[H

مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

مباحث الالفاظ القسم الثاني

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المبحث السابع

 

فـي الـحـقـيـقـة و الـمـجـاز

 

المعروف في الدراسات الادبية والاصولية ان اللفظ قد يستعمل في المعنى الموضوع له فالاستعمال حقيقي وقد يستعمل في المعنى غير الموضوع له لعلاقة بينه وبين الموضوع له فالاستعمال مجازي وان لم تكن علاقة فالاستعمال غير صحيح. فالأسد ان استعمل في الحيوان المفترس الخاص كان حقيقياً وان استعمل في الرجل الشجاع كما في جملة (رأيت اسداً يرمي) كان مجازياً. وعلى هذا الاساس فالاستعمال المجازي عبارة عن تبديل لفظ بلفظ فبدلاً من التلفظ بالرجل الشجاع يعبّر بالأسد. وفي قبال المشهور مسلكان آخران:

المسلك الاول: ما نسب الى السكاكي صاحب كتاب (مفتاح العلوم) ويبتني على الفرق بين انحاء المجازات. وذلك لان العلاقة الملحوظة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ان كانت هي المشابهة كان المجاز استعارة وان كانت غيرها كان مجازاً مرسلاً كما في علاقة السبب والمسبب او الحال والمحل او الأَوْل او المشارفة ونحوها.

واللفظ المستعمل في موارد الاستعارة لا يستعمل في المعنى غير الموضوع له بل يستعمل ويراد به فرد من افراد الموضوع له. ولكن يسبق الاستعمال ادعاء تعميم في الموضوع له بحيث يكون له قسمان من الافراد قسم حقيقي وقسم ادعائي. فاذا قلنا (زيد اسد) فقد تصورنا مسبقاً ان الاسد له فردان فرد حقيقي وفرد ادعائي هو الرجل الشجاع ثم استعملنا لفظ الاسد في الجملة المذكورة واردنا الفرد الادعائي. واما إذا كان المجاز مرسلاً كان اللفظ مستعملاً في المعنى غير الموضوع له.

هذا وقد انكر بعض الباحثين[1] صحة النسبة وذهب الى ان السكاكي اختار المسلك الآتي وان كلامه في مفتاح العلوم اشتبه على من نسب اليه ذلك حيث تطرق للاستعارة من باب المثال فتوهم ان مذهبه يختص بها.

المسلك الثاني: ان اللفظ يستعمل دائماً في المعنى الموضوع له وحقيقة الاستعمال في موارد التجوز ليس تبديلاً في الالفاظ بل هو اعطاء حد شيء لشيء آخر فاللفظ في المثال المتقدم مستعمل في معناه الحقيقي وهو الحيوان المفترس لا في الرجل الشجاع ولا في الفرد الادعائي من الحيوان المفترس بل في نفس المفهوم الا اننا لغرض من الاغراض نحكم على زيد بانه اسد.

فليس التجوز مجرد استعارة للفظ خاص لاستعماله في معنى آخر بمجرد مشابهة بين المعنيين بل التجوز مرتبط بنفس المعنى وهذا القول بصورة اجمالية منقول عن بعض القدماء كابي علي الفارسي والاسفرائيني واول من وجّهه فيما نعلم المحقق ابو المجد الاصفهاني واختاره جمع من اعاظم العصر ويدل عليه وجوه:

الوجه الاول: ان الاعتبارات تنقسم الى اعتبار ادبي واعتبار قانوني. والاعتبار الادبي هو الاعتبار مع العناية وحقيقته اعطاء حد شيء لشيء آخر لداع من الدواعي والتجوز من انحاء الاعتبار الادبي.

والغالب في ذلك هو ان يكون اعطاء حد شيء لآخر من اجل الاستمداد من الاثر الانفعالي النفسي الذي يترتب على الشيء الاول، وذلك عن طريق حمله على الشيء الثاني ودعوى انه هو بعينه او انه فرد له ان كان كلياً فاذا قلنا (زيد اسد) كان المقصود تخويف السامع من بأس زيد وشجاعته لما تحقق لكلمة الاسد بما لها من المعنى من إثر انفعالي في النفس من جراء القصص والمشاهد التي تحكي عن شجاعة هذا الحيوان وبأسه. وهذا الانفعال قد يكون نتيجة لوصف واقعي في الشيء او لأوصاف خيالية وقصص مفتعلة.

وهكذا في توصيف أحد بالقمر والشمس للتأكيد على حسنه وبهائه استمداداً من وضوح ضياء الشمس ونور القمر او توصيف أحد بالشيطان او حمله عليه للتأكيد على مكره ودهائه وهكذا.... والانسان موجود احساسي تابع لانفعالاته النفسية ومشاعره وتخيلاته أكثر مما هو تابع للمنطق والعقل.

وهذا هو دور الادب في الحياة الاجتماعية فالعمل الادبي ليس تلاعباً في الالفاظ وان استحسن فيه اختيار الالفاظ الرَناّنة الا ان حقيقته هي التلاعب بالمشاعر والاحاسيس واختيار التعابير التي تكون اوقع في النفس وأقرب الى الغرض. وذلك باستخدام الكلمات التي تتأثر منها النفس بما لها من المعنى.

قال بعض الادباء في تعريف الادب بانه فن التلاعب بالعواطف والضمائر وقال (الادب بمعناه السامي فن توجيه المجتمع نحو الحق والخير والجمال).([2])  

ومن هنا يتبين ان التأثير للكلمة الخاصة بلحاظ معناها فاذا اريد التعبير عن تبحر الرجل في الحكمة والطب يقال انه ابن سينا ولا يستفاد ذلك التأثير من كلمة حسين بن عبد الله بن سينا مثلاً.

هذا وقد يكون الاستمداد في بيان الوصف المضاد كما تعارف من تسمية العبد الاسود بالكافور والاعمى بالبصير لينتقل الذهن بتأثره من صفة البياض والبصر الى فقدانهما النهائي فيهما.

وبعد ان ثبت ان مصحح المجاز والاعتبار الادبي هو التأثير في المشاعر النفسية بالطريقة المذكورة فلا بد من الالتزام بان اللفظ مستعمل في نفس المعنى الموضوع له اذ التأثير ناشئ عن الكلمة بما لها من المعنى الحقيقي.

هذا هو الوجه الاول في الاستدلال على هذه الدعوى ويترتب عليه امور:

الامر الاول: ان التجوز حيث كان الغرض منه هو التأثير في المشاعر النفسية فهو تابع في الاستحسان والاستهجان لتغير الخاصية الاحساسية للمعنى الحقيقي وهذا التغير يحصل من مناشئ مختلفة. وهذا هو السبب الرئيس في تطور الادب نتيجة لتطور العوامل الحضارية في المجتمعات.

وعلى هذا الاساس ايضاً تختلف وجهة الادب حسب اختلاف المجتمعات فـالـمـعـنـى الـمـوضوع لـه اللـفـظ قـد يـكـون فـي مـجـتـمـع واجـداً للأثر الانـفـعـالـي الـمـطلـوب ولا يـكـون واجـداً لـه في مـجـتـمـع آخـر.  

ومـن هـنا نجـد ان بعـض المجازات مستحسن في بعض المجتمعات ومستقبح في بعضها الآخر.

ومما يشهد لذلك ان كلمة (الحمار) كانت تطلق قديماً على الرجل الصبور على الشدائد القوي العزيمة وذلك لانهم عرفوا هذا الحيوان بهذه الصفة حتى قيل (اصبر من حمار)[3] ولقب بذلك مروان بن محمد آخر الخلفاء الامويين وعلل بانه كان لا يجف له لبد من محاربة الخارجين عليه فكان يصل السير بالسير ويصبر على المكائد.[4]

ومن الواضح ان مجتمعنا لا يستحسن هذا اللقب كيفما كان وجهه وانما يطلق عندنا على الرجل البليد لان هذا الحيوان عرف لدينا بهذه الصفة.

كما ان الخنزير كان يعبر به عن الرجل الباسل المغوار وهو لدينا يعبر عن الدناءة والخبث. ([5]) ولعلّ الحكم بنجاسته شرعاً مما أثّر في تغيّر أثره الانفعالي في المجتمع الاسلامي.

ومن هنا كان لزاماً على المترجم الاديب ان يبدل الاستعارات والكنايات بما يؤدي نفس التأثير في اللغة المترجم اليها ولو تقيد بالترجمة الحرفية فيها لفقد الكتاب او المقال او الشعر قيمته الادبية. وقد قيل ان الشهرة التي حصلت لرباعيات عمر الخيام في الاوساط الادبية الاوربية انما حصلت نتيجة لهذه الملاحظة الهامة التي توخّاها مترجمها الى اللغة الانجليزية.

الامر الثاني: ان ملاك الاستعارة والتشبيه حتى لو كان بالأداة هو كون الوصف في المشبه به اظهر بحيث يكون موجباً لانفعال النفس وان كان الوصف اقوى في المشبه كما يشبه الرجل الشجاع بالأسد او يحمل عليه مع انه قد يكون أشجع منه. وربما نشبه فقيهاً غير معروف بأحد القدماء المعروفين مع انه قد يكون أفقه منه الا ان ذلك الاسم بلحاظ المسمى يتمتع بتلك الخصوصية المؤثرة في انفعال النفس.

الامر الثالث: ان الاعتبارات القانونية ــ كما ذكرناه في المدخل وسيأتي في مبحث الاحكام الوضعية من الاستصحاب ان شاء الله تعالى ــ انما تنشأ بتطور يطرأ على الاعتبارات الادبـيـة نـتـيجـة لكـثرة الاسـتعـمال والتطبيق. وهذا يبتني على ان يكون الاستعمـال في المعنى الحقيقي والتجوز في التطبيق.

ومن هنا نشأ عنوان الحرام بحسب الاعتبار القانوني والا فهو في ما قبل تحقق الماهية الاعتبارية كان مستعملاً بمعناه الحقيقي في أصل اللغة وهو الممنوع تكويناً الا أنّه طبّق على الممنوع تشريعاً للمبالغة في التأثير النفسي وبتكثّر الاستعمال والتطبيق المذكورين استقلّ اللفظ بالتأثير النفسي بلحاظ المنع الشرعي وبذلك تكوّن الاعتبار القانوني فيه.

وهكذا كلمة النجس المستعمل اولاً بلحاظ معناه اللغوي وهو القذر وكذا غيره من الالفاظ التي اصبحت ذات محتوى قانوني فيما بعد. فكل ذلك يتوقف على ما ذكرناه من الاستعمال اولاً في المعنى الحقيقي والتطبيق على المورد للاستمداد من تأثير اللفظ بما له من المعنى الحقيقي.

الوجه الثاني: ان المشهود في الاستعمالات المجازية هو تناسب اجزاء الكلام بملاحظة المعنى الحقيقي للكلمات دون المعنى المجازي وهذا يشهد بانه هو المراد والا لكان اللازم ان يلاحظ التناسب بلحاظ المعنى المجازي ولهذا الوجه شواهد كثيرة في الشعر والنثر واليك بعض الامثلة:

  1. قول الشاعر:

(قامت تظللني من الشمس     –     نفس اعز على من نفسي)

(قامت تظللني ومن عجب     –    شمس تظللني من الشمس)

وانما يناسب التعجب إذا كان المراد بالشمس الاول معناها الحقيقي والا لو كانت الكلمة مستعملة في المرأة لم يكن التظليل موجباً للعجب. فلو كان التجوز مجرد تبديل للّـفظ واستعمال في غير المعنى الموضوع له لم يكن وجه للتعجب.

  1.  قول الآخر:

(لا تعجبوا من بلى غلالته –قـد زر ازراره على القمر)

فالنهي عن التعجب هنا بلحاظ ان الغلالة المصنوعة من الكتان تبلى من تأثير ضوء القمر – على ما زعموا – ولو كانت كلمة القمر مستعملة في الممدوح لم يكن وجه للنهي عن التعجب.

  1. قول الآخر:

(رجعت واحييت الغري واهله – وكذبت قول الناس لا يرجـع البدر)

ومن الواضح ان البدر لو كان مستعملاً في المعنى المجازي لم يتحقق التكذيب.

ونظير ذلك في شواهد الشعر والنثر أكثر من ان يحصى كما يلاحظ ذلك في مورد تشبيه الرجل الشجاع بالأسد او حمله عليه بالنحو المذكور انه يعبرّ كثيراً ما عن ابنه بالشبل وعن داره بالعرين وعن صوته بالزئير وهكذا...

والجدير بالذكر ان هذه الملاحظة تترتب عليها مطالب مهمة في الفقه والاصول نذكر من باب المثال ان الشيخ الانصاري قدس سره ذكر في مبحث الاستصحاب ان المراد باليقين في قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) هو المتيقن ولكي يصح التعبير بالنقض الذي هو عبارة عن حلّ ما كان مفتولاً لا بدّ من ان يكون الامر المتيقن مقتضياً للبقاء فيكون رفع اليد عنه نقضاً لما يقتضيه. ولذلك اختصّت حجية الاستصحاب بموارد الشك في الرافع.

وعلى اساس هذه الملاحظة يظهر ضعف هذا الكلام حيث ان المناسبة لا بد من ان يلاحظ بالنسبة الى المعنى الحقيقي لليقين لا الصفة النفسية حتى لو سلم ارادة المتيقن منه.

الوجه الثالث: انه كثيراً ما ينفى المعنى المجازي تصريحاً او تلويحاً في حين استعمال اللفظ وتطبيقه على مورد التجوز وذلك كما في جملة (زيد شجاع بل اسد) حيث ان الاضراب تلويح واشارة الى ابطال المعنى السابق وهذا ينافي استعمال كلمة الاسد في الرجل الشجاع. وقد يصرّح بالنفي كقوله تعالى حكاية عن نسوة مصر (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) على احد الوجهين في تفسيره.([6])

واما مسلك السكاكي فهو على تقدير صحة النسبة حلقة متوسطة بين المسلكين وعلى كل تقدير فترد عليه مناقشات:

المناقشة الاولى: انه لا فرق فيما ذكرناه بين المجاز المرسل – على حد تعبيره – والاستعارة. فاذا قيل للمريض المشرف على الموت انه ميت لا من جهة المشابهة بل من جهة الأَوْل والمشارفة كما قد يتحقق في المريض الذي لم يتغير حاله الظاهري فان الادلة السابقة تأتي هنا وتدل على ان المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي.

وكذلك في سائر العلاقات كما يقال للجاسوس انه عين ولمن يصدق القالة انه اُذُنٌ تعبيراً عن الكل بالاسم الموضوع للجزء ففي كل من هذه الموارد يتحقق اعطاء حد شيء لشيء آخر.

المناقشة الثانية: ان كلامه متهافت حيث انه فرض اللفظ موضوعاً للطبيعة ومستعملاً في الفرد الادعائي وادعى انه استعمال حقيقي مع ان استعمال اللفظ الموضوع للطبيعة في الفرد الحقيقي مجاز فكيف بالادعائي.

المناقشة الثالثة: ان الاستعمال المجازي لا يختص بموارد الوضع للطبيعة حتى يتم دعوى استعماله في الفرد الادعائي بل قد يكون اللفظ علماً شخصياً كما تطلق كلمة (حاتم) على الجواد مع ارادة حاتم الطائي الشخصية المعروفة بالجود.

واما إذا اريد بها الماهية الاعتبارية التي اكتسبتها هذه الكلمة بكثرة الاستعمال والتطبيق فلا يكون نقضا على السكاكي.

ومثله ما يقال لولد زيد إذا كان شبيها به (انه زيد) مثلا.

وبما ذكرناه في المجازات تبين الحال في الكنايات كالتعبير عن الجواد بجبان الكلب ومهزول الفصيل حيث ان ذلك ايضاً ابراز للمعلومة بغير صورتها الاصلية و اللفظ مستعمل في نفس المعنى الحقيقي وان كان المراد الجدي تحويل الذهن الى معنىً آخر.

وعلى اساس هذه النظرية في المجازات نستغني عن بعض المباحث التي جرت العادة على ذكرها هنا لابتنائها على النظرية الاولى المشهورة ونذكر هنا بعض تلك المباحث:

  1. البحث عن ان دلالة اللفظ على المعنى المجازي بالوضع او بالطبع.
  2. البحث عن اعتبار العلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي المصححة للاستعمالات المجازية. وقد اشتهرت في هذا الباب مجموعة علاقات لا بد من وجود شيء منها ليصح التعبير المجازي.
  3. البحث عن ان العلاقات المذكورة وضعية ام لا؟ بمعنى انه هل تجب متابعة العلاقات التي تداولت الاستعمالات المجازية لدى العرب على اساسها ام لا يجب بل يجوز التعدي عنها؟
  4. البحث عن ان استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقي والمجازي جائز ام لا يجوز لدخوله في استعمال اللفظ في أكثر من معنى بناءا على عدم جوازه؟ وذلك نظير جملة (اغتسل للجمعة والجنابة) بناءاً على كون الامر حقيقة في الوجوب.

هذا وقد ادعى المحقق ابو المجد الاصفهاني[7] ان من تلك المباحث المستغنى عنها باتخاذ هذا المسلك مبحث علائم الحقيقة والمجاز وذهب الى ان معرفة المعنى الموضوع له تتم بملاحظة ان خطور المعنى باستعمال اللفظ هل تحقق بعد تجاوزه عن معنىً آخر ام انه خطور مستقر لم يتجاوز من الغير فالصورة الثانية تمثل المعنى الحقيقي للّفظ. وذلك لان مبنى هذا المسلك هو استعمال اللفظ وارادة المعنى الحقيقي للتوصل الى المعنى المجازي بالتطبيق. ومن هنا عبرّ هذا المعنى بالمجاز لانه يجتاز اليه من المعنى الحقيقي.

واختاره السيد البروجردي ايضا على ما في تقريراته.[8]

وفي هذا الكلام مناقشة وهي ان المجاز – كما قالوا – قنطرة الحقيقة وقد مر بيان ذلك في كيفية الوضع حيث ذكرنا ان الاوضاع اللغوية تتحقق غالباً بعبور اللفظ بمرحلة من الاستعمال بمناسبة مّا ولو وهمية مع ضميمة القرينة المفهمة وبتكرر الاستعمال والافهام يستغنى عن القرينة. اذن فحيثية الربط والعلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى تتحقق بالتدريج حتى يتم الاستقلال التام للّفظ في مرحلة الدلالة ولا يحتاج الى الاستعانة بالقرائن.

وعليه فليس الاسـتعـمال الـمجـازي مـتأخراً عـن الاستعمال وارادة الموضوع له اي من دون التطبيق الموجب للتجوز المصطلح نعم لو كان الوضع تعيينيا تم ما ذكره الا ان الاوضاع كما ذكرنا تعينية والوضع التعييني لو كان في بعض الموارد فهو من المقدمات البعيدة لتحقق العلقة الوضعية.

هذا مضافاً الى ان التبادر لا يستخدم في تمييز المعنى الحقيقي المشخص عن المعنى المجازي فحسب بل قد يستخدم ايضاً لتحديد المعنى الحقيقي كما إذا كان الشك في ان الحيوان مثلاً موضوع لما يشمل الانسان او لخصوص ما عداه.

وكما وقع الكلام في ان الجبهة موضوعة للسطح المستوي فيما بين الحاجبين حيث ملتقاهما في طرف الانف الاعلى بخطين متوازيين الى الناصية ام انها موضوعة لمجموع السطح المستوي الكائن فوق الحاجبين الى قصاص الشعر فيكون المعنى اعم من الاول.

وكما إذا وقع الشك في ان الحمار موضوع للحيوان الخاص او لكل بليد فيشمل الانسان البليد ايضاً.

وتأثير التبادر هو رفع الشك الناشئ من احتمال كون المعنى الاعم هو الموضوع له وان الاخص ناشئ من الانصراف واحتمال كون المعني هو الاخص وان فهم الاعم ناشئ من كثرة التطبيق.

وفي مثل هذه الموارد لا يتأتى ما ذكره قدس سره.

 

 

المبحث الثامن

 

في علائم الحقيقة والمجاز

 

قد ذكر القوم علامات لتمييز المعنى الحقيقي عن المجازي او بالأحرى تمييز موارد التطبيق الموجب للتجوز عن غيرها. ونحن نقتصر على ذكر علامتين منها للاختصار ولأن موقفنا تجاه غيرهما من العلامات يتبين بملاحظة ما نذكره فيهما:

العلامة الاولى: التبادر وهو انسباق المعنى عند سماع اللفظ من حاقه دون ان يعتمد على قرينة. والدليل على كونه علامة كون المعنى المتبادر هو الموضوع له اللفظ هو ان الانسباق المفروض لا بدّ له من موجب فهو اما ان يستند الى حاق اللفظ بمقتضى ترابطه الوضعي مع المعنى المذكور وهو المطلوب واما ان يستند الى القرينة والمفروض انتفاؤها واما ان يستند الى اللفظ لا بمقتضى الترابط الوضعي بل بمقتضى ذات اللفظ وهو يتوقف على نظرية مفندة تقول بان الالفاظ لها دلالة ذاتية وقد مرت الاشارة الى ضعفها.

وقد اعترض على علامية التبادر بوجوه من المناقشة:

المناقشة الاولى: مـا ذكـره الـسـيـد الـبروجـردي قـدس سره. ومحـصلـه بـتـقريـب منّا:

ان الوضع المستكشف بالتبادر لا يخلو اما ان يكون خصوص الوضع التعييني او الجامع بينه وبين الوضع التعيني. اما الاول فمن الواضح ان التبادر لا يكشف عنه لانه لا يستند الا الربط بين اللفظ والمعنى وهو اعم من كونه مستنداً الى وضع تعييني او تعيني.

واما الثاني اي الجهة الجامعة بين الوضعين فليس هناك جامع بينهما الا كون اللفظ بحيث إذا سمع فهم منه المعنى. وهو بعينه التبادر والدلالة الشأنية كما ذكرنا في مبحث الوضع. اذن فالقول بعلامية التبادر لهذا الجامع يستلزم اتحاد الكاشف والمنكشف.

والجواب عنه يتبين بملاحظة ما مر في الامر الخامس من الامور المتقدمة في مبحث الوضع. وتقرير ذلك بوجهين:

الوجه الاول: ان الاشكال يبتني على افتراض ان ما جعل له العلامة هو الربط الذهني وحيث انه امر شأني وما جعل علامة امر فعلي وهو نفس انسباق المعنى الى الذهن عند سماع اللفظ وتصوره فالامتياز بينهما في نهاية الوضوح سواء قلنا بان الربط الذهني يقتضي استتباع تصور اللفظ لتصور المعنى او قلنا بانه يوجب اكتساب اللفظ ماهية اعتبارية بحيث يكون تصور اللفظ تصوراً للمعنى بوجه وذلك لان وعاء الربط الذهني على كلا المسلكين هو منطقة اللاشعور ووعاء ترتب الاستتباع او التصور الفعلي للمعنى بوجه هو منطقة الشعور والالتفات. فالربط على كلا الوجهين امر موجود في نفس الامر ولو لم يوجد اللفظ بالوجود الذهني.

ويتضح ذلك بملاحظة الفرق بين اللزوم او الملازمة الواقعية في الخارجيات وتحقق الملزوم عند تحقق لازمه. فالملازمة بين وجود العلة التامة المنحصرة ومعلولها لها واقعية في نفس الامر ولو لم توجد العلة خارجاً. واما نفس تحقق اللازم فيتوقف على وجود الملزوم.

وكما يقال في هذا المجال (ان الملازمة غير متوقفة على وجود الملزوم ووجود اللازم متوقف على وجوده. وغير المتوقف على شيء غير المتوقف عليه) كذلك يقال فيما نحن فيه وبذلك يتضح التغاير.

واما معنى التحقق في نفس الامر الذي عرّف بانه حدّ ذات الشيء فلتوضيحه مجال انسب وهو مبحث القطع.

الوجه الثاني: انا لو اغمضنا عما سبق مبنياً على تفسير العلقة الوضعية بالربط الذهني فبإمكاننا تقرير الموضوع على اساس ان للعلقة الوضعية مرحلة اخرى هي مرحلة الربط الاعتباري بين طبيعي اللفظ وواقع المعنى وهذه المرحلة متأخرة عن الربط الذهني وهي تشكل اللغة التي هي ظاهرة اجتماعية. وقد مر بيانه في مبحث الوضع وتوضيح ذلك كالاتي:

ان الترابط الذهني امر تكويني واقعي يتمثل في استتباع تصور اللفظ لتصور المعنى او في اكتساب المعنى ماهية اعتبارية وهو الوجود اللفظي. وطرفا هذا الترابط هو الوجود الذهني للّفظ والوجود الذهني للمعنى. والوضع اللغوي امر اعتباري اجتماعي يتمثل في مرآتية اللفظ لواقع المعنى. وطرفاه وجود اللفظ خارجاً ووجود المعنى خارجاً او في نـفـس الامـر.

وهـناك فـرق آخـر بـيـن الامريـن وهو ان الترابط الذهني بين اللفظ والمعنى وان كان لا يتعدد بتعدد السماع الا انه يتعدد بتعدد الافراد تبعاً لتعدد الاذهان التي هي اوعية الترابط والمترابطين.

واما الوضع اللغوي الاعتباري المترتب على وجود الترابط اللفظي في المجتمع فهو واحد بوحدة المجتمع ولا يتعدد بتعدد افراده ولا ينكمش بقلة الافراد. بل ولا ينعدم بانعدام الافراد بأجمعهم كما يلاحظ ذلك في لغات المجتمعات البائدة فان الترابط الاعتباري اللغوي موجود فيما يبقى منهم من الآثار الخطية.

هذا ولكن التبادر تأثر فردي وامر طبيعي يتكثر بتكثر الافراد ويتعدد بتعدد تصور اللفظ كما مر.

المناقشة الثانية: ان التبادر متوقف على العلم بالوضع فلو كان العلم بالوضع متوقفاً على التبادر كما هو مقتضى العلامية لزم الدور وتوقف الشيء على ما يتوقف عليه. اما توقف التبادر على العلم بالوضع فهو واضح بعد وضوح بطلان القول بان دلالة الالفاظ ذاتية.

وقد اجيب عن هذه المناقشة بوجوه عديدة لا نتعرض لذكرها و نقدها ونقتصر على ذكر الجواب الصحيح عندنا. وهو ان التبادر ليس الا حظور المعنى عند سماع اللفظ اما للتلازم او للهوهوية الاعتبارية وهذا الامر لا يتوقف الا على الترابط الذهني بين اللفظ والمعنى ولا يتوقف حتى على العلم بهذا الترابط ولا على الاذعان به والتنبه له بل يتوقف على واقع الترابط وهو يتوقف على مقدمات قد مر الكلام فيها وفي اختلافها حسب القولين من التلازم والهوهوية.

اذن فالتبادر لا يتوقف على العلم بالربط فضلاً عن العلم بالوضع التعييني الذي هو أحد مقدمات تحقق الربط في بعض الموارد.

وكذا لا يتوقف التبادر على العلم بالوضع اللغوي اي الاعتبار الاجتماعي بين ذات اللفظ والمعنى في الخارج او نفس الامر فان التبادر ظاهرة تتحقق في كل فرد تبعاً للربط الذهني بين اللفظ والمعنى وعند تصور اللفظ. ولكن الاعتبار اللغوي ينشأ في مرحلة متأخرة بملاحظة مجموع هذه الروابط الذهنية لدى كل فرد من ابناء المجتمع اللغوي الواحد. فالربط الذهني الفردي في مرتبة العلة للوضع اللغوي وهو مصحح لاعتباره.

هذا ولا ينبغي ان يتوهم ان هذا الجواب مرجعه الى ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية من ان التبادر يتوقف على العلم الاجمالي الارتكازي والذي يتوقف عليه هو العلم التفصيلي.

وذلك لان التبادر في جواب الكفاية متوقف على نحو من العلم وما ذكرناه من الجواب لا يفترض توقفه على اي نحو من العلم فان الربط الذهني امر واقعي مغاير للعلم وليس من مقولته.

وجواب الكفاية مأخوذ من جواب الشيخ الرئيس عن اشكال الشيخ ابي سعيد ابي الخير على انتاج الشكل الاول من القياس المنطقي حيث يتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم بثبوت المحمول للموضوع في النتيجة لكونه فرداً من الموضوع المذكور في الكبرى فهو متوقف على العلم بالنتيجة والنتيجة مستكشفة بالقياس.

وجوابه يبتني على الفرق بين العلم الارتكازي الاجمالي اي بنحو يتعلق بمجموعة اشياء غير منحازة صور بعضها عن بعض وهو الذي يتوقف عليه القياس اي العلم بكلية الكبرى وبين العلم التفصيلي وهو الذي يتميز فيه صور المعلومات وهو الذي ينتج من القياس.

وعلى اي تقدير فالذي يتوقف عليه التبادر في جواب الكفاية هو هذا العلم الارتكازي بخلافه في جوابنا.

هذا كله بناءاً على كون الوضع مرتبطاً بالدلالة الاخطارية بان يكون الموضوع له اللفظ ذات المعنى واما بناءاً على مسلك التعهد فالموضوع له هو الارادة التفهيمية والتعهد العقلائي ويرتبط الوضع بناءاً عليه بالدلالة التصديقية. وعليه ففي كشف التبادر عن وجود هذا التعهد خفاء.

ومن العجب ان بعض من اختار هذا المسلك ذكر في الجواب عن هذا الاشكال بنفس ما ذكره اصحاب المسلك الآخر اي حسبما هو مذكور في الكفاية مع ان من الواضح عدم كفاية هذا التقرير لإفادة التبادر الكشف عن التعهد بل لا بد من توضيح آخر.

المناقشة الثالثة: ان علامية التبادر تتوقف كما ذكرناه في أصل التقرير على كونه ناشئاً من حاق اللفظ دون ان يؤثر في الانسباق الى الذهن امر آخر لفظي او غير لفظي. ولا يمكن الوثوق بفراغ الجو الدلالي عن كل قرينة تؤثر في الانسباق نظراً الى ان هناك نوع من القرائن خفية جداً بحيث لا ينتبه اليها الانسان حين ملاحظة الانسباق.

ومن هذه القرائن الانصراف فانه يوجب انسباق المعنى الخاص من اللفظ مع انه لا يمنع من كون الموضوع له في الواقع هو المعنى الاعم.

وكذلك كثرة الاطلاق على معنىً آخر بنحو التطبيق كما ذكرنا او بنحو الاستعمال كما زعموا توجب انسباق المعنى المجازي مع افتراض عدم الوصول الى حد الوضع التعيني.

اذن فتجريد اللفظ عن القرائن لضمان تحقق التبادر الخالص من حاق اللفظ امر غير ممكن في كثير من الموارد.

وقد اجيب عن هذه المناقشة بان اصالة عدم القرينة التي هي أصل عقلائي تنفي وجود كل قرينة حين الشك فيها.

 ويرد على هذا الجواب ان الاصل المذكور ان كان هو استصحاب عدم القرينة ففيه انه لا يثبت لوازم المستصحب وكون الدلالة ناشئة من حاق اللفظ لازم عقلي لعدم وجود القرينة.

وان كان الاصل اصلاً عقلائياً برأسه ففيه ان اصالة عدم القرينة لدى العقلاء هي التي تستعمل في كشف المراد مع تعين ظهور اللفظ في معنىً خاص وعليه يبتني اصالة الحقيقة اما مع العلم بالمراد فلا تجري اصالة عدم القرينة لتعيين الظهور اللفظي.

والجواب الصحيح هو ان التبادر انما يكون علامة إذا كان مطّرداً بمعنى ان يكون اللفظ موجباً لانسباق المعنى الخاص مع اختلاف موارد الاستعمال حتى يعلم ان الانسباق لم يتم بمقارنة الكلمات الخاصة في كل من هذه الجمل وكـذلك فـي الاحـوال الـمـخـتـلـفـة لـدفـع احـتـمـال خـصـوصـيـة الـحـال فـي الانسباق.

وبذلك يتم كشف العلة التامة فيه وهو حاق اللفظ. كما اننا بهذه الطريقة نتمكن من كشف العلة التامة في سائر الظواهر الطبيعية حيث نلاحظ الشيء المحتمل عليته مع مختلف الامور المقارنة فاذا تعقبت الظاهرة الخاصة في كل مورد تحقق فيه ذلك الامر علمنا كونه علة تامة له.

المناقشة الرابعة: ان التبادر انما يكشف عن الترابط بين اللفظ والمعنى في مجتمعنا الخاص وفي زماننا الخاص ولكنه لا يكشف عنه بالنسبة الى سائر المجتمعات خصوصاً مع ملاحظة الفارق الزماني والمكاني معاً كما هو الحال في الفاظ الكتاب والسنة التي هي مورد حاجة الفقيه.

وذلك لانه لا اشكال في تأثير العوامل الحضارية وتطور الاوضاع الاجتماعية في تطور اللغة لفظاً ومعنىً. وهو ملحوظ بوضوح في اللغة العامية الدارجة حيث نجد الاختلاف الكبير في البلدان العربية مثلاً بل وفي كل منطقة في كل قطر. ومن الاختلاف ما يتعذر معه التفاهم في بعض المجالات.

وهذا هو الموجب لتشعب اللغات والا فكل مجموعة من اللغات الحاضرة تشكل فصيلة واحدة وترجع الى لغة واحدة هي اللغة الامّ. ولولا اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم والسنة المطهرة واهتمامهم بالمحافظة على معانيها والفاظها لتغيرت معالم اللغة العربية ولعلها كانت تتشعب الى لغات حتى في اللغة الفصحى كما نجده في اللغة الدارجة.

وهذا أحد وجوه المناقشة في حجية قول اللغوي التي تعرضنا لها في البحث الخاص بها نظراً الى ان كتب اللغة ــ كما ورد في تاريخ تدوينها ــ انما تشكلت بجهود جماعة في اواخر العصر الاموي واوائل العصر العباسي وذلك باستقراء البادية العربية واستعلام معاني الالفاظ من المجتمع البدوي الكائن في وسط الجزيرة العربية ليضمنوا عدم اختلاطهم باللغات المستوردة نتيجة لتوسع رقعة البلاد الاسلامية.

اذن فالذي يكشف عنه قول اللغوي هو العلقة الوضعية لدى المجتمع البدوي في هذه الفترة من الزمان وهو لا يجدي في معرفة العلقة الوضعية لدى المجتمع الحضاري في مكة والمدينة وفي خصوص العهد النبوي صلى الله عليه واله وسلم وعهود الائمة الطاهرين عليهم السلام.

ومهما كان فالمناقشة بالنسبة الى التبادر تنحل الى مشكلة بلحاظ الفارق الزمني واخرى بلحاظ الفارق الاجتماعي.

اما من جهة الفارق الزمني فربما يجاب عن الاشكال – كما في بعض التقريرات – بان الاستصحاب القهقرائي اي أصالة عدم النقل يقتضي الحكم ببقاء المعنى الاول. وحيث ان ادلة الاستصحاب مختصة بما إذا كانت القضية المتيقنة سابقة على القضية المشكوكة في عمود الزمان ادّعي لصحة هذا الاصل بناء العقلاء عليه في خصوص اوضاع الالفاظ فحيثما وجدوا للفظ دلالة حكموا عليه بنفس الدلالة في سابق الزمان.

وفي ثبوت هذا الاصل لدى العقلاء تأمل بل منع. فهناك عوامل التغيير في اللغات ولها تأثير بعيد المدى في تغير المعاني المستفادة من الالفاظ فتارة تؤثر في تباين المعنى المتبادر عن اللفظ في زماننا مع المعنى المتبادر عنه في قرون سابقة تبايناً كلياً. واخرى تؤثر في حدوده سعة وضيقاً وثالثة تجعل اللفظ معنىً غير محسوس بعد ان كان منحصراً في معنىً محسوس مادي الى غير ذلك من انحاء التغير.

نعم من كان غافلاً عن هذه العوامل ولم يلاحظ تأثيرها في تغير المعاني يفسّر الكلمة الواقعة في نصّ صادر في ازمنة متقادمة بنفس المعنى الذي يتبادر منه في مجتمعه. ومن الواضح ان هذا النوع من تفسير اللغة الذي يبتني على المسامحة لا يعتبر اصلاً عقلائياً معتمداً عليه. اذن فينبغي ان يدعى ان الاصل العقلائي يقتضي عكس ما ذكر.

والذي يمكن ان يقال ان التبادر لدى الفقيه هو المناط في فهم معاني الالفاظ المستعملة في الكتاب والسنة. والفقيه الممارس لاستنباط الاحكام عن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة مع ملاحظة الآثار المنقولة عن التابعين وتابعيهم يعتبر فرداً من افراد ذلك المجتمع وكأنه يعيش عصر نزول الكتاب وصدور السنة. وبذلك تحصل لديه ملكة خاصة توجب ان يتبادر الى ذهنه نفس المفاهيم المدلولة للألفاظ في تلك العصور.

ولكن يشترط ان لا يؤثر في ذهنيته المصطلحات المستحدثة او فتوى المشهور مثلاً كما ظن بعضهم ان الركوع يتبادر منه الانحناء الى حد وصول الكفّين الى الركبتين تأثراً من إفتاء المشهور بذلك. فهذا التبادر لم ينشأ من ملاحظة جوّ صدور الروايات والمتفاهم لدى عرف ذلك الزمان و فقهاهم.

ومـن هـنا يتبين الجـواب عـن الـفارق الاجتماعي ايضاً.

 

 

العلامة الثانية: صحة الحمل وهي علامة كون المعنى حقيقياً وصحة السلب وهي علامة كونه مجازياً. ونحن نفرق بينهما في البحث ولإثبات علامية صحة الحمل لا بد من التنبيه على امرين:

الامر الاول: أنّ الحمل الذي هو نحو من الحكم بالهوهوية والاتحاد بين الموضوع والمحمول ينقسم الى قسمين:

القسم الاول: الحمل الاولي الذاتي والمناط فيه اتحاد الموضوع والمحمول مفهوماً. ولكي يفيد الحمل فائدة لا بد من تغاير بينهما ويكفي التغاير بالإجمال والتفصيل كالإنسان والحيوان الناطق فهما متحدان من حيث المفهوم والفارق بينهما ان الاول لوحظ على وجه اللف والاجمال والثاني على وجه التفصيل والتحليل العقلي فالتغاير ينشأ من نوع من الاختلاف اللحاظي الطارئ على مفهوم واحد.

القسم الثاني: الحمل الشايع الصناعي والمناط فيه اتحادهما وجوداً مع فرض التباين المفهومي وحينئذ فقد يكون منشأ الاتحاد الوجودي أنّ حصة من المحمول متقررة في ذات الموضوع ويعبر عنه بالحمل الشايع الذاتي كقولنا (زيد انسان). وقد لا يكون منشؤه هذا التقرر ويعبر عنه بالحمل الشايع غير الذاتي كقولنا (الانسان كاتب بالقوة) او (الكاتب بالقوة ضاحك).

والفارق بين القسمين الاخيرين ان كلا مما به الاتحاد والتغاير في القسم الاول انما ينطلق من ناحية الذات فذات الموضوع بلحاظ جزء تحليلي منه منشأ الاتحاد الوجودي وبلحاظ غيره منشأ التغاير المفهومي ومن الناحية الاولى يسمى حملا ذاتيا.

واما في القسم الثاني فالتغاير ينطلق من ناحية الذات والاتحاد الذي هو الركن الرئيسي للحمل ينطلق من جهة اخرى ففي الحقيقة تتحد الماهيتان اللتان لا تعد احداهما من علل قوام الآخر الا انه حيث لا يعقل اتحاد المتحصلين وجودا فلا بد من ان يكون أحدهما غير متحصل. ففي المثال المتقدم ينتزع المحمول (الكاتب بالقوة) من الموضوع اي الانسان. ووجود الامر الانتزاعي بوجود منشأ انتزاعه ولكنه في مرحلة اعتبار الوحدة والكثرة يتبع مصحح الانتزاع كما سيجيء توضيحه في مبحث المشتق ان شاء الله تعالى.

وبهذا البيان يتبين مورد دعوى كون صحة الحمل علامة وهو الحمل الاولي الذاتي والقسم الاول من الحمل الشايع فبالحمل الاولي يستكشف ان الموضوع متحد مع المحمول مفهوماً فاذا لم يكن مفهوم الانسان اي الموضوع له لفظ الانسان واضحاً لدينا وكان مفهوم الحيوان الناطق واضحا نستكشف بالحمل الاولي المتحقق بينه وبين الحيوان الناطق ان الانسان بما له من المفهوم الذي يحكي عنه اللفظ بلا قرينة متحد مع مفهوم الحيوان الناطق.

والحمل الشايع الذاتي يبين حدود الموضوع له فاذا كان زيد عندنا مفهوماً واضحاً وشككنا في حدود مفهوم الانسان وانه يشمل الرجل البليد – مثلاً – ام لا فنستكشف من صحة حمل الانسان على زيد (وهو بليد بالفرض) ان حصة من الانسان متقررة في زيد البليد وبذلك يتبين ان الموضوع له لفظ الانسان ليس بشرط لا بالنسبة الى البلادة او لازمها.

واما الحمل الشايع غير الذاتي فلا يكشف عن هذين الجانبين فقولنا (الانسان كاتب بالقوة) يكشف عن اتحاد وجودي بين المفهومين وانهما موجودان بوجود واحد إمّا مع الاختلاف في المرتبة وان الوجود الواحد لاحدهما اولاً وبالذات وهو الانسان وللآخر وهو الكاتب ثانياً وبالعرض وإمّا بدون الاختلاف الرتبي كما لو كان الوجود اولاً بالذات لماهية اخرى ولكل من الموضوع والمحمول ثانياً وبالعرض كقولنا (الكاتب بالقوة ضاحك ) فالوجود للإنسان حقيقة وينسب الى كليهما بالعرض ومن هذه الجهة يحصل لهما اتحاد وجودي يصحح الحمل ولكنه حيث لا مساس له بمرحلة الذات ولا ينطلق منها اصلاً لا يفيد في استكشاف المفهوم المجهول ولا في استكشاف حدود المفهوم.

وقد اشار الى هذا التفصيل المحقق الخراساني في هامش الكفاية والمحقق الاصفهاني في كتابه (الاصول على النهج الحديث) وفي تعليقته على الكفاية.

الامر الثاني: وهذا ما نضيفه توضيحاً للمطلب وهو ان السرّ في علامية الحمل في الموردين المذكورين لكون المعنى حقيقياً هو ان الارتباط بين اللفظ والمعنى – كما أسلفنا – له مرحلتان.

الاولى: الارتباط الذهني في منطقة اللاشعور والارتكاز الذهني. وقد مرّ ان اسـتـعـمال اللـفـظ فـي الـمـعـنى يـمرّ بـمـرحـلـتـيـن حتى يـتـحـقـق بـيـنـهـمـا هـذا الترابط اما بنحو الاستتباع او الهوهوية والماهية المكتسبة كما هو الصحيح. وهذا الترابط موجود لدى كل عالم باللغة.

الثانية: الترابط الاعتباري الذي يعتبره المجتمع بين طبيعي اللفظ وواقع المعنى نتيجة لحصول المرحلة الاولى لدى عامة ابناء اللغة الواحدة.

واستكشاف المرحلة الاولى يتم بعملية شعورية كما هو الحال في جميع الامور الارتكازية اي اللاشعورية فان الانسان لا يعلم بوجودها الا بعملية تجريبية شعورية. فالمعنى الحرفي يعرفه كل انسان يستعمل الحروف معرفة مّا الا انه لا يعرفه معرفة تامة يتمكن من التعبير عنه وتحديد مفهومه.

وعملية الاستكشاف قد تتمثل في التبادر وهو يتحقق بتجربة في التلفظ او تصور اللفظ الخاص فان شعرنا بتحقق المعنى الخاص اعتباراً أو استتباعه – على الاختلاف – بحيث يكون الشعور به ترشحاً من الارتكاز واللاشعور أو المعلومات الكامنة دل ذلك على وجود الترابط بين اللفظ والمعنى.

وقد تتمثل تلك العملية في الحمل وهو قد يكون ذهنياً وقد يكون لفظياً فان شعرنا بصحة الحمل بلا قرينة ومن دون عناية وتكلف نفسي وانه ترشح من اللاشعور وانفعال منه فالترابط محقق وان لم يكن كذلك بل كان تحميلاً على الشعور النفسي علمنا بانه معنى مجازي.

والحمل اللفظي أقرب الى درك الواقع من الحمل الذهني لان الذهنيات كلما اقتربت من الخارج والحسّ كانت ابعد عن الخطأ وآمن من خداع النفس.

وفي المقام مناقشات نتعرض لبعضها:

المناقشة الاولى: ان هذا الاستكشاف غير ممكن فان صحة الحمل وعدمها يرجعان الى عالم المعنى والمدلول ويدوران مدار وجود الهوهوية بين المعنيين وعدمها. واما الحقيقة والمجاز فهما يرجعان الى عالم اللفظ والدال ويدوران مدار وجود العلقة الوضعية بين اللفظ ومعناه وعدمها.

وبين الامرين مسافة بعيدة فصحة الحمل في قولنا (الانسان حيوان ناطق) – مثلاً – يدور مدار الهوهوية بين المعنيين اللذين دلّ عليهما اللفظ على نحو الحقيقة او المجاز فكيف يمكن ان يجعل صحة الحمل علامة على الدلالة الحقيقية.

نعم لو فرض في القضية الحملية ان المعنى قد استفيد من نفس اللفظ من دون قرينة كان ذلك علامة الحقيقة الا انه استناد الى التبادر لا الى صحة الحمل.

وبالتأمل في الامر الثاني المتقدم يتضح اندفاع هذه المناقشة اساساً فقد اوضحنا فيه وجه الاستكشاف بحيث لا يبقى مجال لهذه المناقشة.

ونكتفي هنا بالإشارة الى بعض المسامحات في كيفية تقريرها:

  1. ان الصحيح كما هو رأي صاحب المناقشة ايضاً هو ان المجاز ليس من استعمال اللفظ في غير ما وضع له بل اللفظ مطلقاً يستعمل فيما وضع له والاتصاف بالتجوز بلحاظ اقتران الاستعمال بقرينة دالة على ان المراد التفهيمي غير المراد الاستعمالي وان المتكلم قد طبّق في نفسه المعنى على حقيقة اخرى من باب اعطاء حد شيء لشيء آخر وحمله عليه. فلا يتحقق التجوز الا بنوع من الحمل بين المعنيين بداع من الدواعي ويصححه علقة بينهما كما اوضحناه في محله. ومن ذلك يتضح وجه الاتصاف بعدم صحة الحمل. فليس هناك بون بعيد بين صحة الحمل بلا عناية وعدمها وبين الحقيقة والمجاز كما ادّعي.
  2. ان الحمل وان كان عملاً ذهنياً الا انه لا يتخلى عن اللفظ وقد مر الكلام حول تأثير اللغة في الفكر وان الانسان يتصور الموضوعات التي يفكر حولها في إطار الالفاظ وبتأثير من وحي اللغة.
  3. ان الحمل كما قلنا ذهني ولفظي فلو استبعد علامية الحمل الذهني فلا مانع من تجربة الحمل اللفظي.

المناقشة الثانية: ان ما ذكر على تقدير صحته انما يتم في الحمل الاولي الذاتي حيث يدل على وحدة المفهومين واما الحمل الشايع فلا ربط له بأثبات المعنى الحقيقي اذ لا يرتبط بمفهوم الموضوع والمحمول بشيء وانما يدل على اتحادهما وجوداً ولا ربط له بمرحلة استعمال اللفظ.

والجواب عن هذه المناقشة يتبين بملاحظة ما تعرضنا له في الامر الاول من الفرق بين الحمل الشايع الذاتي وغير الذاتي فالأول حيث يدل على تحليل مفهومي يكشف عن توسعة المفهوم واما غير الذاتي فلم نقل بكونه علامة تبعاً للمحققين الخراساني والاصفهاني قدس سرهما.

كـمـا يـنـدفـع الاعـتـراض بـانـه لا فـرق بـيـن نـوعـي الـحـمـل الـشـايـع وان المحمول في كليهما مردد بين معان متعددة انما التردد في أحدهما اوسع من الآخر بما ذكرناه من ان الحمل الشايع الذاتي هو الذي يبين سعة المفهوم المشكوك صدقه وان الشايع غير الذاتي لا يفيد الا الاتحاد الوجودي فقط.

وهناك مناقشات اخرى على غرار المناقشات الواردة في التبادر وقد ذكرناها واجبنا عنها فيقال:

ما هو الدليل على كون الحمل انفعالاً من اللاشعور فلعله متأثر بالقرائن الحالية؟

وما هو الدليل على كون الانفعال من المجتمع اللغوي كي يثبت الربط اللغوي وهو المقصود؟

وما هو الدليل على كون الترابط امتداداً للترابط اللغوي في مجتمع صدور النصوص الشرعية مثلاً؟

والجواب هنا هو الجواب هناك فراجع.

وأما صحة السلب و علاميتها للتجوز فلا بد للبحث عنها من مقدمة نتعرض فيها لانقسام السلب وانه إمّا سلب اولي ذاتي وإمّا سلب شايع صناعي كما أن الثاني ينقسم ايضا الى ذاتي وغير ذاتي.

ويكفي في الاذعان بوجود هذه الاقسام المقابلة بين الحمل والسلب الا أن السيد البروجردي قدس سره ناقش في ذلك وذهب الى ان السلب نوع واحد.

توضيح ما أفاده: ان مفاد القضية السالبة سلب الاتحاد والربط بين الموضوع والمحمول وهذا المفاد لا يصدق الا مع انتفاء جميع انحاء الترابط. اذن فالقضية الحملية وان كانت على قسمين الا ان السلبية قسم واحد تعتبر نقيضاً لكلا قسمي الحملية.

وعليه فقضية (الجزئي ليس بجزئي) كاذبة لصدق قولنا (الجزئي جزئي بالحمل الاولي) وصدق نوع من الارتباط بين الموضوع والمحمول يناقض صدق السلب بينهما.

وكذلك لا يصدق قولنا (الانسان ليس بحيوان) بدعوى ان السلب بلحاظ التغاير المفهومي وذلك لصدق قولنا (الانسان حيوان) اي بالحمل الشايع وقد عرفت ان صدق نوع من الارتباط لا يجتمع مع صدق السالبة.

وعلى هـذا الاسـاس يـنـدفـع الاعـتـراض الـذي وجـهـه بـعـض الـمـتـأخـريـن على قدماء المناطقة حيث استدرك عليهم في اعتبار انحاء الوحدة الثمانية للتناقض بان من انحاء الوحدة المعتبرة هو وحدة الحمل فيصح القول بان الجزئي جزئي بالحمل الاولي وليس بجزئي بالحمل الشايع. والانسان حيوان بالحمل الشايع وليس بحيوان بالحمل الاولي.

وحاصل الجواب ان القضيتين السالبتين كاذبتان لما تقدم.

ولكن هذا الجواب غير صحيح اذ لو سلمنا صحة تقسيم الحمل الى قسمين و أنكرنا صحة تقسيم السلب لزم ارتفاع النقيضين.

بيان ذلك ان في المثال المذكور يصدق قولنا الجزئي جزئي بالحمل الاولي ولا يصدق الجزئي جزئي بالحمل الشايع لانه كلي كما هو واضح فاذا أنكر صدق القضية السالبة الجزئي ليس بجزئي نظراً الى تحقق نوع من الارتباط والمفروض انها نقيض لكلتا القضيتين الموجبتين لزم كذب النقيضين معاً فالموجبة الثانية كاذبة ونقيضها السالبة كاذبة ايضاً بالفرض. وهذا محال.

اذن فلا بد من الاعتراف بان لكل قضية موجبة نقيض سالب بإزائها فقولنا الجزئي جزئي بالحمل الاولي تناقضه قضية الجزئي ليس بجزئي مفهوماً. وقضية الجزئي جزئي بالحمل الشايع تناقضها قضية الجزئي ليس بجزئي بالحمل الشايع.

وهناك جواب آخر عن الاعتراض على المنطقيين وهو ان ما ذكر وان كان صحيحاً الا انه لا حاجة الى الاستدراك بوحدة الحمل بل يمكن الاكتفاء عن ذلك بوحدة الموضوع نظراً الى ان مرجع الحمل الاولي الى ان الموضوع عبارة عن نفس المفهوم ومرجع الحمل الشايع الى انه ملحوظ مرآة للأفراد فالاختلاف بين نوعي الحمل ليس بلحاظ أن الهوهوية في أحدهما مفهومية وفي الآخر وجودية بل الاختلاف ناشئ من اختلاف الموضوع فالموضوع في قولنا الانسان حيوان ناطق هو مفهوم الانسان وفي قولنا الانسان حيوان هو الانسان بما انه مرآة للأفراد.

وهذا غير صحيح ايضاً مع قطع النظر عما اسلفناه وذكرناه من ان الكلي ليس مرآة للأفراد وانه لا يحكي عما ينطبق عليه بل عما يطابقه وهو نفس الجهة الجامعة وذلك لان هذا الجواب لا يصح فيما إذا قلنا الانسان كلي بالحمل الشايع فهذه القضية صادقة مع ان الموضوع ليس حاكياً عن الافراد بل طبيعي الانسان هو الكلي وكذلك قولنا الجزئي كلي بالحمل الشايع ونظائره.

فتبين ان السلب لا بد من تقسيمه ايضاً الى اولي ذاتي وشايع صناعي.

بعد هذه المقدمة نرجع الى صلب الموضوع وهو ان صحة السلب هل هي علامة المجاز ام لا؟

اما على رأي السيد البروجردي قدس سره من ان صدق السالبة يتوقف على انتفاء جميع انحاء الارتباط بين الموضوع والمحمول فالعلامية واضحة اذ لا يبقى مجال لصحة الحمل الا العناية والتجوز.

واما على الرأي الآخر فالسلب الاولي المقابل للحمل الاولي يدل على تغاير المفهومين نحو الانسان ليس بأسد فلا شك حينئذ ان إطلاق الاسد على الانسان يحتوي على العناية والتجوز.

واما السلب الشايع فان كان ذاتياً بمعنى سلب تقرر حصة من المحمول في الموضوع نحو زيد ليس بحمار فهو لا يدل على سلب جميع انحاء الارتباط لصدق هذا السلب عن مورد اتحاد المفهومين اذ لا اشكال في عدم تقرر حصة من المحمول في الموضوع حينئذ فيصح قولنا الجزئي ليس بجزئي بالحمل الشايع الذاتي بمعنى ان حصة من الجزئي لم تتقرر في الجزئي وذلك واضح لوحدة المفهومين ولا شك ان هذا السلب لا يدل على التجوز كما هو واضح.

و اما الـسـلب الشايـع غـيـر الـذاتـي فـهـو لا يـصـدق الا مـع سـلب جميع انحاء الارتباط فقولنا الحمار ليس بكاتب بالقوة معناه انه لا هوهوية بينهما ولا يتقرر حصة من المحمول في الموضوع ليس هناك اتحاد وجودي بشكل من الاشكال وحينئذ لا يبقى مجال للإطلاق الا بالعناية والتجوز.

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث التاسع

 

في الحقيقة الشرعية

 

بعد ان تبين ان الاستعمال حقيقي ومجازي وان الاستعمال الحقيقي يتوقف على ثبوت العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى يقع الكلام في انه هل هناك الفاظ موضوعة لمعان مستحدثة حسب اصطلاح الشرع المقدس ام لا؟

فالصلاة والصوم والحج ونحوها لها معانٍ لغوية هي التوجه والامساك والقصد ومعان مستحدثة وهي الافعال الخاصة او الامساك على وجه خاص وهذه المعاني امور تكوينية وقد تحققت العلقة الوضعية بين هذه الالفاظ والمعاني المستحدثة في استعمالات المتشرعة الاّ ان الكلام في ان استعمالات الشارع – والمقصود به النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم – هل كان على وجه الحقيقة ام لا؟

هكذا تقررت المسألة في مباحث القوم. وقد أبدى المحقق الخراساني احتمالاً غيّر وجهة البحث نوعاً ما وهو أنّ بعض هذه الالفاظ قد استعملت في الشرائع السابقة في نفس المعاني وعليه فالعلقة الوضعية ثابتة قبل زمان الشارع. ولكن البحث بقي على اساس وجود معان تكوينية مستحدثة لهذه الالفاظ ومحور السؤال هو زمان تحقق العلقة الوضعية بينها وبين الالفاظ.

وعلى اساس هذا البحث نشأ البحث التالي في الصحيح والاعم حيث يقع السؤال في ان المعنى المستحدث في اصطلاح الشارع هل هو الصحيح التام او الاعم منه ومن الفاسد واما لو فرضنا عدم تحقق العلقة الوضعية في استعمالات الشارع فالبحث التالي بحاجة الى تصحيح في الصياغة.

هـذا ولكن هـناك احـتمال آخـر – وهو الصحيح – ويتم لنا توضيحه في ضمن امـور:

الامر الاول: ان العلقة الوضعية – على افتراض تحققها – لا بد ان تكون على وجه الوضع التعيني لبعد احتمال اعلان الشارع عن وضعه اسماً خاصاً للماهية الخاصة حتى يكون الوضع تعيينيا فلا بد من ملاحظة كيفية تحقق الوضع التعيني.

وقد تبين من المباحث السابقة ان الاستعمال المجازي هو الذي يحقق الوضع التعيني بالتطور فان المجاز عبارة عن إعطاء حد شيء لشيء آخر بداعي التأثير في المشاعر استمداداً من تأثير اللفظ بما له من المعنى الحقيقي حيث ان الاعتبار الادبي ليس الا محاولة للتأثير النفسي وقد قيل ان الادب هو فن التلاعب بالضمائر والعواطف.

فالاستعمال المجازي ليس في المعنى غير الموضوع له وانما يمتاز عن الاستعمال الحقيقي في مرحلة التطبيق حيث يطبّق المعنى الموضوع له على شيء آخر وبكثرة التطبيق وتكرره يتحقق ربط ذهني في مرحلة اللاشعور بين اللفظ ومعنىً آخر وهذا هو الوضع التعيني.

وهو على قسمين:

القسم الاول: ان تكون حصيلة العملية السابقة ايجاد العلقة الوضعية بين اللفظ ومعنىً آخر له كيان مفهومي ثابت. وهذا المعنى الثاني قد يكون له اسم سابق وقد لا يكون نظير ما يقال من ان الغالب في الاسماء انها في بدء الامر موضوعة لمعان محسوسة ثم بالمناسبة تحولت مداليلها الى معان غير محسوسة كالإرغام فانه بمعنى وضع الانف على التراب ثم تحول الى معنى الاذلال والاكراه ونحو ذلك. وهكذا العقل والكتابة ونحوهما. ولتوضيحه محل آخر.

القسم الثاني: ان تكون حصيلة العملية السابقة امرين:

  1. تحقق نوع اعتباري للمعنى.
  2. الربط بين اللفظ وهذا النوع الاعتباري.

والغرض بيان حقيقة هذا القسم من الوضع التعيني المزدوج الشخصية حيث انه حال كونه مشتركاً مع القسم الاول في احداث العلقة الوضعية يختص بإبداع مفهوم جديد مع قطع النظر عن دلالة اللفظ وبعبارة ادق تحول مفهومي للمعنى.

والسرّ في الفرق بين القسمين ان في موارد التطبيق المتكرر الموجب لتحقق العلقة الوضعية تارة تختفي الناحية الاحساسية المصححة للتطبيق والمعبر عنها في اصطلاح الادباء بوجه الشبه وتبرز معالم المعنى المنطبق عليه فيتحقق القسم الاول وتارة يكون الامر بالعكس فيقوى النظر الى الجهة الاحساسية حال التطبيق بحيث يوجب تبدلاً في محتوى اللفظ بما له من المعنى الاول فيجرده عن جهة كاشفيته عن ذات المعنى الواقعي التكويني بحيث يطغى على المعنى الطابع الاحساسي المذكور فيتحقق القسم الثاني.

ويمكن ان نستوضح ذلك بملاحظة بعض الامثلة.

فمنها الميتة، حيث انها موضوعة للحيوان الذي يموت حتف انفه ويطبق هذا العنوان (اللفظ بما له من المعنى) على كل حيوان زهق روحه على غير الوجه القانوني المعترف به عرفاً او شرعاً وذلك للاستمداد من لفظ الميتة بما له من المعنى بلحاظ تنفر الطبع البشري عنها فيتوصل بذلك الى تنفير الطباع عن الحيوان الذي لم يذبح على الوجه الصحيح.

وتكرر الاستعمال هنا لم يوجب تحقق الربط الذهني والعلقة الوضعية بين اللفظ ومورد تطبيق العنوان بل اوجب تحقق الماهية الاعتبارية حيث تحققت – في قبال ماهية المذكى التي لها اعتبار قانوني – ماهية اعتبارية اخرى عبّر عنها بالميتة وهي ما يستحسن ان يجتنب عنه في الاكل والاستصحاب حال العبادة او في اماكنها.  فالمعنى الجديد هو كل ما يوجد فيه هذا الاثر الاحساسي.

وهكذا القذر والنجس حيث ان الموضوع له فيهما هو ما يتنفر منه الطبع ثم طبق العنوان (اللفظ بما له من المعنى) على موارد لا يتنفر منها الطبع لمصالح تشريعية كالكافر والخمر والعصير العنبي – بناءا على نجاستها – وتكرر التطبيق أحدث ماهية اعتبارية من سنخ الاحكام هي الموضوع له بحسب الاصطلاح الشرعي. ومعنى ذلك ان معنى اللفظ يستبطن بتكرر هذا التطبيق ذلك الاثر الاحساسي الذي كان ملاك التطبيق.

اذن فتكرر التطبيق المجازي تارة يوجب تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ وما طبق عليه واخرى يوجب تحقق الماهية الاعتبارية واستبطان معنى اللفظ لذلك الاثر ملاك التطبيق. فما هو السرّ في ذلك؟

الظاهر انّ السبب هو ان كثرة التطبيق في القسم الاول يصاحبها الذهول عن ملاك التطبيق بتكرره ولذلك تتحقق المرآتية بين اللفظ ونفس المعنى ويصاحبها في القسم الثاني مزيد اهتمام بملاك التطبيق بحيث يعدّ ذلك الملاك اساساً في التطبيق و جزءاً من المعنى وحينئذ فالتكرر يوجب اندماجه في المعنى وحيث كان ذلك ماهية اعتبارية استوجب تحقق ماهية اعتبارية يكشف عنها اللفظ. فاطلاق لفظ (حاتم) مثلاً حيث كان مع التركيز على اعتباره كاشفاً عن الجود اندمج فيه ذلك المعنى فأصبح بالتكرر تعبيراً آخر عن معنى (الجواد).

وبين القسمين فرقان:

الفرق الاول: ان الموضوع له في القسم الاول ماهية تكوينية ويترتب عليه ان انطباقها على افرادها قهري لا يؤثر فيه الجعل وجوداً وعدماً بخلاف الماهيات الاعتبارية فإنها تنطبق على افرادها بمعونة الجعل ونعبر عنه بمتمم الجعل التطبيقي.

والموضوع له في القسم الثاني من هذا القبيل ومن هنا نجد ان عنوان الميتة بعد ان اندمجت فيه احكام الميتة الحقيقية وتحققت الماهية الاعتبارية يطلق على حيوان بموجب قانون وهو في قانون آخر ينطبق عليه عنوان المذكى.

الفرق الثاني: ان الوضع التعيني في القسم الاول يبدل مفهوم اللفظ تماماً فالرجل الشجاع مغاير مفهوماً للمعنى الاول لكلمة الاسد – مثلاً – بينما لا يوجب الوضع التعيني في القسم الثاني تغايراً مفهومياً وانما يكتسب المعنى بسببه صبغة الاعتبار فالميتة مثلاً لا يختلف مفهومها الثاني عن المفهوم الاول اي ما مات حتف انفه الا من جهة واحدة وهو كون المفهوم الاول عنواناً لأمر تكويني والمفهوم الجديد عنواناً لأمر اعتباري لوحظ فيه نفس احكام الامر التكويني.

وبعبارة اخرى: معنى الميتة حقيقة هو ما مات حتف انفه ومعناه الجديد الاعتباري هو كل ما كان واجداً لأحكام الميت حتف انفه حسب القانون العرفي او الشرعي على اختلاف الانظمة والعادات.

وهكذا عنوان القذر والنجس لم يختلف مفهومه بهذا الوضع التعيني الا ان النجس كان معناه هو ما ينفر منه الطبع تكويناً وأصبح معناه الآن كل ما ينفر منه الطبع تشريعاً واعتباراً او بالأحرى ما تحاول الشريعة تنفير الطباع منه بإيجاب الاجتناب عنه.

ومثال آخر هو الدينار الذي كان في البدء اسماً لمثقال من الذهب المسكوك والغرض من ضرب السكة امران:

(الاول) ان يكون النقد وسيطاً لنقل السلع وتمليكها بعد ان كان التبادل بنفس السلع. (الثاني) ان يكون النقد مقياساً لمالية السلع.

ولما دعت الحاجة الى زيادة توفير النقد اخترع الورق النقدي واعتبرته الدول وسيطاً ومقياساً وأطلق بعضهم على اوراقه النقدية اسم الدينار بلحاظ هاتين الخصوصيتين وهذا الاطلاق في بدو حدوثه يعتبر اطلاقاً ادبياً ومع العناية ولكن مع كثرة الاستعمال اكتسبت كلمة دينار مفهوماً اعتبارياً فخرجت عن معناها الاصلي وهو الذهب المسكوك وأصبح معناها كل ما يوجد فيه الميزتان السابقتان مع لحاظ اعتباره بهذا الاسم لدى الحكومة التي اعتبرته نقداً لها. وبذلك لم يبق للدينار مفهوم تكويني بل أصبح صدقه تابعاً لاعتبار المعتبر.

الامر الثاني: الظاهر ان الصلاة من هذا القبيل اي من الماهيات الاعتبارية التي تنشأ بسبب الوضع التعيني فان الاصل اللغوي في هذه الكلمة هو العطف واللين والميل والخضوع كل ذلك بمعناه التكويني. ولا يصدق هذا العنوان بمعناه الحقيقي على جميع افعال الصلاة سواء لوحظ العطف والميل صفتين للأجسام او من حالات النفس.

وعليه فالانطباق يتوقف على العناية والاعتبار الادبي. وكثرة التطبيق – كما مرّ – احدثت الماهية الاعتبارية حيث اعتبر هذه الافعال الخاصة لينا وخضوعاً اعتبارياً على اختلاف الشرائع في كيفية الصلاة فالاختلاف لا يرجع الى اختلاف في المفهوم بل في مقام التطبيق بمعنى ان كلاً من الشرائع اعتبر مجموعة خاصة من العمل والقول صلاة واما مفهوم الصلاة فلم تختلف فيه الشرائع بل مفادها ماهية اعتبارية هي ما تحقق الخضوع الاعتباري للمربوب بالنسبة الى خالقه. وسيأتي ان استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى لا يختص بالمسلمين. اذن فصدق مفهوم الصلاة خاضع للجعل والاعتبار ومتوقف على متمم الجعل التطبيقي حسب اختلاف الانظار في تطبيقه.

ولكن المحقق الاصفهاني ناقش في كون الصلاة ماهية اعتبارية قال في حاشيته على الكفاية ما ملخصه:

(واما جعل الهيئة التركيبية معنونة بعنوان الصلاة اي جعلها عطفا وتذللا كجعل المالية والملكية فمدفوع بان كون الشيء تذللا وتعظيما وان كان مما تتفاوت فيه الانظار لكن التفاوت بالخصوصيات فحقيقة التعظيم كون الفعل بحيث يمكن ان يقصد به الاعظام وان كانت الانظار تختلف في تلك الحيثية. والهيئة التركيبية فيما نحن فيه لها آثار واقعية ليست بجعل جاعل وكذلك هي ذات خصوصية فبي نظر الشارع بحيث يمكن ان يتذلل بها العبد وهذا بخلاف الملكية فان كون الفعل ذا خصوصية مقتضية لاعتبار الملكية لا يوجب اتصافه بعنوان الملك قبل اعتبار المعتبر للملكية).[9]

ويمكن تقريب ما ذكره رحمه الله بأن الصلاة لا تقاس بالملكية والمالية ونظائرهما من الامور الاعتبارية التي تختلف فيه الانظمة والتقاليد حيث يعتبر الخمر والخنزير لدى بعض الملل والاديان مالين ولا يعتبران مالين في الشريعة الاسلامية. كما ان اسباب تحقق الملكية الاعتبارية مختلفة في الاديان والقوانين.

فهذا الاختلاف ينشأ من اختلاف الاعتبار ولذلك ذكروا ان الاعتباريات تختلف باختلاف الانظار ولكن الصلاة ليست من هذا القبيل بل هي محققة للخضوع واقعاً وهذا الامر الواقعي تختلف فيه الانظار اي تختلف فيما يحققه وقد حكم الشارع انه يتحقق بالأعمال الخاصة (الصلاة). فهذا امر واقعي كشف عنه الشارع كالمفاهيم العلمية الكونية التي تختلف فيها الآراء والانظار بخلاف الاحكام الوضعية كالملكية والمالية والزوجية التي تختلف باختلاف الانظار والصلاة نظير المصالح التي تصحح اعتبار الملكية والزوجية وهي امور واقعية وليست من قبيل نفس الملكية والزوجية.

واساس هذه النظرية هو ان الاعتبار سواء كان ادبياً ام قانونياً لا بد ان يخالف التكوين اذ لا معنى لاعتبار الخضوع الواقعي خضوعاً والصلاة خضوع واقعي من المربوب بالنسبة الى خالقه.

وهذا الاساس صحيح في نفسه الا ان تطبيقه في المقام غير ظاهر لوضوح ان الاعمال الخاصة التي نعبّر عنها بالصلاة لا ينطبق على جميعها عنوان العطف والميل واللين واقعاً لا بلحاظ تحقق هذه الصفات في الاجسام ولا بلحاظ كونها من صفات النفس اذن فالصلاة عطف وخضوع اعتباري تابع للمصلحة المصححة للاعتبار كالأحكام الوضعية.

ويشهد لذلك انا لا نجد بين افراد الصلاة المختلفة في الشريعة الاسلامية وجه اشتراك لا يشاركها فيه بعض العبادات الاخرى فصلاة الغرقى والصلاة الايمائية وصلاة المطاردة لا يشترك مع صلاة المختار في وجه أقرب مما يشترك فيه الطواف – مثلاً – معها. فما هو السبب في عدم اعتبار الطواف عطفاً وليناً مع اعتبار هذه الانواع المتخالفة من العبادة صلاة اي عطفاً وليناً واقعياً كما هو المفروض؟!

الامر الثالث: قد تبين مما سبق ان الماهيات الاعتبارية على قسمين يطلق على احدهما عنوان الاحكام من وضعية وتكليفية وعلى القسم الآخر الماهيات الجعلية كما حكي ذلك عن الشهيد قده وغيره من الفقهاء.  

وأقرب ما يمكن ان يقال في وجه الفرق بين القسمين هو ان الماهية الاعتبارية تارة تحمل على الامر الخارجي بنحو هوهو كالدينار والميتة والصلاة ونحوها ويعبر عنها بالماهيات الجعلية وتارة تحمل على الامر الخارجي بنحو ذو هو اي الاشتقاق كالملكية والزوجية فيقال هذا مملوك و زوج ونحو ذلك وهذا القسم يعبّر عنه بالأحكام الوضعية او التكليفية.

فالفرق مجرد اصطلاح والا فالقسمان يشكلان موضوعات تمهيدية للأحكام التكليفية وذلك لما سيأتي في مبحث الاحكام الوضعية من ان قانون انتخاب الاسهل يقضي باختراع موضوع تمهيدي وماهية اعتبارية للتعبير عن الامور المتباينة إذا كان يجمعها الحكم الشرعي فنعبر – مثلا – عن جميع ما يجب الاجتناب عنه في الاكل واستصحابه حال العبادة مع ملاحظة احكام اخرى بالنجس.

ولعله على هذا الاساس قال الشهيد الاول قدس سره في قواعده:

(الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا يطلق على الفاسد الا الحج لوجوب المضي فيه).[10]     

والكلام هنا فيما ذكره بالنسبة الى العبادات واما المعاملات فسيأتي البحث عنها في المقام الثاني.

ومن هنا يتضح انه لا يرد عليه ما اشتهر من الاعتراض عليه بان الصلاة والصوم والحج ونحوها ليست ماهيات جعلية اعتبارية وانما هي اي كل منها مجموعة امور تكوينية متفرقة مختلفة الحقائق توجه اليها امر واحد فاكسبتها وحدة اعتبارية. والفرق كبير بين الماهية الاعتبارية و المتكثرات المتحدة بوحدة اعتبارية كالدار مثلاً التي تعتبر امراً وحدانياً مع انه مركب من مجموعة امور متفرقة جمعها الاعتبار.

ويستفاد من بعض عبارات المعترضين ان وحدة الاعمال في مثل الصلاة تكوينية ايضاً وليست اعتبارية وهي ناشئة من وحدة اللحاظ.

والجـواب ان الـشهـيـد لـم تشتبه عـليه الـماهـية الاعـتـبارية بالواحد وحدة اعتبارية بل هو يدعي ان هذه الامور ماهيات اعتبارية وتحقيقه ما ذكرناه.

واما توهم كون الوحدة تكوينية فهو واضح البطلان لان الوحدة في الحقيقة انما هي من شؤون الامر المتعلق بهذه الكثرات والامر اعتباري فلابد ان تكون الوحدة التي هي من شؤونه اعتبارية ايضاً. ويمكن دعوى سبق اعتبار الوحدة على تعلق الامر كسائر المركبات الاعتبارية التي تعتبر متحدة كالدار.

الامر الرابع: في اقامة الشواهد على ما ذكرناه من ان الصلاة ماهية اعتبارية وان اختلاف الملل والنحل انما هو في تطبيقها على المصاديق.

قال المحقق الخراساني قدس سره بعد دعوى ثبوت الحقيقة الشرعية (هذا كله بناءا على كون معانيها مستحدثة في شرعنا وأما بناءا على كونها ثابتة في الشرائع السابقة كما هو قضية غير واحد من الآيات مثل قوله تعالى "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" وقوله تعالى "وأذن في الناس بالحج" وقوله تعالى "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا" إلى غير ذلك فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية واختلاف الشرائع فيها جزءا وشرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا كما لا يخفى)([11])

وذيل عبارته يناسب ويوافق المسلك المختار كما هو واضح.

وقد اعترض عليه بانه لا دليل على كون الصلاة في شرعنا والصلاة في الشرائع السابقة افراداً لحقيقة واحدة بل هناك احتمال الاختلاف في الحقيقة وكون الاطلاق مجازياً نعم لو ثبتت الحقيقة الشرعية في زمان نزول الآيات أمكن التمسك بظاهر الإخبار بها ولكن ذلك غير ثابت. واما ورود كلمة الصلاة في انجيل برنابا فهي بمعنى الدعاء والصلاة بهذه الكيفية الخاصة من الاجزاء والشرائط والموانع مستحدثة لا محالة.[12]

ولا بـدّ مـن مـلاحـظـة الآيـات والـروايـات لـدراسـة الـمـوضـوع.

قد ذكرنا في مبحث النسخ من مباحث التعارض ان المستفاد من الآيات والروايات ان شريعة السماء واحدة من لدن آدم عليه السلام الى يوم القيامة وان الدين الذي اتى به الانبياء عليهم السلام منهج واحد في معارفه الاساسية واصول احكامه ودعائمه وان الاختلاف انما هو في جهات ثانوية تكميلية. وان الاسلام بالمعنى الخاص هو الدور الاخير من ادوار تكامل الشريعة الالهية. وكلها اسلام. وقد اهتم القرآن المجيد بهذه الملاحظة واكّد على وحدة الاديان روحاً واساساً.

واليك نموذجاً من الآيات حول هذا الموضوع:

قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...).([13])

وقال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ...).[14]

ومن الآيات ما تؤكد إتّباع ملة ابراهيم عليه السلام. قال تعالى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ...)[15] 

وقال تعالى (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).[16]

وقال ايضا (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) [17]

وقال عزّ من قائل (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[18] الى غير ذلك من الآيات.

ومن الروايات ما يدل على ان الانبياء عليهم السلام كانوا يدعون الى الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك من اصول الشريعة وكذلك كانوا ينهون عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن فكأن مجموعة الشرائع صفوف مدرسة واحدة تختلف برامجها بالإجمال والتفصيل. وقد عقد في كتب الحديث ابواب تدل على ذلك منها (باب بدو الكعبة والحرم) ومنها (باب من اراد الكعبة بسوء قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم). ومنها (باب حج آدم عليه السلام) و(باب حج ابراهيم واسماعيل عليهما السلام) و(باب حج سائر الانبياء عليهم السلام) وابواب في الصلاة وغير ذلك.

واما الآيات الدالة على وجود نفس هذه العبادات في الشرائع السابقة فكثيرة نذكر بعضها:

قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ).[19]

وقال تعالى حكاية عن قول ابراهيم عليه السلام (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ..) (الى ان يقول) (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي..).[20]

وقال تعالى حكاية عن نصائح لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ..).[21] وعن لسان عيسى عليه السلام (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا).[22]

وقال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ..).[23]

وقال تعالى في شأن اسماعيل عليه السلام: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)[24] وفي شأن زكريا عليه السلام: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى..).[25]

ودفعاً لاحتمال كون الصلاة عندهم نوعاً آخر من العبادة نراجع الروايات الشارحة للآيات وهي على قسمين:

القسم الاول: الروايات الواردة بشأن صلوات الانبياء كلاً على حدة ففي الوسائل روايتان في الباب 2 من ابواب اعداد الفرائض وهما حـ7 وحـ99 وردت في احداهما صلاة آدم عليه السلام بالصلوات الخمس وفي الاخرى صلاته في الجملة.

وفي المستدرك ايضاً روايات اخرى في هذا الباب راجع جـ1 ص188 جـ4 وفي ص196 حـ1 ب2 من القبلة: ان الله امر آدم عليه السلام ان يصلي الى المغرب ونوحاً عليه السلام ان يصلي الى المشرق... الحديث.

وفي الوسائل جـ2 ص774 حـ13 الباب 5 مـن صلاة الجـنازة حـديث في صـلاة هـبة الله عـلى آدم عليهما السلام وانـه عـلى غـرار صلاة الميت عندنا.

وفي المستدرك ثلاثة أحاديث بشأن الصلاة على آدم عليه السلام جـ1 ص113 حـ4 من ب6 من صلاة الميت وص114 حـ18 وص115 حـ21.

واما صلاة نوح عليه السلام فقد ورد بشأنها أحاديث معتبرة تعليلاً لجواز الصلاة في السفينة واقناعاً لمن يرغب عنها بقولهم عليهم السلام: (اما ترضى ان تصلي بصلاة نوح عليه السلام) وهي عدة روايات راجع جامع الأحاديث جـ2 ص200 ب12 من القبلة (حكم الصلاة في السفينة) الأحاديث من 1 الى10.

واما صلاة ابراهيم عليه السلام فقد ورد في المستدرك ص196 حديث حولها وفي ص235 حديث ورد فيه صلاته في مسجد الكوفة.

  وقد ورد في حديث تفسير الصلاة التي ورد ذكرها في كلام عيسى عليه السلام بهذه الصلاة.

روى الكليني قدس سره بسند معتبر عن معاوية بن وهب قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن أفضل ما يتقرب به العباد الى ربّهم وأحب ذلك الى الله عز وجل ما هو؟ فقال عليه السلام: ما اعلم شيئاً بعد المعرفة افضل من هذه الصلاة الا ترى ان العبد الصالح عيسى ابن مريم عليه السلام قال: (واوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا).[26]  ولا شك ان الصلاة في عهد الامام الصادق عليه السلام كانت حقيقة في هذا العمل الخاص وخصوصاً بملاحظة اسم الاشارة (هذه الصلاة).

وورد في حديث آخر ذكر صلاة زكريا عليه السلام.

روى الصدوق قدس سره مرسلاً عن الصادق عليه السلام ( ان طاعة الله عز وجل خدمته في الارض وليس شيء من خدمته يعدل الصلاة فمن ثم نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي في المحراب).[27]

وفي بعض الأحاديث ذكر صلاة ادريس عليه السلام. راجع المستدرك جـ1 ص236 وفي بعضها ذكر صلاة سليمان عليه السلام وانه أتى بها بعد الوقت والحديث في مقام تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)[28]  

راجـع الـمـسـتـدرك جـ1 ص186 ب6 مـن ابـواب الـمـواقـيـت حـ3 و حـ5. وجامع الأحاديث جـ2 ص12 حـ81 و82 و83.

القسم الثاني: ما ورد فيه ذكر صلاة الانبياء بوجه عام او الصلاة في الامم السابقة. وهي كثيرة ايضاً فمنها ما يدل على ان الصلاة عليهم كانت خمسين ركعة وان كان الحديث مستغرباً. راجع المستدرك ص170 و176.

ومنها ما يتضمن اوقات الصلاة لديهم. راجع المستدرك ص186 وص188

ومنها ما تضمن صلاة كل نبي في مسجد الكوفة وبعض المساجد الاخرى راجع ص234.

ومنها ما تضمن ان الصلاة آخر وصايا الانبياء. راجع الوسائل باب استحباب اختيار الصلاة.

والذي نستنتج من هذه الروايات اهتمام الائمة عليهم السلام ببيان مبدأ تشريع الصلاة وانهم كانوا يهدفون بذلك الى التأكيد على وحدة الشريعة الالهية فلا مجال لاحتمال مغايرة صلاتنا مع صلاة الامم السالفة في حقيقتها. هذا مضافاً الى ما سيأتي في الامر الخامس من وحدة التعبير ايضاً.

ولعل منشأ توهم التغاير دعوى وضع الصلاة للأركان وعدم الاعتراف بوضعها للماهية الاعتبارية وان معنى الصلاة هو هذا العمل المشتمل على الاجزاء والشرائط الوجودية والعدمية ومن الواضح ان هذه المجموعة لم تكن واجبة في الامم السالفة.

وهذه الدعوى لا تنهض اشكالاً على صاحب الكفاية كما هو المقصود لما ذكرناه من ان ظاهر كلامه ان الموضوع له هو الماهية الاعتبارية وأن الاختلاف في المحققات فلم يدّع صاحب الكفاية ان صلاتهم كانت بعين الاجزاء والشرائط المعتبرة في صلاتنا. أضف الى ذلك ضعف هذه الدعوى بنفسها حتى على مسلك صاحبها نظراً الى ما سيأتي منه من عدم اعتبار الشرائط وعدم الموانع جزءاً للمسمى في الصلاة وغيرها.

الامر الخامس: ان لفظ الصلاة هو الاسم الوحيد لهذه الحقيقة في اللغة العربية قبل الاسلام وبعده وربما يعترض على صاحب الكفاية قدس سره تعليقاً على العبارة السابقة التي نقلناها بان التعبير بالصلاة عن هذه الحقيقة على فرض وحدتها تعبير عربي فمن الواضح ان حكايته عن لسان ابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام انما هي على وجه الترجمة وليست حكاية حرفية وذلك لاختلاف اللغة. اذن فلا بد من البحث عن اول من عبّر عن هذه الحقيقة بلفظ الصلاة من العرب ومن المحتمل ان يكون ذلك هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد حكي عن بعضهم دعوى القطع بان هذه الالفاظ كانت تستعمل لدى العرب الجاهلي في هذه المعاني ولذلك كانوا يفهمون منها هذه المعاني عند تلاوة الآيات المباركات المشتملة على هذه الالفاظ ولم يتوقفوا ويستفسروا عند سماعها.

واجيب عن ذلك بانه لا دليل لدينا من آية ولا رواية ولا شاهد خارجي يدل على ان العرف العربي قبل الاسلام كان يعبر بهذه الالفاظ عن هذه الماهيات. اما في الروايات والشواهد فواضح واما في الآيات فلانه لا مانع من دعوى ان التبادر لدى سماعها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين انما كان من جهة اُنسهم بالمصطلح الجديد.

وفي هذا البيان تأمل من جهة بعد احتمال شيوع استعمال اللفظ في المصطلح الجديد في اوائل البعثة عند نزول الآيات المشتملة على هذه الالفاظ الى حدّ يوجب التبادر عند المشركين خصوصاً بملاحظة قلة عدد المؤمنين وكتمانهم لأسرار الدين الجديد.

أضف الى ذلك ان من الآيات ما يدل على ان العرب كانت تعرف عبادة بعنوان الصلاة مضافاً الى معاشرتهم لليهود والنصارى المتواجدين في الجزيرة العربية بل كان هناك من العرب جماعة يدينون بدينهم.

 قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ..).[29] وهذا دليل على تسمية بعض المباني بالصلوات باعتبارها مواضع لهذه العبادة.

قال في لسان العرب (وصلوات اليهود كنائسهم وفي التنزيل لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد قال ابن عباس هي كنائس اليهود وموضع الصلوات واصلها في العبرانية صلوتا وقرأت صلوت ومساجد وقيل انها مواضع صلوات الصابئين).

وقال القرطبي في تفسيره جـ12 ص71: (قال الزجاج والحسن: هي كنائس اليهود وهي بالعبرانية صلوتا. وقال ابو عبيدة: الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون فيها في اسفارهم تسمى صلوتا فعرّبت فقيل صلوات).

وقريب من ذلك في مجمع البيان جـ7 ص87.

وكيف كان فيظهر من هذه الآية ان التعبير بالصلاة عن هذه العبادة تعبير عربي قبل الاسلام.

وقال تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً..)[30]  والآية الشريفة بصدد تخطئتهم في تطبيق الماهية الاعتبارية على ما كانوا يأتون به لعدم المناسبة. والمكاء: الصفير. والتصدية: التصفيق.

واما الروايات ففيها ما يدل على ان المسلمين كانوا يعبرون عن هذه العبادة لدى اليهود والنصارى بالصلاة ففي جامع الاحاديث جـ2  ص127 روايتان تتضمنان جواز الصلاة في البيع والكنائس وان كانوا يصلون فيها مستشهداً بقوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)[31] وهذه الرواية ونظائرها تعدّ عندنا من الشواهد الخارجية على المطلب الا انها بضميمة القول بأصالة عدم النقل والاستصحاب القهقرائي – على القول به – تفيد الثبوت في اصل اللغة.

واما الشواهد الخارجية فهي كما يلي:

  1. أن اليهود كانوا يعبّرون عن الصلاة باللغة العبرية بـ ( تـﭬـلاة )([32])  هذا مع ملاحظة ان اللغة العبرية والعربية متقاربتان وقد قيل: ان الفرق بينهما كالفرق بين لفظي العبرية والعربية بل ذكر المختصون بهذه الابحاث ان جميع اللغات ترجع الى لغة واحدة وانما الاختلاف كان من قبيل اختلاف اللهجات كما يشاهد ذلك في اللغة الواحدة في زماننا وبمرور الايام واتساع رقعة الاختلاف يستقل كل مجتمع بلغته المنشعبة عن اللغة الأم . ونجد الآن اختلاف كل منطقة من العالم عن غيرها في اللغة مع تقارب كثير من اللغات في معالمها الاصلية الامر الذي يؤكد ما ذكرناه والشواهد اللغوية على ذلك كثيرة جداً.

وقد تعرض لهذا الموضوع جمع من الباحثين قال جرجي زيدان: (وساعد العرب على التوسع في وسائل التجارة فضلاً عن توسط بلادهم انهم كانوا يتكلمون لغة قريبة من لغات أكثر الامم المتمدنة في ذلك الحين لان اللغات السامية كانت لا تزال متقاربة لفظاً ومعنى فالعربي والكلداني والآشوري والعبراني والحبشي والفينيقي كانوا يتفاهمون بلا واسطة لقرب عهد تلك اللغات بالتشعب بما يشبه حال اللغات العامية العربية المتشعبة من اللغة الفصحى الآن). ([33])

وتعرض له العقاد ايضاً في كتابه (ابو الانبياء) الى غير ذلك من المصادر.

ويلاحظ ان صلاة اليهود – كما ورد في دائرة المعارف ايضاً – كانت تشتمل على الركوع والسجود. وكانوا يعبرون عن الركوع بـ (كريعا).

  1. ان اليهود والمسيحيين العرب كانوا يعبرون عن هذا العمل قبل الاسلام وبعده بالصلاة ولم نجد في التعابير العربية ما يقوم مقام هذه الكلمة مع انها لا تختص بالمسلمين كما هو واضح.
  2. ان الـمـشـركـيـن ايـضاً كانـوا يـعـبـرون عـن هـذا العـمـل حـيـث يـشـاهدونه من اهل الكتاب بالصلاة. وقد نقل المعلق على مادة (صلاة) في دائرة المعارف الاسلامية شعر اعشى قيس:

فـمـا أيـُبـلـيّ على هـيـكل                  بـنـاه وصـلّـب فـيـه وصـار

يراوح من صلواته لمليك             فطوراً سجوداً وطوراً جؤار([34])

والايبلي هو الراهب. والهيكل مـوضع في صدر الكنيسة يقرّب فيه الـقربان. وصلّب المسيحي عمل اشارة الصليب باليد على نفسه. وصار بمعنى صوّت. وراوح بين العملين اي اشتغل بهذا مرة وبهذا اخرى. والجؤار التضرع ورفع الصوت بالدعاء.

  1. الروايات المعبرة عن هذا العمل العبادي لدى الامم السالفة وانبيائهم بالصلاة وقد مر ذكر بعضها.

الامر السادس: في مقارنة اجمالية بين مسلكنا ومسلك الآخرين.

تبين مما قدّمناه ان الصلاة عندنا مستعملة في معناها الاصلي ولكن بعد تطور طرأ عليه فأصبحت الماهية التكوينية ماهية اعتبارية وأنها تنطبق على مصاديقها بمتمم الجعل التطبيقي سواء كان ذلك في شريعتنا ام في الشرائع السابقة.

ويقابل ذلك مسلك افراطي ومسلك تفريطي.

اما الاول فهو مسلك الباقلاني حيث ذهب الى ان الصلاة وغيرها من الفاظ العبادات والمعاملات مستعملة في معانيها الحقيقية دونما طروّ تبدل عليها والآخر المسلك المشهور وهو ان الصلاة مستعملة في نفس العمل الخارجي المركب اي ما نعتبره في مسلكنا مصداقاً للمعنى ومنطبقاً عليه.

اما رأي الباقلاني فيمكن ان يقرب بان الصلاة في اللغة بمعنى التوجه وان الشارع والمتشرعة استعملوها في هذا المعنى مقيداً بقيود خاصة من الطهارة والركوع والسجود فالموضوع له هو واقع التوجه لا التوجه الاعتباري الذي ذكرناه وتدل على ذلك الروايات الدالة على ان أحد فرائض الصلاة هو التوجه بضميمة ما دل من الروايات على ان الصلاة لها حدود فيقال ان المأمور به هو التوجه بحدود خاصة وحينما نلاحظ الحدود نجد انها هي نفس الاجزاء والشرائط وحيث ان الحدود خارجة عن حقيقة الشيء فالصلاة هو نفس التوجه.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريبه وهو غير صحيح. اما القول بان الركوع والسجود ونحوهما خارجة عن حقيقة الصلاة وأنها كالطهارة وسائر الشرائط ليست دخيلة في المعنى اصلاً وان حقيقة الصلاة هي نفس التوجه فهو امر مخالف للمتفاهم العرفي من لفظ الصلاة فإنها تطلق على نفس هذا العمل الخارجي وتحمل عليه بنحو هو هو.

واما الروايات التي اعتبرت التوجه من الفرائض في الصلاة[35] فإنما ورد فيها التوجه في ضمن مجموعة الاركان الاخرى.

هذا مع ما ذكرناه في الفقه من ان المراد بالتوجه ما يفتتح به الصلاة وليس معنىً مستمراً مع الصلاة الى نهايتها. ويشهد له ما ورد في الحديث من انه يكفيك في التوجه تكبيرة واحدة.([36]) وهذا هو الدليل المعتمد عندنا في عدّ التكبير من الاركان.

واما حدود الصلاة فليست بالمعنى المصطلح اي التي تعتبر خارجة عن حقيقة الشيء بل بالمعنى اللغوي اعم من ان يكون داخلاً او خارجاً.

واما القول الثاني فهو في الواقع اشتباه بين المفهوم والمصداق وسيأتي في مبحث الصحيح والاعم المضايقات التي حصلت لأصحاب هذا الرأي لتحديد المفهوم الذي وضع له الصلاة اذ لا بد لهم حينئذ من تصوير جامع بين الافراد ليكون موضوعاً له. فاعتبره المحقق الخراساني على ما أشهر من تفسير كلامه جامعاً مقولياً بين الافراد الصحيحة وهو غير معلوم لدينا بعنوانه وانما نتمكن من الاشارة اليه بآثاره ككونه قرباناً لكل تقي وناهياً عن الفحشاء والمنكر. واعتبره بعضهم خصوص الاركان وبعض آخر معظم الاجزاء ولكل من هذه الآراء تقريبات ومناقشات سيأتي البحث عنها في المبحث التالي تبعاً لمنهج الاصحاب.

وهنا نقطتان تكملان المبحث.

النقطة الاولى: الكلام حول سائر العبادات.

فمنها الحج. واحتمال كونه حقيقة شرعية او العمل مخترعاً شرعياً ضعيف في الغاية اذ لا ريب ان العرب كانوا يحجّون ويطوفون بالبيت ويقفون في عرفات وغير ذلك من شؤون الحج التي تشابه في اسلوبها مناسكنا الشرعية.

وللحج لغة معنيان: القصد وزيارة الاماكن المقدسة ولا يختص بالعرب فقد ورد في دائرة المعارف الاسلامية: (ولم يكن هذا الحج الى عرفات امراً اختص به العرب فالحج الى معبد من المعابد عادة سامية قديمة جعلت حتى في الاجزاء القديمة من اسفار موسى الخمسة فرضاً يجب اداؤه)([37])

ولكن الصحيح ان ذلك لا يختص بالشعب السامي بل الحج وزيارة المعابد شعيرة في جميع الاديان الراقية.[38]

وقال تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ)[39] وقد وردت الروايات في حج آدم وابراهيم واسماعيل عليهم السلام. وقال تعالى خطاباً لإبراهيم عليه السلام: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِي)[40] ووردت الاشارة اليه في آيات اخرى ايضا. واما حج الجاهلية والتعبير عنه بالحج فالروايات المشتملة عليه كثيرة.

ومنها الزكاة: وهي في اللغة بمعنى النمو كما في المفردات وغيره وبمعنى النظافة والطهارة ويستفاد من ملاحظة المعنى اللغوي ان الزكاة ايضاً موضوعة لماهية اعتبارية وهي عبارة عن حق مالي جعل قانوناً على الاشخاص او الاموال. ويستفاد من رواياتنا انها طبقت في بادئ الامر على الفطرة المتعلقة بالأشخاص.

روى هشام بن الحكم عن الصادق عليه السلام في حديث انه قال: (نزلت الزكاة وليس للناس اموال وانما كانت الفطرة). ([41])

وروى علي بن ابراهيم في تفسيره قال (قال الصادق عليه السلام في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: (واوصاني بالصلاة والزكاة) قال: زكاة الرؤوس لانّ كل الناس ليست لهم اموال).([42])  

وورد ذلك في بعض كتب العامة ايضا ومن هنا ذهب بعضهم الى ان الزكاة المعروفة قامت مقام الفطرة ونسخ وجوبها.[43]

ويمكن ان يقال ان الناس كانوا مسبوقين بكلمة الزكاة في اوائل البعثة حيث ورد ذكرها في سورة المزّمل وهي من اوائل ما نزل من القرآن الكريم.

هذا وقد ذكر في دائرة المعارف الاسلامية ان علماء الاسلام يفسرون كلمة (زكاة) في العربية بانها الطهارة او النماء والزيادة. والحقيقة ان النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] استعملها بمعنىً اوسع من ذلك بكثير أخذاً عن استعمالها عند اليهود (في اليهودية الآرامية: زاكوت).([44])

وهذا الكلام يفتقد الدقة فان استعمال كلمة زاكوت في اليهودية بهذا المعنى او معنىً اوسع لا يدل الاّ على ما ذكرناه في الصلاة من وحدة الشرائع في الدعائم والاسس وانحدار اللغات السامية كالعربية والعبرية والسريانية ونحوها من أصل واحد. ومن هنا بقي شيء كثير من التقارب بين العبرية والعربية حتى قيل ان الفرق بينهما كالفرق بين الكلمتين.

هذا ولكننا لم نجد دليلاً او شاهداً على ان العرب الجاهلي كانوا يتعبدون بدفع المال بعنوان الزكاة. نعم كانت الصدقة امراً محبوباً لديهم فالأظهر في الزكاة ايضاً انها كالصلاة في وضعها للماهية الاعتبارية.

ويشكل اسراء مسلك الباقلاني الى الزكاة اذ لا معنى للقول بان الزكاة في العرف الشرعي و المتشرعي يستعمل في النمو المقيد او الطهارة المقيدة.

وكذلك الحال بالنسبة الى المسلك المشهور فان تصوير الجامع في الزكاة أصعب منه في الصلاة فان الزكاة تطلق على اخراج المال المقرر وعلى المال المخرج. والمال المخرج قد يكون من الانعام اي الإبل والبقر والغنم وقد يكون من النقود اي الذهب والفضة وقد يكون من الغلات الاربع وقد يكون من غيرها إذا لاحظنا تعميم الزكاة ولو استحباباً لتشمل الحبوب عامة بل كل ما يكال ويوزن ومال التجارة كما تشمل ما تنطبق عليه زكاة الفطرة. ومن الصعب جداً فرض جامع مقولي او بنحو معظم الاجزاء او خصوص الاركان فيما بين هذه المجموعة المتباينة.

ومنها الصوم. وقد دلت الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[45] على سبق تشريع الصوم بصراحة. وقد اشتملت عدة من الروايات على صوم بعض الانبياء كموسى ونوح و داود عليهم السلام. وتشتمل كتب العامة الروائية على روايات من هذا القبيل ايضاً كما انه موجود في شريعة اليهود والنصارى الى يومنا هذا وان اختلفت الشرائط.

الا ان الكلام في ان العرب الجاهلي هل كانوا يعرفون هذا المفهوم وهل كانوا يعبرون عنه بالصوم ام لا؟

وقد ورد في دائرة المعارف الاسلامية (ان المعنى الاصلي للكلمة في لغة العرب هو الركود والمقام اما الصوم بمعنى الامساك عن الطعام والشراب فيجوز ان يكون مأخوذاً عن الاستعمال اليهودي الآرامي)([46])

ولكن الشواهد اللغوية تدفع هذا الاحتمال حيث ورد الصوم بمعنى الامساك سواء كان عن طعام او شراب او كلام. هذا مما لا كلام فيه انما البحث في ان العرب هل كانت تطلق كلمة الصوم على الامساك عن اشياء خاصة بداعي التعبد والخضوع ام لا؟

الواقع انه ليس لدينا شواهد قطعية بهذا الشأن نعم في البخاري عن عائشة قالت: (كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله يصومه فلما قدم المدينة صامه وفرض بصيامه فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه). ([47])

وربما يؤيد هذا الحديث ما رواه الصدوق قدس سره (وسنده صحيح) عن زرارة ومحمد بن مسلم جميعاً (انهما سألا ابا جعفر الباقر عليه السلام عن صوم يوم عاشوراء فقال: كان صومه قبل شهر رمضان فلما نزل شهر رمضان ترك) ([48])

وعلى هذا الاساس يمكن ان نقول ان الصوم بهذا المعنى كان معروفاً لدى العرب الجاهلي ولو بلحاظ معاشرتهم لليهود والنصارى ومشاهدتهم هذه العبادة منهم.

هـذا ولـكـن دعـوى تـحـقـق الماهـية الاعـتـبارية في الـصوم بـعـيـدة وذلك لانـه يتوقف على كون الامساك على وجه عام متضمناً لحيثية الخضوع والتذلل حتى يدّعى انه بالتطور أصبح ماهية اعتبارية وطبّق في الشريعة على الامساك الخاص.

وهذا الامر غير ثابت فان الامساك لم يثبت له هذا الوصف بنحو يصبح خاصية احساسية له. ولكن يكفي في منع ثبوت الحقيقة الشرعية لهذه الكلمة ثبوت هذا المفهوم قبل الشريعة الاسلامية بل كونه على هذا النحو تقريباً حيث يستفاد من بعض الروايات ان صوم موسى كان امساكاً عن الطعام والشراب وانه ترك المناجاة مع ربه استحياءاً من خلوف فمه فأوحى الله تعالى اليه ان خلوف فم الصائم اطيب عندي من ريح المسك. ([49])

هذا بالنسبة الى ثبوت هذا المفهوم واما هذا اللفظ فلم يدل دليل على ان الشارع المقدس اول من استعمله فيه بل لعل الشواهد على خلافه.

النقطة الثانية: البحث عن ثمرة فقهية لهذا المبحث بالإضافة الى كونه غنياً بالفوائد العلمية والتاريخية واللغوية حيث تعرضنا لتكون الماهية الاعتبارية لبعض المفاهيم التكوينية و لوحدة الشرائع السماوية وتقارب اللغات وتشعبها عن لغة واحدة وغير ذلك من الشؤون.

وقد وقع الخلاف في ثبوت ثمرة فقهية لهذا المبحث. وما قيل او يمكن ان يقال في ذلك وجوه ثلاثة:

الوجه الاول: قيل ان الثمرة تظهر فيما إذا وردت هذه الالفاظ في الآيات والروايات ولم تكن هناك قرينة معينة فان ثبتت الحقيقة الشرعية تحمل على المعنى الشرعي والا فإما ان يحمل على المعنى اللغوي او يتوقف في ذلك نظراً الى ان المعنى الشرعي وان كان مجازياً على هذا القول الا انه مجاز مشهور واصالة الحقيقة ليست اصلاً عقلائياً تعبدياً بل هي من فروع اصالة الظهور ومقتضى ذلك التوقف إذا دار الامر بين المعنى الحقيقي والمجاز المشهور.

وقـد اعـترض على هـذا الـوجه صغـروياً بانه لـيـس في الاسـتعمالات الـشرعية استعمال فاقد للقرينة المعنية فالمعنى معلوم بموجب القرينة ولا يبقى مجال لهذا القانون.

ولكن عهدة اثبات هذه الدعوى على صاحبها فبعد الاعتراف باستعمال لفظ الصلاة في كلا المعنيين في لسان الشارع من البعيد ان لا يبقى مورد او موارد يشك في المراد.

ومن المحتمل ان يكون المراد بالصلاة فيما ورد انها في مكان كذا تعادل كذا او لها كذا من الاجر والثواب هو المعنى اللغوي اي الدعاء او المعنى الجامع فيشمل الدعاء.

والاعتراض الصحيح على هذا الوجه هو انه لو التزمنا بثبوت الحقيقة الشرعية او بثبوت وضع الالفاظ لهذه المعاني قبل الشريعة مع الاعتراف بانه كانت تستعمل في المعنى اللغوي ايضاً كما هو واضح ثبت الاشتراك اللفظي دون النقل.

فالصلاة مثلاً تطلق على الماهية الاعتبارية المنطبقة على العمل الخارجي وتطلق ايضاً على الدعاء كثيرا كالصلاة على النبي وآله عليه وعليهم السلام.

وقد وردت بهذا المعنى في الآيات والروايات قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[50]

وقال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).[51]

بل ان بعض الروايات تدل على ان صلاة الميت استغفار له. وعليه فمع عدم وجود القرينة المعينة لا يمكن الحكم بالحمل على المعنى الشرعي ولو مع القول بثبوت الحقيقة الشرعية.

الوجه الثاني: انه بناءاً على مسلكنا حيث ذهبنا الى تحقق الماهية الاعتبارية لبعض هذه الالفاظ إذا اعترفنا بانها كانت مما يتعبد به في الشرائع السابقة وورد الامر الشرعي وشككنا في اعتبار بعض القيود أمكن الحكم بثبوت ذلك القيد تمسكاً بالإطلاق المقامي ان كان معتبراً في الشرائع السابقة.

فالصوم مـثلاً ربـما يـشكل عـلى البعـض توجـيه اعـتبار قـصد الـقربة فـيه وذلك بناءاً على المسلك المشهور من انه لغة بمعنى الامساك وان الشارع استعمله في الامساك الـخـاص فـقـد يـقـال بان مقتضى الاطلاق عـدم اعتبار قصد القربة فيه بناءاً على عدم الاعتراف بأصالة التعبدية في الاوامر.

وحينئذ يتمسك لإثبات هذا القيد بالإجماع او بوجوه ضعيفة كالتمسك برواية (بني الاسلام على خمس) حيث عدّ الصوم في عداد الصلاة والزكاة ولا يخفى ضعفه.

واما بناءاً على ثبوت التعبدية للربّ في الشرائع السابقة فيمكن الحكم باعتبار قصد القربة تمسكاً بالإطلاق المقامي فانّ ترك عدم اعتبار القيد مع كونه مسبوقاً في الاعتبار يقتضي اعتباره لدى الشرع الاسلامي ايضاً.

كما يتمسك بهذا الاطلاق في اثبات عدم اعتبار سبب خاص لبعض انحاء البيع تمسكاً بقوله تعالى (احلّ الله البيع) بلحاظ ان البيع مفهوم عرفي سابق على الشريعة ولم يكن مقيداً لدى العرف بسبب خاص ولم يبين الشارع تقيده به.

الوجه الثالث: تأثير هذا المبحث في التمسك بأصالة البراءة في موارد دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين في هذه المفاهيم.

اما بناءاً على مسلكنا من كون الصلاة – مثلاً – موضوعة للماهية الاعتبارية وان هذه الاعمال الخارجية مورد تطبيقها وتحقق مصداق لها بمتمم الجعل التطبيقي فيمكن ان يقال – كما يشعر به عبارة المحقق الخراساني – ان هذه الاعمال من قبيل المحققات لتلك الماهية والامر قد تعلق بنفس الماهية فالشك في اعتبار جزء او شرط يرجع الى الشك في المحصِّـل والمحصَّـل والمشهور هو الاشتغال حينئذ الا انه سيأتي في مبحث الصحيح والاعم تقريب لجريان البراءة على هذا القول.

واما بناءاً على مسلك القوم فالرجوع الى البراءة وعدمه في مثل هذا المورد يختلف باختلاف المسالك في الصحيح والاعم. وهذه النقطة ستتم دراستها ان شاء الله تعالى في ذلك المبحث.

فتحصل ان عدم وجود ثمرة لهذا المبحث لا يدعمها دليل.

 

 

 

 

 

 

المبحث العاشر

 

في الصحيح والاعم

 

بعد وضوح ان كل نوع من انواع العبادات والمعاملات بعض افرادها يتصف بالصحة وبعض ما يعد فرداً له يتصف بالفساد فلا بد من تأسيس مبحث يتكفل بيان ما هو مقتضى القاعدة العامة فيما لو وقعت هذه العناوين في كلام الشارع. وأنها هل تحمل على خصوص الصنف الاول او ما يعمه والصنف الثاني؟ فيكون هو المتبع عند فقدان شاهد خاص يعين أحد الامرين. واما مع وجوده فمن الواضح لزوم الجري على وفقه.

وانما عدلنا عما ورد في جملة من الكتب الاصولية من جعل عنوان البحث ان الفاظ العبادات والمعاملات هل هي اسام للصحيح او الاعم منه ومن الفاسد لعدم اختصاص البحث بالقول بالوضع للجامع الصحيحي او الأعمى كما هو مقتضى هذا العنوان. وستتضح هذه النقطة في ضمن المباحث التالية.

ويقع البحث تارة في الفاظ العبادات واخرى في الفاظ المعاملات. اما في القسم الاول فالكلام في جهات:

 

الجهة الاولى: في صياغة هذا البحث تبعاً لما يقتضيه المسالك المختلفة في البحث السابق وهي اربعة:

المسلك الاول: القول بثبوت الحقيقة الشرعية وتحقق العلقة الوضعية بين هذه الالفاظ والمعاني المستحدثة في عهد الشارع. وصياغة البحث على هذا القول هي ان المعنى الجديد هل هو خصوص الصحيح التام الاجزاء والشرائط ام الاعم منه ومن الفاسد؟ فمدار البحث هو تعيين طرف العلقة الوضعية.

المسلك الثاني: ما التزمنا به في بعض الفاظ العبادات بانها موضوعة للماهية الاعتبارية. وصياغة البحث على هذا القول هي ان هذه الالفاظ وان كانت موضوعة لنفس الماهية الاعتبارية الا ان انطباقها _ كما مر _ يتوقف على متمم الجعل التطبيقي والكلام في ان المنطبق عليه بهذا المتمم القانوني هل هو خصوص الصحيح او الاعم منه ومن الفاسد؟ والنتيجة ان التطبيق لو كان مختصاً بالصحيح فالتطبيق على الفاسد مع العناية ومن قبيل المجاز فلا بدّ له من القرينة من غير فرق بين كلام الشارع وغيره.

وبعبارة اخرى ان متمم الجعل التطبيقي اعتبار قانوني فان كان متضمناً لحمل الصلاة – مثلاً – على نحو الهوهوية على النوع المستجمع للأجزاء والشرائط تعين كونه فرداً قانونياً للماهية الاعتبارية فلا يحتاج تطبيقها عليه عناية وتجوز.

واما تطبيقها على الصلاة غير المستجمعة لها فيحتاج الى عناية وتجوز وقرينة لانه من قبيل اعطاء حد شيء لشيء آخر ولا بد ان يكون للتطبيق مجوز كالمشابهة نظير ما إذا أطلق لفظ الدينار بعد اعتبار ورقة نقدية خاصة ديناراً على ما لا يشتمل على خصوصيات النقد المزبور كما إذا كان فاقداً للرقم المسلسل مثلاً فان هذا الاطلاق لا يقره القانون الاعتباري المتمثل في متمم الجعل التطبيقي ولذلك لا يترتب على هذه الورقة آثار النقد من كونه وسيطاً للتبادل ومقياساً للمالية.

والحاصل ان مدار البحث على هذا القول ليس هو الموضوع له بل هو المنطبق عليه فان التطبيقات خارجة عن الوضع. والموضوع له هو الماهية الاعتبارية – كما مر – والتطبيق مترتب عليه.

نعم كثرة التطبيق ربما توجب استبطان الماهية الاعتبارية للخصوصية الملحوظة حال التطبيق فيحصل هناك نوع مرآتية للماهية بالنسبة الى النوع الخاص. وتوضيحه في مبحث الاحكام الوضعية.

المسلك الثالث: ما نسب الى الباقلاني وهو ان هذه الالفاظ مستعملة في نفس المعاني اللغوية الاصلية الا ان استعمالات الشارع مشتملة على قيود خارجة عن حقيقة المعنى اللغوي فاذا ورد في لسان الشارع الامر بالصلاة كان المعنى هو نفس التوجه ولكن مقيداً بالقيود التي تحقق العمل الخاص بنحو تعدد الدال والمدلول.

وصياغة البحث على هذا القول ان تلك القرينة العامة التي تدعو الى حمل استعمالات الشارع على ارادة المعنى المقيد بالقيود الخاصة بحيث تكون القيود قيوداً للمراد لا للمستعمل فيه او الموضوع له بنحو تعدد الدال والمدلول هل تقتضي (تلك القرينة العامة) كون المراد النوع المستجمع لجميع الاجزاء و الشرائط بان يكون المراد مقيداً بجميع القيود المعتبرة في الصلاة – مثلاً – ام المراد هو الاعم منه ومن الفاسد فليس مقيداً بجميع القيود؟

المسلك الرابع: القول بان استعمالات الشارع لهذه الالفاظ في المعاني المستحدثة كلها مجازية. وقد مر ان الصحيح في تفسير الاستعمالات المجازية هو ان اللفظ مستعمل في نفس المعنى الحقيقي وانما التجوز والعناية يحصلان في تطبيق ذلك العنوان على شيء آخر.

وعلى اساس هذا المسلك لا بد من ان يقال ان هناك قرينة عامة تقتضي حمل استعمالات الشارع لهذه الالفاظ – بحسب المراد الجدي – على التطبيق على المعنى المجازي وهو العبادة الخاصة ففي هذا المسلك شبه بالمسلك الثاني وهو وجود التطبيق الا انه كان هناك قانونياً وهو هنا مجازي وشبه بالمسلك الثالث وهو وجود القرينة العامة.

وصياغة البحث على هذا القول هو ان تلك القرينة العامة هل تقتضي ارادة التطبيق على خصوص الصحيح بحسب المراد الجدي او الاعم منه ومن الفاسد؟ وهكذا تبين ان هذا البحث يمكن اجراؤه على جميع المسالك السابقة في مبحث الحقيقة الشرعية.

 

الجهة الثانية: في تعيين المراد من الصحيح والفاسد وما هو دخيل فيهما والكلام في ثلاث نقاط:

النقطة الاولى: في المراد من الصحيح والفاسد. ولا وجه للبحث عن المعنى اللغوي لهما اذ لم يرد ذكرهما في نصّ شرعي ويستفاد من كلمات الاصوليين ان مـرادهـم مـن الـصـحـيـح الـتـام ومـن الـفـاسـد الـنـاقـص. وبـما ان التمام والنقصان لا بد ان يكون بلحاظ وحدة لمجموعة امور فيقع البحث في مناط تلك الوحدة التي توجب التمام والنقصان.

وهنا احتمالات:

الاحتمال الاول: ان تكون الوحدة ناشئة من التسمية حيث اعتبر لمجموع هذه الامور اسماً واحداً.

وهذا الاحتمال غير صحيح قطعاً فان البحث هنا في ان المسمى بهذا الاسم هل هو خصوص الصحيح او الاعم فالصحة والفساد ملحوظان قبل التسمية. مضافاً الى انه يتم على مسلكنا وقول الباقلاني والقول بان الاستعمالات مجازية وذلك لعدم الاعتراف بالتسمية في هذه المسالك.

الاحتمال الثاني: ان يكون مناط الوحدة تعلق امر واحد بها حيث تكتسب المتكثرات منه وحدة اعتبارية كما يكتسب الامر من الكثرات كثرة اعتبارية نعبر عنها بالانحلال فالبحث يرجع الى ان المركب المتحد بوحدة الامر هل هو خصوص الصحيح او الاعم؟

ويدفع هذا الاحتمال وجوه ثلاثة:

  1. ان وحدة المركب قد لا تكون ناشئة من الامر الواحد وذلك لما ذكرناه في مبحث الاقل والاكثر الارتباطيين – تبعاً لما اشار اليه المحقق النائيني – ان الارتباط بين المركب الذي تعلق به الامر واجزاء او شرائط اخرى قد يحصل بمتمم الجعل المفيد فائدة الشرطية والجزئية ثم يحصل الوحدة بين مجموع الاجزاء والشرائط بوحدة القانون الجزائي او بوجه آخر.
  2. ان الكلام – بناءاً على ثبوت الحقيقة الشرعية – في التسمية وان هذه الالفاظ هل هي اسام لخصوص الصحيح والاعم ولا بد من ان تكون التسمية متقدمة على تعلق الامر فلا يمكن ان تؤخذ الوحدة الناشئة من تعلق الامر في المسمى والا لزم تجريد المسمى عن الوحدة المذكورة حين تعلق الامر لئلا يتكرر المعنى.
  3. ان صحة العمل قد لا تتوقف على موافقة الامر حتى يحكم بحصول الوحدة الناشئة منه.

وذلك كما في الطهارات الثلاث بناءاً على المختار من عدم تعلق الامر بها نفسياً ولا غيرياً اما الاول فللمناقشة فيما استدل به على ثبوته كما اوضحناه في الفقه واما الثاني فلانا لا نعترف بالأمر الغيري اساساً وعليه فمنشأ عبادية الطهارات الثلاث هو التوصل الى محبوب المولى وهو نفس الطهارة وما يشترط بها من الامور المطلوبة للشارع.

وكما في موارد الحكم بصحة العمل من اجل تحقق الملاك كما قيل في صحة العمل المهم إذا ترك الاهم مع تقيد الامر بعدم وجود الاهم بناءاً على عدم الترتب فان أحد وجوه تصحيح العمل على هذا الاساس هو التمسك بتحقق الملاك و واجدية العمل له.

وكذلك ايضاً صحة العمل مع نسيان الجزء متمسكاً بصحيحة لا تعاد حيث ذهب بعضهم الى ان الباقي ليس مأموراً به وان صحة العمل من جهة التوسعة في مقام الامتثال تعبداً.

اذن فما ذكره المتكلمون في مقام تفسير الصحة من انها موافقة الامر غير صحيح فان موافقة الامر ليست لازمة للصحة ولا حيثية ملحوظة في مبحث الصحيح والاعم فضلاً عن كونها مقومة للصحة.

الاحتمال الثالث: ما نسب الى الفقهاء من ان مناط الوحدة هو اسقاط الاعادة والقضاء اما بمعنى عدم مشروعيتهما او بمعنى عدم توجه امر من سنخ الامر الاول اليهما.

والظاهر ان هذا غير صحيح ايضاً اذ قد لا يكون العمل صحيحاً ومع ذلك لا تمكن اعادته ولا يجب قضاؤه اما الاعادة فلخروج الوقت واما القضاء فلعدم الدليل عليه على قول قوي كما هو مبين في الفقه مثال ذلك بعض موارد صلاة الآيات.

كما ان العمل قد يكون صحيحاً ومع ذلك لا بد من قضائه عقوبة.

مثال ذلك من جامع في احرامه فان عليه الحج من قابل وقد سأل زرارة في الصحيح عن الامام عليه السلام بقوله (فأي الحجتين لهما؟ قال عليه السلام الاولى التي أحدثا فيها ما أحدثا والاخرى عليهما عقوبة)[52]  فهذا الحديث يقتضي صحة الحجة الاولى .

ومثله وجوب اعادة الصلاة اذا صلاها في ثوب نجس ناسياً فان المتراءى من موثقة سماعة ([53]) ان وجوب الاعادة من باب العقوبة ولذلك خصصناه بما اذا تهاون في التطهير حتى نسيه دون ما اذا اهتم به فنسيه بالرغم من ذلك.

ومن هذا القبيل ايضاً وجوب الاعادة فيما لو ترك احدى السنن متعمداً على بعض المحتملات في صحيحة لا تعاد وهو ان وجوب السنن في الصلاة من قبيل الواجب في الواجب من دون ارتباط بينهما فالعمل صحيح لانطباق الامر بالفرائض اي الاركان عليه ومع ذلك تجب الاعادة عقوبة.

هذا ولا بد من ان يقرر هذا الاحتمال على الوجه الذي قررناه من الترديد بين عدم مشروعية القضاء والاعادة وعدم توجه امر من سنخ الامر الاول اذ لو اقتصرنا على عدم المشروعية أمكن النقض بما سيأتي في فصل تبديل الامتثال من مبحث الإجزاء من جواز إعادة الصلاة جماعة إذا صلاها فرادى بل استحبابه فلا بد من الترديد اذ يصح فيه عدم توجه الامر الوجوبي الى الصلاة الثانية.

الاحتمال الرابع: ان يكون ملاك الوحدة ترتب الملاك والمصلحة فلا يمكن الحكم بالصحة في اي مورد الا مع تحقق غرض المولى.

وهذا اقوى المحتملات الا انه تبقى فيه مناقشة من جهة واحدة هي ان بعض ما هو دخيل في الملاك لا يمكن الالتزام بكونه دخيلاً في المسمى على القول بالوضع للصحيح وذلك كقصد الامر لتأخره عن الامر فلا يمكن ان يتعلق به الامر – كما قيل – فكيف يمكن ان يؤخذ في المسمى؟!

وحيث ان هذا الوجه أحسن الوجوه فلا بد من دعوى الوضع للصحيح النسبي – على تقدير القول به – اي ما هو صحيح على افتراض قصد الامر.

النقطة الثانية: ان الصحة والـفـسـاد امـران نـسـبـيان فـقـد يكون العمل صحيحاً في حـال فـسـاداً فـي حـال اخـر او فـي وقـت دون وقـت او لـفـرد دون آخـر فهناك الصلاة قائماً واخرى جالساً وثالثة مضطجعاً وهناك الصلاة مع الايماء والصلاة قصراً الى غير ذلك من التغييرات الاضطرارية او في حالات اخرى.

النقطة الثالثة: ان الاجزاء او الشرائط هل كلها دخيلة في المسمى او في المراد او في ما يطبق عليه قانوناً او مجازاً على القول بالصحيح ام الدخيل هو قسم من الاجزاء او الشرائط؟

قيل: ان الاجزاء ملحوظة بجميع انواعها ركناً كان او غير ركن واما الشرائط فمختلف فيه ونسب الشيخ الانصاري قدس سره عدم دخالتها لتأخرها عن الاجزاء فلا يكونان معاً دخيلين في المسمى.

فالكلام تارة في الاجزاء واخرى في الشرائط.

اما الاجزاء فهي على قسمين: فان الجزئية قد تنتزع من تعلق الامر الوحداني بمجموعة اشياء كالأمر بالأركان وقد تنتزع بضميمة متمم الجعل المفيد فائدة الجزئية. والقسم الاول هي التي تدخل محل النزع فيعتبرها الصحيحي مقوماً دون الأعمى واما القسم الثاني فلا ينبغي ان يكون دخيلاً في المسمى على القول بالوضع للصحيح وثبوت الحقيقة الشرعية.

توضيح ذلك ان الامر الاول تعلق بالأركان والامر الثاني (متمم الجعل) اُخذ في موضوعه الاتيان بالصلاة ومضمونه من صلى وكان قادراً ومتذكراً وجبت عليه قراءة الفاتحة مثلاً. ومحل الكلام في تعيين المسمى انما هو لتعيين ما تعلق به الامر و المفروض ان الامر الثاني لم يتعلق بالصلاة بل اخذ في موضوعه الاتيان بالصلاة فهذه الامور وان كانت أجزاءاً للصلاة بعنوان آخر الا انها ليست أجزاءاً لها بالعنوان الذي تعلق به الامر. واما الصدق على المجموع فيمكن ان يكون من جهة اللابشرطية في الصدق.

الا ان يقال ان الكلام في التسمية ليس مقدمة لتعيين الامر بل يشمل حتى لو كان موضوعاً لحكم شرعي كما في الحكم بسقوط الأذان إذا دخلت المسجد والجماعة يصلون فإن الصلاة هنا موضوع لحكم شرعي. ولكن هذا ينافي ما ذكروه في وجه خروج الشروط عن محل النزاع والحاصل ان التسالم على دخول الاجزاء في النزاع دون الشرائط لا يناسب حكمة البحث على ما ذكروه.

وبهذا البيان تبين ان الشروط ان كانت شريطتها الجعل تأتي فيها نفس المناقشة فلا بد من خروجها عن محل النزاع على بعض الاقوال.

واما الشروط التي تضيق دائرة المأمور به فهي على ثلاثة اقسام:

القسم الاول: ما يوجب التقييد اللحاظي لنفس المأمور به بأمر وجودي او عدمي بحيث يكون القيد خارجاً والتقيد جزءاً ويعبر عن هذه القيود بشرائط الواجب كتعلق الامر باجزاء الصلاة مقيداً بالطهور والقبلة وغيرهما.

القسم الثاني: ما يكون مركز التقييد فيه هو الامر ويكون القيد من شرائط الوجوب الا انه بالتالي يقيد المأمور به بكونه واجداً لتلك الخصوصية وإلا لم ينطبق عليه العنوان بقيد كونه مأموراً به.

مثال ذلك الاستطاعة التي هي شرط وجوب الحج فهي من شرائط الهيئة الا انها تقيد المادة ايضاً فالحج المطلوب هو الحج عن استطاعة لا بمعنى جعل الاستطاعة تحت دائرة الطلب فيجب تحصيلها بل بمعنى ان الحصة الخاصة من الحج هو الواجب.

وهكذا لو قلنا في باب التزاحم بعدم الامر بالمهم مع مزاحمة الواجب الاهم كالصلاة والازالة – كما قيل – فان الصلاة هنا غير مأمور بها إذا ترك الازالة واتى بها مع أن المأمور به ليس مقيداً بالإزالة الا ان المأتي به فاقد لتعلق الامر فلا ينطبق عليه عنوان المأمور به بما هو مأمور به. هذا مع قطع النظر عن التصحيح من جهة واجديته للملاك، وهكذا يتضيق المأمور به بلا تقييد لحاظي بل هو من قبيل التقييد الذاتي.

القسم الثالث: ما يعتبر شرطاً للمأمور به لا بالتقييد اللحاظي ولا بالتقييد الذاتي بل من جهة دخالته في الملاك كقصد القربة وقصد الوجه – بناءاً على اعتباره – فلا محالة يكون دخيلاً في تحقق الامتثال وتضييق المأمور به في هذه المرحلة نوع تضييق مع عدم امكان تقييده لحاظاً ــ على ما قيل ــ معللاً بتأخرهما عن الامر رتبة في مرحلة تقسيم الماهية فلا يمكن ان يكون التقييد بهما ملحوظ حال الامر.

وحينئذ فتبطل الصلاة بفقدانها ولكن لا من جهة فقدان قيدها لعدم امكان تقييدها ولا من جهة فقدان قيد الامر كالقسم الثاني اذ تلك القيود مفروضة الوجود بمعنى انها خارجة عن دائرة الطلب وهذان داخلان فيها وانما البطلان من جهة فقدان ما هو دخيل في الغرض والملاك.

اما القسم الاول فلا بد من دخوله في محل البحث وما قيل من تأخره عن الأجزاء رتبة فلا يمكن ان يعتبر دخيلاً في المسمى في عرض الاجزاء غير صحيح اذ ليس الكلام في دخالة نفس القيود في مسمى المأمور به بل التقيد بها قد يكون دخيلا في المسمى والتقيد بها جزء للمأمور به ولا فرق بينه وبين سائر الاجزاء.

واما التأخر في مرحلة اللحاظ حيث لا يعطف على الاجزاء فلا يقال يجب عليك الركوع والسجود والتقيد بالستر والطهارة مثلا فذلك لا يمنع من الدخالة في المسمى اذ لا مانع من تسمية شيء مركب من امور مختلفة زمانا ورتبة باسم واحد. كما يعبّر عن مجموع المقتضي و وجود الشرط وعدم المانع بالعلة التامة – كما قيل – مع ان المقتضي مقدم رتبة على الآخرين. اذن فالإجزاء على قسمين: اجزاء في الدرجة الاولى من اللحاظ واجزاء في الدرجة الثانية منه ولا مانع من كون المسمى مركباً من القسمين.

ثم انه لا فرق في التقيد ان يكون بقيد وجودي أو عدمي كما لا فرق في العدمي بين ان يكون عدم حكم شرعي او امر آخر وراء ذلك فالأول كما إذا قلنا ان الصلاة اسم لما يشتمل على التقيد بعدم انطباق عنوان محرم عليه.

وعليه فتبطل الصلاة إذا انطبق عليها عنوان الغصب بناء على استحالة اجتماع الامر والنهي. ولا مانع من تقيد المأمور به بعدم توجه حكم مغاير لحكمه اليه وانما الممتنع ان يتقيد بعدم حكمه كما هو واضح.

والثاني كتقيد الصلاة بعدم استصحاب المصلي لأجزاء ما لا يؤكل لحمه او بعدم اقترانها بعصيان الاوامر والنواهي التي يعبر عنها بمتمم الجعل المفيد فائدة الجزئية والشرطية على بعض التفاسير لها .([54])

واما القسم الثاني اي الشرائط المعتبرة من جهة كونها قيوداً في نفس الامر فلا شك في عدم دخولها في محل البحث لما اسلفناه من ان اساس البحث عن المسمى هو البحث عن متعلق الامر وبهذا العنوان لا يمكن ادخال ما يتحقق بعد الامر في المسمى اذ لا شك في خروج ذلك عن المسمى المتعلق للأمر لان التسمية مقدمة لتعلق الامر وكذلك إذا لم نقل بثبوت الحقيقة الشرعية فان المرئي به بهذا اللفظ الشامل للمسالك الثلاث الاخرى مقدم على تعلق الامر فلا يدخل فيه ما يأتي من جانب الامر.

واما القسم الثالث من الشرائط فهي خارجة ايضاً عن محل البحث لا لتأخرها الرتبي عن الامر – كما قيل – بل لان الذي يكشف عنه هذه الالفاظ على كل تقدير لا بد ان يكون امراً وراء هذه القيود الدخيلة في الغرض فالصلاة عبارة عن المركب الذي لا بد من اتيانه بداع الهي ولا شك ان نفس الداعي خارج عن المركب.

هذا كله على القول بالحقيقة الشرعية. واما على ما اخترناه من القول بالماهية الاعتبارية وتعلق الامر بها فيمكن ان يكون المنطبق عليه ما يشتمل على جميع الاقسام المذكورة وتوضيحه في مبحث التعبدي والتوصلي.

الجهة الثالثة: في البحث عن الجامع بين الافراد الصحيحة على القول بالصحيح وبين الافراد الصحيحة والفاسدة على القول بالأعم وينبغي ان نقدم اولاً البحث عن الحاجة الى تصوير الجامع على كلا القولين فنقول:

الداعي الى تصوير الجامع هو تعيين ما وضع له اللفظ شرعاً او ما تقرر لدى الشارع استعمال اللفظ وارادته بالمراد الجدي على ماهو الحق في التجوز وعليه فالحاجة الى تصوير الجامع واضحة على مسلك ثبوت الحقيقة الشرعية وعلى القول بكون استعمالات الشارع مجازية.

واما على مسلكنا ومسلك الباقلاني فلا حاجة اليه لان الموضوع له اللفظ معين على كلا المسلكين فهو في مسلكنا عبارة عن الماهية الاعتبارية التي تطبق على الموارد المختلفة بمتمم الجعل التطبيقي وفي مسلك الباقلاني عبارة عن نفس المعنى اللغوي المتحقق في جميع موارد الاستعمال لا محالة والاختلاف انما هو من جهة القيود الاخرى.

وهناك محاولتان للتخلص من تكلف تصوير الجامع على القولين الاولين:

المحاولة الاولى: الالتزام بالاشتراك اللفظي فيكون لفظ الصلاة – مثلاً – موضوعاً لأنواع مختلفة من الصلاة كاليومية والآيات واليدين والقصر والتمام والخوف والمطاردة الى غير ذلك من الاقسام بأوضاع مختلفة او بوضع واحد مع تعدد الموضوع بحيث يكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً.

هذا على تقدير القول بثبوت الحقيقة الشرعية واما على القول بكون استعمالات الشارع مجازاً فيلتزم بتعدد المعاني المجازية حسب تعدد انواع الصلاة فلا حاجة الى الوضع للجامع على التقدير الاول ولا الى الاستعمال فيه على التقدير الثاني.

وضعف هذه المحاولة واضح لوضوح وحدة المراد من لفظ الصلاة في استعمالات الشارع والمتشرعة. ويتضح ذلك أكثر في استعمال لفظ الزكاة اذ لا يمكن الالتزام بكون زكاة الإبل مثلاً معنىً خاصاً يستعمل فيه اللفظ وزكاة الشاة معنى آخر. وهكذا في سائر الموارد والاقسام.

ويشهد لذلك صحيحة زرارة فرض الله تعالى الصلاة وسنّ الرسول صلى الله عليه وآله عشرة اوجه ...) .([55])

المحاولة الثانية ما نسب الى المحقق النائيني قدس سره من ان الصلاة موضوعة للمرتبة العليا الواجدة لجميع الاجزاء و الشرائط. والاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على القول بالصحيح او الاعم منها على القول بالأعم من باب الادعاء والتنزيل او من باب اكتفاء الشارع به (الى ان قال) واما القصر والتمام فهما وان كانتا في عرض واحد بالقياس الى المرتبة العليا الا انه يمكن تصوير الجامع بينهما فقط. ([56])

وهذا ايضاً ضعيف لوجوه:

الاول: ان المرتبة العليا تختلف اجزاؤها وشرائطها حسب اختلاف انواع الصلاة. فلا بد من تصوير جامع بين الانواع المختلفة في مراتبها العليا.

الثاني ان الالتزام بأحد الامرين من الاطلاق التنزيلي واكتفاء الشارع في غير المرتبة العليا لا يوافق مرتكز المتشرعة فانهم يرون ان الصلاة الفاقدة لغير الركن في حال بعض الاعذار كالنسيان ونحوه المحكومة بالصحة صلاة حقيقية وكذا فيما إذا كان في حال الاضطرار إذا اتى ببديل الركن كما في صلاة المريض مع الايماء للركوع والسجود ونحو ذلك بل حتى مع عدم الاتيان بالبديل كما إذا لم يتمكن المريض من الايماء ايضاً. وكذا في بعض اقسام صلاة الخوف. فلا يمكن الالتزام بان إطلاق الصلاة على هذه الانواع مع العناية فضلاً عن القول بانه من باب اكتفاء الشارع بها وفاءً بغير الجنس.

الثالث: ان هذه الدعوى لا توافق صحيحة لا تعاد التي تنفي الارتباط المطلق بين الاركان وبين غيرها من الامور المجعولة بمتمم الجعل المفيد فائدة الجزئية أو الشرطية أو المانعية وكذا لا توافق صحيحة زرارة: (فرض الله تعالى الصلاة وسنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عشرة اوجه ...) فان منها جعل صلاة السفر وصلاة الحضر وصلاة الخوف على ثلاثة اوجه. مع ان صلاة الخوف على بعض وجوهه فاقدة للركوع والسجود. والتفكيك بين صلاة السفر والحضر وغيرهما من انواع الصلوات اليومية كما يظهر من عبارته لا وجه له كما هو واضح.

ولنذكر الان المحاولات المبذولة لتصوير الجامع على كلا القولين ونخص البحث بالصلاة تبعاً للقوم فإنها محور ابحاثهم.

اما تصويره على القول بالأعم فعمدة ما ذكروه تتمثل في وجهين:

الوجه الاول: ما ذكره المحقق القمي قدس سره واختاره بعض المتأخرين وهو ان الموضوع له عبارة عن الاركان. وتقريبه يتم في ضمن ثلاثة امور:

الامر الاول: ان المركبات الاعتبارية قد تكون متعينة الاجزاء قلة وكثرة كالأعداد فالعشرة تتغير ماهيتها بنقصان عدد وبزيادته وقد تكون متعينة من جهة القلة فقط واما من جهة الكثرة فلا تعين لها فهي لا بشرط من جهة الزيادة.

وذلك مثل الدار فإنها تتقوم على اقل تقدير بأرض تحيط بها جدران وتكون مشتملة على حجرة فبدون الجدران يقال انها ارض فقط ولا تصدق عليها الدار وبدون الحجرة تصدق عليها عنوان الساحة فقط واما بالنسبة الى عدد الحجرات زائداً على الواحدة فهي لا بشرط وكذلك بالنسبة الى المرافق والملحقات كالبئر و السرداب والحمام ونحوها.

ويعبر عن هذا النوع من اللابشرط (اللابشرطية في الصدق) ومعنى ذلك ان العنوان يصدق على الفاقد لتلك الامور والواجد لها بنحو واحد فلا يقال للدار المشتملة على السرداب والبئر والحمام مثلاً انها دار وسرداب وبئر وحمام بل يصدق عليها انها دار كما يصدق هذا العنوان على الفاقد لها. ومثل ذلك ايضاً اللباس بالنسبة الى البطانة وعدمها. وهذا النوع من اللابشرطية اعتبار عقلائي صحيح لا بد من الاعتراف به. ولا وجه لتوهم انحصار اللابشرطية في الاطلاق اللحاظي بمعنى رفض القيود بل لها اقسام متعددة كاللابشرطية في الصدق او اللابشرطية في الحمل وتوضيحه في مبحث المشتق.

الامر الثاني: ان المادة الملحوظة في المركب الاعتباري قد تكون متعينة من حيث ذاتها وقد تكون غير متعينة بمعنى ان الشيء على ابهامه مقوم للمركب فالأجزاء المقومة للدار غير متعين من حيث المادة التي تصنع منها فيجوز ان يكون من الجص او من الطين او من الاسمنت او غير ذلك من المواد.

وهذا لا يختص بالمركبات الاعتبارية فالإنسان – كما قيل في الفلسفة – يتقوم بالجسم ولكنه مبهم من حيث كونه جسماً خارجياً او جسماً مثالياً. وعلى اساس هذا الامر فلو اعتبر الركوع جزءاً من الصلاة فهو على ابهامه جزء منها ليشمل الايماء بالرأس او بالعين وهكذا السجود.

الامر الثالث: ان الصلاة مركب اعتباري اخترعه المشرع الاسلامي ولابد لكل مخترع من ان يجعل لما اخترعه اسماً خاصاً تسهيلاً لمهمة التفاهم مع الآخرين.

وعليه فلا بد من مراجعة النصوص الشرعية لتحديد المسمّى والمستفاد من الادلة ان الموضوع له اسم الصلاة هو الاركان فقد ورد في حسنة الحلبي بإبراهيم بن هاشم ( الصلاة ثلاثة اثلاث : ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود) ([57]) ولا بد من اعتبار التقيد بالطهور جزءاً اذ هو بنفسه قيد خارج . ويضاف الى الثلاثة تكبيرة الاحرام لما ورد في بعض الروايات من وجوب اعادة الصلاة إذا نسي التكبيرة الامر الذي يقتضي كونها من اركان الصلاة. ويمكن ان يضاف اليها الترتيب والموالاة لتقوم هيئة الصلاة بها عرفاً.

وينحصر تعليقنا على هذا الوجه في ملاحظات على الامر الثالث:

الملاحظة الاولى: ان الصلاة ليست من مخترعات المشرع الاسلامي وقد مرّ دراسة هذه النقطة بالتفصيل.

الملاحظة الثانية: ان الشواهد لا تساعد على اعتبار الامور المذكورة في حقيقة الصلاة بحيث لا تصدق على الفاقد لها وذلك لوضوح صدقها على صلاة الميت وليس فيها ركوع ولا سجود ولا يمكن نفي الصلاة عنها ففي صحيحة زرارة (فرض الله تعالى الصلاة وسنّ رسول الله (ص) عشرة اوجه ....... والصلاة على الميت ([58])

والروايات الدالة على انها صلاة حقيقية كثيرة منها : رواية الحسين بن علوان : ( ان رسول الله صلى الله عليه وآله صلى على جنازة فلما فرغ منها جاء قوم لم يكونوا ادركوها فكلموا رسول الله (ص) ان يعيد الصلاة عليها فقال لهم : قد قضيت الصلاة عليها فادعوا لها ) ([59]) ومقابلة الصلاة للدعاء يدفع احتمال استعمالها فيه .

ومنها صحيحة محمد بن مسلم : ( يصلى على الجنازة بكل ساعة انها ليست بصلاة ركوع وسجود ... الحديث) ([60])

ومنها رواية علي بن جعفر : ( قال سألته عن صلاة الجنائز اذا احمرت الشمس ايصلح او لا قال لا صلاة في وقت صلاة ...الحديث ) ([61]) الى غير ذلك .

كما ان الصلاة تصدق على صلاة المطاردة وقد ورد فيها روايات. (راجع الوسائل جـ5 ص485).

ومن انحائها – على ما في مصباح الفقيه – ان يستقبل القبلة بتكبيرة الاحرام ويومي ايماءاً قال : ( فان خشي من الايماء ولو لأجل كون صرف الذهن اليه موجباً لتشويش باله المؤثر في الفتور في المحارسة على نفسه صلى بالتسبيح ويسقط الركوع والسجود ويقول بدل كل ركعة سبحان الله والحمد لله ولا اله الا  الله والله اكبر ) ([62])وعليه فالصلاة غير متقومة بهذه الامور .

وكذا صلاة المريض إذا لم يتمكن حتى من الايماء بناءا على ما هو الصحيح من سقوط قصد عنوان الركوع والسجود كبديل لهما.

فان قلت: إطلاق الصلاة على مثل هذا من باب التنزيل.

قلت : الجواب عن ذلك هو ما ورد في تقرير بحث السيد الخوئي في النقد على محاولة المحقق النائيني للتخلص عن الجامع بدعوى ان اطلاق الصلاة على الصلوات الاضطرارية بنحو العناية والتجوز حيث قال : (ان المتشرعة يطلقون لفظ الصلاة على كل مرتبة من مراتبها غافلين عن لحاظ التنزيل او اشتراك هذه المرتبة مع المرتبة العليا في الاثر ).([63]

ومما يناسب عدم دخالة هذه الامور في التسمية انّ المصلي لو شك في الطهارة الحدثية بعد الصلاة يحكم بصحتها. مع انه لا مجال للتمسك بقاعدة التجاوز لان الطهارة من المقارنات ولذا لا يحكم بالصحة لو كان الشك في الاثناء فالقاعدة الجارية هنا هي قاعدة الفراغ – بناءاً على تغايرهما – واجراءها يتوقف على صدق حقيقة الصلاة وهو مشكوك فيه على افتراض دخالة الطهور في المسمى ولم نذكر الركوع والسجود لإمكان التمسك فيهما بقاعدة التجاوز.

الملاحظة الثالثة: ان الادلة التي اشير اليها للاستدلال على دخالة هذه الامور في المسمى لا تنظر الى التسمية وانما مساقها بيان فرائض الصلاة وتمييزها عن السنن وان الارتباط بين القسمين ليس مطلقاً. ولو كان كل ما وجبت الاعادة بنسيانه دخيلاً في المسمى وجب اعتبار القبلة والوقت منها ايضا مع انهما لم يعتبرا فيه.

الملاحظة الرابعة: انه لا اشكال في ان الصلاة تطلق في عر ف المتشرعة على العمل الواجد لمعظم اجزائها بالاستعمال الحقيقي وان كان فاقداً لركن من الاركان. ولا اشكال ان المتشرعة يتبعون في اطلاقهم تسمية الشارع لو كانت هناك تسمية ولم نجد منهم اعترافاً بدخالة الاركان في المسمى وهذا ينفي احتمال التسمية المزعومة مع ان الاركان ليست محددة بنحو التسالم حتى عند الفقهاء. والقدر المتيقن من ثبوت الحقيقة في هذه الالفاظ هو ثبوتها لدى المتشرعة فلا يمكن دعوى شذوذهم عن تبعية الشارع في التسمية.

الوجه الثاني: وقد نسب الى المشهور وهو ان الصلاة اسم المعظم الاجزاء الحافظة لصورة الصلاة.

ويمكن ان يقرب هذا الوجه بالتقريب السابق في الوجه الاول وذلك بإبقاء المقدمتين الاولى والثانية على حالهما وتغيير المقدمة الثالثة بتبديل الاركان الى معظم الاجزاء الحافظة للصورة الصلاتية.

وبذلك يندفع بعض المناقشات الواردة على ذلك الوجه ومنها ان هذا التسمية لا يعارض مرتكز المتشرعة كما مر. الا ان المناقشة الباقية هي إطلاق الصلاة في الادلة على وجه الحقيقة على موارد فقدان معظم الاجزاء كصلاة الميت وصلاة المطاردة.

وهناك تقريب آخر لهذا الوجه اشار اليه المحقق الاصفهاني قدس سره بما مر من ان الصلاة اسم للهيئة التعظيمية واختاره بعض من تأخر عنه.

وتفصيل ذلك ان شيئية الشيء بصورته لا بمادته – كما ورد في الفلسفة – وهذا القانون كما يصدق على المركبات الحقيقية كذلك يصدق على المركبات الاعتبارية الا ان الصورة هناك من الجواهر – حسب التفكير الفلسفي القديم – وهي هنا من الاعراض كما ورد في بعض التعابير او بالأحرى من الامور الاعتبارية ومهما كان فالمركب الاعتباري يتقوم بتلك الصورة. والصلاة من هذا القبيل فهي تتقوم بالصورة الخضوعية.

وهذه الصورة غير متعينة من جهة امكان انطباقها على هيئات متعددة من الصلاة قائماً وقاعداً ومضطجعاً ومع الركوع والسجود الحقيقيين والايمائيين كما انها غير متعينة من جهة القلة والكثرة الا انها متعينة من جهة وجوب كونها من سنخ التكبير والركوع والسجود ونحوها ولكن على وجه يشمل الابدال والميسور منها.

ثم ان الاجزاء ملحوظة فانية في الصورة بمعنى انها لا تعتبر جزءاً آخر منضماً الى قائمة الاجزاء بل هي الهيئة الخضوعية الاتصالية التي تعتبر الاجزاء فانية فيها.

ونضيف لتوضيح هذا التقريب ان هناك افعالاً خاصةً تتسم بطابع خاص فمنها ما يتسم بطابع التذلل والخضوع فيقال ان له هيئة خضوعية كمجموعة الاعمال المشتملة على الركوع والسجود.

وتختلف الامم والحضارات في اعتبار الهيئة الخضوعية فمن الناس من يعتبر التعفير و وضع الخد على الارض معبراً عن الخضوع ومنهم من يعتبر التكفير و التكتف معبراً عنه ومنهم من يعتبر القيام على الركبة معبراً عنه. وهناك من الهيئات ما تعبر عن التفجع ومنها ما تعبر عن الطرب الى غير ذلك من الشؤون وكل من هذه الهيئات لا تتقوم بأجزاء خاصة بل تتقوم بمواد مختلفة وهي فانية في الهيئة فلا تعد الهيئة جزءاً آخر.

وقد استدل في الفلسفة على عدم اعتبار الهيئة جزءاً مستقلاً انها هي الإطار الذي يجمع الاجزاء فلو كانت جزءاً بنفسها احتاج المركب الى إطار آخر وهكذا يتسلسل. ثم ان هذه الهيئة الخضوعية المقومة للصلاة تتقوم بمعظم الاجزاء.

وفي هذا التقريب مناقشات:

المناقشة الاولى: ان وجود هذه الهيئة المذكورة مورد لنقاش العلماء فقد وقع الكلام في انه هل هناك وراء الاجزاء بالأصل وتواليها وترتيبها امر آخر يعبر عنه بالهيئة هي معتبرة في حقيقة الصلاة شطراً او شرطاً ام لا؟

فذهب الشيخ الانصاري الى وجودها وأنها متعلقة للأمر وأنكر ذلك المحقق النائيني وذهب الى انه لو فرض وجود هذه الهيئة فهي امر تحصل قهراً ولا يتعلق بها الامر.

واما دعوى استكشاف وجود هذه الهيئة من ادلة القواطع والموانع نظراً الى انه مع افتراض عدم وجود هيئة اتصالية لا فرق بين القواطع والموانع فقد اجاب عنها المحقق النائيني ان كلا الامرين من الموانع انما الفرق نشأ من اعتبار المانعية فان كان مختصاً بحال الافعال عبّر عنها بالموانع وان شمل الاعتبار حالة السكون ايضاً عبّر عنها بالقواطع وليس هناك شيء يقطع الهيئة الاتصالية كما هو المدعى.

المناقشة الثانية: انه من البعيد الالتزام بوجود هيئة اتصالية خضوعية مشتركة بين انحاء الصلاة جميعها مع قطع النظر عن صلاة الغرقى التي ادعي خروجها عن المجموعة. فما هي الهيئة الجامعة بين هيئة صلاة المختار وهيئة صلاة المطاردة التي من انحائها الصلاة في حال المعانقة مع العدو وفي حال المسابقة والمراماة وكذلك بينهما وبين هيئة صلاة المضطجع مع الايماء ؟!

المناقشة الثالثة: ان الهيئة الخضوعية قد تتحقق في اعمال اخرى ولا يطلق عليها لفظ الصلاة كسجدة الشكر خصوصاً مع بعض الحالات الخاصة او اعمال ليلة القدر مثلاً والحالات الخضوعية الاخرى. فهذه الاعمال أقرب الى الخضوع من صلاة المطاردة ومع ذلك لا يعبر عنها بالصلاة. وان خصص ذلك بالهيئة الخاصة لزم خروج كثير من الصلوات كما مر. والحاصل ان التعريف بالهيئة الخضوعية غير مانع عن الاغيار.

المناقشة الرابعة: ان بعض من التزم هذا التقريب قد اذعن في مبحث الحقيقة الشرعية بان معنى الصلاة ليس من الامور المستحدثة في الشريعة الاسلامية بل هو امر يشترك فيه جميع الاديان وظاهر كلامه هنا حيث اعتبر السنخية الخاصة في اجزاء الصلاة لا يشمل صلاة غير المسلمين فكيف يمكن الجمع بين المقالتين؟!

وأما الجامع بناءاً على القول بالوضع للصحيح فنتعرض لوجهين في تصويره:

الوجه الاول: ما نسب الى المحقق الخراساني من تصوير للجامع المقولي الذاتي. ويمكن تلخيصه في ثلاث نقاط:

1- يتبين بملاحظة الادلة الشرعية ان هناك آثارا وخواص تترتب على الصلاة ككونها ناهية عن الفحشاء والمنكر وكونها قرباناً لكل تقي ومعراجاً للمؤمن ونحو ذلك. ومن الواضح ان هذه الآثار خاصة بالصلاة الصحيحة. وليس في الادلة قرينة تدل على اختصاصها بالصلاة الكاملة اي الواجدة لشرائط القبول.

2- ان وحدة الاثر تدلنا على وحدة المؤثر. فالقانون الفلسفي يقول: الواحد لا يصدر الا من الواحد. والمعلول الواحد لا بد من ان تكون له علة واحدة. فاذا كانت هذه الآثار موجودة في كل صلاة صحيحة فلا بد من الاعتراف بالمؤثر الوحيد فيما بينها تبعاً للقانون الفلسفي المذكور.

وهنا لا بد من ان يضاف تكميلاً للدليل أنّ هذا القانون لا يختص بالمعلول البسيط البحت من جميع الجهات بل يشمل كل معلول متحد وان كانت الوحدة نوعية. اذن فهناك مؤثر وحيد وهو الجامع بين انواع الصلاة الصحيحة وهذا الجامع امر بسيط ذاتي.

3- ان هذا الجامع البسيط ينطبق على مركبات اعتبارية. فينطبق على صلاة الصبح – مثلاً – كما ينطبق على نافلته التي لا تختلف عنها الا بقصد العنوان وينطبق على صلاة الظهر كما ينطبق على صلاة العصر التي لا تختلف عنها الا بقصد العنوان ايضاً وهكذا تنطبق على صلاة الآيات وصلاة الخوف والمطاردة وهكذا.. وهذا الانطباق يوجب الانحلال المصحح لإجراء البراءة.

وهذا الامر مما لابد منه وقد تعرض له هو ايضاً للدفاع عن نظريته تجاه مناقشة وجهت اليه وهي عدم جواز اجراء البراءة نظراً الى ان الشك في جزء او شرط من الصلاة مرجعه الى الشك في المحـصِّل وهو مجرىً للاشتغال هذا هو التقريب المعروف لكلامه.

ومن الممكن تفسير عبارة المحقق الخراساني بوجه آخر وهو ان مراده من الجامع هو الماهية الاعتبارية التي ذكرنا انها هي معنى الصلاة وإنها تنطبق على انحاء الصلاة في كل شريعة بحسبها بمتمم الجعل التطبيقي.

وعلى هذا التفسير لا ترد عليه اعتراضات القوم. الا ان عبارته تحتمل الامرين ولعل المعنى الثاني أقرب الى عبارته وانسب بمقامه. فلا بد من ملاحظة الشواهد في العبارة وهي ثلاثة: اثنتان منها تؤيد الاحتمال الثاني واحداها تناسب الاحتمال الاول وهي كما يلي:       

أ- قوله بعد ان اعترض على نفسه بعدم جريان البراءة لما قدمناه من عدم جريانها فيما اذا كان الشك في المحصِّـل : ( ان الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات متحد معها نحو اتحاد...) ([64])

ويظهر من هذه العبارة انه قدس سره لا يقول بجامع مقولي ذاتي بين انحاء الصلاة كما نسب اليه وان الجامع الذي تصوره جامع انتزاعي وليس من البعيد ان يريد بذلك الجامع الاعتباري الذي ذكرناه نظرا الى ان المتعارف حتى في كتب الفلسفة التعبير بكل منهما في موضع الآخر فتارة يقال ان الامكان ــ مثلا ــ امر اعتباري واخرى انه انتزاعي.

وقد تبعهم في ذلك بعض الاصوليين الى ان تنبه بعض متأخريهم الى لزوم التفرقة بينهما في مصطلح الاصول فان المصحح لعدم التفرقة بينهما في الفلسفة لا يمكن ان يعدّ مصححا له في الاصول.

والوجه فيه ان الفلسفة عرفت بانها العلم بأحوال اعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الامر والامور الإنتزاعية موجودة بوجود مناشئ انتزاعها بل قيل ان لها وجودا ضعيفا فيمكن ادخالها في الفلسفة وهذا بخلاف الامور الاعتبارية في اصطلاح الاصول فانها ليس لها اي نحو من الوجود في الخارج ولذلك تختلف باختلاف الانظار وليس مما تختلف فيه الانظار ولتوضيح هذا الكلام موضع اخر.  

ومهما كان فالجامع الانتزاعي او الاعتباري ليس كالجامع المقولي مورداً للتأثير والتأثر بالمعنى الفلسفي وانما يتحد خارجاً مع العمل الخارجي واتحاد المتحصل مع غير المتحصل امر ممكن وانما يمتنع اتحاد المتحصل مع نظيره.

ب- قوله في مبحث الحقيقة الشرعية : ( فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية واختلاف الشرائع فيها جزءاً وشرطاً لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية اذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا).([65])

وهذه العبارة قريبة جداً مما ذكرناه فهو يعترف باختلاف المصاديق والمحققات في شرعنا والشرائع السابقة ويعتبر حقيقة وماهية جامعة بين جميع هذه الحقائق المختلفة بحيث تجمع بين الصلاة اليومية المتعارفة وبين صلاة المضطجع وصلاة الخوف والمطاردة ولا شك في ان هذا الجامع ليس الا ماهية اعتبارية يطبقه الشارع على اختلاف الحالات على مصاديق مختلفة.

ج-   قوله في تصوير الجامع : ( لا اشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة وامكان الاشارة اليه بخواصه وآثاره فان الاشتراك في الاثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد ...).([66])

وهو وان لم يصرح بابتناء ما ذكره على القانون الفلسفي المذكور الا انه اشار الى ذلك وعبارته هنا لا تتناسب مع تصوير الماهية الاعتبارية كجامع بين انحاء الصلاة الصحيحة اذ مع وجود هذه الماهية لا حاجة الى الاشارة الى الجامع بآثاره فهو كالدينار والميتة وغيرهما من الماهيات الاعتبارية. اذن فهذه العبارة انسب مع الاحتمال الاول.

ويمكن توجيهه بان الحاجة الى الاشارة انما هو لتوضيح ذلك الجامع وتمثيله كما يقال لتوضيح مفهوم الدينار – مثلاً – انه ما يجعل مقياساً للمالية او نحو ذلك وبمتمم الجعل التطبيقي يكون كأصل الحكم تابعا للملاك.

ولا بد من وجود تناسب بين الماهية الاعتبارية وكل نوع من الانواع التي تنطبق عليها بل الملاك في الحقيقة تتقوم بهذه الماهية الاعتبارية ولذلك تعتبر وسيطا لتعلق الامر بهذه الانواع.

وعلى هذا الاساس لا بد من وجود تناسب ايضا بين نفس هذه الانواع وكذا لا بد من اشتراكها في تقوم نوع من الملاك بها على الاختلاف بينها.

وكيف كان فالاحتمالان قائمان في العبارة وان كان الاقرب في نظرنا هو الاحتمال الثاني فلو كان كذلك لم يرد عليه اشكال نظري واما على افتراض ان يكون المراد هو الاحتمال الاول ترد عليه عدة اعتراضات نذكر بعضها:

الاعتراض الاول: ان ما بنيت عليه النظرية من ان هناك خاصية في الصلاة لا يشترك معها غيرها من العبادات وهي كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر امر لا دليل عليه فان الآية المباركة وان اثبتت ذلك للصلاة الا انها لا تنفيها عن غيرها من العبادات. وما يذكر من التقريب في بعض التقريرات لكون الصلاة ناهية عنهما يمكن اسراؤه الى سائر العبادات ايضاً.

وهكذا الكلام في كونها معراج المؤمن او قربان كل تقي اما القربان فواضح واما المعراج فهو من باب الكناية قطعاً والمراد الكمال النفسي والقرب من الخالق جل وعلا وهو يحصل في كل عبادة بشرط الخضوع والتوجه ولعل ذلك يعتبر قرينة على كون المراد من الصلاة في الرواية الصلاة الكاملة لا الصحيحة فتخرج عن موضوع البحث اساسا.

الاعتراض الثاني: انا لو سلمنا وجود هذه الخاصية في الصلاة الا ان القانون الفلسفي المذكور: (الواحد لا يصدر الا من الواحد) ملازم لقانون آخر وهو (الواحد لا يصدر منه الا الواحد) حسب التقرير الفلسفي فكما ان وحدة المعلول تلازم وحدة العلة كذلك وحدة العلة تلازم وحدة المعلول.

وهذا ما اوقع الباحثين في ازمة فلسفية في مسألة ربط الحادث بالقديم لبساطة القديم من جميع الجهات مع الكثرات في العالم المعلول.

فاذا بنينا على صحة هذا القانون فلا بد من الالتزام بجانبيه وحيث ان الآثار المفروضة للصلاة متعددة من النهي عن الفحشاء والمنكر وكونها معراج المؤمن وقربان كل تقي ونحو ذلك فلا بد من تعدد المؤثر وعدم بساطة الجامع.

مضافاً الى ان خصوص النهي عن الفحشاء والمنكر ليس معلولاً بسيطاً وهذا القانون يختص بالمعلول البسيط والنهي عنهما ينحل بحسب تكثر الفواحش والمنكرات فكل منها حقيقة غير الآخر وهذا العنوان جامع انتزاعي وعنوان مشير الى التكثرات. اذن فهذه الآثار المتكثرة تكشف عن تكثر المؤثر وعدم بساطته.

الاعتراض الثالث: انه كيف يتصور جامع ذاتي مقولي بين الحقائق المختلفة فالصلاة مركبة من كيف مسموع وهو الاذكار والوضع كالركوع والسجود والكيف النفساني كالنية بناءاً على جزئيتها وكقصد العنوان حيث يكون مقوماً للصلاة كصلاة الصبح ونافلتها وصلاتي الظهر والعصر. وكيف تكون هذه الحقيقة الواحدة منطبقة على حقائق مختلفة مع انهم يقولون في الفلسفة ان المقولات لا يجمعها مشترك ذاتي.

الاعتراض الرابع: انه حتى لو افترضنا تركب الصلاة من افراد لمقولة واحدة كالكيف المسموع كما هو الحال في بعض انحاء صلاة المطاردة وكذلك في صلاة الميت فهناك مشكلة اخرى في انطباق الجامع المذكور وهي ان الجامع قد فرض بسيطاً والمنطبق عليه مركب من اجزاء وان كانت من مقولة واحدة الا ان حمل المركب على البسيط المعبر عن الهوهوية والاتحاد بينهما امر غير معقول. ومن هنا اضطر الى التعبير عنه بالعنوان الانتزاعي.

الاعتراض الخامس: ان هذا الجامع لا يختص بالانطباق على الافراد الصحيحة كما هو المدعى وذلك لان الصلاة الصحيحة في حالة فاسدة في حالة اخرى كصلاة القصر في الحضر او التمام في السفر مع أن الجامع المقولي المفروض يجب ان يكون منطبقاً عليها في كلتا الحالتين اذ خصوصية الفاعل وحالته الخاصة لا تؤثر في الجامع المقولي الذاتي فانه يحكي عن المعنى الاسم المصدري اي نفس العمل بلحاظ صدوره عن فاعل.

وسيأتي الاشكال في عدّ النهي عن الفحشاء والمنكر من آثار خصوص الصلاة الصحيحة وكذا كونها قرباناً لكل تقيّ.

ووضوح هذه المناقشات مع ملاحظة المقام العلمي الشامخ للمحقق الخراساني يؤيد و يؤكد ان يكون مراده هو الاحتمال الثاني الذي ذكرناه.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الاصفهاني قدس سره في تعليقته على الكفاية وفي (الاصول على النهج الحديث) وهو بتقريب منا يتلخص فيما يلي:

ان بين جميع انحاء الصلاة سواء كانت للمضطر او المختار جامعاً تركيبياً الا ان الاجزاء المعتبرة فيه ملحوظة بالإبهام سواء في العوارض والطوارئ ام في الذاتيات اما في العوارض فلا يتقيد الجزء الملحوظ بالعدد الخاص مثلاً فالركوع جزء للصلاة مبهماً من حيث العدد وكذلك السجود ولا يتقيد الذكر مثلاً بكونه جهراً او خفاتاً وهكذا في سائر الجهات.

واما في الذاتيات فالركوع والسجود مثلاً لا يلاحظان بما انهما من مقولة خاصة فركوع المختار وسجوده من مقولة الوضع ولكنها في المضطر قد يكونان بالايماء.

اذن فالإبهام الملحوظ في ذات الاجزاء لا يراد به الابهام في مرحلة الجنس فانه امر معترف به لا اشكال فيه لان الجنس غير متحصل وبعد تحقق الفصل الاخير يتحقق النوع والحقيقة الخاصة بل تقيد في حقيقة الجنس فيمكن ان يكون الانسان مع جسم طبيعي ويمكن ان يكون مع جسم مثالي بل الابهام هنا في مرحلة الفصل ايضاً فالركوع المتعارف مغاير للركوع الايمائي جنساً وفصلاً وكذلك السجود.

ثم حاول المحقق الاصفهاني قدس سره تقريب امكان ملاحظة الشيء مبهماً في ذاتياته بما اوجب مزيد الاعتراضات عليه فاستشهد بما نقله عن بعض الاكابر من امكان كون الشيء مشككاً في ذاتيته.

والحاصل أن الصلاة موضوعة للأمر المركب من هذه الامور بما لها من العرض العريض لا بما انها مقولة محدودة بالذاتيات الخاصة.

واضاف المحقق المذكور أن هذا يجوز أن يجعل جامعا على القول بالصحيح فيما إذا لوحظ فيه ترتب الاثر والغرض من التشريع ويجوز ان يجعل جامعاً على القول بالأعم إذا لم يلاحظ فيه ذلك.

هذا وقد اعترض عليه في المحاضرات ان الابهام في ما وراء الطواري والعوارض امر غير معقول فاللابشرطية في الانسان مثلاً انما تتصور في كيفياته وكمياته ونحو ذلك من الاعراض واما في الذاتيات فمستحيل.

وقد فصل الاعتراض في تهذيب الاصول بان الصلاة لا بد لها من جامع متواط يصدق على افرادها ولا بد ان يكون امراً متعيناً متحصلاً في مقام تجوهر ذاتها وان الابهام لا بد من ان يلاحظ في الطواري والعوارض والا لزم ان يكون من قبيل الفرد المردد في دخول الابهام في حد ذاته ومرتبة تحصله وقد فرّ منه قدس سره.([67])

ولكن الظاهر ان ما ذكره المحقق الاصفهاني في حد ذاته مما لا محيص من الالتزام به وذلك بملاحظة الآيات الكريمة التي نسب فيها التسبيح والسجود والقنوت بل والصلاة ونحو ذلك الى الحيوانات والجمادات وكل المخلوقات حتى الظلال. ومن الواضح انه لا يمكن نسبة هذا السجود المقولي وكذلك التسبيح والحمد ونحو ذلك الى هذه الاشياء.

قال تعالى: «ولله يسجد من في السماوات و الارض طوعاً وكرها وظلالهم بالغدو والآصال» الرعد 15

وقال تعالى: «ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون» النحل 49

وقال تعالى: «الم تر ان الله يسجد له من في السماوات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس. الآية. الحج 18

وقال تعالى: «والنجم والشجر يسجدان» الرحمن 6

وقال تعالى: «وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير» الانبياء 79

وقال تعالى: «الم تر ان الله يسبح له من في السموات والارض والطير صافاّت كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون» النور 41

وقال تعالى: «و يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته» الرعد 13

وقال تعالى: «تسبح له السماوات السبع والارض ومن فيهن وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم» الاسراء 44

وقال تعالى: «سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون» البقرة 116

الى غير ذلك من الآيات التي لا تدع مجالاً للشك في صحة نسبة هذه الافعال الى مختلف الموجودات. ولعل هذه الاستعمالات ونظائرها دعى بعض الفلاسفة المتأخرين الى دعوى كون الالفاظ موضوعة للمعاني العامة فالكتاب مثلاً موضوع لكل ما يقع تحت المطالعة والتأمل فيشمل الكتاب التدويني والتكويني و الآفاقي و الأنفسي. والكلام موضوع لما ينبئ عن الضمير. والميزان لكل مقياس والعلم ليس كيفية نفسية وانما هذه الكيفية أحد مراتب العلم ومنه ما هو جوهر ومنه ما هو واجب وهكذا ...

وعليه فإسناد التسبيح والسجود وغيرهما الى هذه الموجودات ليس على وجه التمثيل والتجوز بل يحكي عن ان واقع السجود والتسبيح والقنوت والصلاة معنىً آخر لا يتقيد بمقولة خاصة. نعم لا مانع من الالتزام بنوع من التعبير الادبي في نسبة السجدة الى الظلال كما التزم به بعض المفسرين.

اذن فلا مانع من ان يكون الركوع والسجود ملحوظين بما لهما من العرض العريض كما اعترف به في تهذيب الاصول في تقريب نظريته التي مر البحث عنها.

هذا ولكن تبقى على نظرية المحقق الاصفهاني مناقشة واحدة وهي ان الصلاة لا تتقيد بهذه المجموعة من الاجزاء حتى بالعرض العريض وذلك لان من انحاء الصلاة صلاة المطاردة وهي في بعض الموارد لا تتعدى تكبيرتين فما هو الجامع التركيبي الموجود حينئذ ؟!

وبعبارة اخرى هل يمكن ان يقال ان حقيقة الصلاة هي خصوص هاتين التكبيرتين و ما عداهما ليس جزءاً للصلاة اصلاً وان ما عداهما انما يعتبر جزءاً في غير صلاة المطاردة. نظير ما يقال في سقوط التسمية عند التقية ان الصلاة هي ما عداها فهي حين الاتيان ليست جزءاً او ان الصلاة هي ما عداها وهي جزء حال عدم الاضطرار. فهل يمكن دعوى ذلك في ما نحن فيه؟! من الواضح ان هذه الدعوى لا تصدر عن أحد من المتشرعة.

الجهة الرابعة: البحث حول الثمرة المترتبة على مبحث الصحيح والاعم. وقد ذكروا له عدة ثمرات:

الثمرة الاولى: ان البراءة لا تجري في موارد الشك بين الاقل والاكثر الارتباطيين على القول بالصحيح وتجري على القول بالأعم. وبعبارة اخرى ان ما يدعو الى القول بجريان البراءة في موارد الشك بين الاقل والاكثر الارتباطيين وهو انحلال التكليف الموجب لانحلال العلم الاجمالي متحققة في موارد الشك في جزئية شيء او شرطيته في الصلاة ونحوها على القول بوضعها للأعم وغير متحققة فيها على القول بالصحيح.

ونلاحظ على هذه الثمرة ان جريان البراءة على القول بالأعم صحيح واما عدم جريانها على القول بالصحيح ففيه تفصيل:

وذلك للاختلاف في وجه جريان البراءة في موارد الشك بين الاقل والاكثر الارتباطيين فان كان الوجه فيه مجرد انحلال التكليف الواحد الى تكاليف متعددة ضمنية وان البراءة تجري بالنسبة الى الوجوب الضمني المشكوك فيه فالحق ان القول بالوضع للصحيح لا ينافي اجراء البراءة.

ولكن قد يكون الوجه في جريان البراءة هو ان اقوى ما يتمسك به للقول بالاشتغال في هذه الموارد هو العلم الاجمالي بثبوت الوجوب اما للأقل بحدّه او الاكثر بحدّه وهذا العلم ينحل بتقريب مذكور في محله فتجري البراءة في الوجوب الاستقلالي المحتمل ثبوته للأكثر. و بناءاً على هذا الوجه لا يمكن القول بالبراءة على القول بالصحيح.

اما على المسلك الاول فلا بد من توضيح الانحلال المذكور على جميع المحتملات:

فان قلنا بان الجامع هو الماهية الاعتبارية كما ذكرنا وان الشارع يطبقها على الانواع المختلفة من المركبات الاعتبارية بمتمم الجعل التطبيقي فالبراءة جارية في مورد الشك وذلك لان الماهية الاعتبارية ليست هي المأمور به بالحمل الشايع بل المأمور به هو المركبات التي تطبق عليها تلك الماهية وانما هي ما يستعمل فيه اللفظ فالخلاف بيننا وبين من يقول بالجامع التركيبي انما هو فيما استعمل فيه اللفظ واما المأمور به بالحمل الشايع فهو نفس العمل المركب الذي طبق الشارع عليه عنوان الصلاة والامر وان تعلق بعنوان الصلاة كقوله تعالى: (اقم الصلاة) الا ان متمم الجعل وسيط لتطبيق المأمور به عنواناً على ما هو المأمور به بالحمل الشايع . اذن فمركز الامر واقعاً هو نفس المركبات الاعتبارية فاذا شككنا في دخالة الإستعاذة – مثلاً – في الصلاة المأمور بها كان ذلك شكاً في كون متعلق الامر عبارة عن الاقل او الاكثر فتجري البراءة.

وان قلنا بالجامع البسيط الذاتي ولم نقل باتحاده وجوداً مع المركبات الخارجية كانت النسبة بين المركب والمأمور به نسبة المحصِّـل الى المحصَّـل فلا بد حينئذ من القول بالاشتغال لتغاير المأمور به مع ما هو محقق خارجاً بحسب الوجود فليس هناك انحلال في التكليف لعدم تعلقه بالكثرات الموجب لكسب الحكم كثرة اعتبارية ولا انحلال في العلم الاجمالي.

ولكن الظاهر ان هذا لم يقل به أحد.

وان قلنا بالجامع البسيط المنطبق على المركب الاعتباري وانه ليس امراً إنتزاعياً بل هو ذاتي مقولي. وهو الذي نسبه الاصحاب الى المحقق الخراساني قدس سره فمع غض النظر عن المناقشة في كيفية اتحاد هذا الجامع البسيط مع المركب من المقولات المتعددة بحيث لا تلزم بساطة المركب ولا تركب البسيط لا بد من التفصيل في امكان اجراء البراءة.

وذلك لان وجه جريانها في الاقل والاكثر الارتباطيين – حسب الفرض – مجرد انحلال التكليف الى تكاليف ضمنية وان الشك في وجوب الجزء شك بدوي مورد للبراءة فلا بد من القول بجريانها في المقام وذلك لان مناط انحلال التكليف هو تعلقه بالكثرات حيث يكتسب الحكم كثرة اعتبارية و الكثرات وحدة اعتبارية والاعتبار قليل المؤنة فلا مانع من الالتزام به في المقام وان كان متعلق التكليف بعنوانه جامعاً بسيطاً وذلك لان المفروض اتحاده وانطباقه على المركب الاعتباري فيكتسب الحكم من جهة تعلقه بما هو متحد مع الكثرات كثرة اعتبارية وينحل الوجوب الى وجوبات ضمنية فتجري البراءة فيما شك منها .

واما بناءا على المسلك الثاني وهو انّ السرّ في جريانها هو انحلال العلم الاجمالي الذي لولا انحلاله لامتنع اجراء البراءة في كل من التكليفين الاستقلاليين كما هو الحق فلا تجري البراءة في المقام.

توضيحه ان العلم الاجمالي المتعلق بوجوب أحد الامرين الاقل والاكثر لا بدّ من حلّه الى علم تفصيلي وشك بدوي حتى يمكن اجراء البراءة في مورد الشك وذلك اما بانحلال حقيقي كما قيل او حكمي كما هو الحق على اختلاف التقارير في انحلاله.

وهذا الانحلال لا يجري على هذا القول لان العلم المتعلق بالتكليف هنا تفصيلي فان الفارق بين العلم التفصيلي والاجمالي هو ان الثاني يتعلق بعنوان انتزاعي هو أحد الامرين او الامور فنقول أحد الامرين واجب او أحد الوجوبين ثابت كما هو الصحيح بان يكون أحد الامرين حداً للعلم لا للواقع كما في الواجب التخييري فالواجب واقعاً في مورد العلم الاجمالي هو هذا بحدّه او ذاك بحدّه وحينئذ تبذل المحاولات لحل العلم الاجمالي فتجري البراءة ومنها ما ذكرناه في محله.

واجماله ان العلم الاجمالي المتعلق بوجوب أحد الامرين لا ينتج الا وجوب الموافقة الاحتمالية واما وجوب الموافقة القطعية فهو من باب منجزية الاحتمال إذا كان مقوماً لعلم اجمالي. و منجزية الاحتمال في موارد العلم الاجمالي بوجه عام ثابت ببناء العقلاء وهو مفقود فيما إذا كان أحد المحتملين مقطوع الوجود ولو بعنوان آخر اي الوجوب الثابت للأقل على نحو اللابشرط القسمي في موارد الاقل والاكثر. واما في المقام فالتكليف معلوم بالتفصيل والعلم ليس متعلقاً بعنوان انتزاعي اي عنوان أحد الامرين بل هو متعلق بالجامع الواحد سواء كان اعتبارياً او إنتزاعيا او حقيقياً. وانما التردد بين الاقل والاكثر في ما ينطبق عليه متعلق العلم وجوداً.

وما يقال من انه يصح القول بانا نعلم بوجوب أحد الامرين من الاقل والاكثر في المقام كما ورد في(المحاضرات) فالجواب عنه ان هذا الاطلاق لا يخلو عن تسامح وهو تعبير مع العناية فان الواجب هو نفس الصلاة وانما الشك في اتحاد الواجب وجوداً مع مركب ذي عشرة اجزاء مثلاً او مركب ذي تسعة اجزاء وهذا الترديد وان صحّ ان يكون موجباً لانحلال التكليف كما مر الا انه لا يصحح دعوى تعلق العلم الاجمالي بالتكليف المعلوم تفصيلاً تعلقه بالصلاة.

ويمكن ان يعترض على ما ذكرناه بانه ان قلنا بالجامع البسيط الانتزاعي كما ورد في عبارة المحقق الخراساني أمكن القول بجريان البراءة لان الامر إذا تعلق بأمر انتزاعي في العبارة فمتعلق الحكم هو منشأ الانتزاع وهو المأمور به واقعاً لان الامر الانتزاعي بنفسه لا يصح ان يكون متعلقاً للأمر.

والجواب أن هذا الامر محل اختلاف فذهب جماعة الى ان الامر او النهي إذا تعلقا بالأمر الانتزاعي فالمأمور به والمنهي عنه واقعاً هو منشأ الانتزاع. وعلى هذا الرأي فالكلام في مسلك المحقق الخراساني هو الكلام في مسلكنا فان الملحوظ في كون العلم اجمالياً او تفصيليا هو الواجب الواقعي والمفروض ان الواجب هنا هو منشأ الانتزاع وهو العمل المركب المردد بين الاقل والاكثر فيأتي فيه وجه جريان البراءة وهو كون العلم علماً اجمالياً منحلاً ولو حكماً.

واما على الرأي الآخر وهو ان الامر الانتزاعي يصح ان يكون متعلقاً للأمر والنهي وان كان وجوده بوجود منشأ انتزاعه وان نسبة الوجود اليه انما هو مع الواسطة في العروض الا انه لا مانع من نسبة الحكم اليه حقيقة فالكلام فيه هو الكلام في الجامع البسيط المقولي من ان انحلال الحكم لا أثر له وان كان صحيحاً باعتبار اتحاد المتعلق مع الكثرات وانحلال العلم غير موجود لتعلقه بالعنوان البسيط.

والصحيح هو الرأي الثاني فالنتيجة عدم جريان البراءة على هذا القول.

ويمكن ان يستدل للرأي الاول بوجهين:

الوجه الاول: ما ورد في المحاضرات من ان الامور الإنتزاعية لا تقبل الاتصاف بالوجود بنفسها والموجود في الخارج انما هو منشأ الانتزاع ونسبة الوجود الى الامر الانتزاعي انما تصح بالمجاز و الواسطة في العروض ولا يعقل توجيه الامر والنهي الا مع قابلية الايجاد لانهما ليسا الا لإيجاد الداعي والزاجر في نفس المكلف وذلك متوقف على امكان الايجاد.

والجواب عنه ان ما ذكر من ان وجود الامر الانتزاعي انما هو بتبع منشأ الانتزاع صحيح الا انه يكفي في منع لغوية الامر والنهي امكان تعلق الوجود بالعرض لمتعلقهما فالشيء قد يكون موجوداً بوجود ما بحذائه وقد يكون موجوداً بوجود منشأ انتزاعه كما ان الكلي ايضاً لا يوجد الا بوجود فرده مع صحة تعلق الامر والنهي بالعناوين الكلية فالوجود الخارجي وجود للفرد اولاً وبالذات ووجود للكلي ثانياً و بالعرض. بل ذكر في الفلسفة ان الموجود اولاً وبالذات هو نفس الوجود واما الماهية فإسناد الوجود اليها بالعرض والمجاز وإنها لم تشم رائحة الوجود.

هذا مضافا الى أن ما ذكره هنا ينتقض بالواجب التخييري اذ الحق – كما هو رأيه ايضاً – هو تعلق الوجوب فيه بالعنوان الانتزاعي وهو أحد الامرين والامور.

الوجه الثاني: ان متعلق الحكم يجب ان يكون واجداً للملاك ومصب الملاكات من المصالح والمفاسد هو الامور الخارجية وهي مناشئ الانتزاع وهذه قرينة على ان متعلق الحكم واقعاً هو مناشئ الانتزاع.

وبعبارة اخرى الارتكاز العرفي يقضي بان يحمل العنوان الانتزاعي المأخوذ متعلقاً لحكم ايجابي او تحريمي على انه اخذ على وجه المعرفية لا الموضوعية.

والجواب عنه مضافاً الى النقض بالواجب التخييري كما مرّ ومضافاً الى ان المصالح قد تكون متعلقة بنفس الحكم دون المتعلق ان المصالح والمفاسد ليست دائماً من الامور التكوينية التي لا توجد الا في الامور الخارجية فقد تكون المصلحة او المفسدة بنفسها امراً اعتبارياً ولا مانع حينئذ من تقومها بأمر انتزاعي.

أضف الى ذلك انه يكفي في صحة توجيه الامر والنهي تعلق المصلحة او المفسدة بما ينطبق عليه العنوان ولا ضرورة في ان يكون المؤثر في الملاك بنفسه متعلقاً للحكم.

فتحصل ان البراءة لا تجري على القول بالجامع البسيط الانتزاعي وان كان اتحاده مع المركب الاعتباري وجوداً يصحح دعوى انحلال التكليف الى تكاليف ضمنية الا ان الاساس في جريان البراءة هو انحلال العلم الاجمالي المتعلق بالتكليف. ومتعلق التكليف هنا معلوم بالتفصيل وهو نفس الجامع البسيط. وكونه امراً إنتزاعياً لا يكفي في اجمالية العلم فان اجماليته تتوقف على تعلقه بخصوص عنوان (أحد الامرين او الامور) بحيث يكون حداً للعلم لا حداً للمعلوم لا كل عنوان انتزاعي.

وتلخص من مجموع ما ذكرناه ان وجه جريان البراءة وهو انحلال العلم الاجمالي موجود في ما نحن فيه على القول بالأعم اما على القول بالصحيح فيتوقف جريانها على دوران ما هو الواجب بالحمل الشايع بين الاقل والاكثر والا فانحلال التكليف لا يفيد كما لا يفيد اتحاد الواجب بالحمل الشايع وجوداً مع ما هو مردد بين الاقل والاكثر. اذن فدعوى جريان البراءة حينئذ ناشئة من الخلط بين انحلال التكليف وانحلال العلم الاجمالي.

الثمرة الثانية: ان التمسك بالإطلاق اللفظي ممكن على القول بالأعم دون القول بالصحيح.

ولتوضيح ذلك نقدم بيان الفرق بين الاطلاقين اللفظين والمقامي:

مورد الاطلاق اللفظي هو ما اذا كان موضوع الحكم او متعلقه في القضية اللفظية ماهية نشك في انها تمام الموضوع او المتعلق ام ان هناك قيداً وجودياً او عدمياً زائداً على اصل الماهية دخيلة في الموضوع او المتعلق فالماهية المذكورة يجب ان تكون مشتركة بين الواجد للقيد المشكوك والفاقد له وحينئذ نتمسك بإطلاق اللفظ الدال على اعتبار تلك الماهية موضوعاً او متعلقاً للحكم ونحكم بانها تمام الموضوع في مرحلة الجد وذلك مع مراعاة شرائط التمسك بالإطلاق بان يكون المتكلم في مقام البيان وان لا يكون هناك مانع عن اتمام الكلام وذكر القيود ومتعلقات الكلام ويكون القيد مما يمكن تقييد الماهية به في اللفظ.

واساس الاطلاق اللفظي هو اصالة التطابق بين المراد الجدي واحد المرادين الاستعمالي او التفهميمي على تفصيل سيأتي.

واما الاطلاق المقامي فهو لا يتوقف على وجود ماهية مشتركة بين الفاقد والواجد للخصوصية المشكوكة بل يمكن التمسك به في موارد مختلفة لا يوجد فيها هذا القيد.

فمنها التمسك بمفهوم اللقب مع انه ليس حجة على نحو الاطلاق فاذا قال من له حق الامر (اكرم زيداً واخاه وعمراً واخاه وبكراً) ولم يذكر اخا بكر مع احتمال شمول الحكم له واقعاً فندفع هذا الاحتمال بمعونة الاطلاق المقامي من جهة ان سكوته عن ذكر اخي بكر مع عطف اخوي زيد وعمرو عليهما يكون بمثابة بيان لعدم وجوب اكرامه وان وجوب الاكرام المجعول بالنسبة الى بكر ليس على نحو يعم اخاه فلا كوجوب الاكرام المجعول بالنسبة الى زيد وعمرو مع أنه لو كان يأمر بإكرام بكر منفردا لم يكن يعدّ هذا بيانا لعدم وجوب اكرام اخيه لعدم حجية مفهوم اللقب ولكن الجمع بينه وبين غيره في الامر بالإكرام والتفريق بينهما في ذكر الاخ وعدمه اوجب تحقق كاشفية لعدم الذكر عن عدم وجوب الاكرام.

وهذا ليس من الاطلاق اللفظي لعدم وجود ماهية مشتركة بين فاقد الخصوصية وواجدها تكون متعلقة لحكم وجوب الاكرام.

ومنها ان المتكلم لو كان بصدد ماهية او كان بصدد بيان متمم الجعل التطبيقي و أنبأ عن عدة امور دخيلة في تحققها دون اخرى محتملة الدخالة يحكم بعدم دخالتها إذا كان في مقام البيان والتفصيل.

والمثال له صحيحة حماد الحاكية لصلاة الامام التعليمية فقد تعرضت لعدة خصوصيات في الصلاة قولاً وفعلاً ولم تتعرض لبعض الشؤون على اختلاف في كون المراد بيان ما هو دخيل في الصلاة الصحيحة او الكاملة فقط فحيث ان الامام في مقام بيان ما تنطبق عليه الماهية او في مقام تشريح ما تتركب منه نستكشف ان ما لم يذكر ليس دخيلاً في الصلاة التي تعلقت به الحكم.

وهذا الاطلاق لا يتعلق بلفظ الصلاة الموضوع للماهية المشتركة بين واجد الخصوصية المشكوكة وفاقدها بل يتعلق بذكر الاجزاء والشرائط المذكورة وهي امور متباينة.

ومنها ان تكون الماهية التي جعلت متعلقاً او موضوعاً للحكم ذات مصداق او مصاديق بنظر العرف. ولا يذكر الشارع او المقنن انه لا يرى المصداق العرفي مطلقا او في الجملة مصداقاً لها. فنستكشف من ذلك عدم تخطئته لنظرهم الدقيق – لا المسامحي – في تشخيص المصداق فيما إذا كانت الماهية تكوينية او اعتبارهم هذه الامور مصاديق لها – وهو الذي نعبر عنه بمتمم الجعل التطبيقي – فيما إذا كانت الماهية اعتبارية.

وتفصيل ذلك سيأتي ان شاء الله تعالى عند توضيح امكان التمسك بالإطلاق المقامي في المعاملات على القول بالصحيح سواء قلنا انها اسام لما يكون مؤثراً في الاحكام الوضعية الخاصة تكوينياً من جهة عدّها في المقولات الواقعية كما ذكره بعضهم او قلنا انها اسام لماهيات اعتبارية كما هو المختار.

وكيف كان فالمستكشف على الاول عدم تخطئة نظر العرف وفي الثاني امضاء المتمم التطبيقي العرفي. وعلى كل تقدير فليس هذا من قبيل الاطلاق اللفظي اذ ليس في المقام ماهية مشتركة نحرز صدقها على الواجد للخصوصية والفاقد لها.

ومنها: الموارد التي يكون الموضوع او المتعلق فيها ماهية لا يمكن تقييدها بالخصوصية المشكوكة دخالتها في الغرض كقصد القربة – بناءاً على عدم امكان تقييد العبادة بها الا بمتم جعل يفيد الجزئية والشرطية – كما ذكره المحقق النائيني قدس سره وحينئذ فاذا لم يرد من الشارع متمم جعل يفيدهما نحكم بعدم دخالة القيد المذكور في المأمور به وهذا ايضاً ليس تمسكاً بإطلاق لفظي فانه يتقوم بإمكان تقييد الماهية – موضوع الحكم او متعلقه – بالقيد المشكوك دخالته بحيث تنقسم الماهية الى واجدة له وفاقدة له.

وبعد ان تبين الفرق بين الاطلاقين نقول: ان مورد الكلام في ما نحن فيه هو الاطلاق اللفظي والمدعى هو عدم امكان التمسك به على القول بالصحيح وامكانه على القول بالأعم.

ولا بد من دراسة هذه الدعوى:

اما على القول بالصحيح فلا اشكال في عدم امكان التمسك بالإطلاق اللفظي على جميع المسالك وذلك لان الشك في دخالة كل امر في موضوع الحكم او متعلقه يساوق الشك في دخالته في نفس الماهية التي جعلت موضوعاً او متعلقاً للحكم وقد ذكرنا ان الشرط الاساسي في التمسك بالإطلاق اللفظي هو ان تكون الماهية المشتركة بين الواجد للقيد والفاقد له محفوظة على كل تقدير ويكون الشك في اعتبار امر زائد عليها حتى يتسنى لنا التمسك بأصالة التطابق بين المراد الاستعمالي او التفهيمي والمراد الجدي وحيث ان الشك في دخالة القيد شك في اصل الماهية لا يمكن التمسك بالإطلاق.

والترديد بين المراد الاستعمالي والمراد التفهيمي في العبارة انما هو من اجل تعميمها على جميع المسالك فعلى القول المشهور من استعمال اللفظ في المعنى الصحيح فأصالة التطابق المنفية في المقام انما تلاحظ بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي. وعلى القول بان استعمالات الشارع كلها مجازية مع تفسير المجاز بانه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي مع تطبيقه على امر آخر فالمقيس الى المراد الجدي ليس هو المراد الاستعمالي على المختار لانه نفس المعنى الحقيقي بل المقيس هو المراد التفهيمي.

ويلاحظ ان التعبير بالمراد التفهيمي كثيرا ما يرد في كلامهم ويقصد به المراد الاستعمالي وهو على وفق مصطلح اخر كما سبق بيانه في مبحث الدلالة الاستعمالية في قبال الدلالة الاخطارية.

واما على القول بالأعم فلا بد من ملاحظة المسالك كلاً على حدة:

فان قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية او ان استعمال الشارع مجازي فالمراد الاستعمالي او التفهيمي هو الجامع الأعمي اما خصوص الاركان او معظم الاجزاء على القولين وحينئذ فلا مانع من التمسك بالإطلاق اللفظي إذا شككنا في اعتبار امر زائد على ذلك الجامع لان المفروض ان الشك في قيد زائد على الماهية المأخوذة موضوعاً او متعلقاً فمرجع الشك الى ان الماهية تمام الموضوع ام لا.

وان قلنا بمسلك الباقلاني فتصوير الوضع للأعم يتم كما ذكرنا بافتراض ان القرينة العامة الموجبة للحكم بان مراد الشارع هو المعنى اللغوي مع مجموعة من القيود هي عبارة عن الاركان او معظم الاجزاء على القولين بنحو تعدد الدال والمدلول. وحينئذ فيقع الكلام في أن المعتبر موضوعاً او متعلقاً للحكم اي المراد الجدي هل هو خصوص هذا المراد التفهيمي ام أن هناك قيداً زائداً معتبراً فيه لم تنبئ عنه القرينة العامة فالتمسك بالإطلاق لا مانع منه.

وان قلنا – كما هو المختار – بان الموضوع له في بعض الموارد كالصلاة والزكاة _ على احتمال _ هو الماهية الاعتبارية وان اللفظ مستعمل فيها وان الشارع طبقها على مركبات اعتبارية مختلفة فتصوير القول بالأعم يتم بافتراض ان تكون المتممات التطبيقية قد طبقت هذه الماهية في الصلوات اليومية على خصوص الاركان او معظم الاجزاء وفي صلاة الميت على خمس تكبيرات او أربع على اختلاف الموارد وفي صلاة المطاردة على تكبيرات بعدد الركعات وهكذا.

والتمسك بالإطلاق اللفظي لمنع اعتبار قيد مشكوك لا يصح على هذا القول وذلك لان اللفظ لم يستعمل الا في نفس الماهية الاعتبارية. ومتعلق الامر هو هذه المركبات الخارجية. والوسيط في اسراء الامر المتعلق بالماهية الى هذه المركبات هو متمم الجعل. فالجامع وهو الاركان او معظم الاجزاء ليس مراداً بالإرادة الاستعمالية لان المستعمل فيه هو نفس الماهية الخضوعية ولا بالإرادة التفهيمية اذ لا يمكن ان يقصد بهذا اللفظ تفهيم هذه الانواع المختلفة التي تنطبق عليها ماهية الصلاة.

واما الاطلاق المقامي فيما إذا كان هناك أحد متممات الجعل التطبيقية في مقام بيان كل ما هو معتبر في المأمور به كصحيحة حماد بالنسبة الى الصلاة اليومية فلا مانع منه الا ان افتراض كون متمم الجعل التطبيقي في مقام بيان جميع القيود والاجزاء المعتبرة فرض غير واقعي لما سيأتي من ان متمم الجعل انما هو في مقام بيان ترتب بعض الآثار على الهيكل الخارجي للعمل المركب.

ومما ذكرناه يتبين الفرق بين التطبيق الذي ندعيه في الماهيات الاعتبارية والتطبيق الذي نقوله في المجاز على القول بمجازية استعمالات الشارع وذلك لان المراد التفهيمي هناك امر واحد جامع بين انحاء الصلاة الصحيحة والفاسدة ولا يمكن تفهيم هذه المفاهيم المتعددة التي تقع مورداً للتطبيقات المختلفة بلفظ واحد.

الثمرة الثالثة: ان الفاظ العبادات كما تقع متعلقات للأحكام كذلك تقع موضوعات لها. وحينئذ تظهر نتيجة القولين في سعة الموضوع وضيقه فان قلنا بالوضع للصحيح كان موضوع الحكم خصوص العبادة الصحيحة وان قلنا بالأعم كان موضوعه اوسع. ولهذه الثمرة موارد كثيرة:

منها: ان صلاة الرجل محاذياً لصلاة المرأة او متأخراً عنها من دون الفصل بالمقدار المعين او وضع الحائل باطلة او يكره ذلك وكذلك العكس. وحينئذ يقع الكلام في ان الحكم هل يختص بالصلاة الصحيحة ام يعم الفاسدة فاذا كانت صلاة المرأة فاسدة لفقدان شرط مثلاً فهل تصح صلاة الرجل خلفها او لا تكره ام الحكم عام؟

ومنها: استحباب الصلاة في مسجد لا يصلي فيه اهله فان كان معموراً بالصلاة الا ان اهله لا يهتمون بأحد شرائط الصحة فهل يحكم انه مسجد لا يصلي فيه اهله ويشمله الحكم ام لا؟

ومنها: استحباب تفطير الصائم. واستحباب زيارة الحاج وهكذا...

الظاهر ان ترتيب هذه الثمرة لا مانع منه.

الا انه قد يناقش في ذلك بانّ الصحة التي تحتمل دخالتها في مثل هذه الامثلة مغايرة للصحة التي تحتمل دخالتها في المسمى فالصحة هنا بمعنى انطباق المأمور به على المأتي به والصحة في مرحلة المسمى بمعنى التمامية في الاجزاء والشرائط.

وبينهما فرق كبير وذلك لان الصحة بمعنى الانطباق منتزعة من الصلاة الموجودة في الخارج وهذا المعنى لا يمكن دخالتها في المسمى لأنها من شؤون الوجود فالعمل الموجود خارجاً اما ان ينطبق عليه المأمور به ام لا ومن المعلوم ان الوجود وشؤونه خارج عن حقيقة الشيء والا لزم التجريد حين الاستعمال.

كما ان مرحلة تعلق الاحكام ايضاً لا يمكن ان يعتبر فيها الوجود فالأحكام متعلقة بنفس الماهيات لا الماهيات الموجودة والا لزم طلب تحصيل الحاصل او التجريد حين الاستعمال.

والجواب ان أصل المبنى صحيح فالأحكام متعلقة بنفس الماهيات لا الماهيات الموجودة والمسميات ايضاً لم يؤخذ فيها الوجود الا ان ذلك لا ينافي ترتب هذه الثمرة.

توضيح ذلك ان المفروض في المقام ان هذه العناوين قد اخذت موضوعات للأحكام وقيد الوجود انما لحقها من هذه الحيثية فكما ان متعلقات الاحكام لا بد ان تكون نفس الماهية لا الماهية الموجودة كذلك لا بد من ان تكون موضوعات الاحكام مفروضة الوجود فاذا قلنا المستطيع يجب عليه الحج كان معناه ان من وجد وكان مستطيعاً يجب عليه الحج فموضوع الحكم انما يكون موضوعاً له بالحمل الشايع إذا وجد في الخارج.

وعليه فاذا كانت الصلاة موضوعة لحرمة المحاذاة او كراهتها كان لا بد من فرض وجودها ليترتب عليها الحكم فان قلنا ان الموضوع له لفظ الصلاة هو الصلاة الصحيحة اي ما تتم فيها الاجزاء او الشرائط فالموضوع هنا هو الصلاة التي توجد في الخارج وتنطبق عليها المأمور به وهذا المعنى من الصحة لم يعتبر الا من جهة كون الصلاة موضوعاً للحكم وان قلنا بالأعم لم يتقيد بانطباق المأمور به الا ان الموضوع ايضاً مفروض الوجود.

فتحصل ان هذا المبحث لا يخلو من نتائج فقهية واما القول بان هذه النتائج لا تصحح جعله من المباحث الاصولية لاعتبار كونه من مقدمات القياس الفقهي بلا واسطة فقد مر الجواب عنه في المدخل وقلنا ان كل مسألة تؤثر في الاستنباط الفقهي ولم يبحث عنها مفصلاً في علم آخر فلا بد من البحث عنها في الاصول.

الجهة الخامسة: في ادلة القولين.

والمتعارف في هذا المقام كغيره من المباحث هو التطرق لأدلة كل من القولين ثم مناقشتها. ولكننا نتبع طريقة اخرى وذلك من جهة ان الادلة مشتركة بينهما الا ان كلاً من الفريقين يستدل بها لإثبات نظريته اذن فالأولى استعراض الادلة واحداً واحداً وملاحظة ما يمكن ان يستنتج منها. ولا داعي لتكرار الادلة مرتين. والادلة عبارة عن علائم الحقيقة والمجاز من التبادر و صحة السلب ثم عادة المخترعين وما يقتضيه حكمه الوضع ثم الادلة الشرعية الخاصة وما يستخلص منها.

النوع الاول: التبادر وصحة السلب والكلام في مقامين:

المقام الاول في ما هو الكاشف وطريقة الاستكشاف ونوع المستكشف على كل من المسالك فان نوع الكاشف وان كان هو التبادر وصحة السلب الا ان هناك فرقاً في صياغته حسب اختلاف الاقوال.

فان قلنا بالحقيقة الشرعية فالمدعي وضع الالفاظ للصحيح يدعي تبادر الجامع الصحيحي منها وكذلك الأعمي يدعي تبادر الجامع الأعمي منها في زمان ملاحظة اللفظ وما يتبادر منه.

وهذا المقدار لا يفيد في ثبوت الحقيقة الشرعية فيضاف اليه الاستصحاب القهقرائي واصالة عدم النقل كما قيل. وقد مرت المناقشة فيه في مبحث علائم الحقيقة والمجاز.

والصحيح أن تضاف اليه الشواهد التي تدل على عدم تطور معنى اللفظ من زمان الشارع الى زماننا ولو بملاحظة اننا باعتبار كثرة مزاولتنا للآثار الشرعية والخوض في معاني الآيات والروايات الكريمة كأننا نعيش ذلك المجتمع الذي وردت فيه استعمالات الشارع وان تأخر عهدنا فانطباعاتنا عن الفاظ الشارع هي انطباعات مجتمعه لا انطباعات مجتمعنا الحالي.

وان قلنا بثبوت الحقيقة المتشرعية وان الاستعمالات الشرعية كلها مبتنية على التجوز الا انها مجازات مشهورة. والمجاز المشهور بحكم الحقيقة في حمل اللفظ عليه ما لم تقم قرينة على الخلاف فالكاشف حينئذ هو التبادر في عهدنا ايضاً الا اننا نعلم عدم تحقق العلقة الوضعية في عهد الشارع فلا بد من اضافة امر آخر لإثبات كون المعنى مجازاً مشهوراً في عهد الشارع وهو دعوى ان هذا الوضع التعيني انما هو تطور في المعنى تبعاً لاستعمالات الشارع فالوضع وان حصل في عهود المتشرعة الا ان استعمالات المتشرعة تابعة لاستعمالات الشارع والمرحلة المسبقة على مرحلة حصول الوضع التعيني هو مرحلة المجاز المشهور فلا محيص من الالتزام بتحققه في عهد الشارع المقدس.

وان قلنا بوضع الالفاظ للماهية الاعتبارية –  كما هو المختار –  فالكاشف هنا يختلف عن الكاشف على القولين الاولين وذلك لان وضع اللفظ للماهية الاعتبارية لغة واضح فيطلق لفظ الصلاة على صلاة المسلمين واليهود والنصارى والمستعمل فيه في جميع ذلك هو الماهية الخضوعية الا ان الكلام فيما ينطبق عليه اللفظ وانه هل هو خصوص الصحيح او الاعم منه ومن الفاسد وهذا غير مدلول اللفظ ومفهومه وحينئذ نلاحظ ان المنساق من التطبيقات هل هو خصوص الصحيحة او الاعم وحيث يختلط في الذهن المفهوم بالمصداق نتخيل انه تبادر من حاق اللفظ غفلة عن الوسيط وهو متمم الجعل التطبيقي وبملاحظة سعة التطبيق وضيقه في عهدنا اي شموله للفاسد وعدمه نحكم بان تطبيق الشارع المقدس كان على هذا الغرار ايضاً بدعوى ان تطبيقاتنا امتداد لتطبيقات الشارع .

اذن فنوع الكاشف وان كان هو التبادر وصحة السلب الا انهما ليسا نابعين من حاق اللفظ ولا يستعملان لإثبات الموضوع له بل ينبعان من متمم الجعل ويثبتان المنطبق عليه فاختلف الكاشف والمنكشف.

المقام الثاني: في تعيين ما يكشفه التبادر و صحة السلب. ومن الطريف ان كلاً من الفريقين يدعي التبادر وصحة السلب لصالح مسلكه ولكن الظاهر من ملاحظة الاستعمالات هو تبادر المعنى الاعم فانا نجد من أنفسنا صحة إطلاق لفظ الصلاة على صلاة غير المؤمن وان اشترطنا الايمان في صحة العبادة ولا نجد في هذا الاطلاق عناية وتجوزاً. وكذلك في صلوات المؤمنين مع ان الغالب عدم تحقق جميع شرائط الصحة في صلواتهم.

واوضح من ذلك عدم صحة السلب عن صلاة من يخل ببعض الشرائط اجتهاداً او تقليداً خلافاً لمعتقدنا فان اخلاله عن عذر والمفروض بطلان الصلاة حسب رأينا ومع ذلك فمن البعيد جداً الالتزام بصحة سلب الصلاة عن عمله في الموارد التي يلتزم فيها بعدم الاجزاء واما في موارد الاجزاء فلا يمكن النقض به وسيأتي بيان الضابط له في المبحث المناسب ان شاء الله.  

النوع الثاني: ملاحظة دواعي الوضع (بالمعنى الاعم) وحكمته وإنها هل تقتضي الوضع للصحيح او للأعم؟

والكلام تارة على القول بالوضع وتارة على القول بمتمم الجعل التطبيقي.

اما على القول بالوضع فقد ادعى جماعة بأن حكمة الوضع تقتضي الوضع للصحيح التام الاجزاء والشرائط فان ذلك هو ديدن المخترعين للمركبات الخارجية. وذلك لوجهين:

الوجه الاول: ان عادة المخترعين انهم لا يلاحظون في وضع الاسماء لمخترعاتهم الا ما هو دخيل في تحقق ماهيته دون الامور الدخيلة في ترتب الاثر من جهات خارجة عن حقيقته فالأدوية مثلاً يتوقف تأثيرها على شروط خارجية من ملاحظة حال المريض ووقت الاستعمال وسبق الاكل او عدمه وعدم مقارنة ادوية اخرى لمنع بعض الاضرار او لتتميم التأثير وعدم وجود مرض يضره الدواء تفادياً للمضاعفات التي قد يسببها ومن الواضح ان هذه الشؤون لا تلاحظ في تسمية الدواء.

ولا اشكال ان الصلاة مشروطة بمثل ذلك فالمركب الخاص الصلاتي صحيح من مكلف دون آخر وفي حال دون حال وفي وقت دون وقت. وهذه الشؤون لا ربط لها بأصل المركب ولذلك اعتبرها بعضهم من شروط المصلي دون الصلاة. ومهما كان فلابد من الاعتراف بان قسماً من شرائط الصحة خارجة عن حقيقة الصلاة. ولذلك قسموا الشروط الى ما كان مركز الشرط فيه نفس الصلاة والى ما كان مركز الشرط فيه نفس المصلي والى ما كان مركزه فيه لباسه وهكذا...

هذا ولكن ملاحظة عادة المخترعين يجب ان تعد من القرائن على ان الشارع – على تقدير كونه واضعاً – قد لاحظ هذا الامر تبعاً للمعتاد وهذا امر لا دليل يوجب الاطمئنان به مع احتمال عدم ثبوت هذه العادة والرويّة في اختراع المركبات من مجموعة أفعال واختصاصها بما تركب من جهة امور عينية خارجية.

الوجه الثاني: ان المركبات الخارجية التي هي في معرض الخلل والنقصان لا بد من الالتزام بوضع اسمائها للأعم وذلك لان حكمة الوضع وهي الحاجة الى التفاهم تقتضي ملاحظة جميع الحالات التي لا بد فيها من التفاهم والتحدث عن شؤون ذلك المركب. فالسيارة مثلاً او الساعة او نحو ذلك من المركبات كثيراً ما تقع مورداً للعطب وتحتاج الى التصليح ولا شك ان هذه الموارد كلها بحاجة الى التفاهم.

وحينئذ فلو لم يكن الوضع للأعم فلا بد من الالتزام بان استعمال هذه الاسماء في جميع هذه الموارد على كثرتها استعمال مع العناية ولا بد من ضم القرينة وهذا مخالف لقانون انتخاب الاسهل فمقتضى هذا القانون هو اتباع طريقة تكون أقرب الى المقصود واقل تعقيداً ولا شك ان ذلك انما يتم بالوضع للأعم.

ولو فرض ان هناك جاعلاً خاصاً وانه قد وضع اللفظ لخصوص الصحيح وانه لا يرضى ابداً باستعماله في الفاسد فان ذلك لا يمنع من تحقق الوضع للأعم إذا اقتضت ذلك الحاجة الاجتماعية فقد ذكرنا في مبحث الوضع ان انتخاب الواضع الاول ليس الا مقدمة تمهيدية لحصول العلقة الوضعية وقلنا ان الوضع اللغوي وليد الحاجة الاجتماعية ووفقاً لقانون انتخاب الاسهل – كما قلنا – نجد ان الحاجة تدعو الى الوضع للأعم.

وهذا الامر يجري في الصلاة فانها معرض للخلل والفساد والشك والنقص ونحو ذلك وكل هذه الشؤون مورد للسؤال والجواب والتفاهم فلا بد من تجديد العلقة الوضعية بما يتناسب وحاجة المجتمع.

هذا مضافاً الى ان الصحيح من الصلاة عنوان قد تطور الى هذه الصورة التي نلتزم بها ولم تكن اجزاء الصلاة من بدو التشريع بهذا الحد والنظام الذي نجدهما الآن نعم كانت الصلاة مركبة من ركوع وسجود ولكن القراءة وحدودها والاذكار الخاصة كلها قد شرعت بالتدريج وقد ورد انه صلى الله عليه وآله وسلم امر حين نزول قوله تعالى (سبح باسم ربك الاعلى) بقوله اجعلوه في سجودكم وكذا في قوله تعالى (فسبح باسم ربك العظيم) بالنسبة الى الركوع.

وورد ايضاً ان الصلاة كانت ركعتين فأضاف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الركعات الاضافية في ما عدا الصبح الى غير ذلك من الشؤون الثابتة بالسنة عن طريق متممات الجعل المفيدة فائدة الشرطية والجزئية كما اشار اليه المحقق النائيني قدس سره و اوضحناه في محله. ومن هنا ثبت الفرق بين الفرائض والسنن كما في الروايات.

والحاصل ان صلاة المسلمين في بدو التشريع لا يمكن ان يحكم عليها بالبطلان وان البيان قد تأخر عن موضع الحاجة بل مصلحة التدرج في التشريع كانت السبب في تأخير التشريع اساساً. وهذه النقطة مما يؤيد فكرتنا في ان الصلاة ماهية اعتبارية يتم انطباقها بمتمم الجعل التطبيقي.

واما على القول بان اللفظ مستعمل في الماهية الاعتبارية كما ذكرنا فلا بد من ملاحظة متممات الجعل وانها هل تقتضي التطبيق على خصوص الصحيح او الاعم منه ومن الفاسد؟

والواقع ان المتمم التطبيقي على قسمين:

القسم الاول: ما يكون له دور الوسيط بين تعلق الامر بالماهية الاعتبارية وتعلقه بالمركبات الاعتبارية التي تنطبق عليها وقد سبق شرح ذلك. وهذا القسم يختص بالصحيح الواجد لجميع الاجزاء والشرائط وذلك لكي يتم اسراء الامر الى جميع تلك الاجزاء والشرائط ولا يتم ذلك الا بملاحظة انطباق الماهية على المركب الواجد لها جميعاً.

القسم الثاني: ما كان الاتيان به بدواع اخرى. كما ورد بداعي المقارنة بين الصلاة المشرعة في الدين الاسلامي والصلاة المشرعة في الاديان السابقة والصلاة التي كان يدين بها العرب الجاهلي التي عبر عنها القرآن بالمكاء والتصدية فمن ذلك ما ورد من ان الصلاة ثلاثة اثلاث ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود. وربما اشير الى ذلك فيما ورد من ان اليهود يحسدونكم على هذه الصلاة من حيث نظامها ومتانتها. وفي هذا القسم لا يتعرض متمم الجعل الا لجهة الامتياز عن تلك الشرائع والعبادات.

ومن هذا القسم ما يكون الاتيان به بداعي التنويع كما مر في صحيحة زرارة : ( فرض الله تعالى الصلاة وسن رسول الله عشرة اوجه ..)([68])  ففي هذا القسم لا يلاحظ الا الجهات المميزة بين الانواع المختلفة .

وهناك قسم آخر يلاحظ فيه التطبيق بلحاظ انحاء الخلل الواقع في الصلاة كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا صلاة الا بفاتحة الكتاب وغير ذلك من الاقسام التي تطبق فيها الماهية الاعتبارية على نحو تلاحظ مرآة للأنواع المختلفة وللحالات المختلفة فالتطبيق في جميع ذلك لا يلاحظ فيه جهة تمامية الاجزاء والشرائط بل كثيراً ما يطبق على الفاقد لبعضها كما ورد بشأن انحاء الخلل الواقع في الصلاة. وعليه فمقتضى هذا القسم هو الاذعان بأن التطبيق واقع على الفاسد ايضاً.

النوع الثالث: البحث عن الادلة الشرعية وملاحظة ما تقتضيه من التأييد لكل من القولين وقد استدل كل من الفريقين ببعض الآيات والروايات لتأييد مذهبه.

اما ما استدل به للصحيح فهو على قسمين:

القسم الاول: الادلة الدالة على انتفاء الطبيعة عند انتفاء بعض الآثار وذلك مثل قوله تعالى: ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.  ورواية: (الصلاة قربان كل تقي) و (الصوم جنة من النار) ونحو ذلك.

وتقريب دلالتها ان ظاهر هذه الادلة ترتب هذه الآثار على كل فرد من افراد الطبيعة فمفاد الآية مثلاً: كل صلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر. وهذه القضية بعكس نقيضها تستلزم نفي العنوان عما لا تنهى عنهما وذلك لصدق قولنا: (كل ما لا تنهى عن الفحشاء والمنكر ليس بصلاة) ومن المعلوم ان الصلاة الفاسدة لا تنهى عنهما وان الصوم الفاسد ليس جنة من النار وهكذا فينتفي عن الفاسد أصل الطبيعة.

ولدراسة هذا الدليل نلاحظه بنظرة اجمالية ونظرة تفصيلية.

اما في النظرة الاجمالية فهناك نقطتان تشكلان الفجوة في الدليل.

النقطة الاولى: ان عكس النقيض لازم لصدق القضية كما قرر في المنطق الا ان أصل القضية بالوجه الذي يفيد عكس نقيضها اي بصورة عام استغراقي ليس امراً معلوماً بالوجدان وانما نثبت العموم لها بمعونة اصالة العموم وحينئذ فيتوقف الدليل على كون اصالة العموم مثبتاً للازمه العقلي وهو في المقام عكس النقيض.

وربما يقال ان الاصول اللفظية كاصالتي العموم والاطلاق حجة في لوازمها.

ولكن الصحيح كما هو المتسالم عليه بين الاعلام عدم حجيتها وقد تعرضوا لهذه المسألة في مبحث خاص عنوانه: إذا دار الامر بين التخصيص والتخصص فهل يحكم بالتخصص بأصالة العموم لإثبات اللازم ام لا بل يحكم بالتخصيص؟ وقد تسالموا على ان الحكم هو التخصيص.

بيان ذلك اجمالاً انه لو ورد الحكم بوجوب اكرام العلماء وعلمنا بخروج زيد العالم عن دائرة العموم لكونه فاسقاً مثلاً فمن الممكن القول بان زيداً محكوم بعدم كونه عالماً اصلاً فلا يترتب عليه سائر احكام العالم وذلك تمسكاً بعكس النقيض للقضية العامة اذ لو صدق قولنا كل عالم يجب اكرامه كان عكسه كل من لا يجب اكرامه ليس بعالم وينطبق ذلك على زيد في المثال ولكن الاعلام لا يذعنون بذلك نظراً الى ان عموم القضية الاصل انما ثبت بأصالة العموم وهي لا تثبت اللازم وهو العكس.

وعليه فلو ثبت بأصالة العموم في الآية المذكورة ان كل صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لم يجز الاخذ بعكسها والحكم بان كل ما لا تنهى ليس بصلاة.

النقطة الثانية: ان القضايا المتكلفة لبيان آثار الاعيان الخارجية او المركبات الاعتبارية او الافعال لها ظهور ثانوي في ان المراد بها بيان المقتضي دون العلة التامة. فلو قلنا النار محرقة والسيف قاطع كان مفادهما ان النار والسيف يقتضيان الاحراق والقطع لا انهما سببان فعليان لا يتخلف عنهما الاحراق والقطع بحال من الاحوال فليس لتأثيرهما شرط ولا عنه مانع. من الواضح انه ليس كذلك بل المفاد هو خصوص الاقتضاء.

 وعليه فلا يمكن القول بان الصلاة الفاسدة ليس لها الاثر المذكور وهو النهي عن الفحشاء والمنكر اذ من الممكن ان يكون الاثر لطبيعي الصلاة وان كان هناك مانع عن حدوثه او كان شرط له مفقوداً.

واما في النظرة التفصيلية فندرس كلاً من الآية و الحديثين من هذه الحيثية اجمالاً ويتبين وجهة البحث في غيرهما بالمقايسة.

اما في الآية الكريمة فالإشكال من جهتين:

الجهة الاولى: ان الذي يظهر بمراجعة التفاسير والكتب الادبية المخصصة للبحث عن مجازات القرآن كتلخيص البيان للسيد الرضي قدس سره هو ان هذا التعبير استعارة وان المراد به ان الصلاة باعتبار اشتمالها للخضوع للربّ وقصد التقرب اليه وما يحتويه الآيات القرآنية التي تتلى فيها من بشارات ونذر تحقق في النفس البشرية دوافع الخير و روادع الشر. وهذا الوجه لا يختص بالصلاة الصحيحة من جميع الجهات ولا ينافي كونها فاسدة من جهة استصحاب المصلي لأجزاء ما لا يؤكل لحمه مثلاً إذا لم يكن منافياً لقصد القربة كما لو كان عن جهل تقصيري غير معفو عنه فالصلاة حينئذ محكومة بالبطلان الا انها تؤثر في تحقيق تلك الحالة النفسية.

الجهة الثانية: ان الجملة المذكورة مسبوقة بقوله تعالى (وأقم الصلاة) والمراد به على ما في بعض التفاسير ادامة الصلاة فيظهر من ذلك ان هذا الاثر لا يترتب على جميع افراد الصلاة حتى تنعكس القضية بالنحو المذكور بل هو اثر لادامة الصلاة فحسب.

واما في حديث ( الصلاة قربان كل تقي )([69])  الوارد في كتب الخاصة والعامة فالكلام في ان الغرض منه هل هو بيان آثار الصلاة وان منها حصول التقرب الى الله تعالى فتنعكس القضية بالنحو المطلوب في الدليل ام ان الغرض منه بيان ان الاتقياء انما يختارون الصلاة للتقرب الى الله تعالى فالمراد الحث على انتخاب الصلاة من بين الاعمال المقربة اليه فهذا نظير الحديث الوارد في ان الصلاة خير موضوع من شاء استقل ومن شاء استكثر . والقربان في اللغة ما يتقرب به الى الله من الذبائح والنسك ونحوها.

واما حديث (الصوم جنة من النار) فهو ايضاً من الاستعارات. والمراد به – كما ذكره الشريف الرضي قدس سره في المجازات النبوية – بيان ان النار لا تؤثر في الصائم وهذا مع انه أثر لغالب العبادات والمقربات الى الله الا ان اختصاصه بالصوم لعله – كما ذكره الشريف – من جهة أبعديته عن الرياء لكونه عملاً سلبياً لا يتبين منه أثر خارجي غالباً.

وعليه فهذا الاثر لا يدور مدار الصحة الشرعية فلو أصبح الصائم جنباً وكان معتقداً عدم مفطريته اجتهاداً او تقليداً فصومه باطل مع انه خال عن الرياء ويترتب عليه ذلك الاثر نعم بما ان الاصباح جنباً ثبت مفطريته بالسنة فنحن لا نقول ببطلان صومه إذا كان معذوراً في الجاهل القاصر بمقتضى قاعدة (لا تنقض السنة الفريضة) الا ان الكلام على مسلك القوم مع ان من الممكن التمثيل بما يعد من الفرائض كالأكل والشرب إذا كان الاشتباه في بعض الخصوصيات.

فان قيل: ان الحكم بان الصوم الباطل إذا كان واجداً لقصد القربة وبعيداً عن الرياء يعد جنة من النار امر بعيد عن مرتكز المتشرعة.

قلنا: ان هذا الارتكاز غير واضح لكثرة الاختلاف بين الفقهاء في الشؤون الدخيلة في صحة الصوم الامر الذي يستوجب بطلان صوم كثير من المؤمنين بل من الفقهاء والاعلام حسب نظرية القوم وان كان صحيحاً على مسلكنا لقاعدة (لا تنقض) ولكن المشهور عدم الاجزاء و وجوب القضاء إذا تبدل رأي الفقيه او تغير تقليد العامي. غاية الامر ان المكلف معذور في ترك صومه ومن الواضح ان الالتزام بان صوم هذا العدد الكبير من المؤمنين والصالحين ليس جنة من النار مع كمال قصد القربة مما يأباه بل يستنكره ارتكاز المتشرعة.

هذا مضافاً الى انه لو سلمنا الارتكاز المذكور فغاية الامر ان يكون ذلك من قبيل المخصص اللبّي. وهو على قسمين فتارة يكون المخصص اللبي من الوضوح بمكان لا يسمح بانعقاد الظهور في الاطلاق فهو كالمخصص المتصل وتارة ليس كذلك بل هو كالمخصص المنفصل يمنع عن حجية الظهور فعلى الاول يكون دلالة اللفظ على ارادة الصوم الصحيح من باب تعدد الدال والمدلول وعلى الثاني فالصوم ظاهر في العموم وانما تقلصت حجيته. وعلى كلا التقديرين فلا بد من الاعتراف بكون اللفظ بنفسه ظاهراً في العموم. 

القسم الثاني: ما ورد فيه نفي الطبيعة عند فقدان جزء او شرط نحو ما اشتهر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) وان لم ينقل ذلك بهذا اللفظ في كتبنا الحديثية الا في كتاب عوالي اللئالي مرسلاً. ونحو قوله (لا صلاة الا بطهور) و (لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة) واشباه ذلك.

ومرجع هذه التعابير الى دخالة كل من هذه الاجزاء و الشرائط في حقيقة العبادة ومن الواضح ان هذه الامور ليست من الاركان فيعم الحكم سائر الاجزاء و الشرائط. ومثل هذا التعبير يؤتى به لنفي الطبيعة لان (لا) الواردة فيه نافية للجنس وذلك اما مع العناية كقوله عليه السلام (لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد) او بدونها كالأمثلة المتقدمة.

والجواب عنه بوجهين:

الوجه الاول: ان هذا التعبير لا يؤدي الا بيان الجزئية والشرطية وتعيين حدود المأمور به الا ان ذلك على وجه التأكيد والمبالغة باعتبار كون الفاقد للجزء او الشرط امراً مغايراً لأصل الطبيعة فهو اعتبار ادبي ولا ربط له ببيان حقيقة المسمى.

الوجه الثاني: ان من الواضح فقهياً عدم انتفاء الطبيعة بانتفاء الفاتحة واقامة الصلب ونحوهما من الشرائط والاجزاء الثابتة بالسنة المقدسة فلا بد من ان يكون المراد دخالتها في الصلاة الكاملة وذلك ايضاً في خصوص بعض انواع الصلاة لصحة الصلاة بدون الفاتحة مثلاً اما اختياراً كصلاة الميت التي مر انها صلاة حقيقة بموجب صحيحة زرارة وكصلاة المطاردة وإمّا اضطراراً كما إذا تركها نسياناً او جهلاً قصورياً.

واما ما استدل به للقول بالأعم فقد مر قسم منه مع المناقشة فيه فيما كنا نقرر هذا القول بتصوير جامع له وهو الاركان ولا نعيد هذا القسم.

ونتعرض هنا لحديث آخر تكرر الاستدلال به في كتب القوم وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم لامرأة: (دعي الصلاة ايام اقرائك).

وتقريب الاستدلال ان النهي لا بد ان يتعلق بأمر ممكن وحيث ان الصلاة الصحيحة غير ممكن للحائض فلا بد ان يكون متعلقاً بالمعنى الاعم وعليه فقد استعمل الصلاة واراد به الاعم من الصحيحة والفاسدة.

وليست هذه الرواية بهذا الوجه في كتبنا الحديثية وان وردت في مرسلة يونس الطويلة عبارة قريبة منها ومهما كان ففيها ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الاول: ان يكون المراد نهياً تحريمياً. وعلى هذا الاحتمال يبتني الاستدلال كما مر ولكنه ليس متعيناً لما يأتي.

الاحتمال الثاني: ان يكون نهياً ارشادياً لا يراد به الردع حتى يتوقف على التمكن كما مر بل هو ارشاد الى عدم الامر لكون الصلاة معرضاً لتوهم بقاء الامر حينئذ فمفاد الحديث ان عدم الحيض من شرائط الامر بالصلاة وهذا غير الطهارة من حدث الحيض فانها شرط للصحة واما النقاء فهو شرط للأمر. وعلى هذا الاحتمال فلا يرتبط بما نحن فيه.

الاحتمال الثالث: ان يكون مجموع هذا التعبير كناية وارشاداً الى امر وضعي وهو الحكم بالحيض ايام العادة وذلك بان يعتبر حلول ايام العادة امارة للمرأة التي استمرت دمها او رأت الدم وشكت في كونه حيضاً وحينئذ فان حلّت ايام الاقراء اي العادة الشهرية تحكم بان الدم حيض.

نظير ذلك ما ورد في مرسلة يونس الطويلة. وفيها (ان امرأة يقال لها فاطمة بنت ابي حبيش استحاضت فاستمر بها الدم فاتت ام سلمة فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال تدع الصلاة قدر اقرائها او قدر حيضها.. (الى ان قال) قال ابو عبد الله عليه السلام هذه سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التي تعرف ايام اقرائها )([70]) ... الحديث . واما التعبير بترك الصلاة فهو كناية عن اعتبار الدم حيضاً لكونه اوضح احكام الحيض. وعلى هذا الاحتمال لا ربط للحديث بما ذكر.

هذا مع ان مجرد الاستعمال لا يدل على كونه استعمالاً حقيقياً وقد اشتهر ان الاستعمال اعم من الحقيقة.

المقام الثاني: في اسماء المعاملات. والبحث عما تقتضيه القاعدة الاولية وانه هل يتعين بموجبها حملها على الصحيح او الاعم؟

والذي نتعرض له هنا امران:

الامر الاول: في تصوير جريان هذا البحث فيها وأنها تحتمل كلا الامرين في قبال من يدعي عدم جريانه فيها مطلقاً او بناءاً على القول بكونها موضوعة للمسببات. وفي خلال هذا الامر يتضح السرّ في الترديد الواقع في كلماتهم من انها موضوعة للأسباب او المسببات كما يتضح موقفنا من ذلك.

الامر الثاني: في نتيجة البحث المذكور وهو صحة الاخذ بالإطلاق اللفظي لنفي دخالة ما يحتمل شرطيته شرعاً ويتبين من خلاله تقريب الاخذ بالإطلاق المقامي على تقدير عدم صحة الاخذ بالإطلاق اللفظي.

فالكلام يقع في مقامين:

المقام الاول في تصوير النزاع والكلام تارة على القول بوضعها للأسباب واخرى على القول بوضعها للمسببات. فالبحث في موضعين:

اما في الموضع الاول أعنى تصوير النزاع على القول بوضع اسماء المعاملات للأسباب فيمكن ان يقرر القول بعدم جريان البحث فيها كالتالي:

ان من الواضح انه لا بد من الالتزام بانها موضوعة للأعم مما يكون واجداً للشرائط الشرعية فان المراد بالأسباب هي تنشأ بها المعاملة في كل عقد او ايقاع بلا فرق بين ان يكون ذلك صيغة خاصة يتلفظ بها بقصد الانشاء او يكتب بهذا القصد او يكون عملاً خارجياً يقصد به الانشاء ايضاً وهو المعبر عنه بالمعاطاة. فلا يحتمل في المعاملات الالتزام بوضعها للصحيح بخلاف العبادات التي تحتمل ذلك.

والفارق بينهما هو ان العبادات امور جعلت لتنظيم علاقة الانسان بخالقه وتلقاها البشر عن طريق الانبياء عليهم السلام اصولاً و فروعاً ومادةً ونظاماً فكانت حريّة بان يقال: ان الفاظها خصّصت للدلالة على المركب الواجد لجميع الاجزاء والشرائط. واما المعاملات فهي امور انشأها البشر بطبيعته التي تسوقه الى الحضارة والمدنية فكان لزاماً عليه ان ينظم علاقاته الاجتماعية اي علاقة البشر مع ابناء جنسه.

اذن فهي حصيلة الحياة الاجتماعية ومعاصرة لها منذ تحققت بين البشر علاقات وارتباطات ولهذا السبب بالذات تزيد تنوعاً برقي المجتمع وربما تحدث فيه انواع جديدة من المعاملات الا ان اصولها عريقة في التاريخ البشري. والمعاملات المدروسة في الفقه الاسلامي غالباً ما يكون لها سبق تاريخي في الشكل والمضمون. والعرب قبل الاسلام – كغيرهم من الشعوب – كانوا يستعملون هذه المعاملات للوصول الى مآربهم وكانوا يسمونها بنفس هذه الاسماء التي نسميها بها الآن. ومن الواضح انه لم يطرأ تغير جذري على هذه المعاملات في الشريعة الاسلامية.

نعم لا اشكال في ان الشريعة لم تنفذها بصورة مطلقة بل في خصوص ما إذا كانت واجدة لشرائط خاصة. ومركز هذه الشروط تارة نفس ما ينشأ به المعاملة كالصيغة واخرى من يتولى انشاءها وثالثة ما تقع عليه المعاملة حسب اختلاف المصالح والمفاسد.

وعلى هذا الاساس حكم ببطلان بعض العقود كربا النسيئة والفضل والبيع الغرري وبيع ما لا يملك ونكاح الشغار ونحوها ولكن التحديدات الشرعية لا تتجاوز كونها قيوداً للتنفيذ ولا يمكن ان يلتزم بانها قد احدثت تغيراً جوهرياً في ما وضعت له اسماء المعاملات فلا مجال لاحتمال حدوث اوضاع جديدة كما لا مجال لاحتمال ان ما وضعت له هذه الاسماء في اللغة العربية قبل الاسلام هي خصوص ما تكون صحيحة وفقاً لشروط الشريعة الاسلامية.

اذن فالموضوع له هذه الالفاظ لا يتقيد بكونه واجداً للشرائط الشرعية.

ويمكن ان يدفع هذا التقرير بوجهين:

الوجه الاول: ان البحث ليس في ما وضعت له هذه الاسماء في اللغة العربية وابداء احتمال انها موضوعة لصيغ العقود والايقاعات المتداولة إذا كانت واجدة للشرائط الشرعية حتى يستغرب ذلك بعد وضوح انها غير مأخوذة في المسميات قبل الشرع وعدم طروّ وضع جديد بعده. بل للبحث اساس آخر يبتني على مقدمتين:

المقدمة الاولى: ان اسماء العقود والايقاعات – في اي مجتمع كانت – ليست موضوعة الا للعقد والايقاع المؤثرين لبعض الآثار المرغوب فيها على اختلافها حسب الموارد كإيجاد علقة كالزوجية والملكية او انتفائها كالانعتاق والبينونة. ولا يمكن ان يدعى انها موضوعة للصيغ الخاصة حتى لو لم تكن مؤثرة للأثر المرغوب فيه فان إطلاق هذه الاسامي عليها حينئذ ليس الا بعناية من جهة التوافق الشكلي.

المقدمة الثانية: ان هذه الآثار من الامور الواقعية التي تختلف فيها الانظار وليست من الامور الاعتبارية التي تختلف باختلاف الانظار والاعتبارات. والعلم بها كالعلم بسائر الامور الواقعية انفعالي لا فعلي. وعلى هذا يمكن الاختلاف فيها وجوداً وعدماً كاختلاف الناس في سائر الامور الواقعية الناشئ من عدم إدراك بعضهم لها فنرى تنازعهم في ان هذه الدار – مثلاً – لزيد او لعمرو او ان هذه العين مرهونة ام لا ونحو ذلك فباب التخطئة والتصويب مفتوح في الآثار المرغوبة للمعاملات.

وعلى اساس هاتين المقدمتين يمكن ان يقال – بناءاً على ان مقتضى القاعدة الاولية حمل هذه الالفاظ على الصحيح – ان الاختلاف بين الشرع والعرف في التأثير يولّد اختلافاً مصداقياً لتحقق المسمى من دون ان يكون نزاعاً في نفس المسمى بهذه الاسامي.

ولعل صاحب الكفاية قدس سره اشار الى هذا التقريب بقوله (لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة ايضاً وان الموضوع له هو العقد المؤثر لأثر كذا شرعاً وعرفاً والاختلاف بين الشرع والعرف فيما يعتبر في تأثير العقد لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى بل الاختلاف في المحققات و المصاديق وتخطئة الشرع العرف في تخيل كون العقد – بدون ما اعتبره في تأثيره – محققاً لما هو الاثر ).([71])

وحاصل الكلام ان الموضوع له في أصل اللغة هو الصحيح اي المؤثر الاثر المطلوب ولا يتوقف القول بالوضع للصحيح على ان يكون الموضوع له عند العرب قبل الاسلام هو الجامع لشرائط الصحة شرعاً فان الشارع لم يبدل مفهوم البيع وانما منع انطباقه على البيع الغرري وبيع الصبي مثلاً فالاختلاف في تعيين المصداق ولكي نتمكن من تقييم هذا الجواب لا بد من ملاحظة انحاء الاختلاف في المصاديق وما يمكن أن ينطبق على ما ادعاه المحقق الخراساني فالاختلاف المصداقي (بالمعنى الاعم) له خمسة موارد:

المورد الاول: الامور التكوينية الثابتة (غير النسبية) والاختلاف يحصل فيها باختلاف الانظار كاختلاف الاطباء – مثلاً – في تشخيص مرض معين.

المورد الثاني: الامور التكوينية النسبية كاختلاف الملل والشعوب في التأثر بأنحاء الاصوات والالحان فيعد اللحن الواحد عند بعض المجتمعات حسناً وعند بعض آخر قبيحاً نتيجة لاختلاف البيئة.

المورد الثالث: الماهيات الاعتبارية. وقد مر الكلام في ان انطباقها ليس قهرياً بل يتوقف على متمم الجعل التطبيقي وهنا تختلف الاعتبارات القانونية او العرفية في تطبيقها فقد يكون الحيوان المذبوح بشرائط خاصة مذكّـىً عند قوم وميتة عند آخرين ومن هذا القسم اختلاف العادات فيما تتحقق به التحية او يتحقق به التعظيم وربما تأثر بعض الشعوب بحضارات الآخرين فاتخذوا نفس العادات كما نجد ان القيام عند حضور أحد أصبح مصداقاً للتعظيم لدى كثير من المجتمعات مع انه كان في الاصل عادة فارسية.

المورد الرابع: الحكومة على وجه التضييق كما لو صدر النص الشرعي ان العالم غير العامل ليس بعالم. ومرجع هذا التضييق الى نفي الحكم (وهو الاكرام) بلسان نفي الموضوع نظراً الى ان نفي الحكم ابتداءاً مع بقاء الموضوع يصطدم بالشعور العام لدى الناس باحترام العالم و وجوب اكرامه.

المورد الخامس: الورود التضييقي كما لو حكم الشارع بان خبر الثقة – مثلاً – ليس حجة وبياناً مع ان العقلاء يقولون بحجيته – كما قيل – ومرجع هذا التضييق الى ان خبر الثقة عند العقلاء بيان بشرط عدم اعتبار معاكس من الشارع وبالاعتبار الشرعي المعاكس ينتفي كونه بياناً والانتفاء تكويني وان كان بسبب اعتبار الشارع. وكذا شهادة العدلين حيث انها لا تعدّ بينة في مثل الزنا.

وبعد ملاحظة هذه الموارد لا بد من ملاحظة عبارة المحقق الخراساني وما يمكن ان يقصده من هذه الانحاء الخمسة. ولكي تتم عبارته نحتاج الى ضم مقدمة مطوية اليها تكون اساساً لدعواه والمقدمة أحد امرين:

الاول ان يكون مبنى كلامه هنا ما ذكره في مبحث الاحكام الوضعية من ان الملكية من المقولات الواقعية حيث دفع احتمال كون الملك من مقولة الجدة انه خلط بين معنيين للمشترك اللفظي وان الملك قد يقال للحالة الحاصلة من التعمم والتقمص ونحوهما وقد يقال لاختصاص شيء بشيء خاص والمعنى الثاني هو المقصود وهو من مقولة الاضافة وقال ان كون العالَم ملكاً للباري تعالى من باب الاضافة الاشراقية وكون شيء ملكاً لغيره من باب الاضافة المقولية.

اذن فالملكية وسائر الاعتبارات كالزوجية والحرية والرقية والقضاوة والولاية ونحو ذلك مما صرح به هناك امور واقعية ولكنها من الاعراض. وقد صرّح هناك بانها من الامور النسبية ايضاً.

فان كان هذا هو مبنى كلامه هنا كما تناسبه كلمات جماعة من الاعلام في ابحاث المكاسب فلا بد من تطبيق أحد الموردين الاولين عليه ولعل الانسب هو الثاني لتضمن كلامه كون الملكية من الامور النسبية.

وحينئذ فيرد عليه الاعتراض بان الاختلاف في الامور التكوينية ينشأ من عدم إدراك البعض للواقع فالتكوينيات تختلف فيها الانظار والاعتباريات تختلف باختلاف الانظار.

وبعبارة اخرى التكوينيات لها واقع محفوظ قد يعلم وقد لا يعلم واما الامور الاعتبارية فواقعيتها تتبع اعتبار المعتبر والبيع وغيره من الامور الانشائية لا تنشئ الا اموراً اعتبارية. فالبيع الغرري ان اعتبر في قانون مؤثراً في الملكية وفي قانون آخر غير مؤثر كان الاختلاف اختلافاً في واقع الاعتبار القانوني فهو يؤثر واقعاً حسب القانون الاول ولا يؤثر واقعاً حسب القانون الثاني لان واقعيته ليست الا مجرد اعتبار قانوني فليس هناك اختلاف مصداقي بهذا العنوان. والحاصل ان التخطئة والتصويب غير معقولين في الاعتباريات.

الثاني : ان يكون مبنى كلامه هو الاستمداد من الادلة الشرعية التي ورد فيها نفي طبيعة المعاملة عن الفاقد للشرائط وهي كثيرة جداً نحو : ( لا بيع الا في ملك ) و( لا عتق الا في ملك ) و( لا طلاق الا في عدة ) و( لا طلاق الا على طهر من غير جماع ) و( لا طلاق الا ببينة ) و( لا طلاق الا لمن اراد الطلاق ) و(لا يكون ظهار في يمين ولا في اضرار ولا في غضب ولا يكون ظهار الا في طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين ) و( لا يكون ظهار ولا ايلاء حتى يدخل بها ) و(لا يمين لولد مع والده ولا للمملوك مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها ) و( لا يمين في قطيعة ) وغير ذلك من الكثير الكثير . وقد استظهر قدس سره في مبحث العبادات من هذا التعبير نفي الطبيعة. فيمكن ان يكون ذلك اساساً لفكرته هنا لإيهام هذه الروايات التخطئة في المصداق العرفي.

فان كان هذا مبنى كلامه فيرد عليه الاعتراض بانه اما ان يكون من باب الاختلاف في متمم الجعل التطبيقي وهو مختص بالماهيات الاعتبارية وسيأتي ان المسببات منها ولكن الاسباب ليس الا ما ينشأ به الامر الاعتباري من الصيغة ونحوها. واما ان يكون من باب الحكومة التضييقية وقد بينا انها نفي للحكم واقعاً فالاختلاف حكمي لا موضوعي. واما ان يكون من باب الورود التضييقي وهو مختص بما إذا كان الموضوع ماهية مشروطة بعدم اعتبار معاكس والمعاملات العقلائية غير مشروطة بذلك.

الوجه الثاني: ان ما ذكر من أن هذه الالفاظ مستعملة في نفس هذه المفاهيم قبل الاسلام فلا يمكن ان يكون شروط الصحة مأخوذة في مسمياتها امر صحيح الا انه يقتضي نفي دخالة الشرائط الشرعية في المسمى فلا مانع من البحث في ان مسمياتها هل هو خصوص الصحيح عند العقلاء ام الاعم اي ما يشمل الفاقد للشرائط العقلائية. فعلى القول بالصحيح لو كان البيع – مثلاً – متعلقاً بما ليس له مالية – بناءاً على كونه شرطاً عقلائياً – فالمعاملة ليست بيعاً اساساً. وتظهر الثمرة في الاخذ بالإطلاق كما سيأتي.

ولكن هذا الوجه لا يغني عن شيء ولا يدفع الاشكال فان الشروط العقلائية تختلف حسب اختلاف المجتمعات فيعود الاشكال بلزوم التخطئة في المفاهيم الاعتبارية فلا بد من البحث عن شروط عقلائية عامة تتفق عليها جميع المجتمعات البشرية كاعتبار كون البيع مشتملاً على ثمن ومثل ذلك لا حاجة الى اعتباره شرطاً للصحة فان المتعاقدين لا يمكنهما انشاء البيع الجدي مع التوجه الى ان البيع بلا ثمن ليس بيعاً وانما هو هبة وذلك لانهما ايضاً من العقلاء فيعلمون مفهوم البيع وعدم انطباقه هنا.

واما ما اشتهر من ان مالية العوضين شرط في صحة البيع عند العقلاء فهو غير صحيح اذ الاساس فيه ما ورد في المصباح من ان البيع في الاصل مبادلة مال بمال وقد فسروا المال بمعنى ماله مالية اي قيمة سوقية وليس كذلك فالمال في اللغة هو الملك مضافاً الى ما في الاستناد الى كلامه من وجوه الوهن تعرضنا لها في مباحث المكاسب.

الموضع الثاني: في المسببات. وهي الامور الحاصلة بالإنشاء وقد اختلفت الكلمات في جريان النزاع فيها ومنشأ الخلاف ابهام المراد بالمسببات ففيها ثلاثة محتملات:

الاحتمال الاول: ان يكون المراد بها نفس ما ينشئه المتعاقدان او الموقع.

الاحتمال الثاني: ان يكون المراد بها الحكم القانوني سواء كان شرعياً ام عرفياً بمعنى الحكم بنفوذ البيع مثلاً وتحقق الملكية وهكذا في النكاح والزوجية ونحوهما.

الاحتمال الثالث: العنوان القانوني المنطبق على ما ينشئه المتعاقدان او الموقع فاذا انشئا البيع بشرائطه انطبق عليه العنوان القانوني للبيع وإذا أنشأ الطلاق بشرائطه انطبق عليه عنوان الطلاق القانوني وهكذا...

قيل: ان النزاع غير معقول على جميع التقادير لان هذه الامور من البسائط فيدور امرها بين الوجود والعدم ولا يتصور فيها الصحة والفساد.

اما على الاحتمال الاول فيمكن تصوير النزاع لان منشأ المتعاقدين وان كان امراً بسيطاً يدور امره بين الوجود والعدم الا ان فرض الصحة والفساد فيه بلحاظ كونه موضوعاً للحكم القانوني وذلك باعتبار ان الموضوع للحكم هو هذا المنشأ مع امور اخر تعتبر شرائط قانونية وحينئذ فان كان البيع اسماً لهذا المنشأ بلا لحاظ القيود القانونية للحكم كان الوضع للأعم وان كان اسماً له مع لحاظها كان موضوعاً للصحيح.

واما على الاحتمال الثاني فالنزاع لا وجه له الا انه احتمال ضعيف للغاية وذلك لان البيع والنكاح والطلاق ونحو ذلك ليست عبارة عن اعمال المقنن بل هي اعمال لنفس العاقد و الموقع فلا يقال ان الشارع هو الذي باع او طلق ونحو ذلك وليس هذا نظير الالقاء في النار حيث ان الاحراق فعل النار وينسب الى الملقي باعتبار كونه مسبباً بل العاقد هو الموجد للمسبب وانما القانون ينفذه. والحاصل ان الحكم القانوني لا يعقل ان يكون مسبباً عن فعل المتعاقدين.

واما الاحتمال الثالث فلا بد من توضيحه حيث انه هو الاحتمال الصحيح في المقام فنقول:

ان نسبة ماهية كل معاملة من بيع او نكاح او غيرهما الى انشاء المتعاقدين او الموقع نسبة العنوان الى المعنون ونسبة الحقيقة بالحمل الاولي الى الحقيقة بالحمل الشايع فكما ان الجزئي ليس جزئياً بالحمل الشايع بل هو كلي كذلك ماهية البيع ليس بيعاً بالحمل الشايع بل بالحمل الاولي والبيع بالحمل الشايع هو نفس الانشاء الخارجي كما ان الانسان بالحمل الشايع هو الفرد الخارجي.

وهذه المعاملات باسرها من بيع ونكاح وطلاق وخلع وابراء ونحوها ماهيات جعلية اعتبارية تخضع نفياً واثباتاً للقانون الشرعي او العرفي وتنطبق حسب تقرير القانون على الانشاء الجامع للشرائط القانونية.

ولا مانع من إطلاق السبب و المسبب في هذا المقام فهو نظير إطلاق علل القوام او المقدمات الداخلية على اجزاء المركب مع ان المركب ليس الا نفس الاجزاء فكأن ايجاد المصداق الاعتباري للبيع بالإنشاء مسبب لتحقق الماهية الاعتبارية مع انها ليست الا عنواناً لذلك المصداق فلا يتوهم ان إطلاق السبب والمسبب يتوقف على تغاير وجودي كما هو المعروف.

هذا ولا يبعد ان يكون ما ذكرناه هو مقصود الشهيد قدس سره في القواعد حيث قال:

(الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد الا الحج لوجوب المضي فيه).

فالمراد بالماهيات الجعلية الماهيات الاعتبارية في قبال الماهيات التكوينية التي لا تقبل الجعل وقد اشتهر ان الله لم يجعل المشمشة مشمشاً بل اوجدها. فواجدية الفرد للماهية في التكوينيات ليست معللة كما قال السبزواري (ذاتي فرد لم يكن معللاً) واما الماهيات الاعتبارية فانطباقها على الافراد خاضع للجعل القانوني وهو الذي عبرنا عنه بمتمم الجعل التطبيقي.

وتشهد لذلك الروايات الواردة في قاعدة الالزام وان لكل قوم نكاح نذكر منها الرواية التالية:

روى الكليني بسند معتبر عن عبد الله بن سنان قال : ( قذف رجل مجوسياً عند ابي عبد الله عليه السلام فقال : مه فقال الرجل : انه ينكح امّه واخته فقال ذاك عندهم نكاح في دينهم )([72]) وهناك روايات كثيرة تفيد هذا المعنى .

وهذا يشهد بان النكاح ماهية اعتبارية وان اختلاف الملل والنحل والاديان والانظمة انما هو في تطبيقها على المصاديق فالنكاح على المحارم يعد نكاحاً قانونياً لدى قوم ويعد سفاحاً عند آخرين.

ومن هنا نجد كتب القانون تشتمل على فصل خاص لبيان المواد المشتملة على شروط انطباق العقد او المعاملة كالبيع والاجارة مثلاً. وهذه المواد تعد عندنا متممات الجعل التطبيقية. وهنا تختلف القوانين واما المفهوم فواحد في الجميع.

واما قاعدة إلزام الآخرين فهي ايضاً قانون عقلائي يقضي باحترام الاديان والنظم التي يدين بها الآخرون وعليه يبتني النظام الاجتماعي الدولي اذ لا يمكن بدونه التعامل مع الآخرين.

وتشهد لما ذكرنا ايضاً الآيات والروايات التي تحرم بعض المعاملات. وتقريب هذا الاستشهاد كما يلي:

التحريم اساساً ليس الا المنع القانوني عن تحقق شيء ما في الخارج. وهذا يختلف من حيث المحتوى و المضمون باختلاف المتعلق. فاذا كان متعلق التحريم امراً يرغب اليه الانسان بطبيعته ويميل اليه لحوائجه توقف المنع على ايجاد الرادع النفسي وهو لا يحصل الا بالوعيد على العقاب وهنا يستبطن التحريم التكليفي الوعيد على الفعل.

وإذا كان متعلقه امراً متعلقاً لحكم ايجابي او ندبي فالمكلف انما يأتي به بداعي تفريغ الذمة او تحصيل الثواب فاذا اراد الشارع المنع عن تحققه في حالة خاصة او زمان خاص يكفيه ان يعلن عدم موافقته حينئذ للمأمور به ولا يحتاج الى جعل عقوبة على الفعل والشارع الحكيم يقتصر في انشاء الاحكام على ما يحقق اهدافه. وعليه فالتحريم في هذه الموارد لا يتضمن سوى بطلان العمل كالصلاة مثلاً.

وإذا كان متعلقه امراً اعتبارياً يرغب الانسان باعتراف السلطة و المجتمع به ودفاعهما عنه كالملكية والزوجية ونحوهما فيكفي في المنع اعلان الشارع او المقنن عدم تحققه في الصورة المفروضة فالتحريم هنا لا يتضمن سوى عدم تحقق الماهية القانونية.

اذن فاعلان الشارع عن طريق الآيات والروايات بتحريم بعض المعاملات اعلان في الواقع عن رفضه لتحقق الماهية الاعتبارية اذ لا يمكن ان يعترف بتحققها مع عدم ترتب آثارها. فلا يصح ان يقال ان تحريم الشارع لا يدل على عدم تحقق العنوان وانما يدل على عدم ترتب الآثار.

توضيح ذلك: انا ذكرنا في مبحث الاحكام الوضعية من مباحث الاستصحاب ان الاعتبارات القانونية على اربعة اقسام:

  1. الاحكام الجزائية كوجوب الاعادة او القضاء او الحكم بالقتل او الحد او التعزير او بيان العقوبات الأخروية.
  2. الاحكام التكليفية كالوجوب والحرمة.
  3. الاحكام الوضعية كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة.
  4. المعاملات والايقاعات.

وكل من المراتب المتأخرة بمنزلة الموضوع للمرتبة المتقدمة. فالبيع مثلاً موضوع للحكم بحصول الملكية وحصول الملكية موضوع لجواز التصرف وعدم جوازه من الغير الا بإذنه ونحو ذلك وعدم جواز التصرف موضوع للحكم بالعقوبة الأخروية او الضمان.

وهكذا الكلام في غير ذلك من العقود او الاحكام الوضعية او التكليفية. فالنجاسة مثلاً موضوع للحكم بوجوب الاجتناب. و وجوب الصلاة موضوع للحكم الجزائي الأخروي وهكذا.

والى هذا يرجع كلام الشيخ الانصاري قدس سره من ان الاحكام التكليفية كالمقوم بالنسبة للأحكام الوضعية.

ومن هنا يتبين ان جعل كل مرتبة متأخرة من المراتب السابقة بدون المرتبة المتقدمة على وجه يسانخه يعتبر عند العرف والعقلاء لغواً. فلا يصح جعل الحكم التكليفي من دون ترتب جزاء على مخالفته اذ لا يحصل منه البعث والزجر المطلوبان كما انه لا يصح جعل الحكم الوضعي من دون ترتب حكم تكليفي مسانخ له كالحكم بالنجاسة على شيء من دون الحكم بوجوب الاجتناب عنه في الاكل والشرب وحرمة استصحابه حال العبادة او في مراكزها و نحو ذلك مما يناسب الحكم بالنجاسة.

وكذا لا يصح الحكم بالزوجية للمرأة مع عدم الحكم بجواز استمتاع الزوج منها و وجوب النفقة عليه وحرمة استمتاع غيره منها ونحو ذلك مما تتقوم به الزوجية. وهذا ما نعبر عنه باستبطان الاحكام التكليفية للأحكام الجزائية واستبطان الاحكام الوضعية للتكليفية بنحو اللف و الاندماج.

وكذلك استبطان الماهيات الاعتبارية في المعاملات للأحكام الوضعية فلا يصح الحكم بصحة النكاح وعدم ترتب أثره وهو تحقق رابطة الزوجية بين الاثنين لتقوم ماهية النكاح بهذا الاثر فالحكم بتحقق النكاح وعدم تحقق الزوجية يعتبر تناقضاً في الجعل كما هو الحال في الحكم بالزوجية وعدم ترتب الاثر الشرعي او الحكم بالنجاسة وعدم وجوب الاجتناب.

والنتيجة انه لو حكم الشارع بإلغاء الاحكام الوضعية عند انشاء المتعاقدين للبيع او النكاح او غيرهما من العقود فهو ملازم لرفضه تحقق ماهية البيع والنكاح. فاذا ورد في النصوص: (لا طلاق الا بشاهدين عدلين) ونحو ذلك من التعبيرات التي مر بعضها كان معناه نفي حقيقة الطلاق ولكن في اعتبار الشارع اذ ليس للطلاق حقيقة وراء الاعتبار.

فان قيل: ان المتعاقدين ينشئان البيع حسب قصدهما واعتبارهما وان كان فاسداً لا ينطبق عليه الاعتبار القانوني. وحينئذ فلو كان عقدهما صحيحاً وكان معنى الصحة انطباق الاعتبار القانوني عليه كان معنى ذلك ان المقنن يعتبر ماهية البيع في مورد تحققه الطبيعي من جانب المتعاقدين ومما لا شك فيه ان الاعتبار يجب ان يكون مخالفاً للطبيعة اذ لا معنى لاعتبار الاسد الطبيعي اسداً. اذن فنفي الماهية في مثل قوله عليه السلام: (لا طلاق الا بشاهدين عدلين) يرجع الى الحكومة على وجه التضييق وبالتالي تحديد الحكم الشرعي.

قلنا: ان الاعتبار القانوني يزيد على ما يقصده وينشئه العاقد والموقع وليس معنى ذلك ان الاعتبار القانوني يرد على معاملة فاقدة له فيوسمه بطابع الاعتبار بل المراد ان الماهية مع الاعتبار القانوني امر زائد على اعتبار المتعاقدين بدون الطابع القانوني وذلك لان الماهية الاعتبارية القانونية تستبطن الاحكام الوضعية القانونية. وبذلك تصبح حقيقة اخرى تنطبق على اعتبار المتعاقدين مع استجماع الشرائط ولا تنطبق بدونها.

ونظير ذلك الطهارة و النجاسة. فقد يكون الشيء من الجانب التكويني طاهراً نظيفاً للغاية بل ربما يعتبر من هذه الجهة مطهراً كالكحول ومع ذلك فقد يعتبر – على بعض الآراء – نجساً شرعياً فالقذارة الاعتبارية هنا قد خالف التكوين. فلو اعتبرناه طاهراً شرعاً كان معنى هذه الطهارة امراً آخر وراء الطهارة التكوينية وذلك لتضمنه الاحكام التكليفية. كما ان القذر العرفي قد يعتبر طاهراً شرعاً فلو اعتبر نجساً كان امراً زائداً على النجاسة العرفية فلا مانع من هذا الاعتبار.

و بناءاً على هذا الاحتمال فتصوير مبحث الصحيح والاعم واضح لان البحث يقع – كما ذكرنا في العبادات – فيما تنطبق عليه الماهية الاعتبارية بموجب متممات الجعل التطبيقية. الا ان الانطباق هنا لا بد من ان يختص بالصحيح خلافاً لما ذكرناه في العبادات حيث فرقنا بين نحوي متمم الجعل وذلك لان الانطباق هنا – كما مر – انما هو بلحاظ ترتب الآثار وهي الاحكام الوضعية. فان المنطبق عليه هنا موضوع تمهيدي لتلك الاحكام فلا يمكن التطبيق في غير مورد جريانها.

الجهة الثانية: في ضابط الاخذ بالإطلاق. والبحث في مقامين:

المقام الاول: في امكان التمسك بالإطلاق اللفظي الذي سبق تفسيره وانه يتوقف على وجود ماهية مشتركة تجعل موضوعاً او متعلقاً للحكم من دون تقييد فيشك في احتمال دخالة قيد فيه ومع ضميمة مقدمات الاطلاق يتمسك بأصالة التطابق بين مقام الاثبات ومقام الثبوت ويحكم بان الماهية المشتركة بين واجد القيد وفاقده هو تمام الموضوع او المتعلق. وحيث ان البحث يختلف في المعاملات بمعنى الاسباب وفيها بمعنى المسببات فلا بد من تحقيق للفرق بين الامرين حسب مسلكنا:

المعاملة تبتدئ من عمل فردي ينشئه المتعاقدان مع قطع النظر عن مجتمعهما وما يفرضه عليهما القانون الاجتماعي او الرسمي بشأن معاملتهما فهي في الواقع تقنين خاص ومعاهدة شخصية وهذا هو الذي نعبر عنه بالسبب الا ان المتعاملين بما انهما من افراد المجتمع ويرغبان في التمتع بالحماية الاجتماعية والقانونية عن معاملتهما وترتيب الآثار عليها يتقيدان بمراعاة الشروط القانونية والاجتماعية.

فالنكاح الانشائي بين المتعاقدين ليس في ذاته الا معاهدة زوجية بين الشخصين الا انهما يرغبان بالطبع في اعتراف المجتمع والسلطة بزوجيتهما والدفاع عنها وترتيب الاثر عليها كما لو اتفق فيما بينهما نزاع في الحقوق الزوجية فان المحاكم القضائية لا تنظر في قضيتهما إذا لم يعترف القانون بأصل الرباط الزوجي ولذلك يتقيد الزوجان في مراعاة شروط النكاح القانونية وحينئذ ينطبق العنوان القانوني والماهية الاعتبارية الاجتماعية على ما انشئاه فيتحقق به المسبب في كلمات الاصوليين. وهذا هو الذي أشرنا اليه في اول الفصل بان نسبة هذه المسببات الى الاسباب نسبة العناوين الى المعنونات.

هذا وربما يكون الداعي الى مراعاة الشروط القانونية احترام القانون والشريعة. وربما يحصل لبعض الشروط تأثير نفسي خاص في المجتمع بحيث يتوقف تحقق القصد الجدي من المتعاملين على مراعاته لما يجدونه في أنفسهم من تقوم المعاملة به.

ثم ان انطباق الماهية الاعتبارية لا يتوقف على قصد التسبيب من المتعاملين فهي تنطبق إذا حصلت الشرائط ولا تنطبق بدونها سواء في الموضعين قصدهما وعدم قصدهما.

الاخذ بالإطلاق في الاسباب:

 

تبين بما ذكرناه ان القول الصحيح بناءاً على إطلاق المعاملة على الاسباب هو عدم التقيد بكونه مؤثراً في القانون فالموضوع له اعم من الصحيح و الفاسد و الاخذ بالإطلاق ممكن حينئذ لوجود الماهية المشتركة بين الافراد الصحيحة والفاسدة حتى لو كان فاسداً عند العرف.

واما على مسلك صاحب الكفاية قدس سره من الوضع للمؤثر في الملكية والزوجية ونحوهما مع اعتبار هذه الامور اموراً واقعية تكوينية فالتمسك بالإطلاق غير ممكن اذ كل ما شككنا في اعتبار قيد في السبب فقد شككنا في تأثيره في الملكية فلا نعلم تحقق عنوان الموضوع اذ لا ماهية مشتركة بين المؤثر وغير المؤثر. والاخذ بالإطلاق متوقف على انطباق الماهية المشتركة.

واما على المسلك الثالث من الوضع للصحيح عند العقلاء والعرف ففيه تفصيل:

وذلك لان الشك ان كان في اعتبار شرط عرفي زائد لم يمكن الاخذ بالإطلاق لعدم العلم بتحقق الموضوع وهو الصحيح العقلائي وان كان في اعتبار شرط شرعي أمكن ذلك لعدم تقوم الموضوع بالشروط الشرعية على هذا الفرض.

الاخذ بالإطلاق في المسببات:

 

ذكرنا ان الاحتمالات في المسببات ثلاثة:

الاحتمال الاول: مُنشأ المتعاقدين و اعتبارهما. ولكن المسبب بهذا المعنى لا ينفك عن السبب بالمعنى الاول للارتباط بين ما ينشأ وما ينشأ به على جميع المسالك في حقيقة الانشاء فان قلنا – كما هو المشهور – بان الانشاء ايجاد المعاني فلا يتصف كلمة بعت بالإنشاء الا مع وجود المسبب وهو تحقق المعاملة في اعتبار المتعاملين. وعليه فهما في حكم واحد وكما أمكن الاخذ بالإطلاق في السبب بالمعنى الاول يمكن هنا ايضاً لعدم الانفكاك بينهما.

وان قلنا ان حقيقة الانشاء ابراز امر نفسي ثابت في قرارة النفس – كما قيل – فالاستعمال الانشائي متوقف على وجود المبرز وهو المسبب بهذا المعنى فهما لا ينفكان ايضاً.

وان قلنا بان حقيقة الانشاء ايجاد المعنى بالوجود اللفظي مع عدم قصد الحكاية – كما هو رأي المحقق الاصفهاني – فالأمر اوضح اذ السبب هو اللفظ و المسبب هو المعنى الكامن فيه.

ومهما كان فالأخذ بالإطلاق واضح على جميع هذه المسالك في المسبب بهذا المعنى.  

الاحتمال الثاني: ان يكون المسبب ترتب الآثار الشرعية و العقلائية. وقد ذكرنا ان هذا الاحتمال ضعيف للغاية. وعليه فان قلنا بان المراد خصوص الآثار العقلائية أمكن الاخذ بالإطلاق بالنسبة للشرائط الشرعية المشكوك اعتبارها وان قلنا بان المراد جميع الآثار العقلائية والشرعية فلا يمكن الاخذ بالإطلاق نظراً الى عدم العلم بالماهية المشتركة.

وربما يناقش في التمسك بالإطلاق إذا كان المراد بالمسبب ترتب خصوص الآثار العقلائية وكان الشك من جهة احتمال اعتبار سبب خاص و وجه المناقشة ان الاسباب خارجة عن حقيقة المسببات وليست كالعوارض والحالات بالنسبة الى الماهية حتى يشملها دليل تنفيذ المعاملة فقوله تعالى (أحل الله البيع) لو كان المراد به المسبب لم يدل على تنفيذ كل سبب من اسبابه فلا بد من الاخذ بالقدر المتيقن من الاسباب.

والجواب عنه ان المسبب العقلائي ينحل بحسب الاسباب بمعنى ان العقلاء يرتبون الآثار على كل سبب من الاسباب العقلائية فتنفيذ المعاملات العقلائية تنفيذ لجميع اسبابها لديهم ومعنى الاخذ بالإطلاق هو الحكم بعدم دخالة شيء من الاوصاف او المقدمات او الاسباب المشكوكة في ترتب الاثر غير ما هو دخيل لدى العقلاء. نعم لا يصح التمسك بالإطلاق إذا كان الشك في التنفيذ العقلائي.

الاحتمال الثالث: ان يكون المسبب هو الماهية الاعتبارية فلا بد من ملاحظة متممات الجعل التطبيقية لنجد ما طبقها عليه الشارع المقدس ثم نأخذ بالإطلاق في حدود مورد التطبيق.

وقد عرفت ان التطبيق هنا يختص بالصحيح فلا يبقى ماهية مشتركة بين الصحيح و الفاسد لكي يدعى احراز وجودها عند الشك في قيد زائد. اذن فلا يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي.

البحث الثاني: في الاطلاق المقامي. وهو الذي يتمسك به إذا لم يتمكن من الاطلاق اللفظي. والعمدة من موارد عدم جريان الاطلاق اللفظي هو مسلك صاحب الكفاية في الاسباب ومسلكنا في المسببات.

ما هو الداعي للتمسك بالإطلاق المقامي؟

اما على مسلك المحقق الخراساني فلانه يقول – حسب تفسير القوم لعبارته – بان المراد بالعناوين المذكورة الاسباب بما انها تؤثر اثراً واقعياً تكوينياً اما وجودياً كالنكاح والبيع واما سلبياً كالعتق والطلاق فاذا ورد على لسان الشارع تنفيذ هذه الأسباب فالعرف يرى ترتب الآثار على اسباب خاصة و الشارع ربما يخطـّئ العرف في ذلك فيحصل موارد نشك فيها تصويب الشارع ما رآه العرف سبباً لترتب تلك الآثار. وهنا نحتاج الى اجراء الاطلاق المقامي.

واما على مسلكنا فلان هناك متممات جعل عرفية نظراً الى ان المعاملات ظواهر اجتماعية فالعرف يحكم بان الماهية الاعتبارية تنطبق على بعض الموارد ونشك في ان الشارع هل يصدق العرف ام له متممات جعل اخرى.

والفارق بين المسلكين هو ان رؤية العرف وتصديق الشارع له او تكذيبه اياه تتعلق في المسلك الاول بأمور تكوينية واقعية. وفيما ذهبنا اليه يتعلق الاختلاف والاتفاق بأمر اعتباري.

ويمكن ان يقال في تقرير جواز التمسك بالإطلاق حينئذ ان الادلة الشرعية المشتملة على تنفيذ المعاملات موجهة الى العرف. وتنصرف العناوين الواردة فيها الى المصاديق العقلائية. فالعرف يعتقد ان الزوجية تحصل قهراً بكلمة (انكحت) مثلاً بناءاً على مسلك الكفاية فلو اراد الشارع إلغاء ذلك باعتبار انه يرى عدم ترتب الاثر الواقعي على هذه الكلمة كان عليه ان ينبه العرف على ذلك والا لكان اغراء بالجهل فان العرف لا ينظر الا بمنظاره العرفي.

وكذا على مسلكنا فان الاعتبار العرفي يحكم بانطباق الماهية الاعتبارية في النكاح وهي الزوجية على هذا المورد وليس لديه طريق الى فهم الاعتبار الشرعي في التطبيق الا تصريحاته ونصوصه فلا بد للشارع إذا كان له اعتبار خاص ان يدلي بمتمماته التطبيقية والا فالمفاهيم منصرفة الى اعتبارات العقلاء كما ينصرف النقد في المعاملة الى نقد البلد.

فهو نظير ما إذا حكم الشارع بالمنع من قتل الحيوان أيّا ما كان فان المجتمع الذي لا يملك الميكروسكوب لا يفهم من ذلك الا خصوص الحيوانات المرئية فلا يمتنع من ابادة الميكروبات فلو اراد الشارع التعميم كان عليه ان يمنع استعمال وسائل ابادتها تفادياً لفوت الغرض.

ولكن المحقق النائيني اعترض على هذا الاطلاق بانه يتوقف على عدم وجود قدر متيقن في البين وهو موجود في المعاملات فاذا شككنا في اعتبار العربية في الصيغة فالقدر المتيقن هو الصيغة العربية فنحكم بالصحة في خصوصها. وهكذا الكلام في سائر الشروط التي يحتمل اعتبارها. اذ مع هذا الاحتمال لا يمكن استكشاف النظر الشرعي.

والجواب عنه: ان هذه الاحتمالات احتمالات مستحدثة اوجدها تقدم الفقه وتشكيكات الفقهاء قدس الله ارواحهم في المباحث العلمية و الاطلاقات الشرعية انما وجّه الى المجتمع العربي في عهد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم فالمتبع هو فهم ابناء ذلك الزمان واحتمال شكهم في صدق عنوان البيع على بعض المعاملات المتداولة لديهم مجرد فرض لا يدعمه دليل.

فالظاهر ان المعاملات العقلائية كلها داخلة تحت الاطلاق. ومن هنا نجد ان الشارع لم يهتم بذكر متممات الجعل التطبيقية في مرحلة الاثبات وانما اهتم بنفي الماهية في الموارد الخاصة كما مر ذكر بعضها. والسرّ في ذلك ان الاثبات موكول الى نظر العرف.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين

 

 


1 هو العلامة المحقق ابو المجد الشيخ محمدرضا النجفي الاصفهاني في رسالته وقاية الاذهان ص 111 حيث قال (وببالي أنّ بملاحظة مجموع كلامه في المفتاح يظهر أنه يعم مذهبه في مطلق المجاز وإنما خصّ الاستعارة بالمثال لأنها من أشهر أقسامه وأهمها، فليراجعه من شاء ومن البعيد من مثله أن يفرّق بينهما من غير فارق أصلا).  

2 درر الادب ج1 ص340

3 جمهرة الامثال للعسكري ج1 ص 568 ومجمع الامثال للميداني ج1 ص430 وغيرهما

4 راجع سير اعلام النبلاء ج6 ص 74 وتاريخ الخلفاء ص 278

5 من اجل التوسع راجع تعليقات سليمان البستاني على الالياذة ص126 ط لبنان

(6) وذلك بان يكون مرادهن من تشبيهه عليه السلام بالملك بيان غاية حسنه وجماله وحينئذٍ فلو قلنا بانه مستعمل في المعنى المجازي فلا بد من ان يكون ذلك المعنى الانسان الجميل غايته وهو ينافي نفي البشرية عنه واما التفسير الآخر فهو ان يراد بنفي البشرية وتشبيهه بالملك بيان غاية تورعه واجتنابه عن النساء مع انهن يراودنه عن نفسه. ولكن الظاهر هو المعنى الاول بملاحظة مجموع الآية حيث قال تعالى: فلما رأينه اكبرنه وقطعن ايديهن وقلن حاش لله ما هذا......

وقاية الاذهان ص 1167

 نهاية الاصول ص 32[8]

[9]  نهاية الدراية الطبعة الجديدة ج1 ص 89

[10] القواعد والفوائد ج1 ص 158

([11]) الكفاية ص 21

[12]  راجع المحاضرات ج1 ص148

([13]) الشورى: 13

[14]  آل عمران: 19

[15]  البقرة: 130

[16]  البقرة: 135

[17]  النساء: 125

[18]  الانعام: 161

[19]  الانبياء: 72 - 73

[20]  ابراهيم: 37 - 40

[21]  لقمان: 17

[22]  مريم: 31

[23]  يونس: 87

[24]  مريم: 55

[25]  ال عمران: 39

[26]  الوسائل ج 3 ص 25 باب 10 من اعداد الفرائض

[27]  الوسائل ج 3 ص 26 باب 10 من اعداد الفرائض والمستدرك ج1 ص 174

[28]  النساء: 102

[29]  الحج: 40

[30]  الانفال: 35

[31]  الاسراء: 84

([32]) دائرة المعارف الاسلامية جـ14 ص81

([33]) تاريخ التمدن الاسلامي جـ1 ص24

([34]) دائرة المعارف جـ14  ص302.

[35]  جامع الأحاديث ج2 ح 2360 و 2361

([36]) جامع الأحاديث ج2 ص 267 باب 1 من ابواب التكبير ح2 وح19

([37]) دائرة المعارف الاسلامية ص305

[38]  راجع روح الشرائع ج2 ص 206

[39]  الحج: 67

[40]  الحج: 27

([41]) الوسائل ج6 ص220  ح 1 ب1 زكاة الفطرة .

([42]) الوسائل جـ .. ص225 حـ12 ب… زكاة الفطرة.

[43]  راجع طبقات ابن سعد القسم الثاني ص8 ومسند احمد ج 3 ص26 والطيالسي ح 1211

([44]) دائرة المعارف كلمة زكاة  

[45]   البقرة: 183

([46]) دائرة المعارف الاسلامية ح ص393 .

([47]) البخاري كتاب الصوم باب صوم يوم عاشوراء .

([48]) الوسائل جـ7 ص339  ب21 الصوم المندوب حـ 1

([49]) الوسائل جـ7… ص290  ب1من الصوم المندوب حـ5

[50] الاحزاب: 56

[51]   التوبة: 103

[52]   الوسائل ج9 ص257 باب 3 من كفارات الاستمتاع ح 9

([53]) جامع جـ1 الطهارة ص51 ح 444 .

([54]) واما تفسير السيد الاستاد دام ظله لها فيبتني على ارتباطها بالأمر الاول في مرتبة الحكم الجزائي

([55]) جامع جـ2 ص13 حـ…

([56]) اجود التقريرات جـ1  ص36 .

([57]) جامع الاحاديث ج2 ص25  حـ 2365 .

([58]) جامع جـ2 ص13 حـ91 .

([59]) جامع جـ 1 ص298 ح 2880 .

([60]) جامع الاحاديث جـ1 ص315 ح 3051 .

([61]) جامع ج1 ص316 ح 3059.

([62]) مصباح الفقيه كتاب الصلاة ص 718 .

([63])  المحاضرات ج 1 ص159.

([64]) الكفاية جـ … طـ المشكيني ص… .

([65]) الكفاية ج1 ص 33 .

([66]) ص36 .

([67]) بتصرف وتلخيص من تهذيب الاصول ص54

(1) جامع جـ2 ص13 حـ91.

(1) الوسائل … ص30   ب 12 من اعداد الفرائض.

    (1) جامع الاحاديث جـ1   ص176 حـ 645…

(1) الكفاية جـ1 ص49.

 (1)  الوسائل حـ… ص597.<