاسكاره) حيث انه ظاهر في انها عارضة للخمر بواسطة الاسكار. 

فظاهر الاول ان الحرام هو المسكر وان تطبيقه على الخمر من باب انطباق عنوان المسكر عليه، وهكذا يعمم الحكم لجميع انواع المسكر. وظاهر الثاني جعل نفس الخمر موضوعاً للحرمة اذ الاصل تطابق مقام الاثبات لمقام الثبوت والاسكار علة لثبوت الحرمة فهو من علل التشريع وليس موضوعاً للحكم وهذا يستظهر من لام التعليل في (لاسكاره) وعليه فلا يعمم الحكم.

وتوضيح ما ذكره قدس سره وبيان كيفية الاستظهار وتقييم هذا الفرق امور موكولة الى مباحث المفاهيم. 

ومن ذلك ايضاً ما ذكره الشيخ في المكاسب من ان قول القائل: (يجوز لك الدخول في داري فانك صديقي) ظاهر في موضوعية الصداقة وانه واسطة في العروض فلو كان مشتبها في التطبيق ولم يكن المخاطب صديقه واقعاً لم يجز له الدخول. ولو قال: (يجوز لك الدخول في داري لانك صديقي) كان ظاهراً في الواسطة في الثبوت وموضوعية المخاطب فيجوز الدخول وان كان مشتبها في التطبيق.

ومنها ما يقال في وجوب مقدمة الواجب ان العقل انما يحكم بوجوبها من باب انّها مقدمة وهي حيثية تعليلية الا ان الحيثيات التعليلية في الاحكام العقلية مرجعها الى الحيثيات التقييدية. فالواجب في الواقع هو نفس عنوان المقدمة واما نصب السلم للصعود الى السطح فهو واجب بالعرض. 

كما ان العقل حينما يحكم بجواز ضرب الولد للتأديب فهو انما يحكم بجواز التأديب بل حكمه بجوازه ايضاً من جهة انه احسان فحكم العقل يرجع بالتالي الى حسن الاحسان. وهكذا سائر الاحكام العقلية المعللة وهو بالطبع مختص بما يكون من احكام العقل العملي لا النظري. 

والحاصل ان الحيثيات التعليلية والتقييدية تعبير آخر عن الواسطة في الثبوت والواسطة في العروض الا ان التعبير الثاني اوسع وأشمل فكل حكم عقلي معلل ثابت في الواقع لنفس العلة ويتصف به الموضوع بالعرض ولذا يجوز في مقدمة الواجب ان يكون مستحباً ايضاً اذ لا ينافي ذلك وجوبه العرضي كما سيأتي توضيحه في بيان الفروق بين نوعي الواسطة ان شاء الله تعالى.

وبعد بيان هذا التمهيد نقول ان البحث في مقامين:

المقام الاول:في تفصيل الفرق بين الواسطة في الثبوت والواسطة في العروض ويتم بيان ذلك في ضمن وجوه كلها استنتاجات قطعية من تصور مفهوميهما.

الوجه الاول:ان تقوم العارض بالواسطة في الثبوت من قبيل التقوم الصدوري او ما يشبهه وتقومه بالواسطة في العروض من قبيل التقوم الحلولي او ما يشبهه. 

والمراد بالتقوم الصدوري بالمعنى العام كون الواسطة منشأً لوجود العرض بما للمنشأية من المعنى الوسيع بحيث تشمل علل التشريع ايضاً مع انها ليست من العلل الفاعلية وكذا غيرها من انحاء المنشأية كما تشمل العلل الفاعلية كحرارة النار لسخونة الماء فالواسطة في جميع هذه الموارد واسطة في الثبوت والعرض يعرض ذي الواسطة ناشئاً منها.

واما الواسطة في العروض فالعرض يعرضها بنفسها فتقومه بها تقوم حلولي او ما يشبهه. وانما عممنا هذا العنوان باضافة ما يشبهه ليشمل جميع موارد الواسطة في العروض كما يظهر من الامثلة فالحركة مثلا تعرض السفينة بنحو الحلول واما الوجوب العارض لعنوان الصلاة فهو انما يتقوم بها بما يشبه التقوم الحلولي.

الوجه الثاني:ان اتصاف ذي الواسطة بالعرض في موارد الواسطة في الثبوت من قبيل وصف الشيء بحال نفسه وفي موارد الواسطة في العرض من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه. وذلك لان الوصف في الثاني للواسطة حقيقة وتوصيف ذي الواسطة به بنوع من المجاز في الاسناد. 

ويعبر عن هذا الفرق في الفلسفة بالسبق حقيقة. قال السبزواري: (بالذات ان شيء بدا وبالعرض - لاثنين سبق بالحقيقة انتهض) وقال في وجه تسميته بالسبق حقيقة في قبال سائر اقسام السبق الثمانية ان (في الكل كل من المتقدم والمتأخر متصف بالملاك بالحقيقة ولا صحة لسلب الاتصاف من المتأخر وفيه قد اعتبر ان يكون اتصاف المتأخر بالملاك مجازاً من باب الوصف بحال المتعلق ويكون السلب صحيحاً)([22]). 

ومراده من الملاك ملاك السبق وقد اوضحه في موضع آخر بقوله: (في السابع الكون ولو تجوزاً) ومراده من السابع السبق حقيقة وشرحه بان الملاك هو (مطلق الكون سواء كان بالحقيقة او بالمجاز حتى يكون مشتركاً بين المتقدم والمتأخر بهذا النحو)([23]).

الوجه الثالث:ان الواسطة في الثبوت ان كانت متصفة بنفس الوصف الذي اتصف به ذو الواسطة فالموجود من ذلك الوصف فردان اما في الواسطة في العروض فالوصف الواحد ينسب الى الامرين جميعاً: الى الواسطة حقيقة والى ذي الواسطة بالتجوز. فالاول نظير حرارة النار الواسطة في حرارة الماء واتصافهما بالحرارة ناشئ من تحقق فردين منها. واما الثاني فواضح.

الوجه الرابع:ان ذا الواسطة في الواسطة في العروض يمكن ان يتصف بالنقيضين والضدين والمثلين ولا يمكن ذلك في الواسطة في الثبوت. 

وذلك لان المفروض ان احد الوصفين في القسم الاول ليس وصفاً لذي الواسطة حقيقة وانما يوصف به مجازاً فلا مانع من ان يجتمع مع وصف مناقض او مضاد او مماثل حقيقي فيقال لمقدمة الواجب انها واجبة وليست بواجبة ان قلنا بان وجوبها بنحو الواسطة في العروض. كما انه لا مانع من ان يجتمع مع وصف مجازي من احد الاقسام الثلاثة بوساطة واسطة اخرى في العروض. وانما المحال هو اجتماع المتقابلين باحد الانحاء حقيقة.

 

تقسيمات الواسطة في العروض: 

 

التقسيم الاول:ان الواسطة في العروض تنقسم الى واسطة جلية وواسطة خفية. 

والخفاء والجلاء امران نسبيان وليس لهما مقياس علمي الا ان بامكاننا ان نجعل المقياس للجلاء في هذا المقام هو ان تكون الواسطة بحيث يعتبر الاسناد من وجهة نظر الاديب اسناداً مجازياً نحو جرى النهر وسرى الميزاب حيث ان كون الجريان والسريان وصفين للماء دون النهر والميزاب من الامور الواضحة. 

وكذا نسبة الحركة الى الاجسام الموجودة على سطح الكرة الارضية تبعاً لحركة الارض الوضعية والانتقالية حيث ان اسناد هذه الحركة الى تلك الاجسام اسناد مجازي. 

هذا ان قلنا بان المراد بالحركة الحركة الاينية وتبديل المكان واما ان كان المراد بالحركة معنى اعم فاسنادها الى تلك الاجسام قد يكون حقيقة اذ هي ايضاً تبدل مكانها من الفضاء الخارجي وحركة الارض واسطة في الثبوت. 

 

وهكذا اسناد الحركة في السفينة تبعاً لحركتها فالاديب يشعر في هذه الموارد بوجود الواسطة التي هي المعروضة حقيقة.

ومن هذا القبيل اتصاف الافعال الخارجية بالحكم الشرعي من الوجوب والحرمة فان الواجب حقيقة هو الصلاة باعتبار كونها حداً للامر الاعتباري الذي هو الوجوب فيقال ان الشارع اعتبر الصلاة في ذمة المكلف. وهذا الاعتبار غير مقيد باتيان الفعل الخارجي او عدم اتيانه عصياناً او نسياناً. 

وعليه فتوصيف العمل الخارجي بهذا الوصف مع الواسطة وهي جلية بمعنى ان التغاير بين الواسطة وذي الواسطة واضح. فان معروض الوجوب حقيقة هو طبيعي الصلاة في وعاء الاعتبار وموصوفه مجازاً هو الفرد الخارجي . 

ولهذا البحث نتائج: 

منها تشخيص ان الامر متعلق بالطبيعي او بالافراد. 

ومنها الجواب عن المقدمة الثانية من مقدمات المحقق الخراساني في منع اجتماع الامر والنهي حيث ذكر في المقدمة الاولى ان الاحكام متضادة. وفي الثانية ان معروضها نفس الفعل الخارجي فيجتمع الضدان في الشيء الواحد الخارجي اذا صح اجتماع الامر والنهي. 

فان الجواب عنها يظهر بما ذكرناه من وضوح ان معروض الاحكام هو نفس الماهيات بلحاظ وجودها في وعاء الاعتبار لا بقيد الوجود الخارجي. وقد يخفى الامر مع كمال وضوحه على اعاظم العلماء.

ويدل على ذلك ان الوجوب امر اعتباري لا تحقق له الا في عالم الاعتبار ولا يمكن ان يعرض الموجود التكويني الخارجي فهو امر متقوم بنفس المعتبر ولا يمكن ان يكون المشخص للامر النفسي الاعتباري امراً خارجياً. 

اضف الى ذلك انه يستلزم تقوم الموجود بالمعدوم اذ قد يكون الوجوب موجوداً بلحاظ اعتباره ولا يكون الفعل الخارجي متحققاً بعد في الخارج. 

ومضافاً الى أن الفعل الخارجي مسقط للوجوب فكيف يمكن ان يكون معروضا له. 

وغير ذلك مما ينّبه على وضوح ما ذكرناه.

اذن فتوصيف الفعل الخارجي بالوجوب والحرمة انما هو من جهة تطابقه مع المعروض الواقعي للحكم لا من جهة انطباقه عليه فانه انما يكون بين الكلي والفرد. والمعروض هنا هو الماهية الموجودة في وعاء الاعتبار وهي لا تنطبق على الفرد الخارجي وانما تطابقه وتشابهه. وبحكم العقل والعقلاء يسقط الامر الاعتباري عن الذمة باتيان ما يطابقه في الخارج. 

ولهذا الاجمال شرح في محله.

ومن هنا لا مانع من اتصاف الفعل الخارجي الواحد بالوجوب والاستحباب معاً، فيجوز ان نقول بان الماهية لا بشرط من التسبيحات الاربع في الركعتين الاخيرتين واجبة والماهية بشرط شيء وهي بقيد التثليث مستحبة فينطبق عنوان الواجب والمستحب على التسبيحة الاولى.

واما خفاء الواسطة فالمراد به ان العرف يرى بالنظر الدقيق ان العارض لذي الواسطة حقيقة وان الواسطة من قبيل الواسطة في الثبوت وفي مثل ذلك يشكل الامر في تشخيص الواسطة. 

ولهذا الخفاء مراتب ايضاً. ولنذكر له امثلة من غير علم الاصول:

منها الحد الاوسط في الاقيسة كقول المناطقة (كل انسان حيوان وكل حيوان حساس فكل انسان حساس) فان الحسّ من شؤون الحيوان بما هو حيوان والانسان بما هو انسان موصوف به بالعرض والمجاز.

ومنها عروض الحمرة على يد المختضب بالحناء مثلاً بناءاً على انها ليست وصفاً لليد حقيقة اما من جهة ما قيل في الفلسفة من امتناع انتقال العرض من معروض الى معروض آخر فالمعروض للحمرة هو نفس اجزاء الحناء الباقية في منافذ البشرة. وإما من جهة ان اجزاء الحناء يمكن مشاهدتها بعينها بالمجاهر الحديثة بل يمكن بوسائل اخرى استخراجها منها. واما اذا كان الوصف حاصلاً لليد حقيقة بنحو التأثير من الحناء اذ يمكن ان يحصل هذا اللون بتفاعل بين اجزاء الحناء وبشرة الانسان فلا يكون من الواسطة في العروض نظير تأثير الشمس في سواد الوجه وبياض الثوب.

واخفى من ذلك ما ذكره السبزواري من ان الابيض صفة للجسم بنحو المجاز في الاسناد وان الابيض واقعاً هو البياض. 

واخفى منه ما قاله من أنَّ توصيف الماهية بالوجود وان كان بالحقيقة العقلية والعرفية وصفاً بحال نفسها الا انه يمكن التفوه بالتجوز بنظر عرفاني او برهاني أدق لا يعرفه الا الراسخون في الحكمة([24]).

ويشير بذلك الى ما ذكروه في الفلسفة من ان الموجود حقيقة هو نفس الوجود وان الماهية موجودة به. ولسنا الآن بصدد تقييم هذه النظريات والافكار وانما نبحث وجهة النظر الاصولية ونذكر هذه الامور للمثال فقط.

ومن قبيل الواسطة الخفية موضوعات الاحكام الشرعية بالنسبة الى اتصاف الافراد الخارجية بالحكم فموضوع الحكم بوجوب الحج في الواقع هو عنوان المستطيع بلحاظ وجوده في وعاء الاعتبار وعروض الوجوب على زيد انما هو بلحاظ انطباق العنوان عليه فهو وصف بلحاظ المتعلق. 

وهذا هو الوجه الذي ذكره المحقق الخراساني في الجواب عن اشكال الشرط المتأخر([25]).

وحاصل ما افاده انّ الشرط واقعاً ليس الا لحاظ ما هو شرط خارجاً وهو ما عبرنا عنه بالوجود الاعتباري للماهية. والمتفرقات في وعاء الزمان مجتمعات في وعاء الاعتبار. 

وبيان ذلك ان حقيقة الشرط هو ما يتقيد به الحكم الشرعي في وعاء اعتباره وحيث ان المشروط امر اعتباري فلابد من ان يكون الشرط اعتبارياً ايضاً وهو لحاظ الامر الخارجي. فالشرط الواقعي غير ما هو شرط في الخارج وان كان التغاير خفياً. 

وقد اعترض المحقق النائيني وغيره على هذا التحقيق الذي افتخر به المحقق الخراساني. وتوضيح الامر في مبحث الشرط المتأخر. 

ومن العجب أن المحقق الخراساني تنبه لتقوم الحكم بموضوعه في وعاء النفس وأنّ اتصاف الموضوع الخارجي ببركة الواسطة في العروض وبذلك أجاب عن إشكال الشرط المتأخر ولم ينتبه الى الواسطة في العروض في باب متعلقات الأحكام، فزعم أن العمل الخارجي هو موضوع الحكم كما مرت حكايته عنه مع أن وجود الواسطة هناك واضح وفي المقام في غاية الخفاء.

 ومن هذا القبيل مراتب الحكم: (الانشاء - الفعلية - التنجز) فان المجعول ليس الا شيئاً واحداً نحو: (من استطاع فعليه الحج) الا انه بلحاظ ارتباطه مع عنوان المستطيع في مرحلة الجعل يعبر عنه بالحكم الانشائي، وبلحاظ ارتباطه مع ما يطابق عنوان المستطيع في الخارج يعبّر عنه بالحكم الفعلي. فاتصاف الحكم باحد الامرين بلحاظ هذين الارتباطين. وهذه وساطة خفية.

وهذا هو الاساس في جواب المحقق النائيني عن شبهة المولى النراقي بتقريب بعض المتأخرين وهي معارضة استصحاب بقاء المجعول باصالة عدم الجعل حيث اجاب عنها بان الاستصحاب في الحكم الانشائي مثبت ومعنى ذلك أن عدم اثبات الاستصحاب او نفيه للارتباط الثاني لا يتم الا على القول بالاصل المثبت. وتوضيحه في محله.

ووجه خفاء الواسطة في هذه الموارد ان العوارض على قسمين: 

القسم الاولماله ارتباط بمعروضه وارتباط بموصوفه، والقسم الثاني ما لا يرتبط الاّ بجانب واحد كالبياض العارض للجسم والكلية العارضة لمفهوم الانسان في الذهن. 

ويعد الاول من المعقولات الثانية باصطلاح الحكيم وهو موجود في الذهن الا ان له ارتباطاً بالامر الذهني وهو معروضه وارتباطاً بالامر الخارجي وهو موصوفه كالملكية والنجاسة فان الامر الخارجي يوصف بهما حقيقة الا ان النظر الادق يرشدنا الى ان معروضهما في الواقع هو الامر الذهني. 

وهذه الدقة في النظر انما نحتاج اليها في دفع اشكال الشرط المتأخر وتعارض الاستصحابين وغيرهما والا فالنظر الدقيق العرفي لا يقضي بالتجوز في اسناد هذا القبيل من العوارض الى الامر الخارجي بل قد خفي ذلك على بعض متأخري الفلاسفة فحاولوا توجيه تغاير وعاء العروض والاتصاف ببعض الوجوه الضعيفة.

التقسيم الثاني للواسطة في العروض: ان الواسطة قد تكون مغايرة لذي الواسطة وجوداً ومفهوماً وقد تكون مغايرة له وجوداً فقط او مفهوماً فقط مع أنه لابد من وجود علاقة بينهما اذ لا يصح اسناد وصف شيء لشيء آخر دون ارتباط بينهما اصلاً. 

فهذه اقسام ثلاثة:

القسم الاول: المتغايران وجوداً ومفهوماً وهو على نوعين:

النوع الاول: ان يكونان متمايزين حتى في الاشارة الحسية ويعبّر عنه بالتغاير في الوضع كالسفينة وجالسها، والنهر والماء.

النوع الثاني: ان لا يمكن التفكيك بينهما بالاشارة الحسية كالجوهر وعرضه. 

مثال ذلك ما يقال في الفلسفة من ان بعض انحاء الكيفيات مختصة بالكميات كالانحناء والاستقامة المختصين بالخط وان اتصاف الجسم بهما مع الواسطة في العروض. والاعراض عندهم مغايرة وجوداً للجوهر وان كانت متقومة به ولا يمكن التمييز بينهما بالاشارة فالكم وهو الخط في المثال واسطة لعروض الانحناء والاستقامة على الجسم. والواسطة مغايرة مع ذي الواسطة وجوداً ومفهوماً ولكنهما لا يتمايزان حساً. 

واما على رأي بعض المتأخرين من ان العرض موجود بوجود الجوهر وليس له وجود مستقل اصلاً فلا يصح المثال لعدم التغاير الوجودي ولعلّه الصحيح.

القسم الثاني: المتغايران وجوداً والمتحدان مفهوماً، ويمثل له في المعقول بالمعلوم بالذات الذي هو الواسطة لاتصاف الامر الخارجي بكونه معلوماً مع انه معلوم بالعرض. والاول هو الوجود العلمي للماهية اذ لا يمكن - على ماقالوا - ان يكون المحدد للامر النفسي وهو العلم الا ما هو موجود في عالم النفس فلا يمكن ان يكون المحدد للعلم الامر الخارجي. فالماهية هنا شيء واحد الا انها بلحاظ وجودها العلمي واسطة لاتصاف الموجود الخارجي منها بالمعلومية فالوجودان متغايران والمفهوم واحد.

وكذلك الكلام في المراد بالذات والمراد بالعرض فان الاول موجود في الذهن والخارج يطابقه ويتصف بكونه مراداً بالواسطة في العروض وهما من حيث المفهوم متحدان.

والمثال الاصولي له توسط متعلقات الاحكام بلحاظ وجودها الاعتباري المحدد للحكم لاتصاف الموجود الخارجي من نفس ذلك المفهوم بذلك الحكم مع ان الموجود الخارجي موجب لامتثال الحكم وسقوطه وليس محدداً ومتعلقاً له. فالصلاة مثلاً مفهوم واحد الا انها بلحاظ وجودها في وعاء الاعتبار واسطة لاتصاف الصلاة الخارجية بالوجوب. 

وهكذا الكلام في موضوعات الاحكام كعنوان المستطيع الواسطة في اتصاف المستطيع الخارجي بوجوب الحج عليه.

وهذا المثال بحاجة الى توضيح وهو ان الاعتبارات متقومة بمتعلقاتها في وعاء الاعتبار فان نسبة المتعلق الى الاعتبار كنسبة الماهية الى الوجود. ولكن الماهية بهذا اللحاظ لا تتصف بمصلحة في التكاليف الوجوبية ولا بمفسدة في التكاليف التحريمية. ووعاء المصالح والمفاسد هو الماهيات بوجوداتها الخارجية الا ان الماهية بوجودها الذهني في وعاء الاعتبار اذا اخذت مرآة لملاحظة الماهيات في الخارج بنحو فناء العنوان في المعنون تتحقق الوساطة في العروض. 

وذلك لاتصاف العمل الخارجي حينئذ بالوجوب والحرمة مع الواسطة في العروض. واتصاف الماهية في الذهن بكونها ذات مصلحة ومفسدة مع الواسطة في العروض ايضاً فانها ايضاً انما تتصف بهما بملاحظة تطابقها مع العمل الخارجي وبهذا الاعتبار يتعلق بها التكليف. 

فتبين ان مجرد كون الشيء وجوداً ذهنياً للماهية المتحققة في الخارج لا يوجب التوسط في العروض وانما يتوقف ذلك على كون ما في الذهن مرآة وعنواناً لما في الخارج حتى يستوجب سراية الاثر من كل منهما الى الآخر.

وعلى هذا الاساس نقول بالانحلال في النواهي. فانها متعلقة بالماهيات في وعاء الاعتبار وهي في هذا الوعاء ليست متكثرة حتى يتحقق الانحلال الا انها اخذت عناوين لملاحظة الافراد الخارجية للماهية التي هي اوعية للمفاسد المصححة لتعلق النهي بالعنوان وهي متكثرة بالطبع فيسري هذا التكثر الى الماهية في وعاء الاعتبار فتتصف بالكثرة مع الواسطة في العروض وبهذا اللحاظ ينحل النهي المتعلق بها.

وبهذا التقريب ندفع ما ذكره السيد البروجردي قدس سره من عدم انحلال النواهي بحسب تعدد افراد المتعلقات.

فالوساطة في العروض هي التي توجب اتصاف متعلق الاعتبار ونفس الاعتبار ايضاً بالكثرة وبوجدان المصلحة والمفسدة وهي التي توجب اتصاف الخارج بالحكم.

القسم الثالث: المتغايران مفهوماً والمتحدان وجوداً وسنذكر في مباحث اجتماع الامر والنهي كيفية اتحاد المفهومين في الوجود. 

وذلك نظير ما يقال في المنطق من اتحاد مفهومي الحيوان والانسان في الفرد الخارجي، ونظير اتحاد الامور الانتزاعية في منشأ الانتزاع. فيمكن ان يقال بسراية وصف التحرك بالارادة الى الانسان بلحاظ اتحاده مع الحيوان خارجاً وسراية وصف الناطق مثلاً الى الحيوان بذلك اللحاظ. 

وفي الاصول قد ننسب الاثر الثابت للكلي الى فرده، والمراد بالفرد الجزئي الاضافي، او ننسب الاثر الثابت للفرد الى الكلي وذلك مع الواسطة في العروض. 

والتمييز بين كون الاثر للفرد او للكلي يؤثر في بعض المباحث الاصولية: 

فمنها ما ذكره المحقق الخراساني في مبحث الاصل المثبت من ان الاثر لو كان للطبيعي يثبت باستصحاب الفرد المتحد معه خارجاً. 

ورفض ذلك من تأخر عنه ــ وهو الصحيح ــ فان التوسط يمنع من ترتيب الآثار في التنزيلات ومنها الاستصحاب ولذا لا يقول الاعلام بترتب آثار الكلي في القسم الاول من الاستصحاب اذا كان المستصحب هو الفرد. ولا يقولون بترتب آثار الفرد الطويل باستصحاب الكلي في القسم الثالث. والتوسط في العروض يؤثر في مباحث الاستصحاب وتحقق عنوان الاصل المثبت مهما كان خفياً.

ومنها مبحث اجتماع الامر والنهي حيث يقال او يمكن ان يقال بسراية ملاك احد الامرين من الغصب والصلاة مثلاً الى الآخر بلحاظ اتحادهما وجوداً فيمتنع الاجتماع للزوم التضاد من حيث المبدأ أي الملاك. او يقال بان الاتحاد الوجودي يستلزم اجتماع الضدين على مسلك المحقق الخراساني من عدم جواز اجتماعهما حتى في الامور الاعتبارية. 

والصحيح – كما ذكرناه في محله – جواز الاجتماع من كلتا الجهتين فان توصيف الصلاة بالحرمة انمايصح بما انها غصب فهو مع الواسطة في العروض كما انه يصح توصيفها بوجدان ملاك الحرمة اي المفسدة الملزمة الا انه ايضاً مع الواسطة في العروض وقد مر ان استحالة اجتماع الضدين او النقيضين انما هو بلحاظ الاتصاف الحقيقي لا المجازي.

ومنها مبحث وجوب مقدمة الواجب حيث يبحث عن وجوب كل جزء من الواجب بالوجوب الساري اليه من الواجب الكل مع ان الاجزاء لا تتصف بالوجوب الا بقيد الاجتماع وهي بهذا اللحاظ متحد مع الكل وجوداً ومغاير مفهوماً.

والحاصل ان مجرد الاتحاد وجوداً بين المفهومين لا يستوجب انكار التوسط في العروض ولا يصحح القول بكون الوصف بلا تجوز وقد اشتبه الامر على المحقق الخراساني هنا وفي مبحث الاصل المثبت. 

اما في المقام فحيث ذكر في موضوع العلم انه متحد مع موضوعات المسائل خارجاً ومغاير معها مفهوماً وبنى على ذلك ان هذا الاتحاد الوجودي يكفي في كون محمولات المسائل عرضاً ذاتياً لموضوع العلم ووصفاً له بلا واسطة في العروض. وسيجئ لذلك توضيح وتوجيه. 

واما في مبحث الاصل المثبت فحيث ذكر في التنبيه الثامن ان آثار الكلي يترتب باستصحاب الفرد لاتحادهما وجوداً.

التقسيم الثالث:ان الواسطة وذي الواسطة قد تكونان متباينين كالسفينة وجالسها وقد يكون بينهما عموم من وجه كالصلاة والغصب وكالنهي عن اكل الرمان لانه حامض حيث ان الحموضة واسطة لسراية النهي الى الرمان وبينهما عموم من وجه. 

وقد تكونان متساويين كالاجزاء بالاصل بالنسبة الى الكل فان الكل ليس الا مجموع الاجزاء، والوجوب الساري من الكل الى الاجزاء لا يسري الا الى الجزء بلحاظ اجتماعه مع باقي الاجزاء كما مر. وكتوصيف الانسان بالمتعجب بوساطة الناطق وهما متساويان. 

وقد يكون بينهما عموم مطلق والواسطة اعم كتوصيف الخمر بالحرمة لانه مسكر. وتوصيف الانسان بالمتحرك بالارادة بوساطة الحيوان. وقد تكون الواسطة اخص كتوصيف الحيوان بكونه ناطقاً لاتحاده وجوداً مع الانسان.

وهكذا ننتهي من انحاء تقسيمات الواسطة بالعروض وغرضنا من كل هذا التفصيل توضيح الامر لتتميز الواسطة عن ذي الواسطة. وقد تبين من خلال هذه التفاصيل اهمية هذا التمييز في الاصول والفقه وسائر العلوم. وقد عدّ من انحاء المغالطات جعل ما بالعرض مكان ما بالذات وذكر السبزواري في خاتمة اللئالي امثلة لهذا النوع من المغالطة.

 

 

الجهة السابعة:

 

في البحث حول ما اشتهر من أنّ موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية اي بلا واسطة في العروض. ونبحث في شرح هذه الجملة على ضوء ما ذكرناه سابقاً في الجهة السادسة. 

والذي يظهر منها في بادئ الامر أنَّ معناها واضح تمام الوضوح وهو ان ما يعد موضوعاً للعلم انما هو الشيء الذي يبحث عن حالاته وعوارضه التي تعرض عليه حقيقة دون ما يكون عارضاً على شيء آخر وينسب اليه مجازاً. ومع ذلك فقد اثارت هذه الجملة مناقشات ومباحثات طويلة. 

وتمهيداً للبحث نشرح مفردات الجملة:

  1. الموضوع. وهو يطلق في عدة موارد: 

منهاما يقابل المحمول في القضية. ولابد لكل قضية من موضوع سواء كانت موجبة او سالبة الا ان هناك بحثاً في المنطق حول توقف صدق القضية الموجبة على وجود الموضوع نظراً الى ان ثبوت شيء لشيء الذي هو مضمون القضية الموجبة فرع ثبوت المثبت له (الموضوع) بخلاف السالبة المحصلة اذ يجوز ان يكون انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع فلا يتوقف صدق القضية على وجود الموضوع.

ومنهاالمحل المستغني عن الحال في وجوده وتشخصه فيقال ان العرض ما يحتاج في وجوده الى موضوع. والجوهر ما لا يحتاج في وجوده الى موضوع. فالموضوع في هذا المقام بهذا المعنى. 

وليس المراد به مطلق المحل اذ بعض انواع الجوهر حسب نظرية الفلسفة القديمة يحتاج الى محل فالصورة حال والمادة (الهيولى) محل ولاتعدّ الصورة عرضاً لما ذكروه من ان المادة في تحصلها تحتاج الى الصورة فالمحل الذي تحتاج اليه الصورة غير المحل الذي يحتاج اليه العرض فالاول لا يستغني عن الحال كما ذكرنا والثاني مستغنٍ عنه في تحصله وتشخصه.

ومنهاالامر المفروض فيقال لما يبتني عليه البحث في العلوم من القضايا المفروضة انها اصول موضوعية. وهي تعتبر من مبادئ العلم.

وهناك معان اخر للموضوع لا يرتبط بهذا البحث.

والمراد بالموضوع في هذه الجملة هو المعنى اللغوي اي ما وضع محوراً للبحث عن حالاته وعوارضه واطواره سواء جعل في القضايا المطروحة للبحث موضوعاً او محمولاً وسواء بحث عن اعراضه او عن سائر عوارضه. ومن هنا تبين ان المعنى الاول والثاني غير مراد واما المعنى الثالث فعدم تناسبه واضح.

  1. العلم. وسيأتي تفصيل البحث عن المراد به عندما نتعرض لتمايز العلوم.
  2. العوارض وهو جمع العارضة وقد يشتبه بالاعراض جمع العرض. والعرض في مصطلح الفلسفة ما كان كونه في نفسه كونه في موضوعه، والعارض اعم منه ولذا قال السبزواري (ان الوجود عارض المهية) مع ان الوجود ليس عرضاً. ويصدق ايضاً في الاحكام الشرعية التكليفية، فانها عوارض فعل المكلف مع انها امور اعتبارية لا اعراض. وقد يكون العارض من الجواهر كما يقال بان الصورة تعرض المادة. وقد يكون من الامور الانتزاعية كما يقال في الفلسفة: الموجود اما ممكن او واجب. 

قال ابن سينا في الاشارات: (اشارة الى الموضوعات والمبادئ والمسائل في العلوم ولكل من العلوم شيء او اشياء متناسبة يبحث عن احواله وعن احوالها وتلك الاحوال هي الاعراض الذاتية له ويسمى الشيء موضوع ذلك العلم مثل المقادير للهندسة). 

وعقّبه المحقق الطوسي بقوله: (والأشياء الكثيرة قد تكون موضوعات لعلم واحد بشرط أن تكون متناسبة ووجه التناسب أن يتشارك في ما هو ذاتي كالخط والسطح والجسم إذا جعلت موضوعات للهندسة فإنها تتشارك في الجنس أعني الكم المتصل القار الذات وإما في عرضي كبدن الإنسان وأجزائه وأحواله والأغذية والأدوية وما يشاكلها إذا جعلت جميعا موضوعات علم الطب فإنها تتشارك في كونها منسوبة إلى الصحة التي هي الغاية في ذلك العلم).([26])

  1. الذاتي. وقد تبين مما ذكرناه في الجهة السادسة ان المراد بالذاتي في مقابل الغريب ما لا يكون له واسطة في العروض. وقد ذكرنا بان من انحاء الواسطة ما هي خفية ولا يخلو شيء من العلوم من البحث عن عوارض الموضوع مع الواسطة الخفية.

ومن هنا يتوجه اشكال في التعريف. واجود ما اجيب به عنه ما ذكره السبزواري في حاشيته على الاسفار قال: (والحق في معنى العرض الذاتي ان يقال هو ما يكون عارضاً للشيء ووصفاً له في الحقيقة بلا شائبة مجاز وكذب من قبيل ما يقال له عند اهل العربية الوصف بحال الشيء لا الوصف بحال متعلق الشيء وبعبارة اخرى العرض الذاتي ما لا يكون له واسطة في العروض لكن بعض انحائها التي كحركة السفينة الواسطة لحركة جالسها لا جميع انحائها...).[27]

فالمراد ان لا يكون مجازاً في الاسناد عند الادباء ولا عبرة بالدقة الفلسفية في ذلك فالمهم ان يكون الوصف وصفاً له حقيقة بحسب النظر العرفي.

وهناك مناقشات في كلمات القوم على هذه الجملة اي ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية.  

وفيما يلي نعرض بعضها ونجيب عنها على ضوء ما تقدم في تفسيرها.

المناقشة الاولى:ان كثيراً من العلوم لا يبحث فيها عن الاعراض. كالفقه فان موضوعه على ما يقال افعال المكلفين من حيث كونها موضوعا لاحد الاحكام الخمسة والاحكام ليست من الاعراض فلا يصح جعل أفعال المكلفين من الموضوع بهذا المعنى. 

بل الاشكال يأتي في بعض مسائل الفلسفة ايضاً حيث يقال فيها ان الممكن اما جوهر واما عرض. والجوهر ليس من الاعراض. او ان الموجود اما واجب او ممكن وهما من الامور الانتزاعية.

وقد ظهر الجواب عنها مما مرّ من ان العوارض اعم من الاعراض والموضوع لا يراد به المحل المستغني عن الحال.

المناقشة الثانية:ان كثيراً من القضايا المطروحة في العلوم من قبيل السوالب المحصلة والسالبة لا تحتاج الى وجود الموضوع لانها سلب للربط وهو لا يتوقف على وجود الموضوع.

ويظهر الجواب عنها ايضاً بملاحظة ما ذكرناه فانها تبتني على ان يكون المراد بالموضوع ما يقابل المحمول وتبين انه ليس كذلك كما تبتني على توهم ان السالبة لا تحتاج الى موضوع وليس كذلك بل صدقها لا يحتاج الى وجود الموضوع والا فكل قضية لابد فيها من موضوع.

المناقشة الثالثة:وتختص بعبارة المحقق الخراساني في الكفاية حيث قال (إن موضوع كل علم وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أي بلا واسطة في العروض هو نفس موضوعات مسائله عينا وما يتحد معها خارجا وإن كان يغايرها مفهوما). 

ويستفاد من هذه العبارة ان موضوعات المسائل لابد ان تتحد مع موضوع العلم من جهة وتغايره من جهة مع ان كثيراً من موضوعات المسائل نسبتها الى موضوع العلم نسبة الجزء الى الكل كالبدن واجزائه في علم الطب. وقد يكون موضوع المسألة نفس موضوع العلم كالعدد فانه موضوع علم الحساب وقد يقع موضوعاً للمسألة نحو العدد اما زوج واما فرد.

ويمكن الجواب عن مورد جزئية موضوع المسألة لموضوع العلم بما مر من كلام المحقق الطوسي من ان موضوع العلم قد يكون اشياء متعددة متناسبة متشاركة في الغرض او من جهة اخرى فلا مانع من كون كل من الاجزاء موضوعاً للعلم بلحاظ تشاركها في الغرض.

ويمكن الجواب بوجه آخر ايضاً وهو ان كل ما يعتبر كلاًّ له لحاظان ويمكن ان يعتبر باحدهما كليّاً، فالكل والكلي قابلان للتحول نظير ما يقال في الحركة القطعية والتوسطية من ان اجزاء الوقت من غروب الشمس الى طلوعها يمكن ان تعتبر كلاًّ ويطلق عليها الليل بهذا اللحاظ ويمكن ان تعتبر افراداً لكلّي ويطلق عليه الليل ايضاً فكل جزء منها ليل باعتبار كونه فرداً من الليل الكلي، وجزء من الليل ككلّ. 

وهذا لا يختص بالازمان بل يصح في الامكنة ايضاً فيقال لنقطة خاصة من البلد انه البلد الفلاني كما يصح ان يقال انه جزء من ذلك البلد فلوحظ عنوان البلد في التعبير الاول كليا وفي التعبير الثاني كلاّ. ولولا ذلك لم يجز الحمل في التعبير الاول اذ الجزئية مانعة عن صحة الحمل. وكذا في اجزاء البدن فيصح ان يشار الى اليد فقط ويقال ان هذا بدن انسان كما يصح ان يقال انه جزء من بدنه. 

وعليه فلا مانع من كون موضوعات المسائل جزءاً لموضوع العلم لاتحادها معه باللحاظ الآخر. وسيأتي له مزيد توضيح في مباحث الاستصحاب.

واما ما ورد في المناقشة من ان المستفاد من كلام المحقق الخراساني اعتبار التغاير بين موضوع العلم وموضوعات المسائل فهو غير صحيح وكلام المحقق المذكور ناظر الى كلام السبزواري الذي نقلناه حيث كان مفاده ان الموضوع قد يبحث عن عوارضه مع الوساطة في العروض ولكنه بدقة فلسفية ولا يعتبر في مسائل العلوم ان يكون البحث عن العوارض بلا واسطة في العروض حتى بهذه الدقة فاجاب عنه المحقق الخراساني بان اتحادهما وجوداً يوجب كون العارض للموضوع بلا واسطة بالتقريب الذي اشرنا اليه والى نقده في الجهة السادسة. 

فليس غرضه ان المعتبر في الموضوع ان يكون مغايراً لموضوعات المسائل بل غرضه انه لو كان مغايراً لها يكفي في كون العارض ذاتياً اتحاده معها وجوداً. ولو افترضنا ان غرضه اعتبار المغايرة فهو امر لا نوافقه فيه.

 

الجهة الثامنة: 

 

في البحث عن تمايز العلوم. ولا يخفى ان البحث عن ذلك وعن الجهة السابقة لا يتمشى وهدفنا الذي ذكرناه في بداية المدخل الا اننا نتعرض لهما تبعاً للمحققين الاعلام لكي لا نتخلى عن المنهج التقليدي للمباحث الاصولية نهائياً.

وقد اختلفت كلماتهم في المائز بين العلوم المختلفة فذهب بعضهم الى ان تمايزها بتمايز الموضوعات وآخر الى انه بتمايز الاغراض واختار بعض آخر ان التناسب والتسانخ الذاتي بين مسائل العلم هو الذي يجمعها ويميز العلم عن غيره من العلوم. وفصل بعضهم بان العلوم تختلف في ما يميزها فتتميز بعضها بالموضوعات وبعضها بالمحمولات وبعضها بالاغراض.

وتمهيداً لبيان وجهة نظرنا في ذلك نشرح كلمتي العلم والتمايز: 

العلم يطلق على عدة معان:

  1. مطلق الادراك سواء كان تصوريا او تصديقيا.
  2. الادراك التصديقي سواء كان علميا او ظنيا.
  3. الاعتقاد الجزمي المطابق للواقع.
  4. مجموعة القضايا المختلفة موضوعاً او محمولاً او موضوعاً ومحمولا المتحدة بالوحدة الاعتبارية. 

والمعنى الاخير هو المراد في هذا المقام لوضوح ان العلوم باحد المعاني الثلاثة الاولى تتمايز بتمايز المعلومات وتتعدد بتعددها. ونسبة المعلوم الى العلم نسبة الماهية الى الوجود. وعليه فلا حاجة الى البحث عن سر تمايز العلوم. مضافاً الى وضوح عدم تناسب هذا المعنى لما هو محل البحث في المقام وهو التمهيد لبيان امتياز مسائل علم الاصول عن غيرها من مسائل العلوم.

واما التمايز فالمراد به التغاير. وهو الحاصل بين المركبات الاعتبارية المختلفة التي نعبر عن كل منها بالعلم فهو مقياس الوحدة والكثرة. مقياس الوحدة المعتبرة بين القضايا المختلفة وهو بالطبع يكون مقياساً للكثرة اي لتخالف العلوم بعضها مع بعض.

ولعلّ ما ذكرناه في شرح الكلمتين يوضّح وجه التمايز بين العلوم وهو عبارة عن اعتبار الوحدة بين المسائل المختلفة. فنفس هذا الاعتبار هو اساس وحدة العلم وهو ايضاً وجه الامتياز بينه وبين سائر العلوم.

وهذا الاعتبار نظير اعتبار مجموعة من الجنود فرقة للجيش فالجامع بين الافراد هو هذا الاعتبار الرسمي والفاصل بين هذه المجموعة وغيرها ايضا هو نفس هذا الاعتبار. 

الا ان كل اعتبار لابد وان يكون له مصحح عقلائي فاعتبار الوحدة بين الامور المتغايرة تابع للاغراض او المصالح الداعية اليه والمختلفة ايضاً بحسب المجتمعات والعصور. 

فنلاحظ مثلاً اعتبار الوحدة بين مجموعة من المدن والقرى والارياف تحت عنوان (محافظة) ونرى ان ذلك بلحاظ ما يجمعها من الشؤون الحيوية اما في الاقتصاد او الثقافة او اللغة او المذهب او القومية او العوامل الطبيعية أو عدم الحواجز الطبيعية بينها كالجبال والبحار او غير ذلك من الشؤون او بامرين وامور مما ذكرنا وما لم نذكر. ثم انه قد يطرأ على هذه المجموعة ما يستوجب تقسيمها الى محافظتين كما اذا تكاثر عدد السكان بحيث صعب جمعها تحت ادارة واحدة. ولا مانع من ذلك الا ان الاعتبار لابد ان يستند الى عوامل واقعية. 

وهكذا الكلام في العلوم فيلاحظ في اعتبار الوحدة في مسائل العلم تناسبها وتسانخها الذاتي بلحاظ الموضوعات والمحمولات أو بلحاظ الاغراض والمصالح او بلحاظ كثرة المسائل وقلتها. فيمكن ان تعتبر مجموعة من المسائل علماً واحداً في زمان وتعتبر في زمان آخر علمين او اكثر نتيجة لتشعب مسائل العلم وتعقدها بحث لا يمكن للطالب ان يتخصّص في مجموعها في المدة المخصصة للدراسة.

مثال ذلك الطب حيث كان سابقاً علماً واحداً بل كان متحداً مع الصيدلة ايضاً ولما تشعبت مسائله وتعقدت نتيجة للنهضة العلمية والاكتشافات الحديثة انقسم الى علوم متعددة مختلفة كل الاختلاف حتى اصبح لكل قسم منها كلية مستقلة ومستشفى مستقل واصبح طبيب العيون لا يعرف الا معلومات بدائية من الطب النفسي مثلاً وهكذا الطبيب النفسي بالنسبة الى الطب الجلدي والى غير ذلك من الانحاء المختلفة.

وهذا التطور في اعتبار وحدة العلم ملحوظ في سائر العلوم ايضاً فمعرفة القانون قد انقسم الى علم للقانون المدني وعلم للقانون السياسي وعلم للقانون الدولي وعلم للقانون الجزائي، والعلوم الرياضية ايضاً انقسمت الى شعب متعددة كل منها علم برأسه وهكذا....

ومع ان هذا الامر في غاية الوضوح نجد الباحثين قد اختلفوا فيه: 

فمنهم من قال بان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات فاذا كان الموضوع في المسائل المتفرقة موضوعاً واحداً كان علماً واحداً والا تعدد العلم. هذا مع ملاحظة ان المحمولات في المسائل عوارض ذاتية للموضوعات وحيث انهم اختلفوا في تحديد العرض الذاتي ايضاً فلو كان الموضوع الواحد يبحث عن عوارضه الذاتية (بالمعنى الذي يراه له الباحث الاصولي او الفيلسوف) في عدة من العلوم فهي باجمعها في الواقع علم واحد وان كان بتخيل المدونين علوماً متعددة. فوحدة الموضوع تولد وحدة واقعية للعلوم.

وهذا مخالف لمصطلحات القوم لما ذكرناه ونقلناه عن الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي من امكان تكثر الموضوع في العلم الواحد. 

مضافاً الى ان السؤال يقع في ملاك الوحدة في الموضوع هل هي وحدة شخصية ام نوعية ام جنسية على اختلاف مراتب الجنس. 

مع ان الموضوع الواحد الشخصي قد ينقسم باعتبارين فيكون موضوعاً لعلمين كما قالوا في الكلمة بين النحو والصرف.

ومنهم من قال بان التناسب والتسانخ الواقعي بين مسائل العلم الواحد هو الجامع بينها وهو ايضا وجه الامتياز بين انحاء العلوم فهو ملاك الوحدة والكثرة وهو دخيل في مرتبة ذات المسائل ولا يعلل.

ونحن لا ننكر ضرورة التسانخ بين المسائل الا انها بحاجة الى تحديد فما هو المقياس في التسانخ المعتبر والذي نراه انه لا مانع من كون ادنى مرتبة من التسانخ موجباً لوحدة العلم في زمان لقلة مسائله وفي زمان آخر حيث تتشعب مسائل العلم يلاحظ مرتبة اخرى من التسانخ بين المسائل ولا اشكال ان التسانخ كما انه موجود باحدى مراتبه بين جميع مسائل الطب القديم موجود بمرتبة اخرى بين خصوص مسائل طب العيون او الطب النفسي مثلاً بما لا يوجد نظيره في سائر شعب الطب.

ومنهم من قال ان تمايز العلوم بتمايز الاغراض قال صاحب الكفاية (ان تمايز العلوم انما هو باختلاف الاغراض الداعية الى التدوين لا الموضوعات ولا المحمولات والا كان كل باب بل كل مسألة من كل علم علماً على حدة كما هو واضح لمن كان له ادنى تأمل)([28]).

وهذا ايضاً لا يحدده مقياس فالغرض في مسائل الطب القديم كان حفظ صحة الانسان بوجه عام والغرض من كل علم طبي في هذا العصر هو حفظ صحته من وجه خاص فلا يكون ذلك ملاكاً للوحدة والكثرة. فبينما كان كل واحد من هذه العلوم باباً وفصلاً من علم الطب العام اصبح الآن علماً برأسه.

ومنهم من فصّل بين ما اذا كان هناك غرض مترتب على تدوين العلم فتمييز مسائله بالغرض كما في اغلب العلوم وبين ما اذا كان الداعي الى التدوين نفس العلم والمعرفة فقد يكون هناك موضوع ويود الباحث ان يبحث عن احواله وشؤونه كما في علم الطب الباحث عن طوارئ بدن الانسان فلابد من التمييز بالموضوع وقد يكون هناك محمول ويود الباحث معرفة ما يعرض عليه ذلك المحمول كالحركة والسكون فلابد من التمييز بالمحمول([29]).

ويظهر من هذه العبارة انه فسّر موضوع العلم المعرّف في المقام بموضوع القضية فقابله بالمحمول وقد تبين في الجهة السادسة ما هو المراد بالموضوع. واما التمييز بالغرض وبالموضوع فقد مر الكلام فيه وانهما لا يدخلان تحت مقياس محدد. ومن الغريب التمثيل بالطب لما لا يترتب على تدوينه غرض. 

ومجمل القول في هذه الآراء التي تحاول توجيه تمايز العلوم ان ما ذكروه من الاسباب هي بعض العوامل التي بلحاظ مجموعها يعتبر مجموعة من القضايا علماً واحداً متمايزاً عن مجموعة قضايا اخرى تعتبر علماً آخر لعدم اجتماع جميع تلك المزايا فيها ولا يصح تفسير هذا التمايز بالعامل الواحد وقصر النظر عليه والاغضاء عن سائر العوامل كما هو الظاهر من هذه الاقوال. 

ويلاحظ أن تعليل الظواهر - وخصوصاً الظواهر الاجتماعية - بالعامل الواحد مما مُنيت به كثير من المدارس التي تحاول تفسير الظواهر. كما حدث في بعض المدارس الفلسفية الحديثة حيث تفسر جميع الحوادث والثورات وحتى الاعمال الخاصة الفردية بالعامل الجنسي وبعضها بالعامل الاقتصادي وبعضها بعامل حب الذات. وهكذا....

 

الجهة التاسعة: 

 

في ملاك الوحدة بين مسائل علم الاصول.

قد تبين من الجهة السابقة ان تمايز العلوم بلحاظ الوحدة الاعتبارية. وقلنا ان كل اعتبار لابد وان يعتمد على مصحح عقلائي نعبر عنه في هذا المقام بملاك الوحدة او مناط الوحدة. وهذا هو السبب في عقد هذا البحث اذ لابد من معرفة مناط اعتبار الوحدة في علم الاصول.

وهنا منهجان لتصحيح اعتبار الوحدة وملاكها:

المنهج الاول:ان المصحح الرئيس للوحدة الاعتبارية بين القضايا المتشتتة في الاصول واعتبارها علماً واحداً هو كون هذه المسائل من المبادئ التصورية او التصديقية لعلم الفقه مع لحاظ أمرين:

الأمر الاول:ان يكون من المبادئ الخاصة بالفقه التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بعملية استكشاف الوظيفة الكلية تجاه الحكم الشرعي سواء كان تكليفياً او وضعياً. وعليه فلا يبحث في الاصول عن المبادئ العامة التي ليس لها هذا النوع من الارتباط.

الامر الثاني:ان تكون المسألة ذات طابع عام وجهة شمول بمعنى ان لا تختص ببعض المسائل الفقهية كقاعدة الطهارة الخاصة بباب الطهارة، ولا يجب ان تكون دخيلة في الاستنباط في جميع الابواب انما المعتبر ان تتسم بسمة الشمول والعموم في مختلف الابواب. فما كان من المبادئ مختصاً ببعض ابواب الفقه يبحث عنه في ضمن المسائل الفقهية.

وعلى ضوء هذا المنهج يصح ان نعتبر جميع الانواع التسعة المتقدمة من المباحث الاصولية التي ذكرناها في الجهة الاولى من هذا المدخل من صلب الابحاث الاصولية ولا حاجة الى اعتبار بعضها بحثاً استطرادياً.

وربما يعترض على هذا المنهج بالبيان الآتي:

ان مجموعة المسائل التي هي من المبادئ التصورية او التصديقية لعلم خاص لا يصح ان نعتبرها علماً مستقلاً فانه لا يناسب مع ما يستفاد من كلمات الاعلام من ان لكل علم موضوعاً ومبادئ ومسائل. وقد عرّفوا المبادئ بانها الحدود والمقدمات التي تؤلف منها أقيسة العلم قال ابن سينا في الاشارات (ولكل علم مبادئ ومسائل فالمبادئ هي الحدود والمقدمات التي منها تؤلف قياساته..) ([30])وعليه فالمناسب ان تعتبر مجموعة القضايا التي تشكل مبادئ العلم من شؤونه ومتعلقاته ولا يناسب جعلها علماً مستقلاً. 

ومن هنا نجد ان من ينظر الى المسائل الاصولية باعتبارها مبادئ لعلم الفقه انما يبحث عنها كمقدمة للبحث الفقهي كما يلاحظ ذلك متمثلاً في بعض الكتب الفقهية كالمعالم والحدائق وكشف الغطاء.

ولكن هذا الاعتراض غير وجيه لما ذكرناه في وجه تمايز العلوم من ان الصحيح فيه هو انه بنفسه مناط الوحدة الاعتبارية الذي كما يوجب وحدة العلم يوجب انقسام العلم الى علوم متعددة بلحاظ تبدل مناط الاعتبار وفقاً لتبدل مصحح الاعتبار كما اوضحناه في انقسام علم الطب الى علوم متعددة وكذلك في كثير من العلوم التي تشعبت مسائلها وتعقدت كل مجموعة منها بحيث صعب على الطالب الواحد الالمام بالجميع بل كاد ان يكون مستحيلاً ان اراد التعمق في الفهم. 

وعلى اساس هذه الملاحظة لا مانع من اعتبار مجموعة القضايا العلمية التي تشكل مبادئ علم ما علماً مستقلاً برأسه اذا كانت متعددة الابحاث عميقتها بحيث يتوقف تنقيحها وتقييم الآراء المختلفة فيها واتخاذ الموقف الصحيح منها على جهد فكري بليغ وممارسة طويلة حيث كانت اكثرها مثاراً للجدال العلمي والبحث والنقاش اضف الى ذلك كثرة المسائل وتشعب انواعها بصورة هائلة كما هو واضح.

وعليه فانا نرجح هذا المنهج ونستغني بذلك عن بعض التكلفات التي تظهر من جملة من كلمات الاعلام.

المنهج الثاني:أن اشتراك المسائل الاصولية في كونها مبادئ لعلم الفقه على النحو المتقدم لا يبرر اعتبارها علماً مستقلاً بل لا بد من وجه آخر أقوى منه جامع بينها يصحح الوحدة الاعتبارية كما أنه لا تمكن الموافقة مع الاقتراح المتقدم من اعتبار المبادئ التصورية لعلم الفقه جزءا من علم الاصول بل لابد من تحديد المسائل الاصولية بحيث تخرج جملة من الانواع المشار اليها. 

وقد اختلفوا في تعيين ما هو وجه الامتياز والجامع بين المسائل الاصولية ونحن لا نتعرض الا لما مال اليه جمع من المتأخرين وهو ان الجامع الرئيس بين المسائل الاصولية هو عنوان (الحجة في الفقه) ويناسبه ما في كلام المتقدمين من أن موضوعه الادلة الاربعة.

وممن قال بذلك سيدنا الاستاد العلامة البروجردي والمحقق الاصفهاني قدس سرهما الا انهما اختلفا في النظر الى هذا العنوان فاعتبره الاول موضوعاً لعلم الاصول فيبحث فيه عن معينات الحجة في الفقه. وبذلك يكون الاصول من العلوم التي تتحد مسائلها بلحاظ وحدة الموضوع. واعتبره الثاني غاية للعلم فيكون علم الاصول من العلوم التي تختلف مسائله موضوعاً وتتحد غرضاً وغاية. وقد نقلنا في الجهة السابقة عن الشيخ الرئيس في الاشارات والمحقق الطوسي في شرحه الاشارة الى هذين القسمين من وحدة العلوم.

ويترتب على هذا المنهج خروج كل مسألة لا تتصف بهذه الميزة عن صلب المسائل الاصولية فيخرج البحث عن المبادئ التصورية وبعض المبادي التصديقية عن علم الاصول وانما يبحث عنها على سبيل الاستطراد.

ومهما كان فلا باس بالتعرض لهذين الوجهين:

الوجه الاول ماذهب اليه السيد البروجردي قدس سره من انها (اي الحجة في الفقه) هي الموضوع لعلم الاصول بتقريب انه بعد ما علمنا ان لنا احكاماً شرعية يحصل لنا العلم اجمالاً بوجود حجج في البين يحتج المولى به علينا او نحتج عليه فوجود اصل الحجة معلوم لنا والمطلوب في علم الاصول تعينات الحجة وتشخصاتها ففي قولنا (خبر الواحد حجة) وان جعل وصف الحجية محمولا ولكنه بحسب الحقيقة هو الموضوع وانه الامر المعلوم والمجهول تعيناته وافراده والتزم بان كل مسألة لم يكن المبحوث عنه فيها حيثية الحجية تكون خارجة من الاصول وتدخل في سلك المبادئ وأيّد ما ذكره بان الشافعي يبحث في رسالته التي ألّفها في هذا الفن عن حجية الحجج الشرعية من الكتاب والسنة وامثالها.([31])

وقد اوضح هو على طريقته كيفية البحث عن تعينات الحجة في جملة من المسائل الاصولية ونحن وان لم نوافق مع هذا التحديد الذي يبتني عليه المسلك الثاني والموجب لاعتبار بعض المباحث الاصولية من مبادئ الاصول الا انا نرى ان من المناسب حيث انتهى الكلام الى هذا المقام ان نطبق ما افاده على حسب ما يبدو لنا انه انسب مع منهجنا في هذه المسائل ونعرضها اجمالا ليكون تمهيداً لتفصيل البحث في محله: 

المسألة الاولى:بحث حجية القطع فإنّ الشيخ الانصاري قدس سره جعله من مباحث الاصول بلحاظ طروّ الاشكال في حجية بعض أقسامه كالحاصل من غير الأدلّة الشرعية او من غير المناشئ العقلائية كالرؤيا وكقطع القطاع وكالعلم الاجمالي فانه يمكن ان يناقش في حجيته بأن المكشوف به هو الجامع الانتزاعي وحيث انه ليس مجعولا شرعيا فهو غير قابل للتنجيز والمجعول شرعا هو الحكم في كل من طرفي العلم الاجمالي وهو ليس مكشوفا. وسيأتي في محله أن حجية القطع بقول مطلق مورد للنقاش. 

المسالة الثانية:مباحث حجية الاحتمال حيث ان العقلاء يعتمدون في تحصيل اغراضهم الشخصية على قانون المعادلة بين الاحتمال والمحتمل فيعتبرون الاحتمال القوي البالغ درجة الاطمينان العقلائي حجة كما يعتبرون الاحتمال المعتمد على العلم الاجمالي اي الاحتمال الذي يشكل مع غيره علماً اجمالياً من الحجج في اعمالهم الشخصية واذا لم يكن الاحتمال قوياً ولكن كان المحتمل مهماً كاحتمال الهلكة يعتنون بالاحتمال ايضاً ما لم يبلغ درجة الوهم والوسوسة. 

فالاحتمال كاشف في نفسه بل ليس الاطمينان او الظن وحتى العلم الا تجمع الاحتمالات في المحور الواحد ومع تنزيل الاحكام الشرعية منزلة المقاصد العقلائية المتعارفة يحكم بجريان نفس القانون فيها. 

وعليه فلا يكون الاحتمال المجرد من دون الاعتماد على العلم الاجمالي ولا تقويته الذاتية الموجبة لبلوغه درجة الاطمينان حجة في الاحكام الشرعية. 

ومرجع البراءة الشرعية اعلام عدم اهمية الاحكام الشرعية وانها منزّلة منزلة المقاصد العقلائية الاعتيادية ومرجع البراءة العقلية الى عدم اعلام الاهمية وعلى كلا التقديرين فالاحتمال المجرد ليس حجة. ومرجع الاحتياط الى اهمية المحتمل وان الاحكام الشرعية منزّلة منزلة المقاصد المهمة.

فتبين ان مباحث البراءة والاحتياط ترجع الى ان الاحتمال حجة أم لا؟

المسألة الثالثة:مباحث حجية الحجج لا بلحاظ الاحتمال بل بلحاظ تتميم الكشف او تطبيق المكشوف. فقد يكون شيئاً موجباً لمرتبة ضعيفة من الكشف كخبر الثقة والاجماع المنقول والشهرة الفتوائية فدعوى حجية شيء من هذه الامور تنشأ من القول بتتميم الكشف اما ببناء العقلاء كما يدّعى في خبر الثقة او بحكم الشارع كما يدّعى في الشهرة الفتوائية. 

وقد بينا في محله عدم بناء للعقلاء في حجية خبر الثقة من دون ملاحظة قانون المعادلة بين الاحتمال والمحتمل وأن المخبر به هل هو من الامور المهمة ام لا. وبيّـنّا ايضا أنّ أصالة عدم الاشتباه ونحوها ليست من الاصول العقلائية بل لابد من الوثوق بالخبر ولا يكفي كون الواسطة ثقة عن ثقة. نعم هناك من الحجج ما تمت حجيته بتتميم الكشف كالبينة وقول الطبيب وقول الفقيه ونحو ذلك الا انها ليست من الأدلة والحجج الفقهية.

وكيفكان فمرجع البحث في هذه الامور الى انها حجة أم لا؟

وقد يكون اعتبار الحجية بلحاظ تطبيق المكشوف كما سيأتي في مباحث العلم الاجمالي من ان احدى النظريات في اقتضائه وجوب الموافقة القطعية انه وان كان بنفسه كاشفاً عن الجامع الا ان العقلاء يعتبرونه كاشفاً عن الاطراف بمعنى ان احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل واحد من الاطراف احتمال للتكليف المنجز بالعلم الاجمالي فيه وهذا تطبيق عقلائي للمكشوف الذاتي على الاطراف. 

وقد استظهرنا هذه النظرية من كلمات صاحب الكفاية فهذا ايضاً بحث عن كون العلم الاجمالي بالنسبة الى الموافقة القطعية حجة أم لا؟

المسألة الرابعة:مبحث حجية الاستصحاب. وقد بينا في محله ان حقيقة الاستصحاب هي الكشف الاحساسي بمعنى ان الانسان اذا رأى شيئاً على حالة فهو يتصوره دائماً على تلك الحالة تبعاً لانطباعه النفسي وليس هذا من الكشف الادراكي. 

واستشهدنا له بكثير من الشواهد العقلائية التي منها محاولة الانسان ان يبرز نفسه في اول مشهد يجمع بينه وبين من يعظمه او يحبه او يريد كسب مودته او امر آخر يهمه في احسن صورة ينبغي ان يكون عليه وفقاً لمقتضى الحال. 

ومنها ايضاً الشعور بالعظمة تجاه من عرفناه عظيماً في وقت من الاوقات ونحو ذلك من الشعور النفسي المشهود في حياتنا اليومية المستند الى الانطباعات السابقة.

وهذا الكشف الاحساسي معتبر عند العقلاء وهذا الاعتبار هو اساس حجية الاستصحاب واليه يرشد الاخبار الواردة. فمرجع البحث عنه الى كونه حجة أم لا؟

المسألة الخامسة:مبحث ظواهر الالفاظ. وهي ليست من الحجج الفقهية بل من المواثيق الاجتماعية فان كل انسان ملتزم – بمقتضى انضمامه الى الهيئة الاجتماعية – بكل ما يظهر من كلامه وكل ما يستلزمه عرفاً او عقلاً فيحتج عليه ويؤاخذ بظواهر كلامه ولوازمه سواء حصل الاطمينان بارادته لها أم لا. 

وعليه فالبحث عنها انما يعتبر من مسائل الاصول لاحد وجهين: 

الوجه الاول:ما ذكره السيد البروجردي وحاصله بتقريب منا ان كبرى حجية الظواهر واضحة فلا يبحث عنها في الاصول كما لا يبحث عن تشخيص صغرياتها عموماً الا ان هناك موارد ليس للّفظ ظهور قوي فيها فيحصل الشك في دخوله تلك الظهورات في ضمن الميثاق الاجتماعي كالبحث عن كون العام المخصص حجة في الباقي أم لا؟ وان العام في معرض التخصيص هل هو حجة قبل الفحص عن المخصص أم لا؟ والاوامر والنواهي بعد كثرة استعمالها في غير التكاليف الالزامية هل تدل على الوجوب والحرمة أم لا؟ 

ومثله مدلول الامر فقد ادعى صاحب المعالم في ان الاصل الاولي وان كان يقتضي دلالته على الوجوب الا ان الاصل الثانوي الناتج من كثرة وروده في الروايات مع ارادة الاستحباب هو التوقف. وكذلك قال في النهي بالنسبة الى الحرمة. ومثله ايضا البحث عن المفاهيم من جهة ضعف ظهورها. 

فالبحث في كل ذلك يرجع الى تشخيص الحجة الا انه من جهة حصول الاضطراب في هذه الموارد ونظائرها.

الوجه الثاني:ان البحث فيها ليس عن الحجية بل عن الظهور الا انه من شؤون الحجية حيث يحدّد الحجة من حيث المدلول. وهذا المقدار من التوسط لا يضر في دخول البحث ضمن المسائل الاصولية وصدق كون الموضوع هو الحجة.

بقي هناك مباحث في الاصول لابد من الالتزام ــ بناءا على ما ذكر ــ بكونها مباحث استطرادية كالبحث عن وجوب مقدمة الواجب اذ على تقدير وجوبها ليس حجة للمولى على العبد فان وجوبها تبعي لا يستلزم مثوبة ولا عقوبة. وكمباحث الإجزاء التي هي من المسائل الفقهية. ونحو ذلك.

وقد أيّد السيد البروجردي نظريته بان القدماء كانت مباحثهم مقتصرة على ما هو حجة في الفقه. قال وان اول من دوّن الاصول الشافعي ومباحثه هي حجية القياس والاستحسان ونحو ذلك. ولما استقر الامر على ان يكون موضوع علم الاصول هو الادلة كان البحث يدور مدار حجيتها فقط ولذلك قيدها بعضهم بحيثية الدليلية.

فتحصّل مما ذكرناه من التطبيقات تبعاً للسيد البروجردي قدس سره في أصل الفكرة انه لا مانع من اعتبار مناط الوحدة في علم الاصول هو الحجة في الفقه في سبيل استكشاف الاحكام الكلية سواء كان حجة للمولى على العبد او للعبد على المولى. وليس معنى الحجة ما يقع حداً وسطاً كما هو مصطلح المنطق بل المراد ما يصح الاحتجاج به فينطبق على الاحتمال والظن والقطع والظهور والاطمينان الاحساسي. ويعتبر هذا جامعاً رئيساً لمعظم المباحث الاصولية ولا مانع من تضمينها مبحثاً آخر لا ينطبق عليه الجامع اذا كان من المبادئ الفقهية التي لم يبحث عنها في علم آخر بنحو مستوفى.

واما المحقق الاصفهاني قدس سره فهو ايضاً يوافق على كون مناط الوحدة هو الحجة في الفقه بدعوى ان غاية علم الاصول هي إعانة الفقيه برسم الخطط الذي لابد له من ان ينتهجها في مرحلة اقامة الحجة على الحكم الشرعي الكلي الا انه ادعى تعدد الموضوعات. 

فقال في الاصول على النهج الحديث: (ومن البين انه لا جامع لموضوعات مسائله كيف والموضوع في باب الاوامر ذات الصيغة ومحموله الظهور في الوجوب او في الوجوب التعييني الى آخر المباحث وفي باب حجية الظاهر نفس الظهور وفي باب الخبر حكاية السنة وفي باب الاجماع نقله وفي باب الاستصحاب كون اليقين السابق وفي باب مقدمة الواجب الملازمة بين الوجوبين وفي باب الإجزاء إتيان المأمور به فكيف يكون لهذه الموضوعات المتشتتة جامع؟! لكن الذي يهون الخطب ان القائلين بلزوم الموضوع الجامع يكتفون بكل جامع ذاتياً كان او عرضياً ولو من ناحية الغرض والغاية المترتبة على المسائل). 

ثم نقل عبارة المحقق الطوسي قدس سره التي نقلناها سابقاً عن شرح الاشارات للاستشهاد بكفاية الغرض الجامع بين الموضوعات المتعددة. ويظهر من كلامه الى هنا انه فسّر موضوع العلم بموضوع القضية. 

ثم قال: (وبنظيره يمكن ان يقال ان جميع موضوعات المسائل مشتركة في انها منسوبة الى الغاية المطلوبة من تلك المسائل وهي اقامة الحجة على حكم العمل).

وهنا سؤال يفرض نفسه بعد افتراض ان الجامع بين مسائل الاصول هو كونها لاعانة الفقيه في اقامة الحجة او كون موضوعها الحجة في الفقه. وهو انه ما هو الفارق بين المسائل المبحوث عنها في الاصول والمسائل التي لا يبحث عنها فيه مع اشتراك الطائفتين في كونهما من المبادئ التصديقية للفقه؟

والعمدة في اثارة هذا السؤال هي القواعد الفقهية حيث انها تشابه القواعد المذكورة في الاصول، ولابد من استعراض القواعد الفقهية بصورة اجمالية وملاحظة الفرق الذي استوجب اخراجها من المباحث الاصولية. 

وهي على اقسام ثلاثة:

القسم الاول:القواعد التي لا ترتبط بالحجية اصلاً وانما جعلت لاحراز امور اخرى نظير قاعدة لا تنقض السنة الفريضة وهي ما استفدناه من صحيحة لا تعاد المعروفة حيث استظهرنا ان الكبرى فيها هو الذيل (لا تنقض السنة الفريضة) وان قوله (لا تعاد الصلاة الا من خمس) تطبيق لها في مورد الصلاة وانها عامة لكل مركب شرعي تكون بعض اجزائه فريضة وبعضها سنة. والفريضة ما قدره الله تعالى والسنة ما قدره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفويض من الله تعالى. 

وان مفاد القاعدة عدم الارتباط المطلق بين الفريضة والسنة كما هو بين الاجزاء والفريضة بل الارتباط بينهما ارتباط مقيد بعدم العذر الشرعي فان اخل بالسنة لعذر من نسيان او اضطرار او جهل قصوري مع اتيانه للفريضة صح المركّب ولا تختص هذه القاعدة بالصلاة فلو اخل سهواً بالترتيب في الوضوء بان غسل يده منكّساً صح وضوءه. 

وبموجب هذه القاعدة نحكم بالإجزاء اذا اتى المكلف بالمأمور به وفقاً للامر الظاهري وكان الاخلال بالسنن. كما اذا قلّد من يقول بعدم وجوب السورة مثلاً او ادى اليه اجتهاده ثم تبين له الخلاف او قلّد من قال بوجوبها فان صلاته صحيحة واقعاً من جهة عدم الارتباط بين فرائض الصلاة والسورة الا في حال عدم العذر.

وحيث ان الإجزاء من المباحث الفقهية وان بحث عنه في الاصول استطراداً فهذه القاعدة ونظائرها خارجة عن قائمة المباحث الاصولية لعدم تعرضها لعوارض الحجية.

وهكذا قاعدة (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده وما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) التي ترجع الى قاعدة ضمان اليد مع تقييدها بان لا يكون المالك قد اقدم على تلف ماله. 

وكذلك قاعدة لا ضرر بناءاً على ما استظهرناه تبعاً للشيخ الانصاري قدس سره من ان مفادها عدم الجعل والتسبيب للحكم الموجب للضرر. وهذه القاعدة تحدد ادلة الاحكام ولا ربط لها بالحجية.

ومن هنا يظهر خروج المسائل الرجالية عن مباحث الاصول اذ لا تؤسس قاعدة في شؤون الحجية وانما هي اسباب لحصول الوثوق بالخبر.

القسم الثاني:القواعد الفقهية التي ترتبط بالحجية نوعاً ما. كقاعدة الفراغ حيث ان مفادها عدم حجية احتمال بطلان الصلاة بعد الفراغ منها. وكذا قاعدة التجاوز بالنسبة الى احتمال عدم اتيان الجزء او عدم صحته بعد التجاوز عن محله. ومثلهما قاعدة اصالة الصحة في عمل الغير التي مرجعها الى عدم الاعتناء باحتمال بطلان عمل الغير. وقاعدة اليد التي هي امارة الملكية والطهارة وحجية قول ذي اليد والبينة في الموضوعات ونظائرها مما كان موضوعها الحجية.

والوجه في خروجها من مباحث الاصول انا قيدنا الموضوع بكونه حجة في الفقه في سبيل استكشاف الاحكام الكلية وهذه القواعد امارات في الموضوعات الخارجية. كما ان اجراء الاصول العملية في الموضوعات الخارجية من وظيفة المقلد ايضاً وان عينها وحدّدها له الفقيه.

القسم الثالث:القواعد التي قد تفيد في استكشاف الحكم الكلي. كقاعدة الطهارة فان مرجعها الى إلغاء احتمال النجاسة من حيث الشبهة الحكمية كما اذا شككنا في نجاسة الكتابي. 

وقد اعتذر المحقق الخراساني عن عدم ادراجها ضمن مباحث الاصول العملية بقوله: (ان مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية وان كان مما ينتهي اليها في ما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته الا ان البحث عنها ليس بمهم حيث انها ثابتة بلا كلام من دون حاجة الى نقض وابرام)([32]).

ولكن يمكن ان يقال ان مفاد الحديث الذي هو اساس قاعدة الطهارة كما ذكرناه اجمالاً في هذا المدخل في الفرق بين الاعتبارات الادبية والقانونية هو التنزيل والاعتبار الادبي فقوله (كل شيء نظيف) يراد به تنزيل الشيء غير المعلوم طهارته ونجاسته منزلة النظيف. ومقتضى التنزيل ان يكون على خلاف الواقع اذ لا معنى لتزيل الاسد الواقعي مثلا منزلة الاسد وانما يصح ذلك في الرجل الشجاع فالمراد عدم ترتيب آثار النجاسة. 

وقلنا ان آثارها على قسمين: فمنها ما هو مقوم لمفهوم النجاسة كتنجيسها بالملاقاة وعدم جواز التطهير بها. ومنها ما هو ثابت لها بالجعل والتعبد الشرعي كمانعيتها للصلاة وهذا التنزيل بالنسبة الى القسم الاول من باب الحكومة الظاهرية وبالنسبة الى القسم الثاني من باب الحكومة الواقعية ولذا استدل بها المحقق الخراساني على الاجزاء وقد مر توضيح ذلك فراجع.

وعليه فينقسم مدلول هذه القاعدة الى اربعة اقسام بلحاظ تقسيم آثار النجاسة الى القسمين المذكورين مع تقسيم كل منهما الى شبهة موضوعية وشبهة حكمية. 

ويختص مورد الاشكال فيها باحد هذه الاقسام وهو اجراؤها بلحاظ آثار النجاسة المقومة لها في خصوص الشبهة الحكمية حيث انها تشبه من هذه الجهة اصل البراءة وتفيد حكماً ظاهرياً بالطهارة. 

واما في الشبهة الموضوعية في كلا القسمين من الآثار فلا اشكال في عدم ربطها بالحكم الكلي. وفي الآثار الجعلية التعبدية التي هي اكثر آثارها ليس مفاد القاعدة اثبات حكم ظاهري بل مفادها تقييد الاشتراط بالطهارة بصورة الجهل بالنجاسة فهي بهذا اللحاظ من اُسس الإجزاء وهو مبحث فقهي.

وهذا المقدار من الدخالة في الحكم الكلي لا يصحح اعتبارها من المباحث الاصولية ويؤيد ذلك ان هذه القاعدة مختصة بباب واحد في الفقه بخلاف الاصول العملية.

 

 

الجهة العاشرة: 

 

في تقسيم المباحث الاصولية وترتيبها. 

إن المنهج الذي سلكه المتأخرون في تبويب الاصول يبدأ من مقدمة يبحثون فيها عن الوضع والاستعمال وعلائم الحقيقة والمجاز وما يرتبط بذلك والبحث عن الصحيح والاعم، والحقيقة الشرعية، والمشتق ونحوها. ثم يأتي بعده مبحث الاوامر والنواهي، والمفهوم والمنطوق، والعام والخاص، والمطلق والمقيد. ويطلق على هذه المجموعة (مباحث الالفاظ). 

وقد اتبع الشيخ الانصاري هذا المنهج التقليدي في هذا القسم من المباحث فلم يختلف في ذلك مع من سبقه كصاحبي القوانين والفصول وبقي المنهج على حاله فيمن تأخر عن الشيخ ايضاً. 

ولكن الآراء اختلفت في المنهج الذي ينبغي اتباعه في ترتيب المباحث بعد هذا القسم والمهمّ من هذا الاختلاف ما حصل بين طريقة الشيخ وطريقة من تقدمه خصوصاً صاحب الفصول الذي عاصره ايضاً، وكان دأب المتقدمين على الشيخ ان يبدأوا في البحث عن الادلة السمعية (الكتاب والسنة والاجماع). 

وكانوا يتوسعون في البحث عن شؤون الكتاب من حيث الدلالة على الاحكام الشرعية وحجية ظاهره وفي البحث عن شؤون السنة وكيفية ثبوتها واقسام التواتر ويُتبعون ذلك بالبحث عن حجية قول الرجاليين بل البحث عن قيمة بعض الكتب الحديثية أو ما يشبهها كفقه الرضا عليه السلام ونحوه. فكان مجموع ذلك قسماً ثانياً بعد مباحث الالفاظ. 

وكان القسم الثالث عبارة عن البحث حول الادلة العقلية كقاعدة الحسن والقبح، والملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وقاعدة عدم الدليل دليل العدم، والاستصحاب والقياس ونحو ذلك. والقسم الرابع مباحث تعارض الادلة. ثم يختمون المباحث الاصولية بالبحث عن الاجتهاد والتقليد وهو بحث فقهي خارج عن فن الاصول.

ولكن الشيخ الانصاري غيّر المنهج في ما بعد مباحث الالفاظ فدوّن رسائله بادئاً بتقسيم حالات المكلف تجاه الحكم الشرعي الى قطع وظن وشك. ثم بحث عن حجية القطع واثبت انها ذاتية وانه لايختلف فيها انحاء القطع المختلفة باختلاف مصادره وموجباته واختلاف حالات القاطع ككونه قطاعاً. 

ثم بحث عن حجية الظن وما يوجب الظن النوعي من الشهرة والاجماع المنقول ونحو ذلك والبحث عن حجية الظن المطلق بما في ذلك دليل الانسداد. 

ثم يأتي القسم الثالث وهو البحث عن الاصول العملية (البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب) التي وضعت لتعيين وظيفة الشاك. ثم عقب المباحث بمبحث تعارض الادلة.

وقد أثير فيما بعد الشيخ سؤال حول ما هو الافضل من المنهجين اي الذي أبداه الشيخ او الذي اختاره من تقدمه من الاعاظم. 

وربما يناقش في هذا التحول المنهجي الذي اوجده الشيخ الاعظم قدس سره بأمرين:

الامر الاول:ان المنهج السابق كان يحتوي على مباحث متصلة بالواقع الملموس من أدلة الفقه اتصالا مباشراً مما كان يعود على الفقيه بفوائد جمة كمعرفة الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه في الكتاب، وكمعرفة انحاء السنة من القول والفعل والتقرير، وكيفية تحقق التواتر واقسامه من اللفظي والمعنوي والاجمالي، والطريق الى كشف وثاقة الرواة، وحجية قول الرجالي، والوظيفة عند تعارض الجرح والتعديل واشباه ذلك من المعلومات الاساسية التي يتوقف عليها الاستنباط والتي تربط الفقيه بواقع الادلة الشرعية. 

واما البحث بلحاظ تقسيم حالات المكلف الى قطع وظن وشك فيبعد الباحث عن الواقع الموضوعي للاستنباط فان المهم ليس هو حجية القطع بل المهم موجبات القطع ومصادره وهي غير مبحوثة عنها في هذا المنهج الا بمقدار يسير بالنسبة الى قطع القطاع والقطع الحاصل من الادلة العقلية. 

وهذه جوانب سلبية من البحث حول القطع تعرض لها الشيخ دفعاً لمناقشات الاخباريين واما الجوانب الايجابية منه التي ترتبط بالاستنباط مباشرة كالبحث عن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، والبحث عن انحاء التواتر، وهكذا بعض مباحث السنة التي كان يشتمل عليها المنهج السابق فقد تقلصت في المنهج الحديث بل اختفى بعضها تماما. 

وكذا البحث عن الاجماع المحصل والسرّ في حجيته، وفي حجية قول الرجالي وانه هل يعتبر من باب قول اهل الخبرة، أو من باب الشهادة وعليه فيعتبر العدد، أو من باب حجية خبر الثقة؟ وبناءا عليه يقع السؤال عن الفرق بين مراسيل الرجاليين حيث يعتمد عليها وبين مراسيل سائر الرواة، او من باب كونه من موجبات حصول الاطمينان. واليه يذهب المحقق الهمداني في تعليقه على الرسائل في مبحث الاستصحاب في الكلام حول حديث الاربعمائة.

الامر الثاني:ان القطع والظن والشك امور لا تحتل موقعاً من حيث الموضوعية للاحكام العقلية والشرعية التي نحن بصدد البحث عنها في الاصول فلا مبرر لاعتبارها محور البحث فالاصول العملية سواء كانت شرعية او عقلية ليس موضوعها الشك: 

اما البراءة الشرعية فموضوعها (لا يعلمون) او ما يفيد معناه بحسب تعابير سائر الروايات. واما البراءة العقلية فموضوعها عدم البيان وقد بينا سابقاً ان مرجع البراءة الى عدم تنجيز الاحتمال المجرد بلا فرق بين كونه احتمالاً متساوي الطرفين او راجحاً أو مرجوحاً بالنسبة الى الطرف الآخر. 

واما الاشتغال في موارد العلم الاجمالي فمرجعه ليس الاّ الحكم بمنجزية الاحتمال اذا كان مقوماً للعلم الاجمالي ولا ربط له بالشك. 

واما الاستصحاب فقد صرّح القوم بان موضوعه وان كان بحسب لسان الدليل هو الشك الا ان المراد قطعاً ليس هو الاحتمال المتساوي الطرفين بل كل احتمال ليس بحجة. بل الشك بهذا المعنى اصطلاح منطقي لا تحمل عليه الروايات ومن النادر ان يحصل الاحتمال المتساوي الطرفين. 

وقد تفطن الشيخ قدس سره لذلك ولذا الحق بالشك الظن غير المعتبر الا ان الاولى ان يطرح البحث بصيغة شاملة حتى لا نحتاج الى الالحاق حيث انه يدل على قصور في موضوع البحث.

واما ما أدرجه في مبحث الظن من حجية الظواهر فهي ليست حجة من باب الظن وانما هي تابعة لمواثيق اجتماعية يؤاخذ المتكلم بموجبها بظواهر كلامه وبلوازمه أيضاً سواء حصل الظن بارادتها أم لا؟ وخبر الثقة على افتراض حجيته لا يتوقف على ايجابه الظن، وكذا الاجماع المنقول أو الشهرة.

واما القطع فالحكم المبحوث عنه في الاصول المترتب عليه هو المنجزية والمعذرية وهما لا يتبعان نفس الحالة النفسية وانما يتبعان نوعية المقدمات الموجبة لها فان خالف الواقع ولم يكن المكلف مقصراً في اتّباع المنهج الصحيح لحصول القطع وهو الاعتماد على البرهان الواضح ومحاسبة الاحتمالات كان قطعه معذراً.

واما ان كان متأثراً بامور وهمية لا تعتمد على محاسبة وبرهان كالاعلام الصاخب والتلقينات والتأثر من النزعات الطائفية والقومية وحبّ الآباء ونحو ذلك فالقطع ليس معذراً وهذا ما يعبر عنه القرآن بالظن والجهل واتّباع الاماني كما اوضحناه في عدة موارد منها مباحث التعارض والاستصحاب.

هذا مع ان العذر في الواقع ليس هو القطع على كل تقدير بل العذر هو السترة المانعة عن انكشاف الواقع وهو امر سلبي جامع بين القطع بالخلاف والشك.

واما المنجزية فليست هي من الشؤون الذاتية للقطع، فانه لو كان صادراً عن الاسباب التي مرّت الاشارة اليها لا يعتبر منجزاً عند العقلاء لا في الامور القانونية ولا الشؤون الحيوية ولا في وظائف الدولة فلو ان قائداً عسكرياً او مهندساً اشتبه في خطته التي رسمها بما ادّى الى خسارة مالية او هزيمة في الحرب ثم اعتذر بانه كان قاطعاً بان خطته صحيحة لم يقبل منه ذلك وحوسب على موجبات قطعه. 

والذي يرشدنا اليه هدي الاسلام ويحثنا عليه الكتاب العزيز هو محاسبة ما قطعنا به من المعلومات والمعتقدات اذ ليست عقائد اهل الجاهلية مبتنية على اساس من الشك بل كانوا قاطعين غالباً بصحة معتقداتهم وانما الذي دعاهم الاسلام اليه هو هدم كل عقيدة لا يبتني على اساس من المحاسبة والبرهان وان كانت مقطوعاً بها وبناء العقيدة الجديدة على هذا الاساس.

وسيأتي تفصيل هذين الاعتراضين على التحول الذي اوجده الشيخ قدس سره في منهج البحث الاصولي والجواب عنهما في مقدمة مباحث القطع. ونبين هناك ان التغيير الذي طرأ على المنهج الاصولي قبل الشيخ من جراء المباراة الثقافية بين الاصوليين والاخباريين هو الذي اضطره الى اتخاذ هذا الموقف حيث تحقق بمجهوده العلمي توازن في جوانب البحث بعد ان كاد الافراط في معارضة الاخباريين ان يخرج بالاصول عن الطريق الصحيح.

هذا ولكن الذي ينبغي لنا ان ننتهجه هو متابعة الشيخ في الجوانب الايجابية من تحوله وعدم متابعته في الجوانب السلبية فنعيد الى المنهج الاصولي المباحث التي كانت تشتمل عليها طريقة المتقدمين عليه.

ثم ان هناك اقتراحاً آخر ابداه المحقق الاصفهاني قدس سره وتبعه بعض تلامذته وهو تغيير المنهج في مباحث الالفاظ وذلك من جهة ان كثيراً مما يبحث في هذا القسم لا ينطبق عليه عنوان المبحث اللفظي فاقترح ان نقسمه الى قسم يختص بمباحث الالفاظ وقسم آخر يختص بلوازم الاحكام كالبحث عن اقتضاء النهي للفساد، والامر لوجوب المقدمة ونحو ذلك. 

وينبغي ان نلاحظ المنهج التقليدي والاساس الذي يبتني عليه فان كان لجمع هذه المباحث تحت عنوان المبحث اللفظي مصحح كان الاولى الابقاء عليه والا فالتقسيم ينبغي ان يتشعب أكثر مما اقترحه المحقق الاصفهاني وذلك لان سبعة من الانواع العشرة للمباحث الاصولية – التي ذكرناها في الجهة الاولى من المدخل كجذور للتفكير الاصولي – يبحث عنها تحت عنوان مباحث الالفاظ. 

ولا شك ان تمييز انواع الاعتبارات القانونية بعضها عن بعض، وتقسيم الاعتبارات القانونية كتقسيم الواجب الى اقسامه، والبحث عن عوارض الاحكام كانحلال الحكم تبعاً لانحلال الموضوع او المتعلق، وكالبحث عن الاطلاق والتقييد الثبوتيين، وكالملازمات العقلية، وكذا مباحث التزاحم ودخالة القدرة في احدى مراتب الحكم ونحوها من المباحث الكثيرة التي تبحث في مباحث الالفاظ لا ربط لها باللفظ فالقانون وانحاء اعتباره وتقسيماته ولوازمه لا تختص بما يبرز باللفظ. 

فكما ان المحقق الاصفهاني اقترح فصل مباحث الاستلزامات العقلية كان ينبغي له ان يفصل هذه المباحث ايضاً ولا شك انه لا يلتزم بان تقسيم الواجب الى تعبدي وتوصلي مثلاً بحث لفظي كما هو واضح.

نعم يبقى لمباحث الالفاظ نوعان من تلك الانواع العشرة: 

أحدهما:البحث عن الالفاظ من زاوية ظهورها في بعض الاحكام القانونية او عوارضها، كالبحث عن دلالة صيغة الامر على الوجوب، ودلالة اطلاقها على القسم التعييني منه ونحو ذلك، وكذا مباحث العام والخاص والمطلق والمقيد الكاشفين عن الاطلاق والتقييد الثبوتيين.

الثاني:البحث عن العلاج عند تصادم الظهورات كحمل العام على الخاص، والحكم عند دوران الامر بين التخصيص والنسخ، وحمل المطلق على المقيد. فهذه المباحث داخلة في مباحث الالفاظ ايضاً باعتبار أنّها تعتمد على قوة ظهور اللفظ وضعفه.

ويتلخص مما ذكرناه ان هناك اعتراضين على المنهج القديم في مباحث الالفاظ أحدهما خاص ويتمثل في اقتراح المحقق الاصفهاني لفصل مباحث الاستلزامات العقلية. والآخر عام يشمل خمسة من انواع المباحث الاصولية التي يتعرض لها في مباحث الالفاظ.

ويمكن الجواب عن الاعتراض العام بوجهين اجماليين نحاول بهما توجيه المنهج القديم وتبرير الاقتناع به.

الوجه الاول:ان الامور الاعتبارية نسبتها الى الالفاظ كنسبة المعلول الى علته. ولذا قيل ان الانشائيات هي الامور التي توجد بوساطة الالفاظ، والمعروف ان هذا هو الفارق بين الانشاء والاخبار وهو الصحيح، وعليه فالمبحث اللفظي محاولة لمعرفة الحكم القانوني من زاوية علة ايجاده. وذوات الاسباب لا يعرف – كما قيل – إلا باسبابها. 

وهذا الوجه لا يصح بناءاً على نظرية الابراز التي يفسر بها الانشائيات على اساس ان الالفاظ ليست الا مبرزة للامور الاعتبارية وسيأتي نقد هذه النظرية ان شاء الله تعالى.

الوجه الثاني:ان هناك ارتباطاً وثيقاً بين اللغة والتفكير، فاللغة ترجمان لثقافة المجتمع، وتكاملها دليل على تكامل الثقافة. ولذلك ترتبط دراسة كل مجتمع ثقافي وحضاري على دراسة لغته، ويستدل على حضارة المجتمع ودرجة تكاملها على ما تحتويه اللغة من مفاهيم، فنجد ان المجتمعات البدائية لا تشتمل لغاتهم على مصطلحات قانونية أو فنية أو صناعية ونجد جلّ اهتمامهم بتكثير الالفاظ المترادفة لامور تافهة كشؤون الابل مثلاً. 

كما ان اختلاف اللغة يدل على اختلاف تلقي المفاهيم الواقعية ولذلك اضطر مترجمو الفلسفة الى العربية ان يستعيروا كلمة (هو) لتعبر عن معنى (است) و(استين) اذ لم يجدوا في اللغة العربية ما يرادفهما. 

والسبب فيه ان تلقي المفكرين اليونان والفرس عن اتصاف شيء بصفة في الخارج يبتني على اساس ثبوت شيء لشيء فكان الشيئان ملحوظين بالاستقلال وكان لابد من رابط فعبروا عنه بـ (است) و(استين) واما العرب فيتلقى هذا المفهوم على اساس الهوهوية والاتحاد الوجودي بين الماهيتين فلا حاجة به الى الرابط.

وهكذا يختلف الناس في تلقي المفاهيم القانونية وسيأتي الكلام حول امكان تفسير الاختلاف في صيغة الامر باختلاف الحضارات. ومن هنا نعلم ان اختلاف بيئات المفكرين الاصوليين واختلاف لغاتهم الاصلية يؤثر في اختلاف ادراكهم وتلقيهم للمفاهيم العربية تأثيراً عميقاً.

وهذا الارتباط الوثيق بين اللغة والفكر هو السبب في لزوم دراسة الاعتبارات القانونية من زاوية الالفاظ ومفاهيمها في المجتمع العربي.

وعلى اساس فكرة اخرى يمكن تبرير المنهج القديم بصورة أعمق وهي انّ الاعتبارات القانونية لا تنشأ ولا توجد بالاختراع بل هي ظواهر اجتماعية تتحقق بتطور في الاعتبارات الأدبية. 

وسيأتي توضيح هذه الفكرة في مباحث مقبلة كالحقيقة الشرعية والاحكام الوضعية وغيرها ان شاء الله تعالى. 

ومجمل القول فيها ان المفاهيم القانونية بصورة عامة اي ما يشمل الاحكام التكليفية والوضعية والماهيات الاختراعية تتولد من الاعتبارات الادبية بعدة طرق اوضحها تطبيق العنوان بماله من مفهوم ادبي. 

ولنذكر له مثالاً عرفياً قبل المثال القانوني، يقال: ان (حاتم) كان مثلاً رائعاً للجود والسخاء واشتهر بذلك في مجتمعه فكانوا إذا ارادوا توصيف أحد بالكرم والجود شبهوه به. ومبالغة في التشبيه كانوا يصفون الكريم بانه حاتم وبكثرة التطبيق اندمج معنى الكرم في كلمة حاتم من حيث تأثيره في المشاعر وبذلك انسلخ اللفظ عن المعنى الاول وهو كونه علماً لشخص معين واختص بمفهوم جديد وهو التوصيف بغاية الجود والكرم.

وكذلك المصطلحات القانونية فالميتة – مثلاً – كلمة معناها الاصلي ما مات حتف انفه. ولهذا الشيء الخارجي احكام عند العرف كالاستقذار وايضا في القانون الشرعي أو المدني كعدم جواز الاكل والبيع ونحوها من الاحكام. 

ولكل مجتمع وقانون ومذهب تقاليد خاصة في ذبح الحيوان بحيث يعتبرون ما يتخلف فيه الذبح عن تلك التقاليد محكوماً بنفس الاحكام التي يعتبرونها للميتة. 

وبهذا اللحاظ تطلق الميتة على الحيوان المذبوح بغير الطريقة المتبعة وذلك تنفيراً للطباع عن اكله وبيعه وشرائه وغيرها من الانتفاعات فكان الاستعمال الاول على سبيل الاعتبار الادبي والتشبيه، وبكثرة التطبيق اندمج المعنى القانوني وهو حرمة الاكل والبيع والشراء في كلمة الميتة فصارت ماهية اعتبارية. وانسلخ المعنى الاول عن اللفظ ولم يبق في تطبيقها على مورد عناية واعتبار ادبي. 

ويختلف هذا المفهوم الاعتباري بلحاظ اختلاف شرائط الذبح في القوانين الدينية والعادات والتقاليد فالمصطلح القانوني امر واحد تختلف فيه التطبيقات.

وهكذا الكلام في ماهية النجس فانه يدل بحسب الوضع اللغوي على القذر بحسب الطبع البشري وطبق بنفس الترتيب على ماله حكم القذر في القانون من حيث وجوب الاجتناب تنفيراً للطبع فهو اعتبار ادبي في هذه المرحلة وقد يكون ما يطلق عليه القذر في غاية النظافة عرفاً. وبكثرة التطبيق في المرحلة الثالثة اندمج حكم وجوب الاجتناب في مفهوم النجس فأصبح اصطلاحاً قانونياً يحتوي على حكم قانوني بنحو اللف والاستبطان.

وكذلك كلمة الدينار الموضوع لمثقال من الذهب المسكوك واستعمل في الاوراق النقدية بلحاظ أثر الدينار وهو توسطه في المعاملات للتسهيل بدلاً عن طريقة المجتمعات البدائية من التعامل بنفس البضائع، وبلحاظ اثر آخر ايضا وهو كونه مقياساً للمالية لتقويم السلع والممتلكات، وتكرر التطبيق بلحاظ هذين الاثرين بداعي التأثير في النفوس اذ لم تكن تقتنع ابتداءاً بالتعامل بهذه الوسيلة وبالطبع كان لتطبيق كلمة الدينار التي اتسمت بطابع القيمة الذاتية في الرأي العام تأثيراً كبيراً في اقناع المجتمع لقبول الاوراق النقدية كبديل عن الذهب المسكوك. 

وفي المرحلة الاخيرة اندمج المعنيان في كلمة الدينار وانسلخ عنها الدلالة على الذهب المسكوك فاصبحت ماهية اعتبارية تختلف باختلاف تطبيقها على الورقة النقدية في الدول التي تطلق هذه الكلمة على النقد.

ونفس النظرية يمكن ان تطبق على الاحكام التكليفية فالوجوب في الاصل اللغوي بمعنى الثبوت، والحرمة بمعنى الحرمان. وبنفس الطريقة يستعملان في ثبوت شيء في ذمة أحد أو حرمانه من شيء بحسب القانون، ثم بكثرة الاستعمال يندمج فيهما المعنيان القانونيان ويتأصلان فيحصل الاعتبار القانوني عن تطور الاعتبار الادبي.

فتبين مما ذكرناه ان المفهوم القانوني انما يتولد من مرور اللفظ بمراحل ثلاث:

  1. الاستعمال اللغوي. 
  2. الاستعمال الادبي بلحاظ الآثار القانونية المترتبة على المشبه بداعي التأثير والاستمداد مما للفظ من المحتوى باعتبار مدلوله الاصلي.
  3. كثرة التطبيق الموجبة لاندماج المعنى القانوني في اللفظ وتأصله في الدلالة عليه بحيث يصبح مصطلحاً قانونياً. 

ومع هذا الارتباط بين اللفظ والقانون لا يمكن التفكير في الاعتبارات القانونيةوشعبها وعوارضها الا من زاوية اللفظ.

ويلاحظ ان اختلاف الاحكام القانونية يؤثر في اختلاف المحتوى القانوني للمصطلح. فالزوجية مثلاً تعد في بعض المجتمعات نوعاً من الاستحقاق وذلك لحكمهم على الزوجة بانها ملك للزوج. وفي مجتمع آخر تعتبر نوعاً من الشركة حيث يعتبرونها شريكة الحياة للزوج. وفي مجتمع آخر او قانون آخر تعتبر نوعاً من القيمومة والولاية حيث يحكم القانون بان الرجال قوامون على النساء.

واما اقتراح المحقق الاصفهاني فلا يمكننا الموافقة عليه ولكي نحدد موقفنا منه ولو بصورة اجمالية نتعرض لامرين من الامور التي ورد في الاقتراح فصلها عن المباحث اللفظية بدعوى انها من لوازم الاحكام لا من مقتضيات اللفظ. احدهما مبحث مقدمة الواجب. والآخر مسألة اقتضاء الامر بالشيء النهي عن ضده.

اما المبحث الاول فهو ما يبحث فيه عن التلازم بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة واستتباع الاول للثاني وان الاول نفسي والثاني غيري. والكلام في ذلك وانه هل بنحو التلازم العقلي كالتلازم بين الامور التكوينية أم لا بحث طويل سيأتي في محله ان شاء الله تعالى. 

والذي يتمخض من تلك الابحاث ان الرأي الصحيح في وجوب المقدمة لا يستند الى التلازم العقلي وذلك لان الوجوه المذكورة لاثبات وجوبها اربعة:

الوجه الاول:أن كل من أوجب شيئاً فلابد ان يوجب مقدماته بالضرورة. فهناك جعلان واعتباران احدهما اختياري والآخر قهري يستتبعه الجعل الاول. 

وسيأتي ان هذا الكلام مما لا ينبغي البحث فيه اصلاً لوضوح فساده اذ قد لا يلتفت معتبر الوجوب الى وجود مقدمات الواجب فضلاً عن استلزامه القهري لايجابها.

الوجه الثاني:ما نسب الى المشهور وهو ان وجوب المقدمة يترشح من وجوب ذي المقدمة فهو من قبيل ارتباط المعلولات التكوينية بعللها ان صح التعبير عنه بالترشح. 

وهذا الرأي غير صحيح ايضاً لما ذكرناه في اوائل هذا المدخل وسيأتي مفصلاً من ان الارتباط في الاعتباريات ليس من الامور الواقعية بل كل ارتباط بين كل امرين اعتباريين خاضع للجعل والاعتبار. واما استتباع اعتبار قانوني لاعتبار قانوني آخر فهو غير معقول لمنافاته للاعتبار.

الوجه الثالث:ما استظهرناه من كلام المحقق الخراساني في مبحث الواسطة الخفية من الاصل المثبت وهو ان الاعتبارين قد يكون بينهما تلازم عرفي بمعنى استهجان العرف اعتبار احد الامرين دون اعتبار الآخر.

ومثّل ذلك بالمتضائفين فلو اعتبرت الابوّة لاحد بالنسبة الى آخر كان لازمه العرفي اعتبار البنوّة للآخر وذلك لشدة التلازم بين المتضائفين. 

وهذا التلازم الوثيق يؤثر حتى في الامور الاعتبارية مع ان بناءها على التفكيك بين اللازم وملزومه بل بين الشيء وذاتياته فيصح ان يعتبر زيد اسداً ولا يصح ان يعتبر حيواناً مفترساً وذلك لان مصحح الاعتبار هناك هو استخدام ما يحتويه كلمة الاسد بخصوصها من تأثير نفسي في مشاعر المجتمع لما تركز في النفوس من خوف وتهيّب عند سماع هذا الاسم الحاكي عن سبعية هذا الحيوان، وليس للعنوان التفصيلي اي الحيوان المفترس هذا التأثير.

وعلى هذا الاساس استقر في الاصول لدى المتأخرين انكار الاصل المثبت. وعلى اساس سنة التلازم بين المتضائفين ونظائرهما اثبته المحقق الخراساني في موارد خفاء الواسطة.

وهذا الوجه لو صدقته الشواهد فهو لا يستوجب اخراج مبحث مقدمة الواجب عن المباحث اللفظية بدعوى كونها من الملازمات العقلية اذ غايته ان يكون بين اعتبار وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة تلازماً عرفياً. والامور العرفية لا تستند الى الاحكام العقلية.

الوجه الرابع:وهو الصحيح ان صح القول بوجوب المقدمة وحاصله ان وجوب ذي المقدمة ينطوي فيه بنحو الاندماج وجوب المقدمة بمعنى عدم جواز تعجيز النفس عن ذي المقدمة بترك المقدمات او بعدم تحصيلها حتى يفوت الاوان. 

والسّر في هذا الاندماج كثرة التقارن بين الامر بالشيء والامر بمقدمته كقول السيد للعبد (اذهب الى السوق واشتر كذا). وهذا نظير ما ذكرناه من استبطان الاحكام الوضعية للاحكام التكليفية كما اشار اليه الشيخ الانصاري قدس سره.

ونظير الشروط الارتكازية الضمنية التي جعلها المحقق النائيني قدس سره اساساً في خيار الغبن حيث ان البيع يتضمن التزام كل منهما بالمعاملة مشروطاً بعدم كون ما انتقل منه اكثر مالية مما انتقل اليه. ولعل اندماج هذا الشرط في البيع واستبطانه له نشأ من حكم قانوني قديم او من كثرة التصريح به قديماً فالارتكاز هنا عبارة عن استبطان البيع لهذا الشرط. 

وهذا الوجه لا يستوجب ايضاً كون وجوب مقدمة الواجب من اللوازم العقلية ولا يبعد ان يكون دلالة صيغة (افعل) على الوجوب من هذا القبيل ايضاً فان حقيقة الوجوب هو الطلب مع الوعيد على الترك ولعل كثرة التصريح بالوعيد هي السبب في استبطان الامر له.

واما المبحث الثاني اي (اقتضاء الامر بالشيء النهي عن ضده) فالكلام فيه تارة في الضد العام وهو الترك، وتارة في الضد الخاص اي الاضداد الوجودية للفعل. 

اما اقتضاؤه للضد العام بنحو الملازمة العقلية فقول ضعيف. والعمدة في وجهه القول بالعينية وان مفاد الامر بالصلاة هو عدم تركها بعينه. وهذه العينية لا يراد بها العينية الشكلية او المفهومية بل العينية من حيث الروح والمآل. فالنهي عن الترك عبارة أخرى عن الامر بالضد والا لتعدد التكليف. وعليه فأحد التعبيرين تعبير اصيل يكشف عن الجانب القانوني من الحكم والآخر تعبير ادبي عن نفس المحتوى. 

وسيأتي في محله البحث عن تشخيص ما هو الاصيل منهما عن غيره وإبداء نظرية أعمق وهي ان حقيقة الوجوب القانوني ليس الا الحكم الباعث على ايجاد الفعل خارجاً مع استبطانه الوعيد على الترك فلا فرق بين التعبيرين. والاعتبارات القانونية انما تتمايز بما يشتمل على المحتوى الذي هو روح الاعتبار ولا تتمايز بالاشكال والتعابير. 

وهناك رأي آخر سيأتي عرضه ونقده ومفاده ان الاصيل هو الامر وان النهي عن الترك تعبير ادبي وعليه فلا يبقى مجال ايضاً لتوهم الملازمة بين اعتبارين.

واما اقتضاء الامر للنهي عن الاضداد الوجودية فلو سلم كان بنحو الاعتبار الادبي كما سيأتي توضيحه ايضاً ان شاء الله تعالى.

وعليه فهذا المبحث ايضاً ليس بخارج عن مباحث الالفاظ، والمنهج القديم لا مانع من اتباعه ولا موجب لتغييره، والنظر في الاعتبار القانوني لا ينفك عن النظر في اللفظ المبرز له كما لا ينفك عنه الاعتبار الادبي فالحكم بالوجوب التخييري مثلاً لا ينفك عن ملاحظة مفاد كلمة (او) التي وضعت اداة للتحويل من الحكم على الشيء الى الحكم على الجامع بينه وبين غيره سواء في ذلك الجملة الخبرية والجملة الانشائية.

ولو كان لابد من تغيير في المنهج فالاولى ان نجعله على ترتيب نوعيات الابحاث التي ذكرناها في الجهة الاولى.

الى هنا ننتهي من مباحث المدخل لعلم الاصول حسبما تلقيته من دروس سيدنا الاستاد الفقيه الالمعي مرجع الامة وملاذها السيد علي السيستاني دام ظله.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد واله الطاهرين

 


[1]راجع تاسيس الشيعة لعلوم الاسلام ص 298

[2]الذريعة ج1 ص2

([3]) تمهيد القواعد ص24

([4]) تهذيب الاحكام ج1 ص285

[5]الكافي ج6 ص 339 باب الجبن

([6]) الكافي ج4 ص58 باب الصدقة لبني هاشم

[7]المصدر السابق

[8]مستدرك الوسائل ج14 ص8 باب وجوب رد الامانة

([9]) تاريخ ابن خلدون ج1 ص 456

([10]) نفس المصدر

([11]) كشف الظنون جـ1 ص110 علم اصول الفقه.

([12]) بصائر الدرجات ص 320

([13]) وردت فيها عدة روايات راجع بصائر الدرجات ص163 والكافي ج1 ص239

([14]) رجال الكشي حـ494.

[15]الكافي ج6 ص92

([16])الكافي ج1 ص62 باب اختلاف الحديث

([17]) عيون اخبار الرضا عليه السلام ج2 ص22 باب ما جاء في الحديثين المختلفين

([18]) النجاشي ص11.

([19]) النجاشي ص28.

([20]) تاريخ ابن خلدون ص 446.

([21]) الزمر: 17-18.

([22]) شرح المنظومة ص86.

([23]) شرح المنظومة ص88.

([24]) منطق المنظومة ص22

([25]) الكفاية ط المشكيني ص145 

([26]) الاشارات والتنبيهات ج1 ص298

[27]الحكمة المتعالية ج2 ص32

([28]) الكفاية جـ1 ص5.

([29]) مصابيح الاصول ص19 باختصار.

([30]) الاشارات والتنبيهات ج1 ص298.

([31]) ص11 وص12 من نهاية الأصول.

([32]) الكفاية ص165 ط المشكيني.