الكلام في الاوامر
الكلام في الأوامر
ويقع الكلام في فصول:
1الفصل الأول: في مباحث مادة الأمر:
البحث في مادة الأمر
1.1المبحث الاول في تفسير مادة الأمر:
وليس المراد بذلك كشف القناع عن المراد به في موارد استعماله في الكتاب والسنة فذلك واضح بحسب القرائن والمناسبات الا انه حيث ذكر في كتب الاصول كما يتراءى من كتب اللغة ايضاً ان له معان متعددة وتوهم انه مشترك لفظي بينها فالكلام في تقييم هذه الدعوى وذلك من جهة ان كتب اللغة لا تتعرض لما هو مستفاد من حاق اللفظ ليتميز عما يفهم من اللفظ بمعونة القرائن على طريقة تعدد الدال والمدلول كما ان هناك موارد كثيرة اشتبه فيها المفهوم بالمصداق.
هذا مضافاً الى انه ليس في المعاجم اللغوية قانون عام يميز عند تعدد المعاني بين ما هو الاصل في المعنى وما هو الفرع اذ لا اشكال ان الاشتراك اللفظي ايضاً لا يحصل بوضع اللفظ لكل من المعنيين بقطع النظر عن الآخر بتاتاً بل الاستعمال في أحدهما بمناسبة مع الآخر الى ان يستقل في الدلالة والعلقة الوضعية.
وقد ذكروا لكلمة الأمر عدة معان كالشيء والشأن وطلب شيء ونحو ذلك الا ان الاعلام لم يسلموا كونه حقيقة فيها جميعاً فالبحث يقع في موضعين:
- تشخيص المعنى الحقيقي.
- وتمييز الاصل عن الفرع إذا سلمنا تعدد المعنى.
الموضع الأول: في تشخيص المعنى الحقيقي.
ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) وجماعة من المحققين انه حقيقة في معنيين «الطلب» و «الشيء». واما سائر المعاني فذكرها في معاجم اللغة من باب اشتباه المفهوم بالمصداق.
ونحن نسلم الجانب السلبي لهذه الدعوى وهو ان سائر المعاني ليست معان حقيقية لكلمة الأمر الا انها ليست جميعاً من قبيل المصاديق للمعنى الحقيقي فقد ذكروا من المعاني «الغرض» كما في قولك «جئتك لأمر كذا». فقالوا ان الأمر هنا بمعنى «الغرض» مع ان الغرض يستفاد من اللام والأمر ليس مصداقاً للغرض بل هو متعلق له.
واما الجانب الايجابي وهو ان الأمر حقيقة في الطلب والشيء فلا بد من ان يكون المراد طلب الفعل من الغير اذ لا اشكال في انه لا يستعمل بدلاً عن الطلب في مثل طلبت العلم وطلبت الضالة، بل لا بد من اضافة جهة العلو ايضاً كما سيأتي.
فالأمر – في أحد معنييه – طلب الفعل من الغير على سبيل العلو او الاستعلاء كما سيأتي سواء كان المبرز صيغة الأمر او الجملة الخبرية او غير ذلك كالإشارة.
وللنظر في هذه الدعوى مجال، بل الظاهر ان الأمر بمعنى البعث وايجاد الداعي لتحقيق عمل خارجاً. وربما يكون ايجاد الداعي بالعمل الخارجي كما ذكروا في باب الأمر بالمعروف ان أحسن طرقه العمل بالمعروف فالمراد بالأمر بالمعروف التشويق اليه وتزيينه. وتشهد له موارد استعماله في الكتاب.
قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) فالأمر هنا ليس بمعنى الطلب بل بمعنى الاغراء.
وقال تعالى: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) ولم يؤمر ابراهيم عليه السلام وانما رأى في المنام انه يذبحه. قال في المفردات: (فسمىّ ما رآه في المنام من تعاطي الذبح امراً). وقد حاول المفسرون بوجوه ضعيفة دعوى سبق الأمر بذلك.
وقال تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) والنفس لا تطلب وانما تغري وتبعث.
وقال تعالى: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
وقال تعالى (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا).
وهناك من موارد استعمالات العرب ما يشهد لذلك ايضاً كما ورد في بعض كتب اللغة من قول الشاعر (وربرب خماص – يأمرن باقتناص).
والحاصل ان الأمر لمجرد البعث والترغيب الا ان الأمر القولي قد يكون على وجه بيان الملازمة بين الفعل والنتائج الحسنة كأوامر الطبيب وهذا نعبر عنه بالأمر الارشادي وقد يكون على وجه جعل الملازمة بين ترك الفعل والعقوبة ونعبر عنه بالأمر المولوي وسيأتي تفصيله ان شاء الله تعالى.
ولعل الايتمار والاستيمار والمؤتمر كلها من هذا الباب باعتبار ان الاستشارة والمشورة ليس الا من باب ايجاد الداعي الى الفعل. واما التآمر فلعله – كما يستفاد من لسان العرب – من باب الاخذ بدواعي النفس الامارة بالسوء نظراً الى متابعة المصالح الشخصية فيه.
واما المعنى الثاني للأمر فليس هو الشيء بقول مطلق بل يستعمل في الاعمال والصفات مع قطع النظر عن انتسابها الى أحد فهو معنىً اسم مصدري – كما قيل – ولا يستعمل في الاعيان مطلقا.
الموضع الثاني: في الترابط بين المعنيين.
قيل: انه لا ترابط بينهما وذلك:
أولا: لان جمع «الأمر» بالمعنى الأول «أوامر» وبالمعنى الثاني امور
وثانياً: لان المعنى الأول معنىً حدثي يقبل الاشتقاق والثاني لا يقبله.
ولا بد من دراسة هاتين النقطتين:
اما الـ «أوامر» فليس جمعاً للـ «أمر» اذ لا يجمع فعل – اتفاقاً – بـ «فواعل»، قال في تاج العروس – حكاية عن شيخه –:
«اختلفوا في واحد «امور» و «اوامر» فقال الاصوليون ان «الأمر» بمعنى القول المخصص يجمع على «اوامر» و بمعنى الفعل او الشأن يجمع على «امور» ولا يعرف من وافقهم الا الجوهري في قوله: «امره بكذا امراً وجمعه اوامر» واما الازهري فانه قال «الأمر» ضد النهي واحد «الامور» و في المحكم لا يجمع «الأمر» الا على «امور». ولم يذكر أحد من النحاة ان فعلاً يجمع على فواعل...».
والصحيح ان «اوامر» جمع «آمرة» وهي صفة للصيغة الخاصة بمعنى المحركة والباعثة على ايجاد الفعل.
واما قبول الاشتقاق وعدمه فليس بمجرده دليلاً على عدم الترابط ولعل منشأ توهمه هو تفسير «الأمر» بالمعنى الأول بطلب الفعل من الغير ومن الواضح انه لا يرتبط بـ «الأمر» بمعنى الشيء الخاص وان اريد به الصفة و الحالة.
واما على ما ذكرناه من ان «الأمر» بالمعنى الأول هو البعث فالترابط واضح بينه وبين الفعل الذي يعد انبعاثاً له فالفرق بينهما كالفرق بين المصدر و اسم المصدر وعدم الاشتقاق من الثاني كعدم الاشتقاق من اسم المصدر حيث انه لا يوجب قطع الترابط بينه وبين المصدر القابل للاشتقاق.
وهذا نظير «الشيء» المشتق من «شاء» بمعنى «اراد» و «قدر» فهو مصدر الا انه يطلق على متعلق المشيئة والارادة وبهذا اللحاظ يمتنع عن الاشتقاق نتيجة للتحول الطارئ.
وهناك احتمال آخر في المقام يمكن ان يفسر به الترابط بين المعنيين وذلك عكس الاحتمال الأول بان يعتبر المعنى الثاني هو الأصل وإطلاق الأمر على المعنى الأول بلحاظ كونه سبباً للمعنى الثاني حيث ان البعث سبب للانبعاث.
ونسب الى المحقق النائيني القول بأنّ المعنى واحد وهو الشيء الذي له اهمية ما وإطلاق الأمر بهذا المعنى على خصوص الطلب من باب انه مصداق له اذ طلب الفعل شيء ذو اهمية.
ولكن معنى «الأمر» لا يشتمل على صفة «الأهمية». و «الأمر» ليس بمعنى «الشيء» اصلاً كما ذكرنا مع ان الطلب قد لا يكون مهمّا ومع ذلك يصدق عليه «الأمر».
ونقل المحقق الخراساني اتفاق الاصوليين على ان «الأمر» اسم للصيغة الخاصة او للجامع بين الصيغ الخاصة.
واعترض عليه بان لازم ذلك ان لا يكون معنى الطلب مستفاداً من مشتقات «الأمر» مع انه ليس كذلك فالمشتقات منه كلها بهذا المعنى.
والاعتراض ليس في محله فان اتفاق الاصوليين مع انه غير ثابت انما هو على اصطلاح خاص ولا مشاحة فيه مع ان المشتقات ليست مشتملة على معنى الصيغة الخاصة بل على معنى البعث وهو مفاد أصل المادة هذا مضافاً الى ان معقد ابحاثهم هو «الاوامر» وقد ذكرنا انه جمع «آمرة» وهي صفة الصيغة الخاصة فمن هنا نشأ هذا القول.
1.2المبحث الثاني: هل اخذ في مادة الأمر العلو او الاستعلاء ام لا؟
والذي يدعو الى عقد هذا المبحث سؤال يفرض نفسه وهو: ما الفرق بين «الأمر» و «السؤال» أو «الاستدعاء» أو «الالتماس»؟
والجواب عن هذا السؤال ربما يبتني على اخذ العلو او الاستعلاء او أحدهما في مادة «الأمر». ويبقى السؤال على ما ذكرناه من ان «الأمر» هو مجرد البعث وهو يصدق حتى في ابداء الرأي لدى المشورة.
ويقوى هذا السؤال عند ملاحظة عدم صدق «الأمر» على ما يطلبه السائل المستدعي ولو بالصيغة الخاصة كما لا يصح منه ان يقول «آمرك بكذا» مع ملاحظة اطلاقه في المشورة قال تعالى في حكاية كلام فرعون (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) وهو يخاطب الملأ الذين من حوله مع انه علا في الارض خصوصاً بالنسبة الى اتباعه.
وكيف كان فللجواب على هذا السؤال وجهان:
الوجه الأول: ما تردد في كتب القوم من اعتبار اختلاف المنزلة الاجتماعية في «الأمر» فلا يصدق في طلب النازل مرتبة عن العالي وكذا في طلب المساوي فالملاك في الفرق طرفا الخطاب دون محتواه.
الوجه الثاني: ما يمكن ان يقال من ان الفرق في نفس محتوى الخطاب.
ولكي يتضح ذلك لابد من توضيح حقيقة الأمر المولوي والفرق بينه وبين الارشادي بصورة اجمالية مناسبة للمقام فنقول:
الأمر النفسي المولوي بوجه عام – اي مع قطع النظر عن خصوصية الآمر – على نحوين:
النحو الأول: «الأمر» على وجه ربط الشخصية بمعنى ان الآمر يربط شخصيته وكيانه بالفعل الخاص ربطاً اعتبارياً ونتيجة ذلك ان مخالفة الأمر تعدّ هدماً لذلك الكيان المحترم واهانة له وهو ظلم قبيح وعليه فسّر عقاب التجري في كثير من الكتب الاصولية وان لم يذكر السر في كونه ظلماً. وهذا النحو من الأمر المولوي يتوقف على كون الآمر ذا كيان محترم لدى المأمور.
النحو الثاني: «الأمر» على وجه استبطان الوعيد على الترك فمعنى قول الآمر افعل اي ان لم تفعل عاقبتك. وهذا النحو يتوقف على كون الآمر حقيقاً بجعل الملازمة بين ترك الفعل والعقوبة. وهو منحصر في الله تعالى ومن جعله مفترض الطاعة.
والقسم الأول نظير كثير من الأوامر الصادرة من السلاطين وشيوخ العشائر ونحوهم من المتسلطين. واما الأوامر الشرعية فنحن لا نعتبرها من هذا القسم بل من القسم الثاني كما اوضحناه في محله.
واما أوامر الطبيب والمستشار ونحو ذلك فخارجة عن القسمين وذلك لعدم التسلط الموجب لجواز ربط الشخصية اعتباراً بين الفعل وكيان الآمر وعدم الحق في جعل الملازمة بين العقوبة و الترك.
وهكذا الكلام في طلب النازل مرتبة والمساوي.
فما هو محتوى الطلب في هذه الموارد؟
اما طلب الطبيب والمستشار فلا يتضمن الا الارشاد لما في العمل من مصلحة تعود الى فاعله.
واما طلب النازل مرتبة كالسائل فالظاهر انه يتضمن ربط شخصية المطلوب منه بالفعل كأنه يعتبر منزلة المطلوب منه مقتضية لقضاء حاجته.
واما طلب المساوي فالظاهر انه يتضمن ربط العلاقات الاجتماعية الرابطة بينه وبين المطلوب منه بالفعل المطلوب فكأنه يعتبر بمقتضى هذا الطلب ترك الفعل منافياً للأخوة والصداقة ونحوهما.
اذن فالفرق في نفس محتوى الطلب وربما يكون طلب العالي منزلة من قبيل ربط العلاقة الاجتماعية كما قد يحدث ذلك بالنسبة الى اقربائه ومقربيه فليس كل طلب صادر من العالي امراً مولوياً. واما النازل مرتبة و المساوي فلا يمكن تحقق الأمر المولوي منها وان أمكن صدوره بنظرهما الا ان ذلك يستوجب توجيه الاعتراض عليهما لعدم صلاحيتهما. وهذا هو سرّ توجيه الاعتراض دون ما ذكر من ان قولنا (لِمَ تأمره) في هذا المقام تجوز لعدم صدور الأمر الا من العالي.
وربما يقال في وجه الفرق بين «الأمر» و «الالتماس» ان الأول ما يجعله الآمر داعياً بنفسه لصدور الفعل والثاني ما يضمّ اليه الدواعي كالاسترحام.
وهذا ضعيف جداً اذ ليس كل امر مولوي تعبدياً حتى يكون بنفسه داعياً للفعل فقد يكون توصلياً وليس كل التماس منضماً باسترحام ونحوه.
1.3المبحث الثالث: هل «الأمر» يدل على الايجاب والالزام ام لا؟
ونحن نعقد البحث بهذا العنوان:
«الأمر» المفروض عدم كونه ارشادياً هل مقتضى القاعدة العامة حمله على الوجوب ام لا؟
والسرّ في العدول ان مورد البحث يجب ان يكون عند دوران الأمر بين الالزام وغيره دون مورد الدوران بين المولوية و الارشادية. ومورد البحث ايضاً ليس مقتضى الوضع اللغوي لما سيأتي في مباحث صيغة الأمر من عدم اقتضائها للدلالة على الوجوب فمورد السؤال هو ما يقتضيه القانون العام سواء كان ذلك اصالة الحقيقة او حكم العقل او بناء العقلاء.
وهنا ينشأ سؤال آخر:
ما هو الفرق بين المسألتين دلالة الصيغة على الوجوب ودلالة المادة عليه وهل يغني احداهما عن الاخرى كما ادعاه المحقق النائيني ام لا؟
ويمكن القول بالاستغناء نظراً الى ان الصيغة من مصاديق المادة.
وهذا التعليل ضعيف اذ من الممكن السؤال عن مقتضى الصيغة بقطع النظر عن كونه مصداقاً للمادة اذ ليس كل شأن من شؤون المصداق ناشئاً من المفهوم العام.
والصحيح ان المسألتين لابد منهما اذ لم يعلم كون العناصر المقومة لكل من المادة و الصيغة مقومة للأخرى فلا بد من تشخيص ما يقتضي الدلالة على الوجوب في احداهما – على الفرض – وملاحظة وجوده في الاخرى.
وهذا البحث يبتني على ان لا نفسر الأمر المولوي بكونه ربطاً لشخصية الطالب – في الاعتبار – بالعمل المطلوب والا فعلى هذا التفسير لا يمكن عدّ الاستحباب من الأمر المولوي بل إطلاق «الأمر» عليه يبتني على التسامح في التعبير اذ ليس في الندب ربط للشخصية. ولعل هذا هو السبب في تصريح بعضهم بان الاستحباب ارشادي.
واما على ما ذكرناه من ان الأمر المولوي – غالباً وفي خصوص الاوامر الالهية – هو ما يتضمن وعيداً على الترك او وعداً على الفعل فهذا المعنى يشمل الوجوب والندب والفرق ان الاول يستبطن الوعيد على الترك والثاني الوعد على الفعل. واما الارشاد فليس الا اخباراً عن الملازمة بين الفعل و المصلحة و المولوية انشاء للملازمة.
وحينئذ فيأتي دور البحث عن ان مادة الأمر هل تقتضي بنفسها الحمل على استبطان الوعيد او الوعد؟
ولا شك في ان استبطان الوعيد اقوى في البعث نحو العمل اذ دفع المفسدة خصوصاً إذا كانت عظيمة – كالعقاب الأخروي – اولى من جلب المنفعة. والانسان يهتم بدفع الشرور أكثر مما يهتم بجلب الخيرات.
ومن هنا يمكن ان يقال ان مادة «الأمر» تناسب الوجوب من جهة ان معناه كما قلنا هو البعث وهو لو لم نقل يناسب مرحلة فعلية الانبعاث فلا اقل من كونه في اقوى مراحل التهيج وهو يحصل كما قلنا باستبطان الوعيد على الترك.
فالأقرب ان يقال انه يستظهر من مادة «الأمر» الوجوب لا انه موضوع له حتى يكون مجازاً في الارشاد ونحوه فان الارادة المولوية بنفسها غير متعينة حتى يقال انه موضوع للوجوب او يتبادر منه الوجوب فالصحيح ان يقال انه بموجب الانصراف الكنائي – كما سيأتي توضيحه في مباحث الصيغة ان شاء الله تعالى – يحمل «الأمر» على الالزام إذا كان صادراً عمّن بيده الأمر وبإمكانه التعبير بما يفيد الارشاد وذلك بقرينة اختياره التعبير بالأمر الاقرب الى اقوى انحاء البعث.
وربما يؤيد هذه الدعوى ببعض الآيات والروايات نذكر بعضها للملاحظة:
منها قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) بدعوى ان التحذير يلازم الوجوب.
ولكن الاستشهاد بالآية الكريمة ضعيف اذ لا ريب في ان المراد بـ «الأمر» هنا ما يقتضي الوجوب فهو ملازم للتحذير الا ان ذلك لا يدل على ان «الأمر» دائماً يقتضيه الا بضميمة اصالة العموم والاطلاق إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص.
توضيح ذلك ان اصالة العموم والاطلاق لا ريب في حجيتها إذا شك في شمول حكم العام للفرد الا انه إذا ثبت خروج الفرد عن حكم العام وتردد بين كون خروجه تخصيصا او تخصصاً فهل يمكن اجراء اصالة العموم وعدم تحقق التخصيص لإثبات التخصص وعدم شمول مفهوم العام له اصلاً؟
فيه بحث و الصحيح عدم جريانها. والمقام من هذا القبيل فاذا ثبت ان الأمر هنا للوجوب فلا يمكن اثبات ان الأمر عموماً يفيده الا بضميمة اصالة عدم التخصيص.
ومنها قوله تعالى مخاطباً لإبليس: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) واللوم لا يحسن الا مع اقتضاء الأمر للوجوب.
والجواب عنه ان الأمر هنا لم ينطبق خارجاً الا على صيغة افعل كما تدل عليه الآيات الواردة في الحكاية ولا يدل ذلك على ان مادة الأمر تقتضيه.
ومنها قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لبريرة بعد قولها (اتأمرني يا رسول الله): «لا بل انما انا شافع»[1] وذلك في رجوعها الى زوجها بعد ان اعتقت. ولو لم يتبادر الى ذهن بريرة الوجوب من الأمر لم يكن وجه لسؤالها.
والجواب عنه ان سؤالها ليس عن الوجوب و الندب انما سألت عن ان ذلك امر مولوي ام انه شفاعة واستدعاء ولعلها كانت تستفسر بعد احراز المولوية عن كونه الزامياً او غير الزامي.
و منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم «لولا ان اشق على امتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة»[2] فالندب هنا مفروغ عنه والمراد بالأمر الالزام.
والجواب عنه ان القرينة الخاصة في المقام تقتضي الحمل على الوجوب كما تقتضيه المشقة المفروضة الا ان ذلك لا يدل على كون الأمر في نفسه يدل على الالزام.
2الفصل الثاني: صيغة الأمر
في التحقيق عن شؤون صيغة الأمر ويقع الكلام في مباحث:
2.1بيان مدلول الصيغة:
المبحث الاول: في بيان مدلول الصيغة:
ونشير هنا الى ثلاثة اقوال:
القول الأول وهو ما نتبناه من ان معنى صيغة الأمر هو النسبة البعثية.
توضيح ذلك:
انا قلنا فيما سبق ان المعنى الحرفي بقسميه – الحرف المستقل والهيئة – هو نفس المعنى الاسمي بفارق لحاظي وهو اللف و النشر او الاجمال والتفصيل. وقلنا ان النسبة قد تدغم وتندمج في المعنى وهو ما نعبر عنه بالمعنى الاسمي الشامل للفعل والاسم وقد يندمج المعنى في النسبة كما نقول ان الظرفية مدغمة في النسبة المستفادة من «في» وعبرنا عن هذا المعنى المدغم بلون النسبة ولذا يقال ان «في» للنسبة الظرفية وقد تدغم كل منهما في الآخر وذلك في بعض الحروف كالمشبهة بالفعل نحو لعلّ فلا يقال انه لنسبة الترجي او للنسبة الرجائية ولذلك تقوم مقامه كلمة ارجو.
والكلام هنا في المعنى الاسمي الذي أدغم في هيئة «افعل» مثلاً وأصبح لونا للنسبة المستفادة منها. هذا المعنى قد يبرز بصيغة اسمية نحو قولنا ابعثك نحو كذا او آمرك بكذا و قد يبرز بحروف مستقلة يقال لها حروف التحضيض نحو هلّا ولولا إذا وردت على الفعل المضارع.
وحيث انا نجد ان مفاد هذه الصيغ واحد يمكننا القول بان مفاد صيغة افعل ونظائرها هو النسبة البعثية.
القول الثاني: ان يكون مفادها النسبة الايقاعية كما نسب الى المحقق النائيني قدس سره والمراد ان مفادها ايقاع عمل في ذمة الغير فلا فرق بين قولنا افعل وعليك ان تفعل.
القول الثالث: ان يكون مفادها النسبة الطلبية و المراد بها في هذا المقام ان يعتبر الآمر تعلق ارادته بعمل الغير كأنها هي المحركة لعضلاته التي تتبع ارادته الشخصية تكويناً فهي هنا تابعة لإرادة الآمر لكن في الاعتبار لا التكوين ويعبر عن هذه الارادة بالتشريعية. وهذا ظاهر كلام المحقق الخراساني قدس سره.
و يمكن ان يناقش فيما ذكرناه في القول الأول بوجوه:
- انه خلط بين المفهوم و المصداق فصيغة «افعل» مصداق للباعث والمحرك فلا تفسر به.
والجواب عنه انه لا مانع من ايجاد المصداق بإنشاء المفهوم فمجرد كونه مصداقاً لا يمنع كونه سبباً لإنشاء المفهوم كالصيغة الاسمية نحو «آمرك».
- ان اعتبار البعث لا أثر له في البعث حتى بالصيغة الاسمية كقولك اعتبرك مبعوثاً نحو كذا فكيف بالصيغة الهيوية.
والجواب عنه ان السبب في ذلك ان هذه الصيغة ليست سبباً عقلائياً لإنشاء البعث فهي نظير اعتبار البيع مثلاً بقولك «اعتبر المبادلة بين كذا وكذا» اذ لا يتحقق به البيع قطعاً مع ان هذا المعنى هو مفاد صيغة «بعت».
وهذا مما يشهد على نفي مسلك الابراز والمبرز في الانشاء حيث انه يدل على ان مجرد الاخبار عما في النفس غير كاف لتحقيق الانشاء خلافاً لتلك النظرية.
واما مثل «ابعثك» و «آمرك» وحروف التحضيض فيمكن انشاء البعث بها وعلى كل تقدير فالسرّ في تحقق انشاء البعث هو المحتوى الذي تستنبطه الصيغة سواء كانت اسمية او حرفية او هجوية وهو الوعيد على الترك او الوعد على الفعل او ربطه بكيان الآمر او بكيان المأمور او ربط كيانه بالعاطفة وبما يحترمه ويقدسه.
- ان صيغة افعل لا تستعمل دائماً في التحريك نحو الفعل بل قد تستعمل في ايجاد الداعي الى السكون نحو دع واترك.
والجواب عنه ان المراد بالبعث معنىً عام يشمل ذلك وكثيراً ما يعتبر ترك العمل في المحل المقتضي له عملاً ولذا قلنا ان الاطلاق عمل ابداعي مع انه ترك التقييد.
واما القول الثاني فهو مما لا يساعده الفهم العرفي فان صيغة الأمر لا تختص باستعمالات العلماء و المحققين بل يستعملها حتى الاطفال بل قد تستعمل في زجر الحيوانات وحثها ونحن لا نجد لدى الفهم العرفي معنىً واضحاً للذمة بل هي معنىً معقد حتى لدى شراح القانون في مجال الاموال المتعلقة بالذمم.
هذا مضافاً الى ان صيغة افعل قد تستعمل في الالتماس والاستدعاء وليس هناك ايقاع على الذمة ومضافاً الى انه غير معقول في الدعوات الموجهة الى الله تعالى بصيغة افعل.
ويشهد لذلك ان اشتغال الذمة بفعل قد يجعل موضوعاً للصيغة كما تقول: حيث ان ذمتك مشغولة للصلاة فصلّ.
واما القول الثالث فمن الواضح بعده عن الفهم العرفي لابتنائه على سلب الارادة الشخصية مع انها هبة الهية طبيعية لا يمكن ان يتصرف فيها الاعتبار.
2.2بيان السرّ في طروّ العناوين المختلفة على صيغة الأمر
المبحث الثاني: في بيان السرّ في طروّ العناوين المختلفة على صيغة الأمر من مولوية وارشاد واذن وتسخير وتعجيز ونحو ذلك.
و في هذا المقام محتملات ثلاثة:
الاحتمال الاول:
ما ورد في الكفاية من ان الصيغة مستعملة دائماً في معناها الحقيقي وان اختلاف العناوين بلحاظ اختلاف الدواعي فان كان الداعي الى الأمر بـقولنا «افعل كذا» مثلاً ايجاد الداعي في نفس المخاطب كان ايجاباً او ندباً وان كان الداعي ابراز الملازمة الواقعية بين الفعل والمصلحة المترتبة عليه كان ارشاداً وان كان الداعي اظهار عجز المخاطب كان تعجيزاً وهكذا فأساس الاختلاف هو اختلاف العلة الغائية.
ويدفع هذا الاحتمال ان اختلاف الداعي يكشف عن اختلاف العمل ولا يمكن ان يكون شيء واحد تختلف آثاره باختلاف الدواعي فالداعي وان كان علة لفاعلية الفاعل الا انه ينشأ من المعلول والاثر المترتب عليه. واما العلاقة بين الوسيلة والغاية فهو امر واقعي لا يتغير بتغير الغرض وارادة الانسان.
واما ما ذكر من كون الاستعمال دائماً في المعنى الحقيقي فهو صحيح على رأينا في المجاز واما على الراي المشهور فلا يصح لما سيأتي من ان الاستعمال في موارد التعجيز والتسخير ونحوهما استعمال مجازي.
الاحتمال الثاني:
ان المستعمل فيه اللفظ يختلف في هذه الموارد وذلك على اساس نظرية الابراز في الانشائيات وان الانشاء هو ابراز ما في النفس غير قصد الحكاية فقد يكون المبرَز اعتبار امر على ذمة المكلف وقد يكون قصد الحكاية عن المصلحة المترتبة على الفعل وقد يكون قصد اظهار عجز المخاطب وهكذا فالمستعمل فيه مختلف في هذه الموارد باعتبار ان حقيقة الانشاء هو الابراز وكل انشاء يختلف عن الآخر باختلاف مبرزه.
وقد اختار هذا الاحتمال بعضهم واضاف ان الاستعمال في غير موارد اعتبار الفعل على ذمة المكلف استعمال مجازي.
وهذا الاحتمال يبتني أولاً على نظرية الابراز المرفوضة عندنا وثانياً هناك موارد من استعمال صيغة الأمر يتضمن تجوزاً وكناية كما سيأتي بيانه.
والصحيح ان الاستعمال المجازي ليس من استعمال اللفظ في غير ما وضع، بل التخالف انما هو بين المراد الجدي والمراد الاستعمالي. والتجوز كما يحصل في الاخبار يحصل ايضاً في الانشاء وعليه فلا يصح ان يفسّر هذه الاختلافات كلها على اساس اختلاف المفهوم و المعنى.
وربما يتوهم ان هذا الاحتمال يبتني ايضا على مسلك التعهد في حقيقة الوضع وهذا غير صحيح فان مسلك التعهد يرتبط بالدلالة التصديقية في الرتبة الأولى وهي الدلالة التفهيمية حيث ان المتكلم يتعهد بانه يقصد تفهيم المعنى الخاص عند التلفظ بكذا. ومورد البحث يرتبط بالدلالة التصديقية في الرتبة الثانية وهي ان ما قصد تفهيمه هو مراده الجدي. فمن الممكن للقائل بمسلك التعهد ان يقول فيما نحن فيه بان بعض الاستعمالات مجازية بمعنى تخالف المراد الجدي والمراد الاستعمالي ولا يضر ذلك بمسلكه في الوضع وهو التعهد.
ثم ان هناك تسامحاً في التعبير حيث عدّ هذا القائل التعجيز و التسخير و التهديد ونحوها معاني مجازية للأمر مع انها ليست معاني للأمر اصلاً فالمبرَز – على حد قوله – او المراد الجدي – على حد قولنا – ليس عنوان التعجيز و التسخير بل هذه العناوين تنطبق على مورد الاستعمال.
فقوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وهو من موارد «الأمر التسخيري» كناية عن ان سريرتهم تناسب نفسية القرد وانه ينبغي ان يكونوا على صورة قردة لتناسب الظاهر الباطن.
وقوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) وهو من موارد الاستعمال في التعجيز امر يراد به اظهار عجزهم حيث امرهم بما لا يتمكنون من اتيانه فيظهر عجزهم بالطبع. وليست صيغة الأمر في هذه الموارد مستعملة في معنى العجز والسخرية وهذا واضح.
الاحتمال الثالث:
التفصيل بين هذه الموارد فالأوامر على قسمين:
قسم منها تختلف بعضها عن بعض باختلاف المحتوى والمضمون وذلك على اساس ما ذكرناه في مادة «الأمر» من تفسيره بربط الشخصية او استبطان الوعيد او الوعد حيث ان ذلك يختلف باختلاف الإطار الذي يصدر فيه الأمر من جهة اختلاف شخصية الآمر وموقف المأمور وروابطه بالفعل وشؤونه النفسية ونحو ذلك من الشؤون المحتفة بالامر وستتضح هذه النقطة ان شاء الله.
وقسم آخر يتضمن اعتباراً ادبياً وكناية عن معنىً خاص يتبين بالقرائن والمناسبات وذلك على اساس التخالف بين المراد الجدي والمراد الاستعمالي.
وهذا هو الصحيح لان صيغة «افعل» بلحاظ مدلولها الاخطاري لا تفيد الا النسبة البعثية كما قلنا والدلالة التفهيمية تقضي بإرادة انشاء نفس هذه النسبة واصالة الجد تثبت توافق الجد مع الاستعمال الا ان ذلك لا يمنع من اختلاف المحتوى باختلاف أطر الصدور.
فان كان الأمر صادراً ممن له حق الأمر والنهي وكان متوجهاً الى ذهن فارغ عن القرائن الآتية فربما تقضي القرائن الحالية والمناسبات بان محتوى «افعل» هو ربط كيان الآمر بالفعل كما لو صدر من شيخ عشيرة او سلطان مستبد بوضع خاص ولهجة متحكمة.
وربما تقضي المناسبات بان محتواه هو استبطان الوعيد على الترك او الوعد على الفعل او الاستدعاء او ربط كيان المخاطب بالفعل او ربطه بالعلاقات والعواطف ونحو ذلك.
وربما تقضي بان محتواه هو ارشاد المشرع وذلك في موارد متعددة كما لو قال المشرع «استقبل بذبيحتك القبلة» فان اندفاع المخاطب الى أصل الذبح لا ينشأ من بعث المشرع بل يندفع بنفسه الى الذبح طلباً لتحليل اللحم او طهارة الجلد ونحو ذلك من الآثار الا ان الشارع يبين له بهذا الأمر ان ما تطلبه لن يحصل الا بالذبح الخاص وبذلك يتركّز دافعه على هذه الكيفية من الذبح بعد ان كان متوجهاً الى الذبح بنحو عام.
وهكذا الكلام في المعاملات حيث ان الآثار المطلوبة تدفع الانسان الى انشاء المعاملة والأمر بحصة خاصة لا يتضمن الا بيان تضييق دائرة الوسيلة ليكون البعث متوجهاً الى الحصة الخاصة كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
وكذلك في متعلقات الاوامر فلو قال «صل متوجهاً الى القبلة» كان مفاده البعث نحو الحصة الخاصة بعد تحقق الداعي الى طبيعة الصلاة جرياً على الأمر بها في قوله «اقم الصلاة». هذا ومن الممكن ان نعتبر «الأمر» في هذه الموارد من القسم الثاني كما سيأتي.
وربما تقتضي القرينة ان يكون محتواه مجرد الاذن كما لو صدر عقيب الحظر او مع توهمه كقوله (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) فمفاده ان المانع الذي كان يقاوم رغبتكم النفسية للصيد يرتفع بالحل والخروج عن الاحرام فإيجاده للبعث بهذا المعنى.
واما القسم الثاني من العناوين المختلفة فهو ما كان يحتوي على اعتبار ادبي كما إذا كان المراد الجدي هو بيان العجز او التهديد او الانذار ونحو ذلك كما ذكرنا في قوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) انه لإظهار ان سريرتهم سريرة قرد وأن قوله تعالى (اعملوا ما شئتم) كناية عن عدم تقيدهم بدين ونظام فكأنهم يعيشون في غاب.
ويمكن ان يكون من هذا القبيل الاوامر المتعلقة بالحصص الخاصة في المعاملات و العبادات وذلك إذا استبعدنا التقريب السابق بشأنها لبعده عن فهم العرف وللفرق بينها وبين اوامر الطبيب ونحوها مما يفيد البعث وعليه فيكون المراد الجدي في مثل هذه الاوامر هو الاخبار عن تضييق دائرة العبادة او المعاملة.
2.3بيان حقيقة الوجوب والحرمة وغيرهما من الاحكام.
المبحث الثالث: في بيان حقيقة الوجوب والحرمة وغيرهما من الاحكام.
وقبل الورود في البحث ينبغي ان ننبه على أن هذه المصطلحات كغيرها من المفردات القانونية وليدة تطور الحضارات الاجتماعية وان لها اسساً لدى العقلاء وليست مرتجلة للشارع المقدس كما ادعاه المحقق النائيني قدس سره – على ما نسب اليه – حيث قال ان هذه الاحكام ليس لها عند العقلاء عين ولا أثر. مع اننا نجد ان هناك واجبات قومية ووطنية وقبلية ونجد ان العرف والعادة قد تحرمان شيئاً مع انه مباح شرعاً كما نجد أن القرآن الكريم قد استنكر تحريم المشركين على أنفسهم بعض الامور. اذن فهذه ظواهر اجتماعية نشأت من روابط البشر وعلاقات بعضهم ببعض.
ثم اننا نبحث عن حقيقة هذه الاحكام بما انها من الامور الاعتبارية وقد كررنا القول ان الاعتباريات ادبية وقانونية وان الاعتبارات القانونية تنشأ من تطور الاعتبارات الادبية ويجمع القسمين انها تنشأ بداعي التأثير في الاحساس البشري وعواطف الانسان ولتغيير مجرى ارادته.
والاعتبارات مطلقاً تتقوم بعنصرين: عنصر شكلي وعنصر معنوي نعبر عنه بالمحتوى. فالمحتوى في الاعتبارات الادبية هو المراد الجدي الذي يعبر عنه بصورة كنائية فنجد ان تعابير مختلفة تحكي عن واقع واحد كما يعلم ذلك من تعريف علم البيان.
وهكذا الكلام في الاعتبارات القانونية فبعد ان سلمنا انها متطورة عن الاعتبارات الادبية ومستقلة في الاعتبار اخيراً ومنقطعة عن الواقع الخارجي الذي كان هو المحتوى في الاعتبار الادبي بادئ الأمر. وبعد ان سلمنا ان الاعتبارات الادبية تختلف باختلاف الحضارات وان الاستعارة المجازية قد تكون مستحسناً لدى قوم مستقبحاً لدى آخرين.
بعد كل ذلك لا بد لنا من ان نعترف بان الشكل الذي يتبلور فيه الاعتبار القانوني ربما يختلف في حضارة عن أخرى وذلك لانه يتبع في شكله تطور الاعتبار الادبي.
وعلى هذا الاساس نحكم بان الاختلاف الموجود في كلمات الاعلام حول تفسير حقيقة الوجوب والندب لا يعدو اختلافاً في الشكل والمظهر. وعليه فلا مانع من قبول تفسير الوجوب بانه اعتبار العمل في ذمة المكلف او انه اعتبار ارادة المأمور وعضلاته بمنزلة ارادة الآمر وعضلاته أو انه تهييج نحو العمل مع المنع من الترك ليكون الاستحباب هو التهييج ايضاً دون المنع أو ان الوجوب عبارة عن ضرورة الفعل ولزومه كما ان الحرمة ضرورة الترك ولزومه.
فكل هذه التفاسير محترمة و مقبولة وكذا غيرها من الآراء ما دامت تحكي عن انطباع المجتمع و تتأثر بوحيه دون ما يكون منها تحكي عن انطباع شخصي وتصور فردي. وليس لنا اي دليل على وحدة الانطباعات الاجتماعية عن الوجوب والحرمة ونحوهما. وهكذا سائر المفردات القانونية فالملكية قد تفسر بانها السلطة الاعتبارية على شيء وقد تفسر بانها من مقولة الجدة أو من مقولة الاضافة وهكذا...
هذا كله في العنصر الشكلي واما العنصر المعنوي والمحتوى اي سرّ تأثير هذه الاحكام في توجيه ارادة المكلف فعلاً وتركاً مع الواسطة او بدونها فقد ذكرنا سابقاً ان هناك فرضيتين لتفسير الوجوب:
احداهما تبتني على اساس ربط الشخصية وكيان الآمر بالعمل بلا فرق بين شكل الانشاء ومظهره وعليه فالاستحباب لا بد ان يكون من باب ربط شخصية المأمور بالعمل. وفي هذه الفرضية لا يختلف الوجوب الشرعي عن الوجوب العرفي ففي الاول ربط كيان الشارع بالعمل وفي الثاني ربط كيان المجتمع الوطني او القومي او القبلي بالعمل.
والفرضية الثانية تبتني على اساس استبطان الوعد و الوعيد فالوجوب يستبطن وعيداً على الترك والاستحباب وعداً على الفعل سواء كان ذلك الوعيد عقوبة دنيوية كما في الواجبات العرفية او أخروية كما في الواجبات الشرعية واما العقوبات الدنيوية في اوامر الشارع فلا يوجب انتزاع الوجوب الشرعي لوجود التعزير والحد الناقص حتى بالنسبة الى الصبي غير المكلف.
ثم ان التأثير المباشري على ارادة المكلف وتوجيهها نحو الفعل والترك انما هو للحكم الجزائي وهو ما عبرنا عنه بالوعد والوعيد حتى على الفرضية الاولى اذ مجرد ربط الشخصية لا تؤثر في الارادة إذا لم يترتب على اهانة الآمر وهدم كيانه عقوبة مفروضة.
والذي ينبهنا على هذا الاستبطان عبارتان للشيخ الانصاري (قدس سره) احداهما في مبحث الاحكام الوضعية حيث قال انها منتزعة عن الاحكام التكليفية والثانية في مباحث الشرائط من المكاسب حيث اشترط في الشرط ان لا يكون مخالفاً لمقتضى العقد كاشتراط عدم الملك في البيع وعبّر في خلال بيان الضابط له ان لا يمسّ الاشتراط ما هو كالمقوم للعقد.
فمن التعبير بان الحكم الوضعي منتزع عن الحكم التكليفي وان الملك مثلاً مقوم لعقد البيع نستنتج هذه النظرية ونعممها ونبسطها فنقول: ان الاحكام القانونية على أربع درجات:
الدرجة الاولى: الاحكام الجزائية. وهي الوعد والوعيد على الترك او الفعل. بمعنى ان المنشئ يجعل الملازمة بين الفعل او الترك والعقوبة او المثوبة وهذا ليس اخباراً بل انشاء للملازمة ولذلك لا يتصف بالصدق والكذب.
وهذا يؤثر مباشرة على ارادة المكلف اذ كما ان الانسان يتأثر بالمنافع والمضار التكوينية المترقبة من الفعل كذلك بما يعتبره المقنن إذا كانت له قوة تنفيذية وهذا التأثير في مرحلة الاقتضاء طبعاً لا العلية.
الدرجة الثانية: الاحكام التكليفية. كالوجوب والحرمة. وهذه الاحكام انما تؤثر في الارادة إذا كانت معتمدة على حكم جزائي فهي مؤثرة بالواسطة وهذا معنى الاندماج والاستبطان.
الدرجة الثالثة: الاحكام الوضعية كالملكية والزوجية. وهي تجعل ايضاً بداعي التأثير في ارادة الانسان لتنظيم علاقاته الاجتماعية الا انها لا تؤثر في ارادة المكلف الا بواسطة الاحكام التكليفية التي تستبطنها؛ فالملكية – مثلاً – تستبطن جواز التصرف للمالك وعدم جواز تصرف الغير الا بأذنه او اذن وليه. والزوجية تستبطن جواز الاستمتاع وعدم جواز استمتاع الغير من الزوجة وهكذا سائر الوضعيات.
الدرجة الرابعة: العقود والايقاعات. ونقصد بها العقود المعقدة اي ما عدا تلك العقود التي تنشئ الحكم الوضعي مباشرة كالتمليك فالبيع مثلاً عقد معقد بمعنى انها لا تؤثر الا باستبطان الحكم الوضعي وهو التمليك وكذا النكاح الذي يستبطن الزوجية دون التزويج الذي ينشئ الزوجية مباشرة.
ومما ذكرناه يظهر ان الانتزاع الذي يذكره الشيخ (قدس سره) لا ينافي الاستقلال في الجعل فالانتزاع انما هو بلحاظ التوسيط والاحتواء على الترتيب المذكور او بلحاظ التدرج التاريخي في الاعتبارات البشرية حيث انها كلما كانت ابسط واوضح كانت اسبق في تاريخ التمدن البشري على الاعتبارات المعقدة والمستبطنة لاعتبارات اخرى. بل يلاحظ في النمو الفكري لدى الانسان الواحد انه يتعقل الاعتبارات البسيطة في عهد الطفولة ويتدرج في تعقل الاعتبارات المعقدة. ومعنى هذا التدرج ان بعض هذه الاعتبارات مشتقة عن بعض آخر وهو المراد بالانتزاع.
و تدرج هذه المراتب الأربع يتضح بملاحظة الأمور التالية:
الأمر الاول: أنا نجد ان اعتبار كل مرتبة لاحقة منها دون اعتبار السابقة لغو دون العكس فلو اقتصر النظام الاجتماعي على الاحكام الجزائية ولم يعتمد على قانون آخر حتى الاوامر والنواهي أمكن لذلك المجتمع ان ينظم علاقاته – إذا كان بدوياً بسيطاً – ويستغني عن اعتبار المراتب الثلاث الاخرى اذ يكفي جعل الاحكام الجزائية في توجيه ارادة الانسان كما ذكرنا.
واما لو كان النظام معتمداً على الاوامر والنواهي دون ان تستبطن احكام جزائية فان هذا النظام فاشل جداً في تنظيم علاقات المجتمع وتوفير الامن والحياة السعيدة لأبنائه.
كما ان الاحكام الوضعية بدون الاحكام التكليفية المندمجة فاقدة لكل أثر فلا جدوى لاعتبار الملكية إذا لم يمنع القانون تصرف الآخرين فيه بدون اذن المالك ولا أثر لاعتبار الزوجية إذا لم تكن هناك حقوق زوجية تجب مراعاتها على الطرفين ولم يكن حريم قانوني يمنع الآخرين عن اجتياز الحدود الزوجية لهما.
ولكن الاحكام التكليفية لا تتوقف على اعتبار الوضعيات فيمكن الاستغناء عنها بمجرد جعل التكاليف الكفيلة بفرض الاستقرار والامن والمحافظة على الحقوق الا ان الوضعيات تسهل عملية التقنين فهي من خصائص تطور المدنية. وهكذا الكلام في الوضعيات بالنسبة الى العقود فلا معنى لاعتبار البيع دون تحقيق الملكية ولا مانع من العكس. فهذا الأمر ينبّه على أنّ كل مرتبة سابقة من المراتب المذكورة كالمقوم للمرتبة اللاحقة التي تنتزع من السابقة.
الأمر الثاني: انا نجد ان العرف يحكم بالتضاد في مرحلة الجعل إذا جعل شيء من المراتب اللاحقة موضوعاً لحكم غير مسانخ من المرتبة السابقة كما لو حكم بالملكية مع جواز تصرف الغير والاباحة العمومية او حكم بالزوجية مع جواز استمتاع غير الزوج بالزوجة او حكم بالنجاسة مع عدم وجوب الاجتناب او حسنه او حكم بالحرمة مع جعل الثواب على الفعل او بالوجوب مع جعل العقاب عليه.
الأمر الثالث: البساطة والتعقيد. وقد أشرنا الى هذا الأمر في خلال البحث فان كل مرتبة سابقة اوضح وابسط من المرتبة اللاحقة التي تتعلق بالاستبطان والاندماج ويظهر ذلك بملاحظة التدرج التاريخي وبملاحظة النمو الفكري لدى الاطفال حيث نجد ان المربي يبادر ابتداءاً بتهديد الطفل وبيان العقوبة ثم ينتقل بعد ان يكبر الى اصدار الاوامر والنواهي ونجد من بعض الاطفال فهم بعض الاحكام الوضعية بل واسبابها فيمنع الطفل اترابه من التصرف فيما وجده بحجة انه ملكه وبدليل انه هو الذي وجده. فهذا كله يكشف عن بساطة المراتب السابقة وتعقيد اللاحقة.
وما ذكرناه من استبطان كل مرتبة لاحقة لسابقتها لا ينافي كونها من قبيل الموضوع للسابقة وذلك لان الفرق بالتفصيل والاجمال واللف والنشر فالحكم التكليفي مثلاً يستبطن الحكم الجزائي على وجه اللف والاجمال وفي مرحلة انشاء الحكم الجزائي يجعل الحكم التكليفي موضوعاً له بنحو التفصيل. وهكذا سائر المراتب.
كما لا ينافي ذلك استقلال كل مرتبة في الجعل والانشاء فلا وجه لما اعترض على الشيخ الانصاري قدس سره حيث تُوُهم أنّ دعواه انتزاعية الاحكام الوضعية تقتضي عدم استقلالها بالجعل وذلك لان انتزاعيتها على الوجه الذي ذكرناه من الاستبطان للأحكام التكليفية وهو لا ينافي كون الاحكام الوضعية موضوعات تمهيدية للتكاليف.
وهناك اتجاهات أخرى في بيان حقيقة الوجوب والندب هذا بعضها:
الاتجاه الأول:
ما نسب الى المحقق النائيني قدس سره في التقريرات وبيانه بتقريب منا أنّ الوجوب والندب ليسا مما ينشئه الشارع بل هما حكمان عقليان ينطبقان على مورد انشاء الشارع فيشتبه ما بالعرض بما بالذات ويقال ان الشارع أنشأ الوجوب والندب.
فكما ان هناك في الخارج واجباً بالذات هو الباري تعالى وواجباً بالغير وهو سائر الموجودات كذلك في مرحلة الانشاء فالشارع إذا حكم بقوله افعل كذا فقد اعتبر امراً في ذمة المكلف. فان كان ذلك معتمداً على مصلحة الزامية ينطبق عليه عنوان اطاعة المولى وهو واجب بحكم العقل فالوجوب حكم عقلي موضوعه الاطاعة الا انه ينطبق على مورد انشاء المولى فيتوهم ان المولى أنشأ الوجوب من باب خلط ما بالغير بما بالذات. وان كان معتمداً على مصلحة غير الزامية ينطبق عليه عنوان الانقياد وهو حسن بحكم العقل فان كان المولى قد اقام القرينة على عدم كون المصلحة الزامية حكم العقل بالندب والا حكم بالوجوب مطلقاً لوجوب الاطاعة.
ويثير هذا التقريب عدة اسئلة:
السؤال الاول: ما هو الدليل على كون انشاء المولى من باب اعتبار الفعل في ذمة المكلف حتى يكون موضوعاً لحكم العقل؟ فان هذه النظرية احدى المحتملات وموردها الانشاء بصيغة الأمر ولكنه ليست الوسيلة الوحيدة لإنشاء الحكم فمن الممكن ان ينشئ المولى حكمه بمادة الأمر او اداة التحضيض. والمحقق النائيني لا يقول بان مفاد مادة الأمر هو النسبة الايقاعية كما ذهب اليه بعضهم بعد ان اضطر الى القول به في المقام لتنبهه الى ورود هذا السؤال بل يقول بأن مفاده هو مجرد طلب الشيء.
السؤال الثاني: المستفاد من البيان السابق ان مستند حكم العقل بوجوب الاطاعة هو اعتماد الأمر على مصلحة ملزمة. فما هو الدليل على وجوب الاطاعة في مثل ذلك؟
ان ذلك يبتني على القول بوجوب تحصيل الاغراض المولوية الالزامية وان لم يأمر المولى بها وهو غير صحيح ولا يقول به المحقق النائيني وبذلك اجاب عن بعض المناقشات في مبحث الاشتغال فوظيفة العبد اطاعة القوانين لا تحصيل الاغراض.
وذلك لان المصالح في الاوامر الالهية راجعة الى نفس العبد اما بلحاظ الفرد او بلحاظ المجتمع وليس هناك من مصلحة للشارع المقدس في ذلك فاذا خالف العبد الاوامر فقد فوّت على نفسه المصالح او جلب اليها المفاسد وهذا الأمر بنفسه لا يوجب استحقاق العقوبة عقلاً.
اذن فليست المصالح هي سرّ وجوب الاطاعة عقلاً حتى يدعى انها من قيود المعتبر وان الحكم بذلك يكون موضوعا لحكم العقل بل سرّ وجوب الاطاعة اما هو ربط المطلوب بشخصية الآمر او تضمين الحكم وعيداً على الترك اما من جانب الوليّ الحقيقي وهو الله تعالى او الوليّ المنصوب او بموجب عقد اجتماعي كالأحكام المجعولة من جانب ممثلي الشعب في المجالس التشريعية حيث يرجع الانتخابات العامة الى تعهد الشعب بما في تلك الاحكام من وعيد جزائي على المخالفات الصادرة من الافراد.
السؤال الثالث: سلمنا ان العقل يحكم بوجوب الاطاعة فيما لو قامت القرينة على وجود المصلحة الملزمة فما هو الدليل على حكمه بذلك عند عدم القرينة وهل يكفي في ذلك مجرد اعتبار الفعل في ذمة المكلف مع احتمال كونه من قبيل الحكم المشتمل على مصلحة غير الزامية؟!
من الواضح ان وظيفة المولى هي البيان وان عدمه يقتضي حكم العقل بعدم وجوب الاطاعة. ولذا لو قام الاجماع على رجحان عمل ودار الأمر بين الوجوب والندب كان مجرىً لأصالة البراءة وهو يعترف بذلك ايضاً.
السؤال الرابع: ان حكم العقل بوجوب الاطاعة وحسن الانقياد متأخر عن مرحلة انشاء الحكم اذ يشترط فيه التنجيز فلا يمكن ان يكون دخيلاً في الوجوب والندب ولا ريب ان الحكم الوجوبي ولو انشئ من قبل الشارع لا يجب على المكلف اطاعته لجريان اصالة البراءة وقبح العقاب بلا بيان.
و – بعبارة اخرى – حكم العقل بوجوب الاطاعة وحسن الانقياد لا يوجب تقسيم الاحكام الى وجوب وندب وتحريم وكراهة فالمحرم ما يجب تركه والمكروه ما يستحب تركه اذ يرجع الكل الى وجوب الاطاعة وحسن الانقياد. ويمكن العكس فالحكم الوجوبي ما يحرم عصيانه والحكم الندبي ما يكره تركه إذا أبدلنا صيغة الحكم العقلي بحرمة العصيان وكراهة ترك الانقياد. كما يمكن ان يتصف الحكم الواحد بصفات عديدة فالحج واجب الاطاعة وحرام المعصية ولو كان مجرد احتمال فهو حسن الانقياد.
ومن هنا يظهر ان هذه التقسيمات تتبع ضوابط خاصة وليست من اشتباه ما بالعرض بما بالذات.
الاتجاه الثاني:
ما ذكره المحقق العراقي قدس سره او نسب اليه من ان حقيقة الوجوب والندب هي الارادة كما ان حقيقة الحرمة والكراهة هي المبغوضية فجاعل الحكم يدرك اولاً المصلحة او المفسدة الملزمتين او غير الملزمتين او يدرك عدم شيء منها. ثم ينقدح في نفسه الشوق الى الملاك والمصلحة ويعبر عن هذا الشوق بالإرادة التشريعية وهي تتبع في قوتها وضعفها اهمية الملاك فلو وصلت الى حد المنع من الترخيص في الترك كانت ارادة وجوبية والا فندبية.
وهذه الصفة النفسية (الشوق الى العمل) هي روح الحكم ولا بد من ابرازه فالأمر والنهي ليسا الا اخباراً عن الصفة النفسية وكشفاً عنها وهي بنفسها حقيقة الحكم. الا ان المتعارف هو التعبير عن المبرز بالحكم مع انه عنصر كاشف ولا دخالة له في الحكم ولذا يكفي التعبير بـ «اريد» دون انشاء الأمر.
و في هذا الاتجاه مناقشتان:
المناقشة الأولى: ما ذكره المحقق الاصفهاني قدس سره من ان الشوق الى عمل الغير انما يحصل للآمر إذا كانت في ذلك العمل مصلحة له وارضاء لغريزة من غرائزه واما اوامر الله تعالى حيث انها لا تتعلق بأمور لها مصالح للمشرع فلا معنى لحصول الشوق للآمر. وما معنى الشوق الى مصلحة الغير؟!
المناقشة الثانية: ان الشوق الى كمالات الغير – لو سلمنا امكان تحققه – فهو من مبادئ جعل الحكم بمعنى انه داع وباعث نفسي للمولى لجعل الحكم الا انه ليس كافياً لدفع المأمور به الى الامتثال. وروح الحكم هي ما تجعله قابلاً للداعوية والبعث اذ يمكن للمأمور به ان يتنازل عن تحصيل الكمال فهذا الأمر ليس الا كالأمر الارشادي منبهاً لما فيه مصلحة المأمور. وتلك المصلحة الداعية لامتثال المأمور و داعويتها تتوقف على تقبل المأمور لها مع ان المفروض في الاوامر المولوية انها بنفسها تبعث المأمور للعمل من دون النظر الى المصلحة المنظورة للآمر.
و الآمر المشتاق الى تحقق العمل حيث انه يعلم باستقلال المأمور في الارادة فلا بد له من ايجاد الداعي او الزاجر للتمكن من توجيه ارادته نحو الخير المنشود وما له قابلية الداعوية هو ما ذكرناه من اشتمال الأمر لفاً او تصريحاً بالوعد والوعيد.
واما ما ذكرناه في تقريب هذا الاتجاه من كفاية قول المولى اريد منك كذا في تحقيق الأمر وايجاد الداعي فالجواب عنه ان الارادة – كما في المفردات – قد تفيد معنى الأمر كقولك اريد منك كذا فليس هذا مجرد ابراز للشوق بل معناه آمرك بكذا.
ولو سلمنا انه لا يندمج فيه ابتداءاً وعد ولا وعيد فمن الممكن كشفهما بدلالة الاقتضاء نظراً الى ان المولى حيث انه يعلم عدم تأثير مجرد الارادة وابرازها في داعوية المكلف فلا بد من انه قد ضمنها وعداً او وعيداً.
هذا كله مضافاً الى انا لا نجد من العقلاء الاحساس بشوق الآمر الى العمل بمجرد اصدار الأمر.
الاتجاه الثالث:
ان الحكم امر اعتباري وليس حكماً عقلياً ولا صفة نفسية ولهذا الاتجاه عدة تقارير:
التقرير الأول: ان صيغة افعل تفيد النسبة الايقاعية وهي حقيقة الوجوب الا ان الملاك الموجب لاعتبار الحكم قد يكون وافياً بالمجعول وقد لا يكون. فاذا كان الملاك ملزماً كان وافياً اذ المجعول هو الالزام وإذا كان الملاك غير ملزم احتاج الآمر الى انشاء متمم الجعل يفيد الترخيص في الترك.
وهذا التقرير يحتمل ان يكون مراد المحقق النائيني وان كان بعيداً عن عبارة التقارير الواردة عنه الا انه يناسب ذوقه وسلوكه العلمي.
وهذا بعكس ما ذكره في باب التعبدي والتوصلي ان المجعول غير واف بالملاك في التعبديات حيث ان المجعول هو وجوب ذات العمل والملاك يتوقف على قصد الامتثال وذلك بناءاً على عدم امكان قيد قصد الامتثال في الأمر فلا بد للمولى من انشاء متمم الجعل لبيان اعتبار قصد الامتثال.
و يرد على هذا التقرير:
اولاً السؤال عما اوجب تخصيص الاعتبار بالنسبة الايقاعية مع وجود انحاء اخرى منه كما مر.
و ثانياً الاعتراض بان العقلاء كما يمكنهم اعتبار الندب بالنحو المفروض كذلك يمكنهم اعتباره رأساً من دون توسيط متمم الجعل وقانون انتخاب الاسهل يمنع من سلوك هذا الطريق الملتوي. وحيث ان الاعتبار امر سهل فلا يتوقف على مثل هذا التعقيد.
و ثالثاً بان ذلك مخالف للارتكاز والوجدان حيث انا نجد من أنفسنا وحدة الجعل في اعتبار الندب. والاعتبارات لا تقبل التخطئة اذ هي لا تتبع في جوهرها الا نفس اعتبار المعتبر.
التقرير الثاني: ان الوجوب والندب مشتركان في الطلب والبعث الا ان الوجوب له جعل آخر وهو المنع من الترك فهو مركب من جعلين.
وهذا ضعيف اولا لمخالفته الوجدان بان الوجوب ليس له جعلان. وثانياً ان المنع من الترك لو اريد به اطلاقه فهو متحقق في الندب ايضاً و لو اريد به المنع الحتمي فهو مستدرك اذ الاولى حينئذ ان يقال الوجوب هو جعل الحتمية.
التقرير الثالث: ان الأمر حيث كان عبارة عن تعلق ارادة الآمر بعمل المأمور ارادة اعتبارية وكأن المأمور لا استقلال له في الارادة فينقسم الى وجوب وندب بلحاظ شدة هذه الارادة الاعتبارية وضعفها.
وناقش فيه بعض الاعاظم بان الامور الاعتبارية لا تقبل الشدة والضعف والجواب عنه ان الامور الاعتبارية لا تقبل الاشتداد والحركة واما جعلها شديداً او ضعيفاً فلا مانع منه فانها تتبع في ذلك اعتبار المعتبر فمن الممكن اعتبار الوجوب الاكيد واعتبار الوجوب غير الاكيد.
وناقش فيه المحقق الاصفهاني في مقام رد القول بان الفرق بين الملك والحق بالشدة والضعف بان الامور الاعتبارية وان كانت تقبل الشدة والضعف الا انها تتبع في قبولها ذلك قبول الامور التكوينية التي اخذت منها الامور الاعتبارية للشدة والضعف وهو في المقام ممنوع فان الارادة التكوينية وهي الشوق المؤكد لا تقبل الشدة والضعف.
و الجواب عنه اولاً: ان الاعتبار التابع للتكوين هو الاعتبار الادبي فلا بد من ان تلاحظ المناسبة بين الأمر التكويني وما يعطى له حده اعتباراً واما الاعتبارات القانونية فهي امور متأصلة لا تتبع الا ضوابطها الخاصة و ان كانت مأخوذة من أصل تكويني الا انها منقطعة عنه. فهي في الشدة والضعف تتبع المصالح المترتبة المقصودة من اعتبارها.
و ثانياً: ان الارادة التكوينية ايضاً تقبل الشدة والضعف فلا شك في شدة تعلق الارادة بالأمور الضرورية دون الكماليات.
والمناقشة الواردة على أصل هذا التقرير هي منع كون الحكم هو الارادة الاعتبارية مع ان الفرق ليس بملاحظة الشدة والضعف في اعتبار الآمر بل لا بد من ملاحظة المأمور وسر انبعاثه وقد بينا انه هو الأمر المندمج في الحكم فان كان وعداً فقط كان الحكم ندبا وان كان وعيداً كان وجوباً.
2.4هل يجري حمل الأمر على الوجوب في الاخبار والروايات ام لا؟
المبحث الرابع: تبين مما سبق ان مقتضى القاعدة هو حمل الأمر على الوجوب إذا دار الأمر بينه وبين الندب والكلام هنا في ان ذلك هل يجري في الاخبار والروايات ام لا؟
قال جماعة من الاعاظم ان مجرد الأمر الوارد في الاخبار لا يحمل على الوجوب ما لم تقم قرينة على تأكيد اللزوم و الحتمية كالتصريح بالوعيد او ان العمل أكبر من كذا وأهمّ من كذا ونحو ذلك.
وقد نقل هذا القول صاحب الحدائق عن المحقق السبزواري من دون التعرض لدليل وتقريب ثم تهجم عليه صاحب الحدائق بما لا ينبغي من مسلم لمسلم.
هذا ويذكر لهذا القول تقريبان:
التقريب الاول:
ما نسب الى السيد البروجردي[3] قدس سره من ان الاوامر الصادرة من اهل الشرع على قسمين:
- الاوامر المولوية الصادرة بموجب الولاية ودليل الحمل على الوجوب يأتي في هذا القسم الا انه قليل جداً.
- الاوامر التبليغية التي لا يراد بها الا تبليغ حكم الله تعالى وهذه الاوامر في الواقع كالأوامر الارشادية ويتبع في الوجوب والندب المرشد اليه ولا يمكن استظهار الوجوب منها.
واضاف – كما في تقريرات الصلاة – ان الشاهد على ذلك انهم عليهم السلام ليس لهم حق المؤاخذة في مخالفة هذه الاوامر بل هو حق لله تعالى.
وهذا التقريب غير صحيح فان الأمر الصادر لو كان بداعي بيان الوسيلة للوصول الى الهدف المنشود للمأمور فهو ارشادي لان الداعي مفروض الوجود قبل الأمر وهذا الأمر يتبع في وجوبه وعدم وجوبه اهمية الداعي لدى المأمور فأوامر الطبيب – مثلاً – لو كان بصدد علاج مرض مهلك فلا شك انه واجب الاتباع الا ان الداعي موجود لدى المأمور حين المراجعة ولو كان بصدد التجميل – مثلاً – كان مستحسن الاتباع حسب داعي المأمور.
واما لو كان الأمر بداعي ايصال الواقع و تبليغه كأوامر الناطق الرسمي كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليهم السلام فهذه الاوامر اوامر الله تعالى وان صدر عن لسان اوليائه. وقد تكرر في الأحاديث الواردة عن الائمة انهم لا يفتون عن أنفسهم وانما يبلغون عن الله ورسوله. فهذه الاوامر ليست مولوية في نفسها ولكنها ايصال للواقع وتابع له فهي في واقعها اوامر الله تعالى والا لم يكن التبليغ موافقاً للمبلـًّغ عنه.
اذن يمكننا كشف حدود الأمر الواقعي عن الأمر المبلـّغ فاذا كان مفاده الوجوب علمنا ان الحكم الواقعي هو الوجوب ايضاً. وسيأتي لهذه النقطة مزيد توضيح ان شاء الله تعالى.
وما ذكرناه يجري في الاوامر الصادرة عن النائب الخاص للإمام كالنواب الاربعة رضوان الله عليهم وعلى هذا الاساس فسرنا قوله عليه السلام «العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان»[4] فهذه العبارة بمنزلة مرسوم قانوني لنصب الناطق الرسمي ولذا اضاف الثقتان الى نفسه[5]. وليس مفاد الرواية حجية خبر الثقة الواحد كما اشتهر.
التقريب الثاني:
ما ذكره صاحب المعالم في خصوص اخبارنا قال: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الائمة عليهم السلام ان استعمال صيغة الأمر في الندب كان شايعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي فيشكل التعلق في اثبات وجوب امر بمجرد ورود الأمر منهم عليهم السلام.
وحاصله ان الظهور الأول قد انقطع بكثرة الاستعمال في الندب وهذه النقطة يمكن ان نبحث عنها على المسالك التالية:
المسلك الأول: القول بدلالة الأمر على الوجوب وضعاً وهو مسلكه ايضاً وقد اجاب عنه المحقق الخراساني على هذا الاساس بما يرجع الى وجهين:
- ان الاستعمال في الندب وان كان كثيراً الا ان الاستعمال في الوجوب كثير ايضاً ولم يبلغ حد الندرة بحيث يكون الاستعمال في الندب موجباً للوضع الثانوي او المجاز الشايع.
ويمكن تأييده بان الواجبات وان كانت من حيث العدد اقل من المندوبات الا ان كثرة الاهتمام بها وبتلقيها يوجب كثرة استعمال اللفظ فيها ومن هنا نجد ان معظم الابحاث الفقهية في الواجبات بل البحث في المندوبات قليل جداً.
- ان الاستعمالات في الندب وان كانت كثيرة جداً الا انها انما وردت مع القرينة المتصلة. وكثرة الاستعمال مع القرينة المتصلة لا توجب كونه مجازا مشهورا.
وفي هذا تأمل صغرىً و كبرىً.
اما الصغرى فلأن الغالب في الأوامر الندبية اننا نحملها على ارادة الندب بلحاظ الجمع الدلالي بينها وبين ما يدل على عدم الوجوب وهذا من قبيل القرينة المنفصلة.
واما الكبرى فلان الذي يوجب ضعف مرآتية اللفظ لمعناه الحقيقي هو كثرة الاستعمال في معنىً آخر مع القرينة المتصلة حتى تحصل العلقة الوضعية بموجب كثرة التقارن في الاحساس بين اللفظ والمعنى الجديد.
واما إذا كان الاستعمال مع القرينة المنفصلة فهو يوجب الا تأكد ارتباط اللفظ بالمعنى الحقيقي اذ المفروض انه مستعمل فيه بحسب ظاهر اللفظ. وغاية ما تدل عليه القرينة المنفصلة ان المراد الجدي هـو المعنى الآخر وهـذا لا يوجب تقارناً بين اللفظ وذلك المعنى حتى توجب كثرته علقة وضعية بينهما.
المسلك الثاني: مسلك المحقق النائيني وهو ان الحكم بالوجوب حكم عقلي مضمونه ان الأمر المولوي ما لم تقم قرينة على عدم اللزوم تجب اطاعته لوجوب اطاعة المولى.
وعلى هذا المسلك فلا تضر باكتشاف الوجوب كثرة موارد القرينة على عدم اللزوم فان مواردها خارجة عن حكم العقل تخصصاً اذ لا تخصيص فيه. وعليه فلو قامت القرينة على عدم اللزوم في جميع موارد امر المولى ما عدا مورد واحد كان حكم العقل المزبور ثابتاً فيه.
المسلك الثالث: ما اخترناه من ان السر في دلالة الأمر على الوجوب هو ان مفاد الهيئة هو البعث والتحريك وهذا يناسب لزوم صدور العمل من المكلف إذا كان منقاداً وهذه المناسبة تقتضي ان يحمل التحريك والبعث على البعث والتهييج التام وهو يتحقق باشتمال الأمر على الوعيد على الترك بنحو الاندماج وهو حقيقة الوجوب بخلاف ما لو اشتمل على خصوص الوعد على الفعل فانه حقيقة الندب.
و حينئذ فاذا ورد الأمر ولم يكن هناك قرينة متصلة توجب الحمل على الندب وانما صرنا اليه من باب الجمع بين الروايات فلا بد من حمل صدور الأمر بلا قرينة على كتمان الترخيص في الترك لجهة من الجهات كالسوق الى الكمال والقاء الاختلاف بين الشيعة او التقية او غير ذلك مما فصلناه في مبحث علل اختلاف الحديث. وهذا الحمل وان كثرت موارده لا يضر بتلك المناسبة الموجبة لحمل الأمر على الوجوب واندماج الوعيد على الترك.
2.5الجمل الخبرية التي يستفاد منها البعث والتحريك
المبحث الخامس: في مفاد الجمل الخبرية التي يستفاد منها البعث والتحريك.
وقد وقع الخلاف فيما لو دار الأمر بين الوجوب والندب. والمشهور هو الحمل على الوجوب واختاره صاحب الكفاية وذهب صاحب المستند في كثير من المباحث الفقهية الى عدم دلالة الجملة الخبرية التي يستفاد منها الطلب على الوجوب.
توضيح المقام ان الجملة الخبرية – كما ذكرنا سابقاً – بحسب الدلالة الانسية الاخطارية تفيد وقوع النسبة او لا وقوعها بمعنى انها مرآة لأحد الأمرين فالمراد الاستعمالي لها دائماً هو احدهما الا انه قد يطابق المراد الجدي ايضاً وقد لا يطابق وعند الشك نحمل على التطابق لانه الاصل الا انه قد تقوم القرينة على ان المراد الجدي ليس هو الحكاية عن الوقوع فالاستعمال في هذه الموارد مع العناية ويعد من قبيل الاعتبارات الادبية والنتيجة أن استعمال اللفظ وان كان في ما وضع له كسائر موارد المجاز والكناية الا ان المراد الجدي لا يطابق المراد الاستعمالي حسبما تفيده القرينة.
فمنها ما إذا كان المراد الجدي الارشاد الى الحكم او الى سعته او ضيقه او نحو ذلك كما لو قال: «من صلى في ثوب نجس نسياناً اعاد صلاته او يعيد صلاته». ونشير هنا الى انه لا فرق في مثل هذه الجملة بين الماضي والمضارع فان الماضي في حيز الشرط يفيد الاستقبال والا فالماضي على حقيقته لا يمكن ان يستفاد منه الطلب لعدم قابليته للبعث.
ومثل هذا المورد لا شك انه يفيد البعث والتحريك ويستفاد من الجملة وجوب الاعادة. الا ان المراد الجدي هو الارشاد الى عموم مانعية النجاسة لحال النسيان.
والمصحح للتعبير عن وجوب الاعادة بالأخبار هو ان المفروض ان المكلف بصدد اتيان المأمور به بالأمر الوجوبي في الفرائض او الندبي في النوافل المرتبة القابلة للاعادة، فالداعي الى الاتيان موجود في نفسه الا انه اتى به في الثوب النجس نسياناً وحيث ان الداعي باق على تقدير عدم صحة الصلاة يصح الاخبار عن اعادته لغرض بيان لزوم هذه الاعادة.
فالمراد الاستعمالي هو الاخبار عن الاعادة في المستقبل بلحاظ انه إذا توجه الى بطلان صلاته وما نعية النجس حال النسيان ايضاً اعادها لوجود الداعي في نفسه والمراد الجدي هو بيان هذه المانعية المطلقة.
ولكن هذا المورد خارج عن محل البحث لان المستفاد ليس حكماً مولوياً بل هو الارشاد الى عموم المانعية ولا يختص ذلك - كما أشرنا اليه - بالواجب التكليفي بل يشمل النوافل فالوجوب المستفاد هنا وجوب شرطي فلا ربط له بما نحن فيه ومن ذلك يظهر الاشكال في التعميم المستفاد من تمثيل المحقق الخراساني قدس سره.
ومنها ما إذا كان المراد الجدي بيان عدم المانع الشرعي كما لو قال (من هُجم عليه يدافع عن نفسه ولو بقتل المهاجم) والمصحح لهذا الاخبار بداعي بيان عدم المنع الشرعي هو ان الدفاع عن النفس امر فطري حتى في الحيوانات الا ان المتشرع ربما يتوهم عدم جواز الدفاع شرعاً إذا ادى الى قتل المهاجم فاذا رفع عنه الوهم دافع عن نفسه لا محالة ولذلك صح الاخبار عن وقوع هذا الدفاع في المستقبل بحسب المراد الاستعمالي لغرض بيان عدم المنع الشرعي بحسب المراد الجدي.
وكذلك إذا ورد «ان الحاج إذا أحل يصطاد» فان المصحح له هو وجود الداعي النفسي الى الصيد في مجتمع غالب قوته ما يصطاده من الحيوانات البرية فاذا ارتفع المانع أسرعوا الى الصيد والمشرع حيث كان بصدد بيان ارتفاع المانع يخبر عن الوقوع.
ومنها ما إذا لم يكن الداعي النفسي الى العمل مفروضاً في المكلف بل الداعي يتوقف على الأمر الشرعي كما لو قال: «من افطر يوماً من شهر رمضان يعتق رقبة» فالعتق تكليف يحمله الشارع على المكلف والا فهو غير مرغوب فيه ذاتاً فالمصحح لهذا الاخبار ليس الا بيان الجعل والتشريع لتحقيق الداعي النفسي.
وهل مجرد الترغيب كاف في صحة الاخبار عن الوقوع بحسب الاستعمال حتى يقال بانه لا يدل الا على مجرد الترغيب فلا يدل على الوجوب ام ان المناسب ان يكون المراد الجدي امراً يصدق عليه التسبيب الى الفعل وهو الأمر الالزامي الحتمي فان العبد إذا كان مطيعاً اتى بالفعل قطعاً فيصح الاخبار به في مرحلة الاستعمال واما الأمر الندبي فلا ضرورة في امتثاله حتى لو كان مطيعاً فلا يكون التناسب المذكور محفوظاً فيه؟
من الواضح ان الثاني هو الصحيح الا انه ربما يتوهم كفاية مجرد الترغيب كما انه يكفي في صحة الاخبار في القسم الاول كون الصلاة من النوافل وفي الثاني عدم الميل الشديد الى الصيد مثلاً ولكن قد تبين بما ذكرنا ان المصحح هناك هو وجود الداعي القوي ولو بلحاظ اهتمام المكلف بالنافلة او ضرورة الصيد في المجتمع الخاص.
فالصحيح هو ان الجملة الخبرية اذا دار امرها بين الوجوب والندب حملت على الوجوب ولعله يزداد وضوحاً بملاحظة موارد الاخبار عن الانتفاء كقوله تعالى (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «لا ضرر ولا ضرار»[6] اذ لا مصحح للأخبار عن انتفاء الرفث ونظائرها مع شدة الميل اليها بالطبع الا تشريع المنع عنه تحريماً وكذلك لا مصحح للأخبار عن انتفاء الضرار وهو المضارة لميل الانسان اليه بالطبع في موارد وجود مصلحة فيه لنفسه الا تشريع تحريمه ولو كان العمل مكروهاً لم يصح الاخبار عن انتفائه اذ لا رادع عن العمل فالأخبار عن انتفاء الطبيعة لا يناسب كراهة العمل.
وقد تبين بهذا التقرير وجه النظر في بعض ما قيل في المقام:
منها التعميم المستفاد من تمثيل صاحب الكفاية ليشمل المبحث موارد القسم الاول وقد أشرنا هناك الى عدم شمول البحث لها.
ومنها ما قيل من ان المستفاد من الجملة الخبرية في هذه الموارد هو الوجوب بحسب المتفاهم العرفي فلا وجه لتقرير صاحب الكفاية الذي فصلناه.
وقد تبين ان هذا من قبيل الكنايات والمجازات التي تخالف فيها المراد الجدي للمراد الاستعمالي وان دلالتها على الوجوب بحسب المراد الجدي واما المراد الاستعمالي فهو الحكاية عن الوقوع.
اللهم الا ان يدعى ان مثل قولنا زيد كثير الرماد وارادة بيان جوده بحسب الجد وكذلك قولنا زيد اسد وارادة بيان شجاعته بحسب الجد من قبيل المتفاهم العرفي.
وهذا غني عن التعليق.
ومنها ما قيل من ان ما ذكره صاحب الكفاية لو كان مصححاً لاستعمال الجملة الخبرية لصح ذلك في جميع موارد الفعل الماضي وهو واضح الفساد.
وقد تبين ان الفعل الماضي لا يمكن ان يستعمل في مقام البعث والتحريك ولو بحسب الجد وان صحة ذلك فيما لو وقع في حيز الشرط من جهة انه يفيد الاستقبال.
ومنها ما قيل ايضاً من النقض بموارد الجملة الاسمية وانه لا يصح فيها ارادة الطلب نحو زيد قائم.
والجواب عنه ان المقام يختلف فربما صح الاتيان بالجملة الاسمية وارادة الطلب بحسب الجد كما لو قال المولى لعبده إني مسافر غداً وانت معي واراد به لزوم كونه معه فلا مانع من ذلك واما مثل زيد قائم فليس فيه ما يمكن ان يراد به البعث والتحريك اليه وانما هو اخبار عن واقع فعلي.
3الفصل الثالث: تقسيم الواجب الى تعبدي وتوصلي
الفصل الثالث في تقسيم الواجب الى تعبدي وتوصلي وما يحوم حول هذين العنوانين من ابحاث نتعرض لها في ضمن امور:
3.1الأمر الأول:
ربما يناقش في التقسيم المشهور للواجبات الى تعبدية و توصلية بان التعبد خاص بمثل الصلاة والصوم والحج ونحوهما واما الخمس والزكاة فلا تصدق عليهما العبادة مع انهما ايضاً يتوقفان على قصد القربة ولو صدقت عليهما العبادة لصدقت على اطاعة العبد لمولاه ايضاً اذ المناط فيهما واحد وهو الاطاعة فالأولى التقسيم الى توصلية و تقربية و التقربية الى تعبدية وغير تعبدية.
ولكن الظاهر ان التقسيم المذكور صحيح.
بيان ذلك: ان العبادة لغة بمعنى التذلل والخضوع - كما ورد في اللسان. وقال الراغب في المفردات:
«العبودية اظهار التذلل والعبادة ابلغ منها لأنها غاية التذلل ولا يستحقها الا من له غاية الافضال وهو الله تعالى».
وفي تاج العروس: «قال بعض ائمة الاشتقاق أصل العبودية الذل والخضوع».
و ما يتذلل به عرفاً قسمان:
القسم الاول: الاعمال التي تقع بنفسها مصاديق للخضوع والتذلل وهي قد تكون خاصة عرفاً بالإله – بالمعنى العام – كالحج والطواف والصوم ونحوها ومن ذلك بذل المال وذبح الذبائح وتقديمها قرابين للإله وقد عبر عنه بالنسك في القرآن. والنسك لغة العبادة وما يقرب الى الله تعبداً وقد تكون عامة فيتخضع بها للسلاطين والعظماء ايضاً كالركوع والسجود والتكفير عند الفرس والجلوس على الركبة عند المغول وارتداء الثوب الخاص بالحضور عند العظماء كثوبي الاحرام.
وهذا القسم بكلا قسميه مما يختلف في تطبيقه الملل والنحل وهي عناوين قصدية يتوقف انطباقها على قصد العنوان ولابد فيها من الاضافة الى من يخضع له ولكنها بالذات تعتبر مظاهر للتذلل والخضوع ويظهر ذلك بالمقارنة بالقسم الآتي.
القسم الثاني: الاعمال التي يؤتى بها من باب الاطاعة والانقياد. والاطاعة نوع من الخضوع.
فانطباق الخضوع على هذا القسم يتوقف على وجود الأمر بخلاف القسم الاول حيث يكفي في جواز التعبدية عدم المنع. والعبادة تصدق على تلك الاعمال بلحاظ ان العرف ينتزع منها بنفسها التذلل والخضوع وتصدق على هذا القسم – أي ما يؤتى به من باب الاطاعة – بلحاظ ان الاطاعة نوع من الخضوع. بل قد صرح في بعض كتب اللغة ان العبودية الطاعة.
ولكن الظاهر ان العبادة او بعض مشتقاتها قد اشرب فيها لدى العرف المتأثر بالشريعة التذلل على وجه التأله اما لله تعالى او لما يعتقد انه إله او يقرب الى الله زلفى كما ورد في القرآن الكريم. ولعل الموجب لهذا التضمين ورود النهي عن عبادة غير الله تعالى.
ولا فرق في ذلك بين قسمي التذلل المذكورين فكل منهما لو كان على وجه التأله كان عبادة والا لم تصدق العبادة. قال في اللسان حكاية عن الازهري:
«لا يقال عبد يعبد عبادة الا لمن يعبد الله (الى ان يقول) واما عبد خدم مولاه فلا يقال عبده».
ومن هذا يظهر ان السرّ في عدم صدق العبادة على اطاعة العبد لمولاه ليس هو الفرق بين القسمين بل السر هو تضمن العبادة للتأله في العرف المتأثر بالشريعة. وبهذا اللحاظ تنتفي عن الخضوع لغير الله تعالى بأي وجه كان فلا ينافي ما ذكرناه من صدق العبادة لغة على الاطاعة. ولذا ورد النهي عن عبادة الشيطان قال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) ومن المعلوم ان المراد هو الاطاعة لا العبادة المصطلحة.
فتحصل ان الاتيان بالواجبات والمستحبات التوصلية ايضاً لو كان بعنوان الاطاعة لله تعالى صدق عليه عنوان العبادة.
وتبين مما ذكرنا وجه عدم صدق العبادة على اطاعة العبد لمولاه. واما الخمس والزكاة فيمكن عدهما من قبيل الحج والصوم لما ذكرناه من ان بذل الاموال وذبح الذبائح ايضاً مما يعبد به الاله وقد عرفت الصدقة بانها ما يعطى لله تعالى.
هذا مضافاً الى صدق العبادة على كل اطاعة لأمر الله ان كان بقصد الانقياد لحصول الاضافة التذللية اليه تعالى. إذن فالتقسيم الى التعبدي و التوصلي صحيح والمراد بالتعبدي ما يتوقف تحقق الاثر المطلوب منه على الاضافة التذللية الى الله تعالى بخلاف التوصلي حيث يتحقق الاثر المطلوب بتحققه كيفما كان وان أمكن التعبد به ايضاً كما مر.
3.2الأمر الثاني:
ان التقسيم المذكور لا يختص بمتعلقات الاحكام فضلاً عن خصوص الواجبات فكل ما يأتي به الانسان لغرض ما اما ان يكون بحيث لا يتوقف ترتب الاثر المترقب منه على اقترانه بالإضافة التذللية فهو توصلي واما ان يكون بحيث يتوقف ترتبه عليه فهو تعبدي بلا فرق بين ان يكون من متعلقات الاحكام او موضوعاتها. ولا فرق في المتعلقات أيضاً بين الأمر الوجوبي والندبي فالأثر المترقب من الصلاة -مثلا – لا اقل من ان يكون الفوز بالثواب والفرار من العقاب وهما لا يترتبان عليها الا مع الاضافة التذللية سواء في ذلك الفريضة والنافلة وكذلك الحج سواء الواجب منه او المندوب ونحو ذلك.
ولا فرق في الموضوعات ايضاً بين المعاملات وغيرها فالوقف والعتق – وهما من المعاملات – يتوقف الاثر المطلوب منهما على الاضافة التذللية وكذلك الوضوء والغسل وليسا من المعاملات وفي كونهما متعلقين للحكم خلاف والصحيح انهما موضوعان للحكم برفع الحدث وغيره من الاحكام ومع ذلك فالأثر المطلوب لا يترتب عليهما الا بالإضافة التذللية.
هذا ولكن موضع البحث في الدراسات الاصولية استوجب قصر النظر في التعبديات على خصوص الواجبات وأوهم ذلك ان ملاك التعبدية وجود الأمر وقصد امتثاله وذلك حيث يبحث عنه في باب الاوامر وبعد الفراغ عن دلالتها على الوجوب وقد أثر ذلك في تعريف التعبدي و التوصلي مع ان التعبدية و التوصلية صفتان لعمل العبد و يترتبان من جانبه بلحاظ توقف الغرض على الاضافة التذللية وعدمه.
3.3الأمر الثالث:
فيما يتقوم به العبادة سواء كان في الواجبات التعبدية ام التوصلية لما ذكرنا من امكان التعبد بالتوصليات ايضاً.
المحكي عن صاحب الجواهر قدس سره انها متقومة بكون الداعي الأمر الإلهي وإلا لم تصح العبادة وان كان بقصد تحصيل الثواب او الفرار من العقاب بل حتى لو كان بقصد اداء حق المعبود وانه اهل للعبادة فهذه الشؤون في طول قصد الامتثال المحقق لعنوان العبادة وذلك لأنها ليست الا مطاوعة الآمر فلابد ان يكون بقصد امتثاله الا ان الداعي الى الامتثال والاطاعة هو أحد هذه الامور.
وهكذا نقل ايضاً عن بعض تقريرات الشيخ الانصاري قدس سره.
والصحيح ان مطلق الاضافة التذللية كاف في تحقيق معنى العبادة فان حقيقتها كما مر هي التخضع والتذلل. ففي العبادات بالذات كالركوع والسجود يكفي قصد العنوان والاضافة الى الله تعالى واما في القسم الثاني فانطباق عنوان العبادة يتحقق بأحد امور:
منها: قصد امتثال الأمر اما بلحاظ نفس عنوان الآمر او بلحاظ اشتماله على الوعد والوعيد بنحو اللف والاندماج او بلحاظ اندماج ربط الشخصية واحترام شخص الآمر على الاختلاف في تفسير الأمر المولوي فتبين بذلك ان الخوف من العقاب وتحصيل الثواب ونحوهما ليست في طول مطاوعة الآمر بل ليست للأمر باعثية الا من هذه الوجوه فهي مندمجة فيه.
ومنها: قصد الانقياد واحترام القانون او المقنن وهذا يتحقق حتى في موضوعات الاحكام فالانسان في تحصيل مقاصده الشخصية إذا كان متقيداً بالقانون ومراعياً له في انحاء معاملاته واعماله كان ذلك تخضعاً منه وتعبداً حتى في التطهير عن الخبث فتكرير الغسل عند التنجس بالبول – مثلا – ليس الا تعبداً بالقانون.
هذا وربما يقصد الانسان امتثال الأمر ومع ذلك لا يتحقق عنوان العبادة كما لو كان مع الادلال والمنة وهو مرتبة من العجب وهذه المرتبة مبطلة للعمل كما بيناه في الفقه خلافاً لما اشتهر من إطلاق عدم مبطلية العجب للعمل.
والسر في ذلك عدم تحقق الاضافة التذللية لتنافيه مع الادلال وان كان قصد امتثال الأمر محققاً كما ان قصد تحصيل الثواب والفرار من العقاب ربما لا يجتمع مع الاضافة التذللية كما لو اعتبر ذلك اجرة لعمله ووجد نفسه مستحقا للأجر ككل عامل اجير فلا يلاحظ ان الثواب ونفي العقوبة تفضل من الله تعالى فهذا انسان تاجر يعامل مع الله تعالى وهو مناف للتذلل.
وكذلك لو اعتبر الثواب اثراً وضعياً ومعلولاً طبيعياً لعمله او ان عمله يتبدل بطبعه الى الثواب فهو ايضاً لا يرى في ذلك تفضلاً من الله تعالى. كل ذلك ينافي التذلل فينافي العبودية.
اذن فبين العبادة وقصد امتثال الأمر عموم من وجه فقد يطيع الامر بلا تخضع وقد يتخضع ويتعبد بلا امر كما في موضوعات الاحكام او في العبادات الذاتية التي يكفي فيها عدم النهي كالركوع والسجود.
3.4الأمر الرابع:
ان الأمر بالشيء والتقييد بتعبديته هل يمكن جعلهما معاً بجعل واحد مع افتراض ان العبادة هي ما يقصد بها امتثال الأمر كما لو قال توضأ بداعي هذا الأمر أم لا؟
المنساق من كلمات الفقهاء قبل الشيخ الانصاري قدس سره ان هذا القيد كسائر القيود من الاجزاء والشرائط لا فرق بينه وبينها في مرحلة التشريع ولكن الشيخ ومن تبعه ذهبوا الى استحالة تكفل الجعل الواحد لتقييد المأمور به بقصد الأمر.
ولنا في اثبات امكانه بيانان: اجمالي وتفصيلي:
البيان الاجمالي:
أن التشريع مطلقاً امر اعتباري والامور الاعتبارية خفيفة المؤونة والغرض من التشريع هو التأثير في مشاعر المكلف وقيادة ارادته نحو الفعل بالمباشرة كالأحكام التكليفية او مع الواسطة كالأحكام الوضعية ولا يعتبر فيه سوى امرين: قابلية التأثير في شعور المكلف وارادته، وان يكون وفقاً للملاك والمصلحة وكلا الأمرين موجودان في موضع البحث.
فقوله «توضأ بداعي هذا الأمر» يؤثر في الشعور ويقود الارادة والمفروض ان الواجب تعبدي لابد فيه من الاتيان بداعي الأمر فهذا موافق للملاك ايضاً. وحديث الاستحالة والدور والتسلسل لا مجال له في الامور الاعتبارية ومنها الوجوب المتداول بين المجتمعات البشرية على اختلافها بداعي التأثير في شعور الفرد او المجتمع لتحقيق مصلحة المأمور أو الآمر أو شخص ثالث أو المجتمع.
البيان التفصيلي:
ويتركب من مقدمتين:
المقدمة الأولى:
إذا تعلق أمر بمركب ما – سواء كان التركيب بلحاظ جزء او شرط لأن التقيد في الشرط جزء ايضاً والقيد خارج – فالأمر واحد بوحدة حقيقية والمتعلق متعدد بكثرة حقيقية. وهذا الأمر الوحداني يكتسب الكثرة الاعتبارية من المتعلق ويعبر عنه بالانحلال والمتعلق المتكثر يكتسب الوحدة الاعتبارية من الأمر.
فالأمر له وحدة حقيقية وكثرة اعتبارية ومقتضى الوحدة الحقيقية فيه وحدة الموافقة والمخالفة فالموافقة تتحقق بإتيان جميع اجزاء المركب والمخالفة بترك شيء منها. ومن شؤون الكثرة الحقيقية حدوث الاوامر الضمنية المتعلقة بكل جزء وشرط ونتيجة التفكيك تظهر في مرحلة التنجيز.
وهو الذي عبّر عنه المحقق النائيني قدس سره بالتوسيط في التنجيز وبذلك عالج مشكلة أصل البراءة والعلم الاجمالي في الأقل والأكثر الارتباطيين بدعوى ان الأمر متوجه إلى المركب فإن كان بلحاظ الاقل مكشوفاً وبلحاظ الأكثر غير مكشوف فبمقتضى تعدد الاوامر الضمنية نحكم بان انتفاء المركب خارجاً ان كان مستنداً إلى الأجزاء التي نعلم توجه الأمر اليها نعاقب عليه وإن كان مستنداً إلى الأجزاء التي لا نعلم توجه الأمر اليها لا نعاقب عليه وهذا هو التوسيط في التنجيز وهو من خواص تفكيك الأوامر الضمنية في مرحلة الانكشاف وهذا الانحلال المدعى عبارة عن الكثرة الاعتبارية المعترف بها عند العقلاء ولذا يرتبون عليه الأثر وهو التوسيط في التنجيز وليس المقصود من الانحلال تعدد الانشاء أو تعدد المنشأ أو الخطاب حتى يستغرب.
المقدمة الثانية:
لا شك ان الأمر فيه حيثية الداعوية والمحركية بالقوة وهذه الحيثية واضحة في الاوامر النفسية واما في الاوامر الضمنية فداعوية كل منها انما هو بحيث يدعو الى متعلقه منضماً الى متعلقات سائر الاوامر الضمنية في المركب الواحد فالداعوية ليست على وجه الانفراد بل على وجه الانضمام فاذا تعلق الأمر بركعتين من الصلاة لا يصح الاتيان بركعة واحدة بداعي الأمر الضمني الا منضماً مع الاخرى.
وهذا الانضمام على قسمين:
انضمام ارادي وهو في الجزء الذي يمكن ان يأتي به المكلف إذا اتى بسائر الاجزاء بقصد الأمر الضمني المتعلق بها ويمكن ان لا يأتي به.
وانضمام قهري و هو في الجزء الذي إذا اتى المكلف بسائر الاجزاء بقصد الأمر الضمني تحقق ذلك الجزء لا محالة.
كما إذا توضأ بقصد الأمر الضمني المتعلق به في قوله: «توضأ بداعي هذا الأمر» فالجزء الآخر وهو التقييد بقصد الأمر تحقق لا محالة بخلاف ما لو غسل وجهه مثلاً بداعي الأمر الضمني المتعلق به فإنه لا يغني عن سائر الاجزاء كما هو واضح.
ونتيجة المقدمتين ان ورود الأمر بهذا النحو «توضأ بداعي هذا الأمر» ممكن وامتثاله بداعي الأمر الضمني محقق للقيد الآخر قهراً.
و للاستحالة تقارير:
التقرير الأول:
ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره ومحصله أن:
قصد الامتثال إما أن يؤخذ شطراً أو شرطاً وعلى التقديرين فالتقييد به في ضمن الجعل الأول مستحيل:
أما إذا افترض كونه شرطاً فإمكان التقييد به يبتني على انحلال الأمر بالنسبة إلى الشرط والمشروط كانحلاله بالنسبة إلى اجزاء المركب حتى يمكن اتيان ذات المشروط بقصد الأمر الضمني المتعلق به.
وهو غير صحيح فالإنحلال إنّما يصحّ بالنسبة إلى الأجزاء دون الشرط فإنها أجزاء تحليلية عقلية وليس هنا أمر بذات المقيد وأمر بالقيد بل أمر وحداني متعلق بالحصة الخاصة والتقييد ليس جزءاً للمركب بل هو موجب للتحصص (ذكره في باب الاشتغال).
هذا مضافاً إلى المناقشة الآتية في ما إذا افترض كونه جزءاً فهي واردة في هذا الفرض أيضاً إذ غاية ما يفيده التقريب المذكور للإمكان أن يكون التقييد متعلقاً للأمر الضمني كالجزء.
ويمكن أن يعلل منع الانحلال بالنسبة إلى الشرط بوجهين:
الأول: أن التقييد معنى حرفي والمعاني الحرفية كما لا يتعلق بها أمر استقلالي كذلك لا يتعلق بها أمر ضمني إذ لا تلاحظ إلا آلياً وتعلق الأمر بالشيء يقتضي أن يكون ملحوظاً بلحاظ استقلالي.
الثاني: أن فكرة التركب في المشروط إنما تأتي من توهم كون اعتبارات الماهية قيوداً للمعتبر اذ التقييد اعتبار الشيء بشرط شيء فهو أحد اعتبارات الماهية.
ولكن الصحيح انها ليست قيوداً للماهية بل هي انحاء للحاظها حيث يلحظ الشيء بشرط الاقتران او بشرط عدمه او لا بشرط فهي كتصور الشيء بالإجمال والتفصيل بل لا يمكن ان تكون الاعتبارات قيوداً للماهية اذ لو كانت كذلك لم تتحقق الماهية في الخارج – كما ذكره المحقق الاصفهاني في منظومته – فان الاعتبارات ذهنية وليست خارجية فان تقيد بها الشيء تقيد بالوجود الذهني ولم يمكن تحققه خارجاً وبذلك يمتنع تعلّق الأمر به فاذا تعلق الأمر بالصلاة والطهارة فالذي يمكن تحققه خارجاً هو ذات الصلاة وذات الطهارة واما التقيد فلا يمكن وجوده خارجاً حتى يتعلق الأمر به اذن فالطهارة مقدمة خارجية لا واجبة بالوجوب الضمني.
فتحصل ان منع الانحلال اما ان يكون على اساس آلية المعاني الحرفية واما ان يكون على اساس عدم امكان تقيد الماهية بالاعتبارات.
اما نظرية كون المعاني الحرفية آلية وانه المائز بينها وبين المعاني الاسمية – كما اختاره المحقق الخراساني – فقد ذكرنا في مبحث المعنى الحرفي عدم وضوح صلاحيتها لتمييز الاسم عن الحرف بل ربما تلاحظ الحرف على وجه الاستقلال فيقع السؤال عنه كقولك: «أفي الدار ضرب زيد عمراً» مع العلم بوقوع أصل الضرب والضارب والمضروب وانما المجهول هو كونه في الدار.
واما اعتبارات الماهية وقياسها بالتصور الاجمالي والتفصيلي فسيأتي توضيح الفرق بينهما وان الاجمال والتفصيل من انحاء التصورات واما التقييد فهو عمل ابداعي نفسي يؤلف بين الشيئين الا ان الجزء الملحوظ قد يكون نفس القيد وقد يكون التقيد به كالصلاة المقيدة بكونها مع الطهارة وسيأتي توضيح ذلك في باب المطلق والمقيد.
واما القول بان الأمر لابد من ان يتعلق بما يقبل الوجود الخارجي والمقيد بالاعتبار وهو عمل ابداعي نفسي لا يمكن تحققه خارجاً فالجواب عنه ان المأمور به لا يجب ان يوجد بوجود ما بحذائه بل يكفي وجوده بوجود منشأ انتزاعه فيكون موجوداً بالتبع وبالعرض وكذلك المنهي عنه فالغصب مثلا امر انتزاعي ولكنه قابل لتعلق النهي لقابليته للوجود بوجود منشأ انتزاعه وكذلك عنوان احد الأمرين في الواجب التخييري والواجب فيما نحن فيه هو المركب من الصلاة والتقيد بالطهارة وتحققه خارجاً انما يتم بتحقق ذات الصلاة بعد ذات الطهارة فذلك منشأ لانتزاع المركب المذكور وهذا المقدار كاف في تعلق الأمر و لا يجب ان يتعلق بأمر متأصل.
هذا كله فيما إذا افترض كون قصد الامتثال شرطاً للمأمور به واما إذا افترض كونه جزءاً له فيمكن ان نقرّر مناقشة المحقق الخراساني فيه بما يلي:
لا شك ان الأمر المتوجه الى الكل متوجه الى الأجزاء ايضاً اذ ليس الكل الا الأجزاء بالأسر فينحل الأمر بالكل الى اوامر ضمنية متعلقة بالأجزاء الا ان هذا الانحلال أثره التوسيط في التنجيز كما مر ولا يفيد التفكيك في الداعوية وبعبارة اخرى الأمر بالكل ليس منحلاً بلحاظ الداعوية الى اوامر بل هو يدعو بدعوة واحدة الى الكل ومن هنا لم يكن له الا موافقة واحدة ومخالفة واحدة ودعوته الى كل جزء بعين دعوته الى الكل.
وعلى هذا الأساس فاذا أخذ في متعلق الأمر اتيان الشيء بقصد داعوية الأمر كان معناه ان يدعو الشيء الى داعوية نفسه وهو مستحيل.
توضيحه: انه لا اشكال ان الأمر بالكل لا يدعو الى الجزء لا بشرط أي وان انفك عن سائر الأجزاء بل يدعو اليه بشرط الانضمام فالداعوية واحدة والمدعو اليه هو الكل فاذا كانت الداعوية أحد الأجزاء بأن يجب اتيان المتعلق بقصد الداعوية كان الأمر داعياً الى داعوية نفسه وهو نظير علية الشيء لعلية نفسه فالأمر وان لم يكن علة للداعوية الا انه مقتض لها وهذا غير معقول.
وهذا التقريب وارد في حاشية المحقق الاصفهاني على الكفاية وفي كتابه الأصول على النهج الحديث والوارد في الكفاية موجز وما توهم من الفرق بين ما في الكفاية وما في الحاشية لا وجه له.
قال في الكفاية:
«انما يصح الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن اتيانه بهذا الداعي ولا يكاد يمكن الاتيان بالمركب من قصد الامتثال بداعي امتثال امره».
والجواب عنه ان داعوية الاوامر الضمنية وان لم تكن منفكة بعضها عن بعض بل كل منها يدعو الى متعلقه بشرط انضمامه الى ما عداه من الاجزاء الا ان الانضمام الى قصد الداعوية حاصل قهراً إذا اتى بسائر الأجزاء وذلك لان الاوامر الضمنية المتعلقة بسائر الأجزاء التي تشكل ذات المركب تدعو الى كل منها والأمر الضمني المتعلق بالداعوية تدعو الى داعوية تلك الأوامر لا داعوية نفسه ويحصل انضمام الداعوية بامتثال تلك الأوامر بداعويتها قهراً. فلو قال «توضأ بداعي هذا الأمر» كان مفاد الأمر الضمني المتعلق بالداعوية اتيان الوضوء بداعي الأمر الضمني المتعلق بذاته والاشكال انما يرد لو كان مفاده اتيان الداعوية بداعي الأمر الضمني المتعلق بها فيكون الأمر داعياً الى داعوية نفسه وليس كذلك.
التقرير الثاني للاستحالة:
مناقشة المحقق النائيني قدس سره وحاصلها ان هذا النحو من التشريع يستلزم في مرحلة الانشاء اخذ الحكم في الموضوع وفي مرحلة الفعلية توقف وجوب الشيء على وجوبه وهما مستحيلان.
بيان ذلك بتقريب منا يتوقف على ذكر مقدمات ثلاث:
المقدمة الاولى ان الأمر بالشيء امر بقيوده وشرائطه فكما ان متعلق الأمر داخل تحت دائرة الطلب كذلك التقيد وهو لا يتحقق الا بتحقق القيد فالبعث الى المقيد بعث الى التقيد والقيد ولذا يقال تعلق الأمر بشيء كما انه تحريك لمتعلقه كذلك تحريك لمتعلق المتعلق فلو قال «صل مع الطهارة» او «مستقبلاً» فكما انه يدعو الى الصلاة كذلك الى الطهارة والاستقبال اذ المفروض ان الحصة الخاصة من الصلاة تحت دائرة الطلب فالقيد واجب ولو عقلاً الا ان القيد (متعلق المتعلق) قد يكون خارجاً عن دائرة الطلب وذلك في موردين:
المورد الأول: ان يكون القيد غير مقدور فالعقل يحكم بخروجه عن دائرة الطلب نحو «اقم الصلاة لدلوك الشمس» فدلوكها خارج عن اختيار المكلف فلا يتعلق به الطلب فلا بد ان يكون مفروض الوجود والمراد صل في فرض دلوكها.
المورد الثاني: ان تكون المصلحة الداعية الى جعل الحكم مختصة بنفس المتعلق ولا تكون مصلحة في متعلق المتعلق فالعقل يحكم بانه لابد ان يكون مفروض الوجود والا لزم البعث الى ما لا مصلحة منه وهذا يتحقق في موارد منها.
- ان يكون الداعي لجعل الحكم دفع المفسدة الناشئة من متعلق المتعلق؛
فلا يعقل ان يكون داعياً الى ايجاده نحو «اشرب الدواء من اجل المرض» فلا يعقل ان يكون داعياً لإيجاد المرض حتى يجب الشرب. او «اقض ما فات كما فات» فوجوب القضاء لتدارك المصلحة الفائتة فلا يمكن ان يكون داعياً الى تفويت مصلحة الاداء لتحقيق موضوع القضاء.
- ان يكون الأمر بالمتعلق للردع عن متعلق المتعلق والمنع من تحققه خارجاً؛
نحو (والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما) فلا يعقل ان يكون داعياً الى السرقة.
- ان يكون متعلق المتعلق عسراً وان كان مقدوراً؛
والمفروض ان المصلحة الداعية لجعل الحكم ليس بذلك المكان من الاهمية بحيث تدعو الى تحمل العسر والمشقة الشديدة بل ملزمة في فرض وجود ذلك المتعلق فقط.
- ان يكون متعلق المتعلق مناط تحقق المصلحة في متعلق الأمر؛
فلا يجب الا مع فرض وجوده نحو «اوفوا بالعقود» فلو لم يتحقق العقد لم يكن معنى للوفاء.
في جميع هذه الموارد يحكم العقل بان متعلق المتعلق مفروض الوجود.
المقدمة الثانية: ان كل مورد يكون فيه متعلق المتعلق مفروض الوجود فالقيد وان كان بحسب الظاهر قيداً للمادة الا انه لبّاً قيد للهيئة والمراد به «الوجوب» أطلقت عليه باعتبار غلبة افادة الوجوب بالهيئة فمرجع قوله تعالى: (اقم الصلاة لدلوك الشمس) اذا زالت الشمس وجبت الصلاة واذا قيل يجب شرب الدواء من اجل المرض فمعناه يجب على المريض شرب الدواء وقوله تعالى اوفوا بالعقود مفاده اذا وجد عقد يجب الوفاء به والحاصل ان القيد ليس قيداً للمتعلق في الواقع بل هو قيد للوجوب.
والوجه في ذلك ان الوجوب اما ان يكون مطلقا بالنسبة الى مثل هذه القيود ومقيداً بوجودها او عدمها او مهملاً بالنسبة اليها. والاهمال في اللُبّ والواقع غير معقول والاطلاق غير صحيح اذ لا معنى لوجوب شرب الدواء من اجل رفع المرض بنحو الاطلاق أي وان لم يكن مريضاً والتقييد بالعدم لا معنى له للزوم التهافت في مرحلة الجعل فلابد ان يكون الوجوب مقيداً بوجوده اذن فجميع ما هو خارج عن دائرة الطلب قيد للوجوب سواء كان اختياريا ام غير اختياري.
المقدمة الثالثة: ان الحكم الواحد وان انحل بلحاظ تكثر المتعلق الى اوامر ضمنية الا ان هذه الاوامر لا تختلف بلحاظ الشروط المعتبرة فكل ما كان شرطاً لاحد هذه الاوامر كان شرطاً للجميع وذلك مقتضى الوحدة الحقيقية للحكم فان وحدة الجعل تقتضي ان يكون شرط المنشأ وهو الحكم سارياً في جميع الاحكام الضمنية التي تستخرج منه بالانحلال الاعتباري و إذا أراد المنشئ ان يقيد أحد هذه الاوامر بقيد خاص كان عليه ان ينشئ ذلك بجعل مستقل.
وهذا هو الاساس في نظرية المحقق النائيني في تصحيح صلاة الناسي لغير الاركان وتتلخص في تعدد الأمر. فالأمر الاول متعلق بالأركان وهو مطلق غير مقيد بالالتفات والأمر الآخر متعلق بغيرها من اجزاء الصلاة وهنا يمكن تقييده بان يقول: «إذا اتيت بالأركان وكنت ملتفتاً الى الفاتحة – مثلا – وجبت عليك».
ونتيجة هذه المقدمات انه لو قال المولى «توضأ بداعي هذا الأمر» فهذا القيد من قيود المتعلق وهو الوضوء وحيث ان الأمر خارج عن اختيار المكلف فالقيد مفروض الوجود وهو بحكم المقدمة الثانية قيد للوجوب فمرد الحكم الى قوله: «اذا وجد امر يجب عليك الوضوء بداعي ذلك الأمر» وبحكم المقدمة الثالثة لا يمكن ان يكون هذا القيد من شروط الأمر بالوضوء دون الأمر بالمجموع الا بجعلين كأن يقول «توضأ» و «اذا وجد امر بالوضوء فأت به بداعيه» والمفروض اتيان القيد بالجعل الأول فمرجع ذلك الى مثل هذا التعبير «اذا وجد امر بالوضوء بداعي الأمر يجب عليك الوضوء بداعي الأمر» ليكون القيد قيداً للمجموع ولازم ذلك في مرحلة الانشاء ان يؤخذ نفس الحكم في موضوعه وهو غير معقول وفي مرحلة الفعلية ان يتوقف وجوب الشيء على وجوبه فكما ان جملة «اذا وجدتِ الاستطاعة وجب الحج» تفيد ان فعلية وجوب الحج تتوقف على وجود الاستطاعة كذلك هذه الجملة تقيد ان فعلية وجوب الوضوء بداعي الأمر تتوقف على وجوبه بداعي الأمر. وهو محال.
وللتحقيق عن هذا التقرير لابد من تقييم المقدمات الثلاث.
اما المقدمة الاولى والثالثة فلا اشكال في صحتهما انما الكلام في المقدمة الثانية. فهل كل قيد للمتعلق لا يدخل تحت الطلب لاحد الأمرين قيد للهيئة بحسب اللب كما ورد في التقرير أم لا؟
يمكن المناقشة فيه بوجوه:
الوجه الأول: ان القسم الأول وهو ما كان متعلق المتعلق فيه خارجاً عن الاختيار لا تتقيد الهيئة به مطلقاً بنحو التقييد اللحاظي.
وتوضيح ذلك يتم بالتنبيه على أمرين:
الأمر الاول: ان الشيء إذا قيد بالملزوم فلا يمكن تقييده باللازم ولو كان التقيد به دخيلاً في الملاك. اذ لا يبقى بعد التقييد بالملزوم محل للإطلاق والتقييد بالنسبة الى اللازم – كما ذكره المحقق النائيني في مباحث الاطلاق والتقييد و استصحاب العدم الازلي – فلو قال مثلا «توجه الى القبلة في الصلاة» وكان ذلك مستلزماً لاستدبار الجدي – مثلا – وفرضنا ان استدباره شرط في الملاك واقعاً فلا يقبل التقييد به كما لا يعقل الاطلاق.
والسر في ذلك ان الاطلاق والتقييد يعتريان الماهية القابلة للانقسام وبعد تقييد الماهية بالنسبة الى الملزوم تتضيق بالنسبة الى اللازم بالطبع فالصلاة المقيدة بالتوجه الى القبلة لا يمكن ان تنقسم في العراق – مثلا – الى حالة استدبار الجدي وعدمه حتى تقيد به او بعدمه او تطلق.
وعلى هذه القاعدة فرّع المحقق النائيني في مبحث استصحاب العدم الازلي ان الماهية إذا تقيدت بالنسبة الى وجود العرض او عدمه نعتاً لا يبقى محل للإطلاق والتقييد بالنسبة الى وجوده وعدمه المحموليين لان الاطلاق والتقييد بالنسبة الى الاوصاف مقدمان عليهما بالنسبة الى المقارنات ولكن سيأتي في محله المناقشة في هذا التفريع. وان كان أصل القاعدة صحيحاً.
الأمر الثاني: ان المتسالم عليه بينهم بحيث لم يخالفه الا النادر اشتراط كل تكليف بالقدرة اما لقبح التكليف بما لا يطاق كما هو المشهور واما لان التكليف بغير المقدور محال كما ذكره المحقق النائيني نظرا الى أن حقيقة التكليف ايجاد الداعي بالإمكان وهو غير ممكن بالنسبة الى غير المقدور فكما ان الارادة التكوينية لا يمكن ان تتعلق بغير المقدور كذلك الارادة التشريعية فمرجع الأمر بالوضوء بداعي امره مثلا الى جملة «ان كنت قادراً فتوضأ بداعي الأمر» اذن فالهيئة في كل تكليف مقيدة بالقدرة واذا كان متعلق التكليف مقيداً بأمر غير اختياري توقف حصول القدرة على التكليف على تحقق ذلك الأمر خارجاً فيكون تحققه لازماً للقدرة على التكليف، فالأمر بإقامة الصلاة عند دلوك الشمس مقيد لباً بالقدرة ولا تتحقق القدرة على «اقامة الصلاة في ظرف الدلوك» إلا بعد تحقق الدلوك خارجاً فهو لازم للقدرة.
ويتحصل من مجموع الأمرين انه لا يمكن تقييد الهيئة في قوله تعالى «اقم الصلاة لدلوك الشمس» بالدلوك بعد ان كانت مقيدة لبّا بملزومه وهو القدرة على الصلاة في ظرف الدلوك وذلك لما مر في الأمر الاول من عدم قابلية الماهية للانقسام بالنسبة الى اللازم بعد تقيدها بالملزوم والاطلاق والتقييد انما يعتريان الماهية القابلة للانقسام وكذلك الأمر بالوضوء بداعي الأمر لان الأمر خارج عن الاختيار فالقدرة على الوضوء المقيد بداعي الأمر لا تتحقق الا بعد تحقق الأمر فهو لازم لها ولا يمكن التقييد اللحاظي بالنسبة الى اللازم بعد التقيد لبّا بالنسبة الى الملزوم.
الوجه الثاني: انا لو سلمنا في بعض موارد خروج متعلق المتعلق عن دائرة الطلب انه قيد للهيئة والوجوب الا ان ذلك على عمومه غير صحيح.
توضيحه: ان المحقق النائيني قدس سره ذكر في رسالته في اللباس المشكوك ان متعلق المتعلق إذا كان امراً شخصياً وجزئياً حقيقياً فالهيئة لا تتقيد بوجوده كما لو قال «قف بعرفات» فلا معنى للقول بتقيد الوجوب بوجود عرفات وكذا «توجه الى القبلة» فليس معناه ان كانت القبلة موجودة توجه اليها وانما يصح ذلك في ما إذا كان متعلق المتعلق كليّاً واما إذا كان شخصياً فحاله حال ما لا متعلق لمتعلقه فقوله «توجه الى القبلة» كقوله «توجه». وذلك لان التشخص مساوق للوجود فلا معنى للتقييد بوجوده ولا يتوهم النقض بمثل «أكرم ابن زيد» فانه مقيد بوجوده لانه ليس شخصياً بل هو عنوان كلي وان لم ينطبق في الخارج الا على فرد واحد والمفروض فيما نحن فيه ان متعلق المتعلق شخصي «توضأ بداعي هذا الأمر» واسم الاشارة يعني شخص الأمر فلا معنى لتقييد الهيئة به.
الوجه الثالث: ان ما ورد في التقرير من الاستدلال على تقيد الهيئة بمتعلق المتعلق بانه إما ان يكون مطلقاً او مقيداً بوجوده او عدمه اذ لا اهمال في الواقعيات غير صحيح على عمومه ايضاً ولا يشمل ما نحن فيه. وذلك لان الاطلاق والتقييد من اعتبارات الماهية وهي لا تعتري الا الماهية المقيسة الى شيء آخر فلا يصح التقسيم فيما إذا قيست الماهية الى نفسها كما في محل البحث حيث انه جعل مورد الاطلاق والتقييد هيئة فعل الأمر والمقيس اليه هو الأمر ايضاً وهو بالنسبة اليه ليس مورداً للاطلاق والتقييد حتى نلتزم بالتقييد بوجوده اذن فليس كل ما هو مفروض الوجود من قيود المتعلق قيداً للهيئة.
وربما يناقش في التقرير بأنّا لا نفرض القيد قيداً للهيئة حتى يلزم منه التكليف بما لا يطاق.
وبما ذكرناه من تقرير ما ذكره المحقق النائيني على اساس ان كل متعلق للمتعلق يكون مفروض الوجود فهو قيد للهيئة لا يبقى مجال لهذه المناقشة اذ لا حاجة بعد ذلك الى ضم لزوم التكليف بما لا يطاق حتى يعترض بعدم لزومه.
وهكذا لا يرد الاعتراض عليه بان ارجاع قيود المادة الى الهيئة مخالف للاستظهار العرفي فانه لم يدع الاستظهار العرفي وان كان ذلك موجوداً في ارتكاز العرف ايضاً بل السّر في ذلك عدم القدرة على متعلق المتعلق في القسم الاول وقصور المصلحة لشمول الطلب له في القسم الثاني.
وتفصيل هذه المباحث وان القيود غير المقدورة هل ترجع كلها الى قيود المادة كما ذكره الشيخ والى الهيئة كما ذكره المحقق النائيني او بينها تفصيل له موضع آخر.
التقرير الثالث للاستحالة ما ورد في اجود التقريرات عن المحقق النائيني ايضاً من الاشكال في مرحلة تحقق الامتثال الخارجي قال في ص 108:
«واما في مقام الامتثال فلان قصد الامتثال متأخر عن اتيان تمام اجزاء المأمور به وقيوده طبعاً فان قصد الامتثال انما يكون بها وحيث انا فرضنا من جملة الاجزاء والقيود نفس قصد الامتثال الذي هو عبارة عن دعوة شخص ذلك الأمر فلابد وان يكون المكلف في مقام امتثاله قاصداً للامتثال قبل قصد امتثاله فيلزم تقدم الشيء على نفسه».
والحاصل ان قصد امتثال الأمر بالاجزاء والشرائط متأخر عن نفس الاجزاء والشرائط فاذا اخذ في متعلق الأمر كان في رتبته ومقتضى ذلك ان يؤتى به ايضاً بقصد امتثال امره لعدم الفرق بينه وبين سائر الاجزاء والشرائط فيجب ان يكون قصد الامتثال مقدماً على نفسه. اما تقدمه فبلحاظ اخذه في متعلق الأمر واما تأخره فبلحاظ كونه قصد امتثال الأمر وهو متأخر طبعاً عن نفس الاجزاء والشرائط.
والجواب عنه ان ذلك انما يتم إذا كان المدعى ان قصد الامتثال يجب ان يؤتى به ايضا بقصد الامتثال. وقد تبين مما ذكرناه ان مقتضى التقييد بقصد الامتثال وجوب اتيان ذات الاجزاء والشرائط بقصد امتثال الأمر الضمني المتوجه اليها. فلا يرد عليه الاشكال المذكور.
فتحصل انه لا مانع من تقييد المتعلق على الأمر بقصد امتثال ذلك الأمر بجعل واحد.
3.5الأمر الخامس:
ان المحققين الخراساني والنائيني قدس سرهما اختلفا بعد الاتفاق على استحالة اخذ قصد الامتثال في نفس الأمر في امكان التقييد بسائر الدواعي القربية كإتيان المتعلق لأجل كونه ذا مصلحة مقصودة للمولى او اتيانه بداعي ترتب الثواب او الفرار من العقاب. فادعى المحقق الخراساني امكانه وعدم وقوعه وادعى النائيني استحالته ايضاً.
اما امكانه بنظر المحقق الخراساني فلأن وجه الاستحالة عنده في التقييد بالامتثال لا يأتي في هذا الفرض اما على افتراض كونه شرطاً فلأن وجه الاستحالة الخاصة بهذا الفرض – كما ذكرناه – هو عدم تعلق الأمر الضمني بذات المشروط حتى يؤتى به بداعيه لعدم الانحلال بالنسبة الى الشروط. وفيما نحن فيه لا حاجة الى فرض الأمر الضمني، اذ أن الشرط ليس قصد امتثال الأمر حتى يتوقف على وجود الأمر. واما على افتراض كونه جزءاً فلأن المانع هناك هو داعوية الشيء لداعوية نفسه والمفروض هنا ليس جزئية داعوية الأمر.
واما عدم وقوعه فلأنه لا اشكال في كفاية اتيان المأمور به بداعي امتثال الأمر في تحقيق التعبدية بل ادعى صاحب الجواهر انحصار التعبدية فيه. وكيف كان فكفايته متفق عليها وحينئذ فاذا أخذ في متعلق الأمر أحد الدواعي الاخر كان لازم ذلك عدم كفاية قصد الامتثال.
بيان الملازمة ان الداعي القربى المأخوذ في المتعلق اما ان يكون شرطاً او جزءاً:
فإن كان شرطاً فذات المأمور به ليس مأموراً به ولا يتعلق به امر ضمني بل المأمور به هو الحصة المقيدة، والأمر وحداني كما مر من عدم انحلاله بالنسبة الى الشرائط، فلا يمكن قصد امتثال الأمر بإتيان ذات المأمور به بل لابد من ضم الداعي المذكور، وهو مناف لما اتفق عليه من كفاية قصد امتثال الأمر داعياً في مقام التعبد.
وإن كان جزءاً فذات العمل (من دون الداعي القربى) وان كان متعلقاً للأمر الضمني الا انه انما يدعو اليه حال الانضمام الى الجزء الآخر وهو الداعي القربى والمفروض كفاية اتيانه بقصد الامتثال واغنائه عن سائر الدواعي.
وما ذكره صحيح على مبناه فلا يرد عليه اشكال الا في أصل المبنى.
واما المحقق النائيني فقد قال باستحالة التقييد بسائر الدواعي القربية ايضاً وذلك لوجهين خاص وعام:
اما الوجه الخاص فيختص بما إذا كان الداعي القربي التسبيب الى المصلحة المقصودة للمولى، بمعنى ان يقصد تحقيق غرض المولى. ووجه الاستحالة ان قصد التسبيب الى مصلحة الفعل يتوقف على الترابط الواقعي على وجه العلية التامة بين المصلحة والفعل، اذ لا يمكن قصد التسبيب الى كل شيء بكل فعل بل حتى بالمقتضي و لابد من كونه علة تامة، فاذا اخذ في متعلق الأمر قصد التسبيب كان مقتضى ذلك ان لا تترتب المصلحة على ذات الفعل بل بقيد كونه مع قصد التسبيب. فقصد التسبيب يتوقف على ترتب المصلحة على الفعل وكونه علة لها وهو يتوقف على قصد التسبيب لأخذه في متعلق الأمر فيلزم الدور.
وهذا الوجه قد اشير اليه في اجود التقريرات وورد ببيان آخر في رسالة مخطوطة منه وجد في مكتبة تلميذه الجليل المحقق الشيخ حسين الحلّي قدس سره استنسخ منه سيدنا الاستاد أدام الله ظله.
ويمكن الجواب عنه بإمكان وجود مصلحتين ملزمتين احداهما تترتب على ذات الفعل و الأخرى على اتيانه بقصد التسبيب الى المصلحة. فقصد التسبيب يتوقف على وجود مصلحة في الفعل وهي المصلحة الأولى وهي لا تتوقف على قصد التسبيب وانما تتوقف عليه المصلحة الثانية فلا دور.
وفي هذا الجواب نظر اذ يلزم منه ان تكون الصلاة بدون قصد ترتب المصلحة وهو الداعي القربى المأمور به صحيحة ولا يجب القضاء ولا الاعادة وذلك لان المفروض ان مصلحة ذات الصلاة غير متوقفة على قصد ترتب المصلحة فتلك المصلحة حاصلة مترتبة على ذات الفعل و بهذه الصلاة الفاقدة للداعي القربي، وانما عصى المكلف بتفويته مصلحة ملزمة أخرى وهي المترتبة على الصلاة مع قصد التسبيب وحيث ان الأمر بالصلاة يسقط بإتيانها بدون الداعي حسب الفرض فلا يمكن تدارك المصلحة الثانية بإعادة الصلاة أو قضائها مع قصد التسبيب وذلك لعدم ترتب المصلحة الأولى حينئذ اذ هي تترتب على صرف وجود الصلاة وقد تحقق ولا تترتب على مطلق وجودها والحاصل ان مقتضى هذا التوجيه قطع الارتباط بين الصلاة – مثلا – والداعي القربي فيكون واجباً في واجب وهو خلاف الفرض اذ المفروض تقييد المتعلق به.
والصحيح في الجواب ان قصد التسبيب متوقف على الترابط بين الفعل والمصلحة المنشودة الا انه لا يجب ان يكون بنحو العلية التامة فيكفي في ذلك ان يكون الفعل مقتضياً للمصلحة في ظرف وجود الشرائط فيمكن في مثل ذلك قصد التسبيب وان كان هو بنفسه احد الشروط التي يتوقف عليها ترتب المصلحة على الفعل الا انه يكفي في امكان قصد التسبيب تحققه في ظرف ايجاد الفعل فتكون الشرائط كلها مجتمعة مع تحقق المقتضي فتترتب المصلحة، اذن فقصد التسبيب متوقف على الترابط المذكور لا على العلية التامة وهو لا يتوقف في نفس الأمر على قصد التسبيب وانما تتوقف فعلية ترتب المصلحة خارجاً عليه.
واما الوجه العام فهو ان دواعي العمل مطلقا لا يمكن ان تؤخذ في متعلق الأمر اي الارادة التشريعية فان الدواعي علل الارادة فلا تكون من متعلقاتها، ولنلاحظ ذلك في الارادة التكوينية فانا نجد ان متعلق الارادة التكوينية هو نفس المراد والعمل الخارجي واما الدواعي فهي علل لتحقق الارادة وتعلقها بالعمل وموجبة لاعمال القدرة في سبيل تحقيق المراد ولا تدخل في نطاق متعلق الارادة ولا تكون من شؤونه اذ يستلزم ذلك ان تكون معلولة للإرادة مع انها عللها.
وهذا واضح في الارادة التكوينية. والارادة التشريعية مثلها ايضاً فلا يمكن ان تكون دواعي الارادة متعلقة لها ومن شؤون المراد والحكم هو الارادة التشريعية وهي تتعلق بالعمل لإيجاد الارادة التكوينية في نفس المأمور. فان لم يمكن ان تتعلق الارادة التكوينية بدواعيها فكذلك الارادة التشريعية. وتبين بذلك ان دواعي الفعل لا تدخل في نطاق متعلقات الاحكام.
والجواب عنه اما في الارادة التكوينية فلا شك في ان الدواعي الموجبة لتحقق الارادة بمعنى اعمال القدرة لا يمكن ان تكون متعلقاً لها الا ان الارادة تستعمل بمعان متعددة:
منها: الشوق، وبهذا المعنى قد تتعلق بالأمر المتأخر وبعمل الغير ولذا يمكن انفكاكها عن المراد.
و منها: اعمال القدرة والاختيار وهي بهذا المعنى لا يمكن انفكاكها عن المراد.
و منها: قصد التسبيب بشيء الى شيء آخر؛ فالتلفظ بكلمة «بعت» مثلا عمل ارادي تحقق باعمال القدرة الا انه قد يكون مقروناً بعمل جوانحي وهو قصد التسبيب به الى الملكية القانونية وقد لا يكون مقروناً بل قد لا يكون اللافظ متوجهاً الى ترتب هذا الاثر القانوني. وكالقيام عند مجيء شخص فهو عمل مسبوق بالإرادة الا انه قد يكون مقروناً بقصد الاحترام والتعظيم وقد لا يكون، وهذا المعنى غير الارادة بمعنى اعمال القدرة. والدواعي تؤثر في تحقق الارادة بالمعنى الثاني ولا يمكن ان تكون متعلقاً لها ولكن الارادة بالمعنى الثالث فهي مما يمكن ان تقترن بالعمل ويمكن الا تقترن به.
واما في مرحلة انشاء الحكم فلابد اولا من ان نذكر ان مبنى المحقق النائيني ان حقيقة الحكم انشاء النسبة الايقاعية وايقاع العمل على ذمة المكلف وقد أنكر ان يكون حقيقة الحكم هو الارادة الواقعية للعمل وان انشاءه هو ابرازه كما أنكر ان تكون حقيقته الارادة الاعتبارية. اذن فما ذكره هنا من ان الارادة التشريعية تتعلق بالعمل ليتحقق للعبد ارادة تكوينية مخالف لمبناه في حقيقة تشريع الحكم. كما انه لا يتم على القول بان حقيقة الحكم هو الاعتبار المشتمل على الوعد او الوعيد او كليهما بنحو اللف والاندماج كما هو المختار.
اذن فالحكم هو جعل الداعي بالإمكان بالنسبة الى الفعل ولا ربط له بالإرادة. وجعل الداعي بالإمكان يترتب على إدراك المقنن للمصلحة المترتبة على الفعل فقد يدرك انها تترتب على ذات الفعل فيجعل الداعي بالإمكان بالنسبة اليه وقد يدرك انها تترتب عليه إذا اتي به بقصد خاص فلابد ان يجعل الداعي بالنسبة اليه.
وهكذا الاوامر الالهية فقد تكون المصلحة مترتبة على العمل إذا اتي به بقصد قربي كتحصيل رضا الرب او الفرار من عقوبته او نيل ثوابه اذن فالملاك مترتب على الأمرين معاً (العمل الجوارحي) و (العمل الجوانحي) فلابد من ان يكون جعل الداعي بالإمكان بالنسبة الى المجموع بمعنى اعلان ان موضوع الحكم الجزائي ترك أحد الأمرين وبموجبه تتحقق للمكلف ارادتان تتعلق كل منهما بأحد العملين.
فتحصل ان تقييد المتعلق بسائر الدواعي القريبة لا مانع منه ايضاً.
3.6الأمر السادس:
هل يمكن تشريع الماهيات التعبدية من دون التوسل بتقييد المتعلق ببعض الدواعي القربية أم لا؟ هناك طرق مقترحة لذلك:
الطريق الأول: ان التعبدية هي الوجهة الطبيعية لكل امر ولا تحتاج الى مؤونة زائدة فمجرد تعلق الأمر بشيء يقتضي لزوم اتيانه بقصد الامتثال فالأصل في الاوامر التعبدية. ولهذا الطريق تقريبان:
التقريب الاول: ان الأمر كيف ما كان انشاء بداعي جعل الداعي سواء كان حقيقته انشاء البعث او انشاء النسبة الايقاعية او انشاء الارادة التشريعية، فالملاك الموجب لإنشاء الأمر هو التأثير في نفس المكلف وقيادة ارادته وهذا مساوق للتعبدية بالمعنى الاخص اي لزوم اتيان المأمور به بقصد الأمر؛ فالغرض من الأمر تأثر المكلف منه ولابد من تحصيل غرض المولى فيجب اتيان المأمور به بداعي الأمر، هذا هو الاصل في كل امر الا ان تقوم القرينة على عدم لزوم تحصيل الغرض من الأمر وكفاية تحصيل الغرض من المأمور به.
وفي هذا التقريب ملاحظات:
الملاحظة الأولى: ان الغرض من الأمر ليس جعل الداعي بالفعل بل هو جعل الداعي بالإمكان وهو يحصل بمجرد انشاء الأمر ولا يترتب على فعل المكلف.
توضيح ذلك: ان الانشاء فعل فلابد له من داع وغرض ولابد من ان يكون الغرض والهدف عنواناً منطبقاً على نفس الانشاء وان لا يتوقف على عمل المكلف والا لأمكن تخلف الهدف من الوسيلة وهو لا يمكن الا من الجاهل بالوسائل تعالى الله عن ذلك.
فيتبين من ذلك ان الهدف من انشاء الاوامر ليس هو فعلية الانبعاث والداعوية بل امكانه. اذن فالعنوان الذي يوجب ان يكون الحكم المولوي خيراً وحسناً هو الترغيب الى الخير والزجر عن الشر سواء تأثر منه المكلف أم لا. وهذا العنوان منطبق على نفس الانشاء.
وكذلك الانشاء بداعي الارشاد فهذا العنوان المستحسن ينطبق على نفس الانشاء الذي يحتوي على اظهار ما يوجب الرشد سواء تأثر منه السامع وعمل به أم لا. وهكذا لو كان الداعي التسخير والتحقير فهو عنوان ينطبق على نفس الانشاء.
نعم الفرق بين الأمر المولوي والانشاء بداعي الارشاد والتسخير هو ان وراء الداعي المذكور في الأمر المولوي داع آخر هو منشأ انطباق عنوان الخير والحسن على هذا الانشاء وهو ترتب المصلحة على نفس المأمور به الا انه ايضاً ليس علة غائبة للانشاء بل العلة الغائية هو جعل الداعي بالإمكان فتحصل ان الغرض من الأمر والداعي الى انشائه ليس مما يمكن تحصيله للمكلف.
الملاحظة الثانية: سلمنا ان غرض المولى من انشاء الأمر هو جعل الداعي بالفعل الا ان داعوية الأمر وان كان غرضاً ايضاً ولكنه غرض لا يجب تحصيله لانه غرض تبعي والغرض الاصلي للأمر هو الترغيب الى الخير والزجر عن الشر واما الانبعاث والداعوية فهو ليس غرضاً نهائياً بل طريق الى تحقيق الغرض الاصلي فملاك الحكم والذي يجب تحصيله هو الوصول الى ذلك المقصد واما هذا الطريق فليس واجباً عقليا ولا عقلائياً. فلو طلب المولى الماء وقلنا ان انشاء الطلب لإيجاد الداعي لدى فاقده بالطبع فلو احضره المكلف بداع آخر تحقق الغرض المقصود الذي لا يعاقب المكلف الا بتركه لان داعوية الأمر ليس غرضاً مقصوداً بل غرضاً طريقياً والمهم هو احضار الماء وقد احضره وان كان بداع آخر غير امتثال الأمر.
الملاحظة الثالثة: ان هذا الغرض على تقدير وجوب تحصيله لا يحقق معنى التعبدية اذ المفروض حينئذٍ ان للمولى غرضين احدهما يتحقق بإتيان المتعلق في الخارج باي داع من الدواعي والآخر هو داعوية الأمر فلو فرضنا ان المكلف اتى بالمتعلق بداع آخر فالغرض منه حاصل والأمر به ساقط ولا يمكن تحصيل هذا الغرض بإتيان المتعلق مرة اخرى لسقوط الأمر لانه انشاء بداعي جعل الداعوية بالفعل الى الخير، والخير قائم بصرف وجود المتعلق وقد أتى به ولا يتكرر ذلك الخير بتكرره فلا يمكن اتيان المتعلق بما هو متعلق للأمر مرة اخرى فلا يمكن تحقيق الغرض الآخر اي الداعوية بالفعل اذن فهذا التقريب لا يوجب ارتباطاً بين الغرض والمتعلق وهو اساس التعبدية وانما يثبت عقاباً للمكلف بتركه واجباً آخر هو تحصيل غرض المولى المتعلق بداعوية الأمر.
فتحصل ان داعويه الأمر لا يمكن تحصيله لانه حاصل بصرف الانشاء اذ المراد به الداعوية بالإمكان لا الداعوية بالفعل. وعلى تقدير امكانه وتسليم انه الداعوية بالفعل فلا يجب تحصيله لانه غرض تبعي وعلى تقدير وجوبه فليس الا كواجب آخر يترتب العقاب على تركه ولا يحقق الارتباط والتعبدية.
التقريب الثاني للطريق الأول: ما نسب الى الكلباسي في اشارات الأصول واختاره العلامة الحائري اخيراً على ما في بعض التقارير.
وتقريره بوجه ابسط هو ان هنا سلسلة ذات ثلاث حلقات:
1: الأمر، 2: ارادة المكلف، 3: العمل الخارجي.
وكل مقدم منها علة للمتأخر.
والكلام في ان الارادة هل المراد بها مطلق الارادة ام خصوص الارادة المنبعثة من الأمر؟
الصحيح هو الثاني، اذ الأول خارج عن السلسلة وإذا تقيدت الارادة تقيد المراد فيكون المتعلق ما هو مراد بالإرادة المنبعثة من الأمر. اذن فالتقييد ذاتي لا لحاظي. والمأمور به حصة خاصة من المتعلق وهو المراد بالإرادة المنبعثة من الأمر نظير سلسلة العلل والمعلولات في الامور التكوينية فالنار الخاصة علة للحرارة الخاصة وليست علة لمطلق الحرارة.
والجواب عنه: ان هذا خلط بين الحصة من العمل الخارجي الناشئة من الارادة المنبعثة من الامر وبين متعلق الحكم في مرحلة الانشاء. فمتعلق الحكم ليس هو الحصة الخاصة بل الطبيعة السارية التي تقبل الانطباق على هذا وعلى غيره والحصة الخاصة هي التي تتأثر بالحكم خارجاً. ومتعلق الحكم ليس امراً خارجياً بل هو ما يحدد الحكم في وعاء الانشاء وهو الطبيعة لا بشرط. والامر وان كان بعثا وتحريكا الا انه لا يوجب كون متعلقه امراً خارجياً لان كونه تحريكاً بمعنى انطواء الحكم الجزائي المشتمل على الوعيد على الترك فيه وموضوع الحكم الجزائي هو ترك الطبيعة وعدم اتيانها بداع من الدواعي.
الطريق الثاني: ان يتوسل الشارع للتقييد التعبدية بإنشاء امرين يتعلق أحدهما بذات الفعل والآخر بإتيانه بداع قربى او بخصوص قصد الأمر ويعبر عنه بمتمم الجعل المنتج نتيجة التقييد فيقول في الأمر الأول – مثلاً – «صل» وفي الأمر الثاني: «صل بقصد امتثال الأمر الأول فان لم تصل او صليت بغير قصد الامتثال وجب عليك القضاء او الاعادة».
وبهذه الوسيلة يتحقق الارتباط بين الصلاة وهذا القصد وذلك لوحدة الحكم الجزائي في الأمرين، ولذا وجبت الاعادة او القضاء بمخالفة أحد الأمرين، وهذا هو الوجه في التعبير عنه بمتمم الجعل. فان الجعل القانوني المستقل متفرد بحكمه الجزائي ولا يتداخل مع جعل آخر وقد بينا ان هذا الجعل متداخل بحسب الحكم الجزائي مع الجعل الاول.
والسر في التعبير عنه بانه منتج نتيجة التقييد وعدم كونه تقييداً ان المتعلق في الأمر الأول ليس مطلقا حتى يقيد والتقييد وان كان ببيان متأخر مستحيل بالفرض ولا فرق في استحالة التقييد بين كونه متصلا او منفصلاً اذ المقيد المنفصل مبين للمراد الجدي في الجعل الأول والمفروض استحالة الحكم على المقيد في الجعل الأول ولو بحسب المراد الجدي في التعبير.
والحاصل ان المهم في هذا الباب ليس هو التعبير بل الجعل الانشائي.
اذن فلابد في التقييد من انشاء وجعل جديد الا انه ليس مستقلا بحسب الحكم الجزائي.
وقد نسب القول بذلك الى الشيخ الانصاري على ما في تقريرات بعض تلامذته واختاره المحقق النائيني.
وربما يناقش فيه بوجوه:
الوجه الأول: ما اشير اليه في المحاضرات وهو ان هذا يبتني على القول بإهمال المتعلق في الجعل الأول من هذه الجهة بعد فرض استحالة تقييده، فلا يكون المتعلق مطلقا ولا مقيداً ويجب التوقف فان ورد متمم الجعل المزبور حكم بالتقييد وان ورد ما يدل على تمامية الجعل الاول حكم بالإطلاق. والاساس في ذلك ان بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة وانه إذا استحال التقييد استحال الاطلاق والصحيح ان بينهما تقابل التضاد وانهما ضدان لا ثالث لهما وعليه فاذا استحال التقييد كان الاطلاق ضرورياً والاهمال في الواقعيات غير معقول.
و الجواب عنه – مضافاً الى ما سيأتي من التحقيق عن وجه التقابل بين الاطلاق والتقييد ونقد اساس هذا الاعتراض – انا لو سلمنا صحة قانون (إذا استحال التقييد كان الاطلاق ضرورياً) فهذا الاطلاق الضروري الذي فرض نفسه علينا كالإهمال فلا مانع من ازالته بمتمم الجعل، فانه لا يعبّر عن وفاء المتعلق لا بشرط بالملاك والغرض بل هو إطلاق غير اختياري نشأ عن استحالة أحد الضدين الذين لا ثالث لهما، والمفروض ان الاطلاق لابد منه وان كان الملاك قائماً بالحصة الخاصة من المتعلق وهو ما كان بقصد امتثال الأمر. ومثل هذا الاطلاق لا يعتمد عليه في كشف المراد ما دام المجال باقياً لإزالته بمتمم الجعل.
الوجه الثاني: ما صرّح به في الكفاية من القطع بان الواجبات التعبدية ليس لها امران وجعلان بل هي كالتوصليات لم يتعلق بها الا امر واحد وكذلك المستحبات وانما الفرق بينهما من حيث الاطاعة فالفرار من العقوبة يتحقق في التوصليات باتيان المتعلق باي قصد كان وانما يتوقف الثواب على قصد اطاعة الأمر واما التعبديات فالفرار من العقوبة فيها ايضاً يتوقف على قصد الاطاعة.
و الجواب عنه اولاً ان البحث في امكان تشريع التعبدية بالأمرين لا في الوقوع.
و ثانياً ان مجرد دعوى القطع في الأمور العلمية من دون اقامة البرهان غير مسموع بل هناك من الشواهد ما تدل على التعدد، فالصلاة مثلا مركبة من أركان وغيرها، فالأركان ما فرضه الله وقدره وغيرها ما سنّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والأمر بالسنن أمر ثانوي يؤخذ فيه اتيان الاركان والالتفات الى غيرها. ومن هنا يصح الحكم بصحة الصلاة بنسيان هذه الاجزاء وهذا النوع من الأمر هو الذي يعبّر عنه بمتمم الجعل ويتحقق الارتباط بين متعلقه ومتعلق الأمر السابق بوحدة الحكم الجزائي الا انه بحسب ما يؤخذ فيه من قيود يقيد الارتباط فلا يكون ارتباطاً مطلقاً بل في ظرف الالتفات وعدم النسيان مثلا. ومن الممكن ان يتحقق هذا التعدد بالنسبة الى العمل الجوانحي وهو قصد الامتثال.
الوجه الثالث: ما أشار إليه فيها أيضاً من ان مقتضى تعدد الأمر تعدد الموافقة والمخالفة فاذا أتى المكلف بالمأمور به بالأمر الأول سقط الأمر ولا يمكن اتيانه بقصد امتثاله مرة أخرى لعدم بقاء الأمر. والحاصل ان تعدد الأمر يفيد عدم الارتباط فكيف يتوسل به الى انشاء الارتباط والتقييد مع انه إنما ينشأ من وحدة الأمر المتعلق بالمتكثر فتكسب الكثرات منه وحدة اعتبارية وهو الارتباط.
و الجواب عنه انه لا دليل على انحصار افادة الارتباط في وحدة الأمر. وتعدده لا ينافي الارتباط دائماً بل لابد من ملاحظة الأمر الثاني فان كان مستقلاً اقتضى عدم الارتباط وأما لو كان متمماً للجعل الاول فهو يفيد الارتباط، ومنشأه ليس وحدة الأمر بل وحدة الملاك ووحدة الحكم الجزائي سواء افيد الملاك بأمر واحد أو بأمرين.
ومنشأ لزوم الاطاعة هو الفرار من الوعيد الذي يتضمنه الأمر او الأمران والمفروض في المقام ان الملاك الواحد مترتب على موافقة الأمرين معاً. وكذلك استحقاق المثوبة الموعودة كما ان استحقاق العقوبة أيضاً مترتب على ترك المجموع المتحقق بترك أحدهما ومن هنا نجد ان تعدّد الأمر في الفرائض والسنن لا يوجب عدم الارتباط وليس ذلك الا لوحدة الحكم الجزائي.
الوجه الرابع ما صرّح به في الكفاية أيضاً وهو انه لا مجال للتشريع المولوي لهذا التقييد اصلاً ولو كان الأمر الأول غير واف بالمقصود واتيان متعلقه غير محقق للغرض بل لابد من ايكال الأمر الى العقل.
توضيحه ان الحكم كما ان له مرحلة الاقتضاء والانشاء كذلك له مرحلة الاطاعة والعصيان والحاكم بالاستقلال في هذه المرحلة هو العقل وهي مرحلة متأخرة عن الأوليين فبعد مرور الحكم بمرحلة الانشاء يأتي دور العقل للحكم بوجوب الاطاعة وكيفيتها والكشف عن ما هو دخيل في التنجيز وتعد هذه الأمور في مرتبة معلولات الأحكام والحاكم فيه هو العقل ولا يتدخل الشارع في مجال حاكمية العقل الا بالإرشاد الى حكمه كما في الأمر بالإطاعة في مثل قوله تعالى: (اطيعوا الله) فالعقل هو الحاكم بان اتيان المأمور به يكفي في اطاعة الأمر بأي قصد كان فيكون توصليا أو انه لابد من قصد اطاعة الأمر فيكون تعبدياً.
و الجواب عنه ان الحاكم في مرحلة الاطاعة والعصيان وان كان هو العقل الا انه انما يأتي دوره بعد فراغ المشرع من تشريع ما يحقق غرضه، فان تمّ ذلك في ضمن حكم واحد تعقبه حكم العقل بوجوب الاطاعة وان توقف على تتميم الجعل كان دور حكم العقل بعد تشريع متمم الجعل ولا وجه لاكتفاء المشرع بالجعل الناقص الذي لا يفي بغرضه. ومجرد كون الأمر الثاني مرتبطاً بكيفية موافقة الأمر الأول لا يعتبر تدخلاً في حكم العقل بعد افتراض انه متمم للجعل ومبين لما يحقق الملاك ويحصّل المصلحة الملزمة. وليس للعقل تمييز التعبدي عن التوصلي اذ الفرق بينهما ينشأ من الفرق في الملاك والمصلحة الملزمة وهو مما لا مجال للعقل فيه.
الوجه الخامس: ان الأمر الأول صوري وشكلي فلا تجب اطاعته وعليه فلا معنى لإنشاء أمر آخر يتضمن وجوب اتيان متعلق الأول بقصد اطاعته.
ووجه كون الأمر الأول صورياً ان الأمر الواقعي يجب ان يكون جامعاً لوصفين أحدهما ان يكون متعلقه واجداً للملاك الباعث على الأمر به والاخر ان يكون الأمر مشتملاً بنحو اللف والاندماج على الحكم الجزائي المتضمن استحقاق العقوبة على ترك متعلقه وعدم استحقاقها مع امتثاله.
وكلا الوصفين مفقودان في الأمر الأول:
أما الملاك فلأن المفروض عدم ترتبه على مجرد اتيان المتعلق كما دل عليه الأمر الثاني وأما الحكم الجزائي فلان مجرد الاتيان بمتعلقه لا يمنع من ترتب استحقاق العقوبة كما هو المفروض.
و الجواب ان الأمر الأول واقعي:
أما من جهة وفاء المتعلق بالملاك فلأن متعلق الأمر التعبدي مقتض للملاك وترتب المصلحة ولكن هذا الترتب يتوقف غالباً على شرائط تكون متممة لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل وذلك لا ينافي كون المصلحة مترتبة على المتعلق لاقتضائه اياها وان كانت فعلية التأثير متوقفة على تمامية فاعلية الفاعل وقابلية القابل فما دل عليه الأمر الثاني من توقف ترتب المصلحة على قصد القربة في امتثال الأمر الأول لا ينافي اقتضاء متعلقه لترتب المصلحة وهذا الاقتضاء يكفي مصححاً لتعلق الأمر المولوي به.
وأما من جهة اشتماله على الحكم الجزائي فهذا الأمر مشتمل على الوعيد على الترك في الجملة ولو بلحاظ ان ترك متعلقه يوجب ترك المركب أو المشروط من جهة ترك الذات وأما ان اتيانه لا يرفع العقوبة فليس ذلك مانعاً عن كون الأمر مولوياً واقعياً فان الأمر المولوي هو ما يقتضي استحقاق العقوبة على الترك والانتفاء عند الانتفاء الا ان ذلك بنحو اللف والاندماج ولا مانع من كونه مشروطاً بشرائط نحو العلم بالحكم فمع عدمه لا يعاقب المكلف على الترك ومن الممكن ان يكون انتفاء العقوبة عند الاتيان مشروطاً بقصد القربة لأن الوعيد الذي يتضمنه الأمر أو النهي المولوي بنحو اللف والاندماج مبهم ومجمل وإنما تفصله القوانين الجزائية.
الطريق الثالث: التقييد في ضمن بيان الانطباق بمتمم الجعل التطبيقي فيما يحتاج الى التقييد.
توضيح ذلك بمقدمات:
المقدمة الأولى: ان العناوين المنطبقة على الاعمال الخارجية على قسمين: العناوين القصدية والعناوين غير القصدية.
والعناوين القصدية هي التي لا تنطبق على الاعمال الخارجية الا بقصدها ولا فرق في ذلك بين التعبديات والتوصليات فهذا التقسيم خارج عن إطار تقسيم الاعمال الى ما يتوقف الوصول الى الهدف منها على قصد القربة فتكون تعبدية وما لا يتوقف على قصد القربة فتكون توصلية بل اساس هذا التقسيم هو توقف اقسام العمل بالعنوان الخاص على قصده لخصوصية في العنوان، مثال ذلك:
التحية والسلام فهما عنوانان لا ينطبقان الا بقصدهما والعمل توصلي. وكذلك الصوم لا ينطبق على مجرد الامساك عن الطعام والشراب بل لابد من قصده ولكنه عمل تعبدي لا يصح الا بقصد القربة، الا ان قصدها لا يغني عن قصد العنوان، فلو امسك عن الطعام والشراب بقصد القربة ولم يقصد الصوم لم يجز عنه. كما ان عنوان الاضراب عن الطعام بدافع سياسي لا ينطبق على مجرد الامساك بل لابد من قصد الاضراب السياسي. ومن هذا القسم أداء الدين فلو دفع المدين مالاً الى الدائن ولم يقصد به أداء الدين كان تبرعاً ولم يجز عن أدائه.
وأما العناوين غير القصدية فهي التي تنطبق على العمل قهراً وان لم يقصدها كغسل الثوب مثلاً.
المقدمة الثانية: أن التعبديات كلها من العناوين القصدية وهي أيضاً من الماهيات الاعتبارية وقد ذكرنا في مباحث الصحيح والأعم ان انطباق الماهيات الاعتبارية بوجه عام على المصاديق يختلف حسب اختلاف الملل والنحل في متمم الجعل التطبيقي. فما يعتبر ميتة في ملة أو نحلة قد يعتبر مذكىً في ملة أو نحلة أخرى.
المقدمة الثالثة: أن الماهيات الاعتبارية التي هي من العناوين القصدية على قسمين:
القسم الأول: الماهيات التي ينتزع من ذاتها التخضع والتذلل وان كان انطباقها على المصاديق يتم بواسطة متمم الجعل التطبيقي ويتوقف أيضاً على قصد العنوان الا ان التعبدية ظاهرة ذاتية لها. كالركوع والسجود والطواف ونحوها فاذا أتى الإنسان بما ينطبق عليه عنوان الركوع بقصد انطباقه حصل التعبد والتذلل به قهراً، ولا يحتاج الى قصد التعبد أو قصد امتثال الأمر. نعم لابد من قصد الاضافة الخاصة لتعيين من يتعبد له وأما الأمر وقصد الأمر فلا دخالة لهما في التعبد بل لا يكفي قصد الأمر عن تعيين من يتعبد له ولا عن قصد ذلك العنوان الخشوعي كالركوع.
والغالب في عناوين العبادات الشرعية هو هذا القسم نتيجة لتداولها في الأمم و الشرايع السابقة، فقليلاً ما يكون في الإسلام عبادة تأسيسية بل أكثرها ماهيات تعبدية موروثة، وإنما الاختلاف في المنطبق عليه كالصلاة والحج والصوم، فالكف عن الطعام أو الطعام والشراب اعتراضاً على معاملة السلطات الحكومية أمر مستحدث ولم نجد له اثراً في التاريخ وإنما كان الصوم فيما سبق رمزاً للتخضع والتذلل وهو كذلك في عصرنا أيضاً مع قطع النظر عن الشريعة فمن المتعارف ترك الأكل والشرب بل حتى التدخين في محضر العظماء من أجل الاحترام والتخضع.
فارتكاز التعبدية في نفوس المسلمين بالنسبة لهذه الأمور أمر موروث ولا يختص بهم وكذلك الاعتكاف فالتوسل بأبواب العظماء وطلب الحاجة منهم أمر متعارف فيما سبق والتعبد به ذاتي له. وهكذا الكلام في غير ذلك من العبادات ومن هنا لم يرد في الروايات الأمر بقصد القربة في هذه الاعمال.
وتبين بما ذكرنا انه لا حاجة الى اثبات عبادية الاعتكاف بما ذكره بعضهم من الاستدلال بقوله تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) بدعوى وضوح عبادية الركوع والسجود بعد تفسيرهما بالصلاة وان وحدة السياق تقتضي ان يكون الاعتكاف عبادة أيضاً.
مع ان ضعف هذا الاستدلال واضح فلو أمر المولى بتنظيف المكان للصلاة والدفن مثلا لا يستفاد منه ان الدفن عبادة أيضاً.
ونحو ذلك الاستدلال بالإجماع أو ارتكاز المسلمين أو حديث (بني الاسلام على خمس.....) لإثبات عبادية الصوم وان مجرد الكف عن الطعام كيف يمكن ان يكون من أعمدة الإسلام.
فلا حاجة الى شيء من ذلك والا لكان من المستبعد ان يترك التصريح بعبادية كل هذه الاعمال في الروايات بنحو عام مع شدة اهتمامهم بالعبادات.
فالوجه في ذلك هو ان عبادية هذه الأمور في مرتكز المخاطبين كان من الواضحات لاشتمال المفهوم على التذلل بنحو اللف والاندماج.
القسم الثاني: الماهيات الاعتبارية التي يتوقف انطباقها على قصدها ولكنها ليست تذللية بالذات. كالطهارات الثلاث فانها ليست بحيث ينتزع من ذواتها التذلل والخضوع ولكنها مشروطة شرعاً بقصد القربة، وقيل ان الزكاة والصوم من هذا القسم أيضاً فاذا كان غرض المولى متوقفاً على اتيان المأمور به من هذا القسم بقصد القربة بأحد الوجوه المذكورة أو بخصوص قصد امتثال الأمر فمن الممكن ان يتوصل الى بيان غرضه بالتقييد في ضمن متمم الجعل التطبيقي.
بيان ذلك: ان الانطباق في الماهيات التكوينية على مصاديقها أمر طبيعي لا تمسه يد الاعتبار ولكن الماهيات الاعتبارية كما أنها في أصل تكونها خاضعة للجعل القانوني أو العرفي كذلك في انطباقها على المصاديق. والقانون أو العرف هو الذي يعين موارد صدق هذه الماهيات.
وقد عبرنا عن الصيغة القانونية أو العرفية المتكفلة لبيان شروط الإنطباق وخصوصياته على اختلاف القوانين والاعراف بـ متمم الجعل التطبيقي.
وبإمكان الشرع في هذا الاعتبار القانوني ان يقيد الانطباق بما يراه دخيلاً في الملاك والمصلحة وان لم يمكنه التقييد بذلك في مرحلة انشاء الحكم.
ومن هذه الشروط – حسب الفرض – شرط قصد امتثال الأمر أو قصد القربة بوجه عام فعلى تقدير عدم امكان تقييد متعلق الأمر في مرحلة الانشاء لا مانع من التقييد بذلك في مرحلة اعتبار شروط الانطباق. فاذا لم يقصد المكلف امتثال الأمر أو أي داع قربى آخر اخذ في متمم الجعل التطبيقي لم ينطبق عنوان المأمور به على المأتي به. وهكذا يتم تشريع التعبدية دون أي مانع عقلي أو عقلائي. وفي هذه الكيفية من تشريع التعبدية ميزة خاصة. وهي ان قصد القربة على هذا الفرض. ليس من اجزاء العمل أو شروطه فهو خارج عن نطاق الأوامر الضمنية وإنما هو مجرد شرط لانطباق الماهية على ذات العمل.
الطريق الرابع: ما ذكره صاحب الكفاية وحاصل ما يستفاد من مجموع كلامه مع توضيح منا انه:
لا فرق بين التعبدي والتوصلي في ما يقتضيه الأمر ولا في متعلق الأمر ولا في امكان متمم الجعل المنتج نتيجة التقييد أما الأمر فهو يقتضي البعث والتحريك نحو المتعلق في كل منهما وأما المتعلق فيستحيل تقييده بقصد الامتثال في كل منهما أيضاً وأما متمم الجعل فقد مرت المناقشة فيه.
اذن فالفرق بين القسمين خارج عن حدود الأمر ومرحلة التشريع وينحصر في مرحلة الموافقة والامتثال. وهو مجال حكم العقل بالاستقلال وهو يحكم بأن امتثال التوصلي يتحقق بنحوين:
الامتثال على وجه الانقياد والامتثال لا على وجه الانقياد.
ويحكم بان الفرار من العقوبة يتحقق بكل من الوجهين.
وأما التعبدي فلامتثاله وجه واحد وذلك بان يكون مع قصد الانقياد وإلا فلا يسقط الأمر بمجرد امتثال ذات المأمور به لعدم حصول الغرض وتوقفه على قصد الانقياد.
وذكر في ذيل كلامه في هذا المبحث:
انا لو شككنا في ان الواجب تعبدي أم توصلي كان مجرى اصالة الاشتغال، حتى لو قلنا بالبراءة في الاقل و الأكثر الارتباطيين.
أما عدم جريان البراءة فلأن مجالها ينحصر فيما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع والمفروض ان خصوصية التعبدية هنا من شؤون مرحلة الامتثال وهو مجال حكم العقل بالاستقلال كما ذكرناه فليس للشارع وضعه ولا رفعه.
وأما عدم جريان البراءة العقلية فقد ذكر له وجهاً سنوضحه فيما بعد ان شاء الله تعالى.
هذا وقد مر توضيح بيانه حول استحالة التقييد بقصد الامتثال وكذلك عدم امكان التقييد في الأمر الثاني المعبر عنه بمتمم الجعل المنتج نتيجة التقييد كما مر جوابها أيضاً. مضافاً الى ابداء الطريق الثالث الذي قدمناه حيث لا يستلزم تقييد متعلق الأمر ولا التقييد في الأمر الثاني.
وامّا عدم جريان البراءة النقلية فهو صحيح على مبناه من عدم صلاحية المورد لوضع الشارع ورفعه.
وأما عدم جريان البراءة العقلية فيمكن توجيهه كما سيأتي إنما الكلام في الفرق بين ما نحن فيه ومورد الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين حيث قال بعدم جريان البراءة العقلية هنا حتى لو قلنا بها هناك.
وفي بيان ذلك ثلاثة وجوه:
الوجه الأول – وهو الصحيح – ان المحقق الخراساني يقول بالاشتغال في كلا المقامين الا ان ما يوهم جريان البراءة هناك في رأيه لا يوهمه هنا اصلاً فالقول بالاشتعال هنا أوضح.
بيان ذلك ان وجه القول بالاشتغال هناك أمران:
أحدهما العلم الإجمالي بوجوب الاقل أو الأكثر.
وهذا الوجه قد ناقش فيه القائلون بالبراءة بالانحلال وأنكره المحقق الخراساني ولكنه في هذا المقام لا يحتاج الى انكار الانحلال فان متعلق التكليف معلوم بالتفصيل وذلك للعلم بان الصادر في مرحلة التشريع هو الأمر بالذات وانه لم يأخذ في المأمور به قيداً آخر ولو بجعل ثانوي، اذن فلابد من تحصيل البراءة اليقينية.
الثاني وجوب تحصيل الاغراض المولوية. ولا يحصل العلم في تلك المسألة بتحقيق الغرض المولوي الا بالإتيان بالأكثر فلا تجري البراءة عنه.
وهذا الوجه أيضاً مورد لمناقشات، ومنها انه على فرض لزوم تحصيل الغرض فهو انما يجب إذا لم يبادر المولى بالتشريع إما لعدم امكانه مطلقاً أو بوجه واف بالغرض؛ وأما إذا تصدى للتشريع فوظيفة العبد يتبدل من وجوب تحصيل الغرض الى وجوب اتيان المأمور به، والمولى قد تصدى للتشريع في مورد الشك بين الاقل والأكثر الا ان الواصل الينا هو الأقل والبراءة تجري في الأكثر.
ولكن شبهة الغرض فيما نحن فيه لا يجري فيها هذه المناقشة لعدم تمكن المولى من التشريع الوافي بالغرض كما انها لا تجري فيما لو كان المولى غير متمكن منه اصلاً كالمولى العرفي إذا كان نائماً فيجب تحصيل غرضه حسب الفرض.
اذن فالبراءة لا تجري فيما نحن فيه حتى لو قلنا بجريانها هناك لانحلال العلم الإجمالي واندفاع شبهة الغرض وذلك للعلم التفصيلي هنا بمتعلق التكليف وهو يقتضي البراءة اليقينية ولعدم اندفاع شبهة الغرض بالوجه المذكور.
الوجه الثاني: ما ورد في المحاضرات وحاشية اجود التقريرات وهو ان الفرق بين المقامين في نظر المحقق الخراساني ليس في عدم جريان البراءة العقلية فكل ما يوجب عدم جريانها هناك بنظره يوجبه أيضاً هنا بل الفرق هو عدم جريان البراءة الشرعية هنا وجريانها هناك.
وبمراجعة الكفاية يظهر ضعف هذا الوجه فالعبارة واضحة في خلافه.
الوجه الثالث: ما اشار اليه المحقق النائيني في ضمن كلام طويل وحاصله ان نظر المحقق الخراساني يبتني على كون متعلقات الأحكام من قبيل المسببات التوليدية المحصلة.
بيان ذلك ان المسببات التوليدية على قسمين:
قسم يكون ترتب المسبب على السبب فيه تكوينياً، كترتب التنظيف على الغسل والاحراق على الالقاء في النار والتعظيم على القيام.
وقسم يكون الترتب منه تشريعياً، كترتب الطهارة الحديثة على الغُسل والخبثية على الغَسل بناءاً على كونها أمراً تشريعياً.
وهذان القسمان يختلفان بلحاظ التسمية وبلحاظ جريان البراءة فالقسم الأول يعبر عنه بالمحقق والثاني بالمحصل والأول لا يجري فيه البراءة بنظر المحقق الخراساني لان المأمور به من المسببات التوليدية والترتب تكويني والثاني تجري فيه البراءة ان كان أمر الوضع والرفع بيد الشارع والا فلا.
ومحلّ البحث من هذا القسم لان الغرض هو المأمور به ومتعلق الحكم محصل له.
ثم ناقش في البناء والمبنى، أما المبنى فلأن البراءة لا تجري حتى في القسم الثاني ومجرد كون الترتب شرعياً لا يجدي لاختصاص حديث الرفع بمتعلقات الاحكام. واجراء البراءة في المحصِّل لا يثبت ترتب المحصَّل.
وأما البناء فلان الاغراض والملاكات ليست من قبيل المسببات التوليدية بالنسبة الى أفعال المكلفين بل هي من قبيل العلل المعدّة ففعل المكلف ليس علة تامة لتحقق الغرض بل يتوقف ذلك على بقية الشرائط الوجودية للملاك والمسبب التوليدي لا ينفك عن السبب والغرض قد ينفك عن فعل المكلف.
وفيما ذكره تأمل اذ لم يرد في كلام المحقق الخراساني ان متعلقات الأحكام هي نفس الأغراض حتى يصح هذا التوجيه والنقد. مضافا الى انه سيأتي في البحث عن مقدمة الحرام في ذيل مبحث مقدمة الواجب المناقشة في تقسيم المسببات التوليدية الى محقق ومحصل.
ومجمل القول ان المسببات الشرعية ليست من متعلقات الأحكام فان مرجع التسبيب الشرعي الى ان الشارع يجعل المسبب تشريعاً عند وجوب السبب وهذا فعل الشارع لا فعل المكلف فلا يمكن ان يتعلق به الحكم.
فاذا اتى المكلف بالغسلتين والمسحتين حكم الشارع بتحقق الطهارة وليست هي بنفسها مختاراً للمكلف حتى يكون مورداً للتكليف، بل التعبير بالمسبب مسامحة فليس هنا سبب ومسبب بل مجرد حكم شرعي عند تحقق فعل من المكلف.
3.7الأمر السابع:
هل هناك أصل لفظي يقتضي التعبدية أو التوصلية أم لا؟
وبعبارة أخرى هل الاطلاق يقتضي بموجب القانون اللفظي العام التعبدية أم التوصلية أم لا يقتضي شيئاً فيكون الكلام مهملا من هذه الجهة؟ فالاحتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: أي اقتضاء الاطلاق للتعبدية يبتني على الطريق الأول مما مر من طرق تصوير تشريع التعبدية وذلك باعتبار انها مقتضى إطلاق اللفظ وقد مر الجواب عنه.
فالبحث يدور حول الاحتمالين الاخيرين، ولابد من ذكر جهات ثلاث لاتخاذ الموقف الصحيح منهما:
الجهة الأولى: انا لو فرضنا استحالة التقييد – كما هو المشهور – فهل يستحيل الاطلاق أيضاً كما ذهب اليه المحقق النائيني فيكون الكلام مهملا أم لا؟ والمراد بهذا الاطلاق، الاطلاق اللحاظي في قبال التقييد.
الجهة الثانية: انا لو فرضنا استحالة الاطلاق اللحاظي (في قبال التقييد) فهل هناك إطلاق ذاتي أم لا؟
الجهة الثالثة: هل يمكن كشف الاطلاق الذاتي من الاطلاق في اللفظ والاعتماد عليه في اثبات التوصلية أم لا؟
أما في الجهة الأولى فلتقريب نظرية المحقق النائيني من استحالة الاطلاق إذا استحال التقييد طريقان:
الطريق الأول: وهو المشهور عنه والمذكور في التقارير وهو يبتني على كون التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.
فالإطلاق هو عدم التقييد في المورد القابل فاذا لم يكن المورد قابلاً للتقييد لم يمكن الاطلاق. وهذا هو الفرق بين تقابل العدم والملكة وتقابل السلب والايجاب. ففي السلب لم يعتبر قابلية الايجاب واعتبر في عدم الملكة قابلية الملكة. ومن هنا لا يصدق العمى على المورد الذي لا يقبل البصر كالجدار.
ونوقش فيه بوجهين:
الوجه الأول: ان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل التضاد لا تقابل العدم والملكة وحيث انهما ضدان لا ثالث لهما فاذا استحال أحدهما كان الآخر متعينا كالحركة والسكون. والوجه في ذلك ان التضاد هو التقابل بين امرين وجوديين بينهما غاية الخلاف، يتعاقبان على محل واحد. والاطلاق أمر وجودي لا عدمي لأنه لحاظ كالتقييد الاّ ان التقييد هو لحاظ الماهية المقيسة الى الغير مقيدة به والاطلاق هو لحاظ عدم تقيدها به وكيف كان فهو لحاظ واللحاظ أمر وجودي.
ويمكن ان نضيف اليه توضيحاً، ان الاطلاق كالتقييد من اعتبارات الماهية فاذا لاحظنا الاطلاق من حيث كونه اعتباراً لا شك انه امر وجودي وإذا لاحظناه من حيث كونه معتبراً فحقيقة الاطلاق هو الارسال أو رفض القيود أو كون الماهية تمام الموضوع وكل ذلك أمور وجودية أيضاً.
و الجواب عنه ان التقييد امر ابداعي نفسي، وحقيقته ايجاد النسبة الناقصة بين مفهومين، فهو نحو تركيب بين المفاهيم يبتدع إذا اريد جعل المفهوم المضيق موضوعاً أو محمولاً في خبر أو انشاء.
والاطلاق هو ترك هذا الربط الإبداعي، فالمطلق تارك لأمر لا انه مبدع امراً، إلا ان هذا الترك في المورد القابل يعبر عنه تعبيراً ادبياً بنحو المجاز والاستعارة بالإطلاق والإرسال والرفض. نظير التعبير بالهتك لمن ترك القيام عند حضور زيد مع كونه مورداً قابلاً، وكثيراً ما يعدّ الترك جريمة يعاقب عليها التارك.
وأما كون الماهية تمام الموضوع فهو أمر انتزاعي ينتزع من هذا الترك في المورد القابل وهو بنفسه امر بسيط كالعمى المنتزع من عدم البصر في المورد القابل وليس نفس العدم وكذا سائر موارد العدم والملكة ولذا لا يمكن اثبات الكفر باستصحاب عدم الاعتقاد حال الطفولة لانه لا يثبت بنفس العدم بل هو أمر بسيط منتزع من عدم الاسلام مع التمييز واثباته باستصحاب العدم يتوقف على حجية لسان الاثبات.
الوجه الثاني: انا لو سلمنا كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، ولكن القابلية المعتبرة في العدم ليست قابلية في الشخص، بل يكفي فيه القابلية في الجنس والنوع. وقد ورد في المعقول ان القابلية قد تكون في الشخص والوقت وقد تكون في النوع وقد تكون في الجنس، كالعمى بالنسبة الى الاكمه أو العقرب فان الشخص فيهما غير قابل للبصر بل النوع أيضاً في العقرب على ما قيل غير قابل له، فصدق الاعمى فيهما بلحاظ قابلية جنس الحيوان. اذن فمجرد عدم قابلية الشخص كما نحن فيه لا يمنع من صدق عدم الملكة فاستحالة الاطلاق عند استحالة التقييد خلط ووهم.
و الجواب عنه ان الوارد في المعقول هو ان عدم الملكة له اصطلاحان حقيقي ومشهوري فالمشهوري يعتبر فيه القابلية في الشخص والوقت، قال في المنظومة انه المشهور عند الناس وهو الذي يطلق في فن المقولات العشر في المنطق والحقيقي هو مصطلح الفلاسفة ولا يعتبر فيه القابلية في الشخص وعليه فيمكن إطلاق الاعمى على الجدار أيضاً لقابلية جنس الاجناس وهو الجسم مثلاً.
فان قيل ولماذا اعتبر في الاطلاق والتقييد القابلية في الشخص والوقت ليكون مشهورياً ولم يعتبر ذلك في القدرة والعجز مثلاً حيث يصح القول بان الإنسان عاجز عن الطيران بنفسه مع عدم قابلية القدرة في الشخص والوقت وكذا في العلم والجهل فيصح القول بانا نجهل كنه الرّب مع عدم قابلية العلم في الشخص والوقت.
قلنا ان ذلك يختلف باختلاف المرتكزات في الاصطلاحات واللغات، فالقابلية معتبرة في عدم الملكة ولكنها تختلف ضيقاً وسعة في الموارد المختلفة، والمعتبر في الاطلاق والتقييد هو القابلية في الشخص والوقت، وذلك لان الاطلاق وان كان تركاً للتقييد الا انه كما قلنا يعد عملاً ويستقبح أو يستحسن، فلابد من ان يكون في مورد امكان تقييده شخصاً وفي المورد بعينه، والا لم يكن وجه للتقبيح والتحسين اذ مجرد قابلية النوع والجنس للتقييد مع فرض عدم قابلية الشخص لا يستوجب امكان التقييد وهو المناط في الحسن والقبح إذا تركه.
الطريق الثاني لتقريب نظرية المحقق النائيني هو ما ذكره في كتابه المخطوط ولا يبتني على كون التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، وملخص ما ذكره انه:
لا اشكال ان الاوصاف المتقابلة سواء كان التقابل بالوجود والعدم أو كان المتقابلان وجوديين، تحتاج الى موصوف وموضوع، والمراد به ما يتناسب مع عروض كلا الوصفين المتقابلين فيتشكل منفصلة حقيقية مرددة بينهما، نحو الجسم إما متحرك أو ساكن ولا يصح ذلك إذا كان الموضوع من المجردات لان المجرد لا متحرك ولا ساكن اذن فلابد من ان يكون الموضوع متناسباً مع الوصفين.
والاطلاق والتقييد مهما كان نوعية التقابل بينهما فلابد من ان يكون الموضوع لهما الماهية المقيسة الى الغير القابلة للانقسام بالقياس اليه. وأما الماهية غير المقيسة فلا مطلق ولا مقيد.
والمفروض فيما نحن فيه ان متعلق الحكم بالنسبة الى التقسيمات الثانوية غير قابل للتقسيم لأنها متأخرة رتبة فلا يمكن في الماهية التي تعلق بها الوجوب التقسيم الى مطلق ومقيد بالنسبة الى العلم بالحكم أو قصد امتثال الأمر، وهكذا يتم ما ذكره من ان الاطلاق يستحيل إذا استحال التقييد لانهما نعتان متقابلان لابد لهما من موضوع متناسب معهما وهو الماهية المقيسة الى الغير القابلة للانقسام بالنسبة اليه فيجب ان تكون قابلة للتقييد وان كان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل التضاد.
وبهذا البيان لا يرد عليه ما ذكره المحقق الاصفهاني في (الأصول على النهج الحديث) وإنما يرد ذلك على التقرير الذي ذكره وهو قاصر عن أداء المراد.
الجهة الثانية: انه بعد استحالة الاطلاق اللحاظي فهل هناك إطلاق ذاتي أم لا يبقى إلا الاهمال؟
توضيح السؤال: قلنا ان معروض الاطلاق لابد من ان يكون ماهية مقيسة الى الغير قابلة للتقسيم فان لم يكن كذلك وكان على أحد الوجوه الآتية ما هو حكمه؟
- إذا كان الشيء متعلقاً أو موضوعاً للاعتبار ولكن لم يقس الى شيء آخر فهو مبهم في اصطلاح الفلاسفة وكان عدم القياس الى الغير من جهة الغفلة عنه أو الجهل به كما لو وقف داراً على العلماء ولم يقيد ذلك بكون العالم اصولياً أو اخبارياً لجهله بالتقسيم فما هو حكم هذا العنوان هل هو مطلق او مهمل؟
- إذا كان الشيء مقيساً ولكن لم تبين خصوصيات الموضوع أو المتعلق كما لو قال «زر عالماً» ولكنه أرجأ بيان القيود أو تحديد وقت الزيارة الى وقت آخر فالماهية مقيسة ولكنه لم يبين حدود المتعلق فهل هو مطلق أو مهمل؟
- إذا كان مقيساً وغير قابل للتقسيم من جهة التساوي كما لو قال «صل مستقبل القبلة» والمخاطب عراقي فبالنسبة الى استدبار الجدي لا يقبل التقسيم للتلازم فلا يكون الاطلاق ملحوظاً ولا التقييد فما هو حكمه؟
- إذا كان مقيساً وغير قابل للتقسيم لا من جهة التلازم بل من جهة كون المقيس اليه مما لا يمكن التقييد به كما هو المفروض فيما نحن فيه من التقسيمات الثانوية بناءاً على استحالة التقييد بها.
فهل يكون ترك التقييد اللحاظي في جميع هذه الموارد موجباً للإطلاق او الاهمال؟
أما في القسم الأول وهو كثير الابتلاء في المعاملات فلابد من ملاحظة مُرتكز العرف فان كانت هناك موجبات ارتكازية للتحديد حكمنا بالتقييد. نظير ما يقال في «الوقف على الفقراء» انه لو كان الاختلاف بين المذاهب في بلد بحيث لا يتعاطون ولا يحسن بعضهم الى بعض انصرف الوقف عن فقراء المذهب المخالف لمذهب الواقف وذلك بلحاظ تحديد المنشأ بالأمور الارتكازية اللاشعورية وعلى ذلك تبتني الشروط الضمنية الارتكازية في خيار الغبن والعيب ونحوهما.
وان لم تكن هناك أمور محددة ارتكازية حكمنا بالإطلاق، كالعالم المردد بين الاصولي والاخباري مع جهل الواقف بأصل التقسيم.
واما القسم الثاني و الثالث فللبحث عنهما مجال آخر.
وأما القسم الرابع فهو مورد الاطلاق الذاتي والتقابل بينه وبين التقييد تقابل السلب والإيجاب اذ لا تعتبر فيه قابلية التقييد.
الجهة الثالثة: هل لهذا الاطلاق الذاتي قيمة اثباتية أم لا؟ فيه ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: ان له قيمة اثباتية، فهذا الاطلاق وان كان قهرياً نتيجة لاستحالة التقييد، وإذا استحال وجب الاطلاق، إلا أنه حيث كانت نفس الماهية متعلقاً للحكم بلا دخالة أمر آخر وكان انطباقها على كل فرد قهرياً وكان الإجزاء عقلياً، فالنتيجة هي تأثير هذا الاطلاق في شمول الحكم نظير ما مر في العقود والايقاعات لو كانت هناك جهة تقييد ارتكازية.
الاحتمال الثاني: انه لا قيمة له لانه لا يعد – كالإطلاق اللحاظي – عملاً من الأعمال مورداً للتحسين والتقبيح، وليس دائراً مدار الملاك والمصلحة بل هو أمر قهري فحكمه حكم الاهمال فعلى مسلك المحقق النائيني من امكان ابراز الواقع بمتمم الجعل لا بد للشارع إما من جعل ما يفيد فائدة التقييد أو ما يفيد فائدة الاطلاق وعلى مسلك المحقق الخراساني من عدم امكانه فيوكل الحكم بالتعبدية والتوصلية الى العقل.
وكيف كان فهذا الاطلاق لا قيمة له ولا يوجب الحكم بالتوصلية لأنه قهري وليس تابعاً للمصلحة والملاك فيمكن تساويه مع المصلحة فيكون الواجب توصلياً كما يمكن اخصية المصلحة وتعلقها بالمقيد بقصد القربة فيكون الواجب تعبدياً. وتعين أحد الأمرين لا يتم الا بمتمم الجعل أو بحكم العقل حسب الخلاف السابق.
الاحتمال الثالث: انه يمكن الاعتماد على هذا الاطلاق بناءاً على امكان متمم الجعل المفيد فائدة التقييد وذلك لانه ان لم يتحقق متمم كذلك يؤخذ بالإطلاق وان تحقق كان مرجعه اسقاط الاطلاق ولا حاجة الى متمم مفيد فائدة الاطلاق بل يكفي عدم تشريع ما يفيد فائدة التقييد مع افتراض امكانه فالحكم بعدم تأثير هذا الاطلاق نظراً الى أنه قهري غير صحيح لأنه قهري حدوثاً واختياري بقاءاً لإمكان اسقاطه بمتمم الجعل. وبذلك يندفع الشبهة الواردة في الاحتمال الثاني كما انه يظهر ضعف الاحتمال الأول.
هذا بناءاً على امكان متمم الجعل وأما على مسلك المحقق الخراساني فهذا الاحتمال لا يجدي في الاخذ بالإطلاق وذلك لأن الاطلاق الذاتي المفروض هو بنفسه موضوع حكم العقل. فنظرية المحقق الخراساني – التي تقول بأن العقل هو الحاكم في تعيين التعبدي والتوصلي عن طريق تقسيم الأحكام الى ما يتحقق طاعته بخصوص قصد الانقياد وما لا يتوقف على ذلك – موردها تحقق الاطلاق الذاتي أي مع افتراض الاطلاق الذاتي وعدم امكان اسقاطه بمتمم الجعل يلاحظ العقل فان احتمل اخصية الغرض عن متعلق الحكم حكم بالتعبدية وان لم يحتمله حكم بالتوصلية.
وهذا الاحتمال هو الصحيح، والفرق بينه وبين نظرية المحقق النائيني ان هذا الاطلاق بنفسه يفيد في مرحلة الاثبات نظراً إلى إمكان اسقاطه ولا حاجة إلى متمم الجعل المفيد فائدة الاطلاق بل هو لغو وهو يعتقد بتوقف الحكم بالإطلاق عليه.
يبقى هنا سؤال وهو ان هذا الاطلاق هل يرجع الى الاطلاق اللفظي أم الاطلاق المقامي؟
لا اشكال انه ليس من الاطلاق اللفظي لعدم انكشافه من مقدمات الحكمة وإنما ينكشف من برهان استحالة التقييد كما ان المقيد اللفظي يكشف عن ضيق دائرة المتعلق أو الموضوع، والمقيد هنا مسقط للإطلاق لا كاشف عن التضييق. ويمكن ان يدعى انه نوع من الاطلاق المقامي نظراً إلى ان المولى في مقام البيان. والاطلاق وان كان قهرياً إلا انه كان بإمكانه اسقاطه بمتمم الجعل فيكشف ذلك عن ان الاطلاق مراد له.
ومن الممكن كشف الاطلاق المقامي في مثل ذلك بنحو آخر وذلك فيما لو أحرز ان المولى في مقام بيان كل ما هو دخيل في غرضه، ويمكنه بيان تقييد المتعلق بقصد القربة ولو بمتمم الجعل، وقد ذكر كل ما هو دخيل فيه ولم يذكر ذلك، فهذا يكشف عن عدم دخالته. نظير كشف عدم وجوب اكرام اخي بكر إذا قال «أكرم زيداً واخاه وأكرم عمراً واخاه وأكرم بكراً» بمقتضى الاطلاق المقامي.
3.8الأمر الثامن:
في الاطلاقات المستقلة غير أدلة نفس التكاليف والتي قيل يستكشف منها ان الأصل التعبدية:
الدليل الأول: الحكم بوجوب الاطاعة نحو قوله تعالى (اطيعوا الله واطيعوا الرسول) بدعوى ان الاطاعة لا تصدق الا بالموافقة مع قصد الامتثال، وإطلاق الدليل يقتضي أن يكون الأمر كذلك في جميع الأوامر إلا ما قام الدليل على كفاية الامتثال المطلق في اطاعته فالنتيجة ان الأصل في الاوامر التعبدية.
وهذا الدليل ضعيف لأن هذه الأوامر ارشادية فالإطاعة منتزعة من موافقة المكلف للأوامر والنواهي وهذه الأوامر تحرض المكلفين على الموافقة وأما كيفية تحصيل الموافقة فلا تستفاد منها. وليس المراد امتثال التكاليف بقصد الانقياد باستثناء الواجبات التوصلية والمحرمات حيث انه ليس لدينا حرام تعبدي وان وجد كان نادراً جداً فلا يصح الاستثناء وهذا شاهد أيضاً على ان هذه الأوامر ارشادية.
الدليل الثاني: قوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) والذي يظهر بمراجعة التفاسير ان الشافعية – كما في تفسير الرازي – والمالكية – كما في تفسير القرطبي – والحنابلة استدلوا بها على ان الأصل في المأمور به العبادية. وذهب الى ذلك الشيخ الطوسي في التبيان والطبرسي في مجمع البيان. وانكرته الحنفية كما يستفاد من آيات الأحكام للجصاص. واستدل المثبتون بان مفاد الآية حصر الأمر في العبادات ولا يختص ذلك بأهل الكتاب وان وردت فيهم.
والاستدلال ضعيف لوجوه:
الوجه الاول: ان الآية مسوقة للاحتجاج على المشركين وأهل الكتاب باعتبار انهم أيضاً كثيراً ما يشركون في العبادة، فهناك الكثير من النصارى يعبدون المسيح وأمه العذراء حسب الاعتقاد بالاقانيم الثلاثة، وكذلك بعض اليهود كالقائلين بان عزيراً ابن الله عز وجل فاحتج الله عليهم بأنهم لم يؤمروا في الشريعة الا بعبادة الله. والآية السابقة عليها (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة) اذن فالحصر في الآية الكريمة اضافي لا حقيقي نظير قوله تعالى (قل إنما أمرت ان اعبد الله ولا أشرك به) ومما يوضح ذلك ان المخاصمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين وأهل الكتاب لم يكن في حصر الأوامر في التعبديات وشمولها للتوصليات وإنما كان مورد الخلاف الشرك في العبادة والتوحيد فيها. ولابد في تفسير الآية من ملاحظة مورد الخطاب.
الوجه الثاني: ان ذيل الآية أيضاً لا يناسب هذا التفسير قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) اذ التفسير المذكور انما يتم لو كان اللام في (ليعبدوا) لام الغاية لتدل على وجوب كون الداعي العبادة. وحيث إن المعطوف – وهو الصلاة والزكاة – نفس المأمور به لا الغاية منه فلابد من ان يكون المعطوف عليه أيضاً نفس المأمور به لا القصد والغاية.
الوجه الثالث: انا لو سلمنا ان مفاد الآية حصر الاوامر في كون الغاية منها عبادة الله فليس معنى ذلك ان جميع الاوامر يشترط في امتثالها قصد القربة بل المراد ان الغاية من الجعل هو السوق الى الرب واخضاع العبيد لعظمته فلام التعليل لبيان علة الجعل لا لتعيين الغرض من الامتثال كما هو محل البحث وعليه فلا مانع من كون امتثال الاوامر التوصلية كتطهير البدن والثوب واقعاً في طريق الخضوع لدى الله باعتبار كونه مقدمة للصلاة وبذلك يتحقق الغرض المنشود من انشاء الأمر به.
وقد تفطن الفخر الرازي لهذه المناقشة فأجاب عنها في موردين من تفسيره[7] – بما محصله مع الاختلاف بينهما ان اللام ليس للتعليل لان تعليل أحكام الله مستحيل اذ كل من فعل فعلاً لغرض فهو ناقص فاللام بمعنى الباء – كما في المورد الاول والمعنى انهم لم يؤمروا بشيء إلا مقروناً بقصد القربة أو بمعنى (اَن) كما في المورد الثاني فهو نظير قوله تعالى (يريدون ليطفئوا نور الله) فالمراد انهم لم يؤمروا إلا بالعبادة.
وأساس هذا الكلام باطل اذ يبتني على ان افعال الله تعالى لا يعلل بالأغراض، وهو غير صحيح اذ لا يجب ان يكون الغرض مصلحة عائدة الى الفاعل حتى يستلزم النقص كما ذكره، فلا مانع من كون الغرض مصلحة عائدة الى العباد وموجباً لكمالهم.
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الهمداني من لزوم التخصيص المستهجن للعلم بان كثيراً من الواجبات توصلية.
الدليل الثالث: الروايات المشتملة على جملة (إنما الاعمال بالنيات) وجه الدلالة ان المراد بالنية قصد القربة والجملة تدل على الحصر فكل عمل لم يقترن بقصد القربة وجوده كالعدم.
والرواية مروية في كتب العامة وعوالي اللئالي. وورد في أمالي الشيخ الطوسي قدس سره بسند ضعيف:
«أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أغزى عليا عليه السلام في سرية وأمر المسلمين أن ينتدبوا معه في سريته فقال رجل من الأنصار لأخ له: اغز بنا في سرية علي لعلنا نصيب خادما أو دابة أو شيئا نتبلغ به، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله، فقال: إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله، فقد وقع أجره على الله، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلا ما نوى»[8].
مظلم ومتن منكر حديث مشتمل على هذه العبارة يتضمن ما لا يمكن اسناده الى أمير المؤمنين عليه السلام من تمنيه في بعض الغزوات اصابة جارية او مال وان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال بعد ذلك:
«انما الاعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن غزى ابتغاء ما عند الله فقد وقع اجره على الله ومن غزى يريد عرض الدنيا ونوى عقالاً لم يكن له الا ما نوى»[9].
وورد الحديث أيضاً من دون الصدر في هداية الصدوق[10] مرسلا بعنوان وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك في التهذيب[11] بعنوان روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيف كان فليس للحديث سند يعتمد عليه.
وأما من حيث الدلالة فالنية في اللغة بمعنى العزم والقصد واستعمالها في خصوص قصد القربة من مصطلحات الفقهاء كما ورد في فتح الباري في شرح هذا الحديث ص 11:
«والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله وامتثال حكمه».
بعد ان نقل المعنى اللغوي العام ويقصد بالشرع الفقهاء. اذن فليس المراد بالنية في الحديث قصد القربة.
هذا مضافاً الى ان ذيل الحديث لا يناسب هذا المعنى حيث قسّم النية الى قصد متاع الدنيا ورضا الله تعالى فالمقسم هو مطلق القصد لا قصد القربة.
وكذلك الاتيان بلفظ الجمع لا يناسب ذلك، فالمراد ان الاعمال تابع للأغراض والمقاصد حتى يتم التقسيم المذكور للهجرة كما هو الوارد في حديث البخاري وعوالي اللئالي وللغزوة كما هو الوارد في الامالي وغيره.
الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وآله وسلم «لا عمل الا بنية» (أو بالنية) والرواية واردة عن طريقنا أيضاً ولا بأس بسندها في بعض الطرق[12]، وجه الاستدلال ان مفاد الحديث جعل الشرطية نظير «لا صلاة إلا بطهور» والمراد بالنية قصد القربة فلا يتم عمل بدونه.
و الجواب أولاً ما مرّ من ان معنى النية مطلق القصد. فالمعنى ان حسن العمل وقبحهُ يتبع القصد فربما يصلي الرجل ويقصد به الرياء وربما يأكل ويشرب ويقصد به التقوى على عبادة الله. فقيمة عمل الإنسان بقصده.
و ثانياً لو سلمنا ان المراد بالنية قصد القربة، فالمراد ان الآثار المرغوبة المطلوبة من العمل والتي يكون العمل موضوعاً للقانون الجزائي المتضمن لها، لا تترتب إلا مع قصد القربة، وتلك الآثار هي المثوبات، وذلك لا يختص بالتعبديات فالتوصليات أيضاً يترتب عليها الثواب مع قصد القربة، والفارق بينهما ان التعبديات هي التي لا تندفع العقوبة الا بإتيانها مع قصد القربة والتوصليات ليست كذلك. والعقوبة ليست من الآثار المترتبة على العمل بل هي من آثار الترك فلا تدخل ضمن الحديث.
فان قيل ان المراد ان العمل في مرحلة تعلق التكليف به ليس عملاً أي ليس محكوماً بحكم إلا مع قصد القربة.
قلنا ان ذلك خلاف الظاهر فان الظاهر ان العمل في وعاء التكوين لا يترتب عليه الاثر إلا بالنية لا في وعاء التشريع فان العمل ظاهر في العمل الخارجي ولا يمكن فيه القول بانه لا يتعلق التكليف به إلا مع قصد القربة إذا العمل الخارجي ليس متعلقاً للتكليف بل هو مسقط له والمقوم له هو العمل في وعاء الحكم والاعتبار.
فتحصل انه ليس لدينا إطلاق خارجي يثبت اصالة التعبدية في الواجبات.
3.9الأمر التاسع:
ما هو مقتضى الأصل العملي في الشك في التعبدية والتوصلية؟
الاجابة على ذلك تختلف باختلاف المسالك، فان قلنا بان التعبدية تحصل بتقييد متعلق الأمر بقصد القربة، فالأصل هو البراءة لاندراج الشك في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين والحق هناك البراءة عقلاً وشرعاً، وهو كذلك على مسلك المحقق النائيني من القول بتشريع التعبدية بمتمم الجعل فان النتيجة أيضاً الشك في تقيد المأمور به وعدمه فهو مندرج أيضاً في المسألة السابقة.
واما على مسلك المحقق الخراساني وهو ان المأمور به في التعبدية والتوصلية نفس الماهية فلا فرق بينهما في مرحلة التشريع وانما الفرق في حكم العقل بحصول الامتثال في أحدهما بنحو خاص أي مع قصد القربة وفي الآخر على وجه الاطلاق فمقتضى القاعدة حينئذ الاشتغال لان الشك في مرحلة الامتثال ومتعلق الحكم معلوم وإذا كان الشك في كيفية الامتثال فالأصل هو الاشتغال.
وأما على مسلك اصالة التعبدية فله تقريبان مر بيانهما:
التقريب الأول: ان الغرض من الأمر هو إيجاد الداعوية الفعلية له وقيادة إرادة المكلف بالفعل وهذا الغرض لازم التحصيل فيجب اتيان المأمور به بقصد امتثال الأمر لتتحقق الداعوية الفعلية له. وعليه فللتحقيق عن الأصل عند الشك لابد من تصوير التوصلية على هذا المسلك وذلك يحصل بأحد وجهين:
الوجه الأول: ان يكون من قيود الهيئة في الأمر بالشيء عدم اتيانه لا بداعي القربة.
توضيحه ان المفروض ان الأمر إذا تعلق بشيء وجب اتيانه بداعي الأمر لتحصيل غرض المولى من الجعل. والمفروض أيضاً ان الواجب توصلي، بمعنى انه لا يعاقب المكلف إذا أتى به لا بقصد القربة، فالجمع بينهما يتحقق بان يكون الوجوب مشروطاً بعدم اتيان المتعلق لا بقصد القربة فلو اتى به كذلك سقط الوجوب فينتفي العقاب.
وعلى هذا التصوير فمرجع الشك في التعبدية والتوصلية هو الشك في إطلاق الهيئة واشتراطها بعدم الاتيان لا بداعي القربة، ومقتضى القاعدة في مثل ذلك التفصيل:
فاذا لم يأت المكلف بالفعل المشكوك تعبديته حتى توجه الخطاب وكان الأمر فعلياً فالأصل استصحاب بقاء الأمر حتى يأتي به بقصد القربة، اذ مع عدمه يشك في بقاء الأمر والاستصحاب يقتضي بقاءه.
وإذا أتى بالعمل لا بقصد القربة قبل فعلية الأمر فالشك يكون في توجه الأمر لاحتمال كون عدم الإتيان كذلك قيداً للوجوب فالأصل حينئذ هو البراءة.
الوجه الثاني: ان الغرض من الأمر وان كان هو الداعوية بالفعل إلا ان للمولى اقامة القرينة إذا كان غرضه في بعض الموارد الداعوية بالإمكان بمعنى ايجاد الداعي لمن لا داعي له وحينئذ فالغرض من الجعل يحصل بنفس الجعل ولا يلزم تحصيله فإذا شككنا في مورد ان الفرض من هذا القبيل او من القبيل الأول كان مرجع الشك الى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين وان اضافة قصد الامتثال واجب أم لا والأصل البراءة.
التقريب الثاني: ان متعلق الأمر هو خصوص الحصة الناشئة من الارادة الناشئة من الأمر، لأنها هي التي تقع في سلسلة المعلولات للأمر دون غيرها. وعليه فلا يمكن تصوير التوصلية إلا بنحو تقييد الهيئة كما مر في التقريب الأول فيرجع الشك إلى الشك في الاطلاق والاشتراط ويأتي فيه التفصيل المذكور.
وأما على مسلكنا فللتعبدية وجهان:
الأول: التعبدية الذاتية وتكون في الماهيات الاعتبارية الخضوعية وبموجب متمم الجعل التطبيقي ينطبق العنوان المتعلق للأمر على العمل الخارجي، فهو مجرد وسيط لإسراء العنوان المأمور به الى العمل الخارجي.
فاذا شككنا في كون الماهية خضوعية كان الشك في سعة المأمور به وضيقه، لان الوسيط يقتضي انطباق عنوان الصلاة مثلا على العمل الخارجي، ولا شك انه يتوقف على قصد العنوان، لانه مقتضى كونها ماهية قصدية، إلا ان الشك في انها تذللية فيتوقف أيضاً على قصد التذلل، المضاف إلى الله تعالى أم انها ليست كذلك فالشك في ضيق المأمور به بالحمل الشايع وسعته والأصل فيه البراءة.
الثاني: التعبدية الجعلية بان لا تكون الماهية بذاتها خضوعية إلا ان الوسيط المتكفل للجعل التطبيقي يتضمن تقيد انطباق العنوان بقصد القربة فهو ليس وسيطاً مجرداً كالقسم السابق بل يفيد فائدة التقييد أيضاً فالشك في تضمنها لذلك يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين لاحتمال دخالة القصد المذكور في المأمور به بضم الوسيط والأصل فيه البراءة أيضاً.
فتحصل ان الأصل على أكثر المسالك هو البراءة وعلى مسلك المحقق الخراساني الاشتغال ويفصل على بعض المسالك الاخر.
3.10تتمة
ذكرنا في أول المبحث ان الانقسام الى التوصلية والتعبدية لا يختص بالواجبات فيشمل المستحبات أيضاً، بل لا يختص بمتعلقات الأحكام فيشمل بعض الموضوعات أيضاً. فالموضوعات التعبدية أي المتوقفة على قصد القربة كالوقف والعتق وكذلك الطهارات الثلاث بناءاً على عدم كونها متعلقات للأحكام وانما خص الاصوليون البحث بالواجبات نظراً الى موقع البحث حيث تقرر ايراده بعد الفراغ عن دلالة الأمر على الوجوب.
وكيف كان فما هو الأصل في المستحبات إذا شك في كونها تعبدية أو توصلية وهل يمكن اجراء أصل البراءة إذا التزمنا به في الواجبات لدخول الشك في الترديد بين الأقل والاكثر الارتباطيين أم لا؟
لا شك ان أصل البراءة لا يجري إذا كان الشك في أصل استحباب الشيء، لأن مرجع البراءة عدم لزوم الاحتياط، وهو غير لازم في المستحبات عقلا ونقلاً.
وأما إذا كان الشك في جزئية شيء للمستحب أو شرطيته فقد قيل بجريان البراءة لأن الشك في التقييد، والأصل البراءة من التقييد، وبعبارة أخرى الأصل البراءة من الوجوب الشرطي.
وفيه تأمل، فإن التقييد من اعتبارات الماهية وليس من الاحكام حتى يجري فيه الأصل. وأما الوجوب الشرطي فهو حكم العقل بان المشروط ينتفي عند انتفاء شرطه، فاذا حكم الشارع بشرطية الطهارة للصلاة النافلة، حكم العقل بان النافلة المقصودة لا يحصل بدونها، فهو ليس من المجعولات الشرعية بل من المدركات العقلية فلا تجري فيه البراءة.
فتحصل ان الشك في المستحبات لو آل امره الى الأصل العملي لم يكن للبراءة فيه مجال.
واما موضوعات الأحكام فلا تجري فيها البراءة أيضاً، فاذا شككنا في تعبدية شيء منها وتوصليته كان مرجعه الى الشك في اشتراط ترتب الحكم الوضعي على قصد القربة كالطهارة والحرية والملكية ونحوها وفي مثل ذلك لا تجري البراءة لان الحكم إنما ينحل بالنسبة الى متعلقه لا بالنسبة الى موضوعه.
فالأصل هنا هو استصحاب عدم ترتب الاثر المطلوب وهو الأساس في أصالة الفساد في المعاملات.
والحمد لله رب العالمين
4الفصل الرابع: الاطلاق يقتضي المباشرة ام لا
الفصل الرابع: في ان مقتضى إطلاق الأمر هل هو المباشرة أم لا؟
وبعبارة أخرى هل يجب على المأمور ان يقوم بالعمل بنفسه أم يسقط الأمر المتوجه اليه إذا قام غيره به بنيابة شرعية أو باستنابة أو بوجه آخر؟
وأول من ذكر هذا البحث في الأصول هو المحقق النائيني وقد ذكره في ضمن مباحث تقسيم الواجب الى مباحث التعبدي والتوصلي وعبر عما تعتبر فيه المباشرة بالتعبدي – باصطلاح آخر – وعما لا تعتبر فيه بالتوصلي، ولكن البحث قد ورد في بعض الكتب الفقهية فذكر السيد الطباطبائي قدس سره في ملحقات العروة تحت عنوان «في بيان ما تصح فيه الوكالة والنيابة وما لا تصح (ص131)»:
«وقد ذكروا ان الضابط ان كل ما تعلق القصد بإيقاعه مباشرة لا تصح فيه النيابة، وكل ما كان المقصود منه حصول غرض لا يختص بالمباشر تصح فيه. وإذا شك في ذلك فقد يقال ما حاصله ان الأصل صحة النيابة، ولذا استقر بناء الفقهاء على طلب الدليل على عدم الصحة واعتبار المباشرة في موارد الشك».
وهذا غير واضح موضوعاً ولا معتمد دليلاً، وقال:
«وذلك لان الأصل عدم اشتراط المباشرة وان كان الفعل مطلوباً من ذلك الشخص اذ كونه مورداً أعم من اشتراط المباشرة....»
ثم تعرض للجواب عنه.
وكيف كان فقد وقع خلط واشتباه في تعيين موضوع البحث في الفقه كما وقع ذلك في الأصول أيضاً فقد ذكروا في المقام موارد مختلفة مع ان بعضها لا يرتبط بموضوع البحث:
المورد الأول: هناك بعض الواجبات ينتفي موضوعها بفعل الغير، فاذا شككنا في مورد انه مما ينتفي موضوعه بفعل الغير ام لا فما هو الأصل المعتمد عليه؟
وقد اعتبر المحقق النائيني هذا المورد من موارد هذا البحث ولكن الصحيح انه لا يرتبط باعتبار المباشرة.
ولنوضحه بذكر بعض الامثلة:
مثال 1: تجب ازالة النجاسة عن المسجد، فالنجاسة متعلق المتعلق، ولا شك ان الحكم بوجوب ازالتها متوقف على بقائها، فاذا انتفت انتفى الحكم وان كان بسبب طبيعي.
فهذا لا يرتبط باعتبار المباشرة وعدمه أو بجواز الاستنابة وعدمه.
مثال 2: يجب على ولي الميت قضاء ما فات عنه من الصلاة والصيام في الجملة ويستحب تفريغ ذمة الميت مما فات عنه من الواجبات على كل مؤمن، فإذا قضى غير الولي عنه لا اشكال في عدم الوجوب على الولي ثانية لعدم بقاء الموضوع وحصول فراغ الذمة.
وهذا أيضاً لا يرتبط بالمباشرة والتسبيب.
مثال 3: الزكاة حق يتعلق بالأعيان الزكوية فهو حكم وضعي إما بنحو ملكية الفقراء على غرار الكسر الشاع أو الكلي في المعين وإما بنحو الحق. ويتفرع عليه حكم تكليفي متوجه الى صاحب المال وهو وجوب أداء الحق، فان دل الدليل على جواز تبرع الغير بإذن أو بغير إذن وانه يسقط حق الزكاة فهذا أيضاً من قبيل انتفاء الموضوع ولا ربط له بالمباشرة والتسبيب.
فتحصل ان هذا المورد خارج عن محل البحث ومع ذلك فقد تعرض له المحقق النائيني قدس سره.
والسؤال يطرح هكذا: إذا شككنا في أن موضوع الحكم هل ينتفي بفعل الغير أم لا، هل هناك أصل لفظي يرفع الشك أم لا؟
لا شك ان الأصل العملي هو استصحاب بقاء الموضوع أو استصحاب عدم تأثير فعل الغير.
وأما الأصل اللفظي المدعى فهو إطلاق أدلة التكاليف كدليل وجوب ازالة النجاسة أو وجوب تفريغ ذمة الميت أو وجوب الزكاة، فهل يمكن بهذا الاطلاق الغاء عمل الغير والحكم ببقاء التكليف أم لا؟
ذهب المحقق النائيني الى جواز التمسك بالإطلاق اللفظي. قال في اجود التقريرات:
«اما السقوط بفعل الغير من دون الاستنابة فينفيه إطلاق الصيغة أيضاً، فان مرجعه الى كون فعل الغير رافعاً للموضوع ... (الى ان قال) فإذا شككنا في السقوط بفعل الغير فمرجع الشك الى الشك في اشتراط الخطاب وعدمه وإطلاق الخطاب ينفي الاشتراط ويثبت كونه مطلقاً».
وهذا واضح الاشكال، اذ لا شك في اشتراط الخطاب بوجود الموضوع، إنما الكلام في بقاء الموضوع ولا يمكن ان يتعرض الخطاب لمرحلة تحقق الموضوع وعدمه وقد تفطن لذلك فقال:
«ان قلت على ما ذكرت فالشك في السقوط بفعل الغير يرجع الى الشك في بقاء الموضوع وعدمه، ومن الواضح انه لا إطلاق للخطاب بالإضافة الى وجود موضوعه وعدمه، بل هو مشروط به فعلاً فلا يمكن دفعه بالإطلاق، قلت نعم ولكن بقاء الموضوع وعدمه يستكشف من السقوط بفعل الغير وعدمه وبقاء الموضوع وعدمه في ما نحن فيه تابع للجعل الشرعي...».
ومحصل الجواب على ابهامه ان في المقام شكوكاً:
هل يعتبر في هذا التكليف المباشرة أم لا؟ وهل يسقط الموضوع بفعل الغير أم لا؟ وهل يشترط الحكم بعدم فعل الغير أم لا؟
ولا أصل يرفع الشك الأول والثاني، ولكن الاطلاق اللفظي يرفع الشك الثالث ويثبت عدم مشروطية الحكم بعدم فعل الغير وحيث انه أصل لفظي يثبت لوازمه، وبذلك يثبت بقاء الموضوع واعتبار المباشرة فيرتفع الشكان الاولان أيضاً.
و الجواب عنه أولاً: ان الحكم مشروط بوجود موضوعه قطعاً ومع هذا الشرط فاشتراطه بعدم فعل الغير لغو، لان المفروض ان فعل الغير يرفع موضوع الحكم فينتفي الحكم بذلك، فلا معنى للاشتراط الثاني. فالحكم دائر مدار الموضوع حدوثاً وبقاءاً، فإذا حكمنا بانتفائه عند فعل الغير فذلك لانتفاء الموضوع لا لاشتراطه بعدم فعل الغير.
والمفروض ان الموضوع مشكوك البقاء فلا بد من البحث عن أصل يثبت بقاءه.
و ثانياً: انه يلزم من البيان المذكور ان تكون القضية المثبتة للحكم متكفلة لبيان الحكم الواقعي والظاهري. أما الأول فهو اثبات الحكم على موضوعه الواقعي واما الثاني لأن المفروض ان اطلاقه يعين وظيفة الشاك في بقاء الموضوع وهذا غير معقول أو غير ظاهر.
والحاصل ان درج هذا المورد في البحث والتمسك بالإطلاق اللفظي فيه غير صحيح. وقد اختلط في بعض الكلمات هذا المورد مع المورد الآتي.
المورد الثاني: ان يكون الشك ابتداءاً في اشتراط الوجوب بعدم فعل الغير لا من جهة كونه رافعاً لموضوع الحكم كالمورد الأول.
مثال ذلك انه يجب تحنيط الميت على المكلفين، فاذا قام به صبي مميز غير مكلف نشك في ان الحكم باق وانه يجب على المكلفين ازالة تحنيطه وتجديده أم ان وجوبه ساقط بفعل الغير.
ومثله أيضاً الصلاة على الميت فهي واجبة على الولي، فان قام بها غيره يشك في بقاء الحكم ووجوب اعادة الصلاة على الولي.
وفي مثل ذلك يصح التمسك بالإطلاق اللفظي لمنع هذا الاشتراط والحكم ببقاء الوجوب. ولكن ذلك لا يرتبط أيضاً باعتبار المباشرة، فهذا الشك يتعلق ببقاء الوجوب واعتبار المباشرة من شؤون الواجب.
المورد الثالث: ان يكون الشك في توسعة الواجب، بان يحتمل ان يكون الخطاب تخييرياً بين قيام المكلف بنفسه بالعمل، او التسبيب الى عمل الغير نيابة أو مطلقاً.
والكلام في ان هذا التخيير هل هو معقول أم لا؟ ولعلّ توهم عدم معقوليته هو السبب في اللجوء الى الموردين السابقين فالمستفاد من المحاضرات ان ذلك غير معقول وان كل مورد جازت فيه الاستنابة كان راجعاً الى المورد الثاني. ووجه عدم معقوليته ان هذا التخيير يتصور بوجهين:
الوجه الأول: ان يكون الواجب هو الجامع بين فعل النفس وفعل الغير، وهذا الوجه غير ممكن لان عمل الغير لا يقع تحت الاختيار فلا يكون مقدوراً، وكما لا يتعلق به خطاب تعييني كذلك لا يمكن ان يجعل عدلاً في الواجب التخييري، اذ يجب في الواجب التخييري ان يكون كلا الشقين مقدورين.
الوجه الثاني: ان يكون التخيير بين عمله والاستنابة أو الاستيجار، وهذا وان كان في نفسه معقولاً لأن كلا شقي التخيير عمل للمكلف إلا انه غير واقع قطعاً، اذ يقتضي ان يتحقق الامتثال بمجرد الاستنابة سواء عمل النائب أم لا.
وهذا باطل قطعاً لان الملاك غير قائم إلا بالعمل الخارجي لا بأحد الأمرين منه ومن الاستنابة على ايقاعه. ولا يوجد غير هذين الوجهين وجه آخر لتصوير التخيير المذكور.
هذا وقد اعترف في موضع من المحاضرات بان الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور؛ ولذا يصح التكليف بالصلاة – مثلا – مع كون بعض انواعها غير مقدور للمكلف. الا ان يدعى ان ذلك انما يصح عند العقلاء في الجامع الحقيقي كالصلاة دون الجامع الانتزاعي كأحد الأمرين ففي مثل ذلك لابد من كون شقي الواجب التخييري مقدورين للمكلف وإلا لم يكن صحيحاً عند العقلاء.
وعليه فإن استناب الغير و اتى بالعمل وقلنا بانه موجب لسقوط التكليف كان ذلك من جهة اندراجه في المورد الثاني، فان السقوط لا يكون إلا بالإطاعة أو العصيان أو انتفاء الموضوع، وهذا ليس عصياناً بالفرض ولا اطاعة لان الوجوب لم يتعلق بالجهة الجامعة بين فعل النفس وفعل الغير ولابد في السقوط بالإطاعة من انطباق المأمور به على المأتي به، والمأمور به هنا عمل المكلف والمأتي به عمل الغير. اذن فالموجب للسقوط هو انتفاء الموضوع وهو لا يكون الا بتقيد الهيئة بعدم فعل الغير.
وإذا شككنا في مورد كان مرجع الشك – كما قلنا – الى الشك في الاطلاق والاشتراط واصالة الاطلاق ترفعه.
هذا هو غاية توضيح ما ورد في المحاضرات مع التوجيه المذكور للوجه الاول.
و الجواب عنه انه لا مانع من توجيه الخطاب بالتسبيب الى عمل الغير إذا كان مقدوراً، وهو قد يكون مقدورا وقد يكون غير مقدور، كما أن المباشرة أيضا قد لا تكون مقدورة وهو لا يمنع من صحة توجيه الخطاب إذا كانت مقدورة.
والتسبب الى عمل الغير نظير ما ذكرناه في مبحث التيمم من انه لو كان الانسان عاجزاً عن تحريك يديه وجب عليه الطلب من الغير بأن يحرك يديه ويضرب بهما على الأرض ويمسح بهما، وهذا ليس استنابة ولا استعانة. فان الاستنابة هو تنزيل الغير منزلة نفسه، والاستعانة هو التشريك في المقدمات، بل هذا من قبيل تحريك الغير نحو العمل ولذا يجب قصد القربة على العامل لا المحرك، فهذا نوع من التسبيب. اذن فلا مانع من الأمر بتحريك الغير نحو العمل نعم لو كان عاجزاً عنه في مورد كان معذوراً.
والتسبيب هنا ليس من قبيل ما يذكر في الكتب الفقهية من ان ارادة المباشر قد تكون مندكة في ارادة المسبب، كما في الصبي غير المميز فهو كإحداث العمل بآلة، بل هذا من قبيل التسبيب بالإكراه حيث لا يفقد المكره ارادته، ولذا لو أكره على القتل يقتص منه والآمر يحكم بالسجن المؤبد، فاذا أطلق على الفاعل انه فاقد الارادة كان مسامحة.
و إذا ثبت امكان توجه الخطاب التعييني أمكن جعله عدلاً للواجب التخييري أيضاً، فيكون المكلف مخيراً بين مباشرته للعمل بنفسه والتسبيب الى قيام غيره به، والاثر مترتب على عمل الغير:
اما مطلقاً ولكن بتسبيب من المكلف أو في خصوص صورة النيابة عنه لا انه يترتب على نفس الاستنابة.
فالمكلف مخير بين المباشرة والتسبيب الى تحقق العمل خارجاً بأحد الوجهين اي قيام الغير به مطلقاً أو نيابة عنه. ولكنه قد يعجز عن التسبيب فتتعين المباشرة كما أنه قد يعجز عن المباشرة فيتعين التسبيب.
وحينئذ فلو شككنا في أن الواجب هل هو المباشرة أو الجامع بينها وبين التسبيب، فمقتضى الاطلاق كما سيأتي في مبحث التعييني والتخييري هو وجوب المباشرة لأن التخيير يتوقف في مرحلة الاثبات على تقييد المتعلق بـ «او» وهي أداة التحويل حيث يحوّل المتعلق من تعينه فيما قبلها الى الجامع بينه وبين ما بعدها كما انها تحول المسند إليه في الاخبار من التعين الى الترديد. وحيث لم يرد «او» في الكلام نحكم بموجب الظاهر ان المتعلق المذكور هو متعلق الحكم واقعاً معيناً.
5الفصل الخامس: الأمر عقيب الحظر
الفصل الخامس: في الأمر عقيب الحظر أو توهمه.
اختلف في ان الأمر إذا وقع عقيب الحظر أو توهمه هل هو ظاهر في الوجوب فكأنه لم يكن حظر قبله أم في الاستحباب أم في الاباحة أم في ثبوت الحكم السابق على الحظر إما مطلقاً أو في خصوص ما إذا علق الأمر على سبب مزيل لسبب النهي نحو قوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا)؟
ومرجع الخلاف الى ان وقوع الأمر عقيب الحظر أو توهمه هل هو قرينة على خلاف الظاهر أم لا؟ وعلى الأول فهل هو قرينة على تعيين أحد المعاني أم لا؟
ذهب بعض العامة – على ما نسب اليهم – انه ليس قرينة على خلاف الظاهر فهو يدل على الوجوب كما لو لم يكن عقيب الحظر. وذهب جماعة إلى انه قرينة صارفة ومعينة أيضاً؛ فقيل انه يتعين في الاباحة وقيل في الحكم السابق وقيل بالتفصيل المذكور.
وذهب المحقق الخراساني وتبعه في المحاضرات الى انه من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح ان يكون قرينة فهو موجب لإجمال الكلام ولا يتعين في أحد المعاني، إلا ان القدر المتيقن منه انتفاء النهي السابق.
والصحيح انه ظاهر في انتفاء النهي السابق إلا انه لابد من ملاحظة النهي ومحتواه للكشف عما ينفيه هذا الأمر فان النهي – كالأمر – محل لانطباق العناوين المتعددة فقد يكون ارشاداً الى امر تكويني وقد يكون ارشاداً الى أمر تشريعي وقد يكون مولوياً والمستعمل فيه في الجميع واحد. فكما ان الأمر يستعمل في النسبة التحريكية كذلك النهي يستعمل في النسبة الزجرية وكما ان محتوى الأمر مختلف مع التحفظ على مفهومه كذلك النهي.
والمراد بالمحتوى ما يفيده الكلام مع ملاحظة من صدر عنه ومن خوطب به ودواعي المتكلم والمخاطب وسائر الملابسات. فاذا أمر الطبيب أو المرشد الرياضي بأمر أو نهي عن شيء فبملاحظة دواعي المراجع من كسب الصحة أو تقوية الجسم نحكم بان الأمر والنهي اعلام بتوقف تحصيل الغرض المنشود على فعل كذا وترك كذا فالأول شرط لحصول الغرض والثاني مانع. فهذا ارشاد الى أمر تكويني سواء كان الغرض لازم التحصيل أم لا ومع ذلك فالأمر والنهي مستعملان في النسبة التهييجية والزجرية.
وقد يكون الارشاد من المقنن في موضوعات الاحكام أو متعلقاتها كما لو نهى عن الطلاق إلا بشاهدين عدلين، فهذا ارشاد الى ان الغرض المنشود من الطلاق وهو قطع الرابطة الزوجية لا يتحقق في غير هذه الصورة ونكشف بذلك عن شرطية الشهادة للطلاق. وكذلك في متعلقات الأحكام كالنهي عن الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه، فهو ارشاد الى ان الغرض من الصلاة وهو تفريغ الذمة عن التكليف لا يحصل معه ونكشف بذلك عن مانعيته لصحة الصلاة.
وأما النهي المولوي فهو أيضاً ارشاد بنحو اللف والاندماج الى جعل الوعيد على الفعل فيما لو كان تحريمياً وجعل الوعد على الترك ان كان تنزيهياً.
فاذا جاء الأمر عقيب أحد هذه الموارد كان ظاهراً في ارتفاع المنع السابق بأي وجه كان وإذا كان عقيب توهم شيء منها كان ظاهراً في عدم المنع بالوجه المتوهم أيضاً وان كان المراد الاستعمالي والجدي للامر هو النسبة التهييجية وعليه فاستفادة ارتفاع المنع السابق بلحاظ المحتوى والاستعمال حقيقي والمراد الاستعمالي والجدي واحد.
ويمكن ان يقال – كما مر في مفاد صيغة الأمر – ان المراد الاستعمالي يخالف المراد الجدي وان الأول هو النسبة التهييجية والثاني هو ارتفاع المنع السابق، فدلالة الأمر عليه بالعناية والمجاز ولكن التجوز دائماً ليس باستعمال اللفظ في غير ما وضع له، بل باختلاف المراد الجدي والمراد الاستعمالي.
وذكرنا هناك ان ذلك هو الاحتمال الأقوى في موارد دلالة الأمر على الارشاد في العبادات والمعاملات نظراً الى ان العرف يجد الفرق بينها وبين أوامر الطبيب الظاهرة في البعث والتحريك.
فتبين مما ذكرنا ضعف القول بانه مما يصلح للقرينية وانه غير ظاهر في ارتفاع المنع السابق ولعله نشأ من ملاحظة اختلاف الموارد فيما يلازم المراد الجدي فتارة يلازم الوجوب واخرى الندب، وهكذا فتوهم انه من اجمال المدلول وان القدر المتيقن منه ارتفاع المنع السابق وقد تبين انه ظاهر في ذلك.
وأما دلالته على الاباحة بالمعنى الأخص فلا وجه له، اذ قد يكون وارداً في الارشاد فلا يدل على الإباحة في قبال سائر الأحكام. وكذا لا وجه للقول بدلالته على الحكم السابق على النهي، اذ قد يكون الحكم السابق نهياً تنزيهياً ثم تبدل الى نهي تحريمي ومن الواضح ان الأمر كيفما كان لا يدل على النهي وان كان تنزيهياً.
واما القول بانه يدل على الوجوب فلا يتم على جميع المسالك في كيفية دلالة الأمر عليه و نذكر منها مسلكين:
المسلك الأول: ما ذكرناه من ان صيغة افعل تدل على النسبة التهييجية، فدلالتها على الوجوب انما تتم بملاحظة اصالة التطابق بين المراد الجدي والمراد الاستعمالي، فنحكم بانه يقصد التهييج واقعاً ومع فقد ان كل موجبات التهيج عدا تضمن الوعد أو الوعيد وبملاحظة التناسب مع الوعيد على التردد، نحكم بان الأمر يتضمنه وهكذا يدل على الوجوب.
وهذا البيان لا يأتي في ما نحن فيه فاما ان نقول بالتجوز في الأمر هنا وان المراد الجدي هو ارتفاع المنع السابق فلا مجال للتقريب المذكور وأما ان نقول بان المراد الجدي هو النسبة التهييجية أيضاً الا ان محتوى الأمر – كما قلنا – يختلف باختلاف الدواعي المصححة لإنشائه، ولا يتوقف صحة الانشاء هنا على جعل الوعيد أو الوعد تضمناً حتى يدل على الوجوب، بل المصحح هنا هو اعلام ارتفاع المنع السابق فلا مجال للحكم بالوجوب.
المسلك الثاني: القول بان صيغة «افعل» تدل على النسبة الايقاعية واشتغال ذمة المكلف. والعقل يحكم فيما لم يأذن المولى في الترك بلزوم الامتثال، فالوجوب مستفاد بحكم العقل ولكن لابد من الدلالة على النسبة الايقاعية. والأمر في ما نحن فيه لا يدل عليه أما بحسب المراد الاستعمالي أو الجدي.
وأما ما ورد في بعض التقريرات من ان صيغة الأمر بناءً على هذا المسلك يدل على الترخيص فلا يحكم العقل بالوجوب لتوقف حكمه على عدم ترخيص المولى فالظاهر أنّه قاصر عن أداء المراد اذ لابد حينئذ من الحكم بالندب، لان صيغة «افعل» على هذا المسلك تدل على النسبة الايقاعية، فان لم يرد ترخيص من المولى حكم العقل بالوجوب وان ورد حكم بالندب. والمفروض انه لا يدل عليه.
وكيف كان، فالحق انه لا يدل إلا على انتفاء النهي السابق أو المتوهم.
وأما حكم مورده فيتعين بالرجوع الى الاطلاق أو العموم اللفظي، وان لم يكن شيء منهما فالمرجع هو الأصل العملي:
فاذا كان في مورد توهم الحظر كـ «رد السلام في الصلاة» حيث منعه أكثر العامة، فقال بعضهم بوجوب الإشارة وقال آخرون بوجوب تأخيره عن الصلاة؛ فاذا ورد السؤال عنه في رواية كان في مورد توهم الحظر فاذا ورد الجواب «قل سلام عليكم» لم يدل ذلك الاّ على انتفاء القاطعية المتوهمة، وأما حكمه فيعلم بالرجوع الى اطلاق قوله تعالى «فحيوا باحسن منها أو ردوها» اذن فوجوب الرد يستفاد من الآية لا من الحديث المذكور.
وإذا كان في مورد سبق النهي واقعاً:
فان كان هنالك اطلاق أو عموم قبل هذا الوعاء فهو المرجع بناءاً على ما هو الصحيح من الرجوع الى العام المخصّص بالمخصِّص الا زماني بعد زمان التخصيص دون استصحاب حكم المخصص. وتفصيله في مباحث الاستصحاب.
وان لم يكن اطلاق او عموم فالمرجع هو الاصل العملي على الاختلاف فيه.
6الفصل السادس: دلالة الأمر على التكرار
الفصل السادس: الأمر بالطبيعي هل يدل على المرة أو التكرار أم لا يدل على شيء منهما؟
اختلف القدماء في هذه المسألة واهتموا بها كما يظهر بوضوح من الكتب الاصولية القديمة ولكن المتأخرين حققوا عن البحث بما لا لبس فيه ولا مزيد عليه، واتضح بان الأمر مجرد بعث وتحريك نحو طبيعي الفعل ولا يقتضي المرة ولا التكرار.
وتحصل موافقته بإيجاد فرد واحد أو افراد متعددة دفعة واحدة لان الطبيعي يتحقق بصرف الوجود. وبعد ذلك يسقط الأمر ولا يبعث الى شيء ولا يصح الاتيان بالفعل بداعي ذلك الأمر. والسرّ في هذا السقوط مبين في مبحث «الإجزاء» حيث يبحث عن ان اتيان المأمور به على وجهه مجز عن الأمر وموجب لسقوطه وتبديل الامتثال غير ممكن إلا على وجه سيأتي ذكره ان شاء الله.
هذا ولكن كلمات القدماء في هذا المبحث تشتمل على أمور لابد من توضيحها، كالسؤال عن الفرق بين الأمر و النهي حيث انه يقتضي التكرار قطعاً مع انه طلب ايضاً، كالأمر أو السؤال عن وجه وجوب تكرار الصلاة والصوم إذا لم يكن ذلك مقتضى الأمر بهما فالكلام في ثلاث جهات:
الجهة الأولى: في وجه الفرق بين الأمر والنهي إذا تعلقا بالطبيعي دون تقييد فيهما او في المتعلق، حيث تحصل موافقة الأمر بإيجاد الفرد الواحد ولا تحصل موافقة النهي الا بترك جميع الافراد.
الجهة الثانية: في ان الأمر إذا تقيد بقيد وكان ذلك القيد ملحوظاً بنحو مطلق الوجود، انحل الأمر بتبعه ولكن ذلك لا يقتضي القول بالتكرار.
الجهة الثالثة: في ان انحلال الأمر بلحاظ متعلق المتعلق أيضاً لا يقتضي القول بالتكرار.
وبذكر هذه الجهات الثلاث يتبين الجواب عن استدلالات القائلين بالدلالة على التكرار.
أما في الجهة الأولى فاصل الفرق بين الأمر والنهي واضح، حيث نعلم بالوجدان انهما يختلفان في الموافقة والعصيان، فللأمر موافقة واحدة تحصل بإتيان متعلقه فرداً واحداً ودفعة واحدة من مجموعة أفراد، كما أن له مخالفة واحدة تحصل بتركه. وأما النهي فله موافقة واحدة تحصل بترك جميع أفراد متعلقه ومخالفات عديدة تحصل بإتيان كل فرد منها؛ الا ان الكلام في سرّ هذا الفرق، وهو تفصيلا سيأتي في أول مباحث النهي وخلاصة القول ان فيه أقوالاً ثلاثة:
القول الأول: ان وجه الفرق ان الأمر طلب ايجاد الفعل والنهي طلب تركه، والطبيعي يوجد بوجود فرد واحد وينعدم بانعدام جميع الافراد، فمنشأ الفرق تعلق الأمر بإيجاد الطبيعة وتعلق النهي بعدم ايجاده.
وسيأتي ان هذا القول ضعيف، وان كان المشهور ان الطبيعي يوجد بوجود فرد واحد وينعدم بانعدام جميع الافراد، فان الصحيح ان الطبيعي يوجد بوجود فرد واحد وينعدم بانعدام ذلك الفرد، فله وجودات متعددة واعدام متعددة، فاذا وجد فرد وجدت الطبيعة وإذا انعدم ذلك الفرد انعدمت الطبيعة، ولا مانع من ان يكون الواحد بالوحدة النوعية متصفاً بالوجود والعدم من جهة سعة المفهوم.
القول الثاني: ان وجه الفرق ان المناسبات تقتضي انحلال الحكم في النهي دون الأمر، وتفصيل بيان تلك المناسبات في محله.
ومجمل القول انه لو قال مثلا «لا تتكلم»:
فلا يمكن ان يكون المراد ترك المجموع بنحو العام المجموعي، اذ صدوره غير ممكن، بل تحققه خارجاً غير ممكن؛ فلا تتعلق بإيجاد جميع افراد الطبيعة ارادة الله أيضاً، فان الطبيعة مهما تكن محدودة فأفرادها المتصورة غير محدودة، ولا يمكن ان تتحقق جميع افرادها بحيث لا يبقى لها فرد ممكن الوجود.
ولا يمكن ان يكون المراد ترك صرف وجود التكلم، فانه حاصل ايضاً بموجب القانون المذكور، فان المفروض ان بعض الافراد غير صادر لا محالة، فلابد من ان يكون المراد العموم الاستغراقي وتعدد الاحكام بالانحلال.
وأما في الأمر فلو قال مثلا «تكلم»، فلا يمكن ان يكون المراد العام المجموعي ولا الاستغراقي للقانون المذكور، فلابد من ان يكون المراد ايجاد صرف وجود التكلم.
القول الثالث: ما ذهب اليه السيد البروجردي قدس سره بعد منع القول الأول لما مر، ومنع الانحلال بلحاظ ان الطبيعة بحسب الذات غير متكثرة والاعدام لا تمايز فيها. فذكر ان وجه الفرق هو حكم العقل، فكما انه الحاكم في أصل وجوب الاطاعة فهو الحاكم ايضاً في ما تتحقق به الاطاعة، وهو يحكم بان اطاعة الأمر تحصل بإيجاد فرد واحد واطاعة النهي بترك جميع الافراد. و وافقه على ذلك بعض من تأخر عنه الا انه تمسك في ذلك بحكم العقلاء.
والصحيح عندنا هو القول الثاني، وعلى كل تقدير فأصل الفرق بين الأمر والنهي غير قابل للإنكار، فلا يمكن القول بالتكرار في الأمر قياساً على النهي بان يقال ان عدم الطبيعة المطلوب في النهي كما يتحقق بانعدام جميع الأفراد كذلك وجودها المطلوب في الأمر يتحقق بوجود جميع الافراد، وكما ان الحكم منحل بحسب الافراد في النهي كذلك ينحل في الأمر وكما ان العقل أو العقلاء يحكمون بعدم تحقق الاطاعة في النهي الا بترك جميع الافراد كذلك يحكم او يحكمون بعدم تحققها في الأمر الا بإتيان جميع الأفراد، فكل ذلك واضح البطلان لعدم امكان الإتيان بجميع الأفراد.
إلا ان يقال نقيّده بالقدرة، فيجب الاتيان ما دام قادراً نظراً الى ان جميع الافراد غير مقدور وصرف الوجود غير كاف وتعيين الافراد بغير القدرة ترجيح بلا مرجح، فلابد من الاتيان بمقدار القدرة، وهذا أيضاً واضح الفساد ولا شك في أصل الفرق بين الأمر والنهي بل هو ارتكازي انما الكلام في وجهه. وتفصيله في محله.
وأما في الجهة الثانية فنحن نقول بالانحلال في الجملة إذا حصلت للأمر كثرة بلحاظ تعدد الموضوع أو الشرط ولا يقتضي ذلك القول بالتكرار.
أما الانحلال في الجملة فلاختلاف الموارد في الاستظهار العرفي فتارة يحمل القيد عرفاً على انه ملحوظ بنحو مطلق الوجود كقوله: «إذا زالت الشمس وجب الصلاة والطهور» أو قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، فيستظهر عرفاً ان مطلق وجود زوال الشمس وشهود الشهر موجب لتوجه الخطاب وان كان لفرد واحد في ازمنة متعددة، وكذلك لو قال مثلا: «كلما جاءك زيد في هذا اليوم فاعطه ديناراً» حيث انه ظاهر في ان تعدد المجيء موجب لتعدد الحكم.
وتارة يحمل القيد على انه ملحوظ بنحو صرف الوجود كما لو قال: «ان جاءك زيد فاعطه ديناراً» ومنه قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلاً)، فالشواهد تدل على عدم انحلال الحكم بتعدد القيد.
ومهما كان، فالموافقة في كليهما تحصل بإيجاد صرف الوجود حتى لو تعدد الحكم بتعدد الموضوع، ففي قوله «إذا زالت الشمس وجب الصلاة والطهور»، لا يجب الصلاة بعد زوال الشمس على كل مكلف الا مرة واحدة، فتعدد الحكم بتعدد الموضوع ليس كالقول باقتضاء الأمر للتكرار، ففي مرحلة الامتثال يكفي اتيان فرد واحد مع كل تحقق للموضوع.
وأما الجهة الثالثة: فالتكثر بلحاظ متعلق المتعلق قد يوجب الانحلال وتعدد الحكم أيضاً، الا انه لا يقتضي القول بالتكرار.
فلو قال «أكرم العالم» أو «أكرم عالماً» كان الحكم واحداً والمتعلق ملحوظاً بنحو صرف الوجود.
ولو قال «أكرم جميع علماء البلد»، فالمتعلق ملحوظ بنحو العام المجموعي وان كان منحلاً الا انه بلحاظ قطع الموضوع الواحد وهو المجموع لا بلحاظ الافراد، وعليه فالإطاعة والعصيان واحد أيضاً.
وأما لو كان المتعلق ملحوظاً بنحو العموم الاستغراقي كما لو قال «أكرم كل عالم» فالحكم منحل ومتكثر بتكثر أفراد الموضوع ومع ذلك لا يقتضي القول بالتكرار اذ صرف وجود الاكرام هو الواجب بالنسبة الى كل عالم.
فتحصل من بيان هذه الجهات الثلاث ان قياس الأمر بالنهي غير صحيح.
كما تبين من الجهة الأولى وتبين من الجهتين الثانية والثالثة وجه تكرر وجوب الصوم والصلاة وانه ليس من باب اقتضاء الأمر بنفسه التكرار.
هذا ولو فرضنا شكاً في المسألة فالمرجع اصالة عدم التقييد بالمرتين أو أكثر واصالة عدم التقييد باشتراط عدم الزيادة على المرة كما ان الأصل العملي هو البراءة.
7الفصل السابع: اقتضاء الأمر للفورية
الفصل السابع: هل الأمر يقتضي الفورية أم لا؟
هذه المسألة أيضاً من المسائل الأصولية القديمة، وقد نسب الى الشيخ الطوسي قدس سره وجماعة من القدماء القول بالفور، وذهب اليه بعض المتأخرين كما حكي عن العلامة الحائري وذهب اليه المحقق الحلي في مجلس بحثه، ولكن بين قول القدماء ونظرية المتأخرين فرق كبير، فمورد بحث القدماء هو الأمر المطلق والبحث اثباتي ومورد نظرية المتأخرين مطلق الأمر والبحث ثبوتي.
توضيح ذلك: ان القول بدلالة الأمر المطلق على الفور، مورده ان لا يكون المأمور به موقتاً، أي مقيداً بزمان، ولا يكون هناك قرينة خارجية على ارادة الفور. فان كان موقتاً، أي كان الزمان ملحوظاً قيداً للمأمور به بنحو «متى» فهو على اقسام ثلاثة:
الأول: الموسع، كصلاة الظهر والعصر، فانهما مقيدان بوقوعهما بين الزوال والمغرب. وذلك بالطبع لا يقتضي الفورية، فالمكلف مخير بين الأفراد الطولية في الزمان المعين والأمر ليس مطلقاً بل متعلقاً بالماهية المحددة بين الحدين، فالمأمور به موقّت ولكن الوقت اوسع من مقدار الواجب ولذا يعبر عنه بالموسع.
الثاني: المضيق، كالصوم حيث انه يجب في الزمان الخاص ما بين طلوع الفجر الى الليل إلا ان الزمان المأخوذ له بنحو «متى» مأخوذ أيضاً بتمامه بنحو الكم، فهو بمقدار الواجب لا يزيد عليه، ولذا يعبر عنه بالمضيق.
فإن الزمان قد يؤخذ بنحو «متى» فيقال «زر زيداً يوم الجمعة»، فهو هنا ظرف العمل. وقد يؤخذ بنحو الكم فيقال «زر زيداً ساعة»، وهذا محدد لمقدار العمل. وقد يجمع بين الأمرين كالصوم.
وكيف كان فهذا المورد خارج أيضاً عن بحث القدماء اذ لا يأتي فيه احتمال الفور، حتى لو قلنا بالوجوب التعليقي فيه بان يكون ظرف الوجوب أول شهود الشهر، كما في الآية الكريمة وظرف الواجب كل يوم فوجوب صوم كل يوم ثابت من أول الشهر والقول بالفورية لا معنى له أيضاً.
الثالث: الواجب الفوري، كوجوب رد السلام لقوله تعالى (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)، حيث ان «إذا» ظرف زمان، فلابد من كون الرد في زمان التحية أي يتعقبه فوراً، إلا ان له مجالاً بالطبع فهو ليس كالمضيق محدداً بالوقت ولم يؤخذ الزمان كمّاً له الا انه لا يجوز فيه التأخير.
فهذا القسم أيضاً خارج عن محل البحث اذ لا يحتمل فيه التراخي لإضافته الى الزمان الخاص واخذ الفورية فيه.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، ومن هنا يظهر عدم تمامية الاستدلال بالآية على الدلالة على الفور.
اذن فجميع هذه الموارد ممّا كان فيه المأمور به موقتا بزمان، خارج عن محل بحث القدماء، لان الأمر ليس مطلقاً. وكذا لو كانت هناك قرينة خاصة تدل على لزوم الفورية كما لو قال: «اسقني ماءاً» فان طلب الماء لرفع العطش لا شك انه مطلوب فوري.
وتبين بذلك ان بحث القدماء «اثباتي»، وهو ان الأمر لو كان مطلقاً بان لم يكن المأمور به مضافاً الى زمان خاص ولا مقروناً بما يدل على الفورية فهل هو بنفسه يقتضي الفور أم لا؟
وأما المتأخرون القائلون بالفور فهم يقولون به من جهة ثبوتية، بمعنى ان ذلك مقتضى طبيعة الوجوب.
وتوضيح ذلك كما يظهر من كلماتهم ان حقيقة الوجوب هو البعث والتحريك نحو الشيء، وكما ان البعث والتحريك التكويني لا ينفك عن الانبعاث والتحرك كذلك البعث والتحريك الاعتباريان القانونيان. وهذا هو معنى «الفورية»، فهو أمر لازم لذات الوجوب وطبيعته؛ فاذا قال «افعل كذا»، كان ذلك بعثاً نحو الفعل، فهو يقتضي الانبعاث فوراً والا لم يكن بعثاً، فان امتثل سقط الأمر والا بعث في الآن الثاني، وهكذا يستمر في البعث ما دام موجوداً ويقتضي الانبعاث الفوري دائماً.
ويلحق به القول بان صيغة «إفعل» تدل على النسبة الطلبية وتعلق ارادة الآمر بفعل الغير، اذ كما انه لا تنفك الارادة التكوينية عن المراد فكذلك الارادة التشريعية الاعتبارية. وبهذا البيان أبطلوا الواجب التعليقي بان يكون الوجوب فعلياً والواجب استقبالياً، فقالوا بعدم امكان انفكاك الوجوب عن الواجب والبعث عن الانبعاث وتفصيله في محله.
ويظهر ضعف ذلك بملاحظة ما ذكرناه سابقاً من ان الوجوب له عنصر شكلي ربما يختلف باختلاف المجتمعات وعنصر معنوي هو المحتوى وواقع الوجوب.
والعنصر الشكلي هو الذي اختلف في تحديده والتحقيق عنه الاصوليون، فقال بعضهم بانه اعتبار شيء على ذمة المكلف وقال آخرون انه الاغراء والتهييج وقال بعض آخر انه الارادة التشريعية المتعلقة بعمل الغير.
وقلنا انه يمكن دعوى صحة كل هذه الأقوال، فالوجوب اعتبار قانوني تختلف كيفية اعتباره باختلاف المجتمعات، وذلك لان الاعتبار القانوني متطور من الاعتبار الادبي، وهو يستمد من وحي المجتمع والظروف الخاصة التي يعيشها والرواسب الذهنية. ولعل من يعيش في المجتمع الذي يكثر فيه الصيد بالكلاب يرتكز في ذهنه اعتبار الاغراء والتهييج، فاذا أراد اعتبار الوجوب القانوني يعتبره بتلك الذهنية الخاصة. فكل قوم يعتبر الوجوب تبعاً لتأثير الموجبات الاجتماعية من الوضع الجغرافي والسوابق التاريخية، ولعل هناك اعتباراً للوجوب غير ما ذكره القوم في مجتمعات اُخرى لم تتأثر باعتباراتهم النظريات الاصولية.
ومهما كان فالعنصر الشكلي ليس قواماً لحقيقة الوجوب، بل قوامه العنصر المعنوي والمحتوى وهو استبطان الطلب للوعيد على الترك.
اضف الى ذلك، انا لو سلمنا كون حقيقة الوجوب هو الاغراء والتهييج، وانه اعتبار قانوني اخذ من اغراء الكلب، كما ورد في بعض الكلمات ولكن الاعتبارات القانونية لا تتبع مآخذها في جميع الشؤون. وتوهم ذلك إنما نشأ من محاولة إسراء احكام الأمور التكوينية الى الأمور الاعتبارية، وهو غير صحيح كما نبهنا عليه وعلى مضاره في مدخل المباحث الأصولية. فالاعتبارات سواء كانت قانونية أم أدبية لا تتبع الأمور التكوينية، فاذا اعتبرنا بالاعتبار الادبي ان «زيداً اسدٌ» فإنما نقصد به التأثير في نفس المخاطب بإعلام شجاعته ولا يتبعه سائر لوازم الأسد. ومن هنا أيضاً أبطلنا التمسك بالأصل المثبت.
والاعتبارات القانونية كذلك، فالتحريك القانوني وان اخذ من التحريك الخارجي الذي يستتبع التحرك بالطبع، الا انه لا يستلزم ان يستتبعه التحريك القانوني ايضاً.
والبعث القانوني يتبع المبعوث اليه، فان كان المبعوث اليه ايجاد طبيعة العمل فيما بين الحدين من الزمان الاوسع من العمل، كان للبعث سعة زمانية كما مر:
وان كان وعاء الانبعاث مضيقاً كـ «الصوم»، كان البعث مضيقاً أيضاً.
وان كان فورياً كـ «رد السلام» كان فورياً.
وان كان منفصلا زماناً كان البعث معلقاً كـ «الواجب المعلق».
وهكذا يتم تصحيح هذه الاعتبارات، وأما على هذه النظرية فلا يمكن تصحيح اعتبار الواجب الموسع مثلاً الا بتأويل وتكلف.
وأما قول الشيخ الطوسي قدس سره، فيمكن تقريبه بان مدلول صيغة «افعل» هو النسبة التهييجية، وتناسب ذلك مع البعث الخارجي الملازم مع الانبعاث يوجب انصراف الصيغة الى هذا النوع من البعث، أي المستتبع للانبعاث الفوري، الا ان يكون هناك مانع من هذا الانصراف كما في الواجب الموسع والواجب التعليقي، ففي مثل ذلك نلتزم بان الانبعاث في سعة وعائه وضيقه يتبع المأمور به، ولكن في سائر الموارد يقتضي الانصراف المذكور ان يكون الانبعاث حال البعث.
و الجواب عنه: ان الانبعاث في الأحكام التشريعية تابع لوعاء المتعلق كما ذكرناه:
فان كان المتعلق ذا وعاء زماني خاص تبعه الانبعاث.
وان كان المتعلق الطبيعة لا بشرط القابلة للانطباق على الافراد الطولية تبعه الانبعاث أيضاً.
ودعوى التناسب المذكور انما نشأت من توهم تبعية الاعتبارات القانونية للواقع التكويني، وان الذي ينشئ الحكم بصيغة «افعل» مرتكزه الذهني هو الاغراء والتهييج وليس كذلك فالاغراء وان كان منشأ للاعتبار القانوني وتحققه في المجتمع، كما ان الازدواج التكويني منشأ لتحقق فكرة الزوجية الاعتبارية في القانون الاجتماعي، وكما ان السلطة التكوينية منشأ لفكرة الملكية الاعتبارية وهكذا...، الا ان الشؤون التكوينية لهذه المفاهيم غير ملحوظة عند انشاء الاعتبار القانوني فلا وجه للتناسب المذكور.
ومن هنا لا نجد الاصوليين يذكرون مناشئ الاعتبارات القانونية من الأمور التكوينية بل ذهب بعضهم الى انها من الاعراض.
هذا وربما يتمسك لإثبات دلالة الأمر على الفور ببعض الآيات كقوله تعالى (فاستبقوا الخيرات) وقوله تعالى (وسارعوا الى مغفرة من ربكم) والاستدلال بها مضافاً الى ضعفه كما ورد تفصيله في كتب القوم خارج عن محل البحث الذي يدور حول مفاد الصيغة لا ما تفيده الأدلة الخارجية.
8الفصل الثامن: البحث في الإجزاء
الفصل الثامن في الإجزاء.
وقد قسموا هذا المبحث الى ثلاث مسائل:
- الاتيان بالمأمور به بوجهه – او المأمور به بالأمر الواقعي – هل يوجب الاجزاء والاكتفاء وسقوط الأمر أم لا؟
- الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري اي المركب الناقص لعذر هل يجزي عن الأمر الواقعي أم لا؟
- الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري هل يجزي عن الأمر الواقعي أم لا؟
أما السؤال الأول بعد تخصيص البحث بالمأمور به بـ «الأمر الواقعي» فربما يقال:
ان ذلك من القضايا التي قياساتها معها، اذ لا معنى لبقاء الأمر الواقعي بعد امتثاله على وجهه فهو أمر واضح لا حاجة الى البحث عنه. ولكن ليس كل القضايا الواضحة مستغنية عن البحث وخالية عن النقد ولا أقل من البحث عن سرّ القضية والوجه فيها ففي هذه القضية الواضحة نقطتان مبهمتان:
النقطة الأولى: الشبهة العقلية في سقوط الأمر بالامتثال.
النقطة الثانية: الشواهد الشرعية التي تنافي السقوط، كجواز تبديل الامتثال فيما إذا صلى فرادى وانعقدت جماعة، حيث ورد الأمر بالصلاة ثانية وان يجعلها الفريضة، ونحو ذلك، ولو كان الاجزاء قاعدة عقلية واضحة لم يمكن ذلك والقواعد العقلية غير قابلة للتخصيص.
اما في النقطة الأولى فتقريب الشبهة العقلية ان في متعلقات الحكم نظريتين:
النظرية الأولى: ما يظهر من صاحب الكفاية في مبحث اجتماع الأمر والنهي في المقدمة الثانية من مقدمات دليل الامتناع، وكذا في مبحث تعلق الأمر بالطبيعي أو الفرد، ويظهر من جماعة أيضاً وهو ان: متعلق الحكم نفس العمل الخارجي.
ومن هنا امتنع اجتماع الأمر والنهي في مثل «الصلاة في الدار المغصوبة»، لان متعلقهما الصلاة الخارجية.
وعلى هذه النظرية فمقوم الحكم وهو الماهية الموجودة تنتفي بعد وجودها وتحققها خارجاً وبانتفائها ينتفي الحكم أيضاً، لأنها معروضه ولا يبقى العرض بعد فناء المعروض، فالإجزاء حينئذ واضح.
النظرية الثانية: ان متعلق الحكم هو الماهية في وعاء الاعتبار والحكم. واما العمل فليس معروضاً للحكم بل هو مسقط له.
وهذه النظرية هي الصحيحة، اذ لا يمكن تقوم الحكم بالعمل الخارجي لعدة مناقشات فيه سيأتي ذكرها، ومنها انه في صورة عدم الامتثال يلزم تحقق الحكم بلا مقوم او عدم تحققه اصلاً.
وعلى هذه النظرية تأتي الشبهة العقلية وهي ان الحكم يتقوم بالماهية في وعاء الاعتبار فكيف يسقط بإتيان المتعلق خارجاً. بل يمكن ان يقال بصيغة فلسفية ان ذلك غير معقول، فان الحكم في سلسلة العلل للعمل الخارجي، وكيف يمكن ان يكون المعلول من اسباب فناء العلة، اذ يستلزم ذلك ان يلزم من وجود الشيء (العلة) عدمه.
وبصيغة اخرى: الحكم يدفعنا الى المتعلق وهو يقتضي انعدام الحكم، وكيف يمكن ان يقتضي الشيء ما يقتضي انعدامه.
ويندفع الاشكال بتغيير قليل في النظرية، وهو ان العمل ليس موجباً لانعدام الحكم، بل هو أمده، فإليه ينتهي الحكم بانتهاء مدته المضروبة المصححة لاعتباره وبقائه.
ولكن يبقى السؤال عن سرّ كونه امداً للحكم وفي بيان ذلك وجوه نذكر منها وجهين:
الوجه الأول: ان مصحح اعتبار الأمر – كما بينا سابقا – هو انطباق عنوان «التسبيب الى الخير» عليه، فانه الغاية من اعتباره. ومقوم الحكم هو الماهية في وعاء الاعتبار، ولكنها بنفسها ليست واجدة للمصلحة بل هي تتقوم بالعمل الخارجي.
فالسّر في تعلق الحكم بالماهية في وعاء الاعتبار هو كونها مرآة للعمل الخارجي، وهي بهذا اللحاظ تكتب عنوان واجدية المصلحة مع الواسطة في العروض، كما ان العمل الخارجي بلحاظ انطباق الماهية عليه يكتسب عنوان الواجب مع الواسطة في العروض أيضاً.
وهذا هو السبب لتوهم كون الواجب هو «العمل الخارجي» مع ان الواجب حقيقة وأولا وبالذات هو «الماهية في وعاء الاعتبار»، ويتصف به العمل الخارجي بواسطتها ثانياً وبالعرض. كما ان الواجد للملاك حقيقة هو العمل الخارجي وتتصف به الماهية بواسطته ثانياً وبالعرض.
وحينئذ فاذا أتى المكلف بمتعلق الحكم خارجاً تحققت المصلحة المطلوبة فلا تبقى مصلحة للماهية في وعاء الاعتبار وبذلك يفقد الحكم ملاكه وهو التسبيب الى الخير وبقاؤه بلا ملاك لغو وتحقق ملاك آخر يقتضي حكماً آخر لإبقاء الحكم الأول.
الوجه الثاني: ان حقيقة الوجوب والعنصر المعنوي له – كما ذكرنا – هو استبطان الوعيد على الترك. فقوله: «افعل كذا» انما يدل على الوجوب، إذا كان مستبطناً لقضية شرطية مفادها: «لو لم تفعل تعاقب». وهو السر في تحقق الأمر المولوي وتأثيره في نفس المكلف، والا فمجرد انشاء الأمر لا يحقق داعوية في نفس المكلف، وبعد اتيان المأمور به يتحقق الشرط في القضية المستبطنة، فتسقط القضية ولا يبقى لها موضوع، اذ لا معنى بعد ذلك لقوله «لو لم تفعل»، وحينئذ يفقد الأمر جوهرها المقوم لمولويته ووجوبه فينتهي امده.
وأما التعبير بـ «سقوط الأمر»، فهو تعبير ادبي والواقع هو انتهاء أمد الحكم، فكل حكم وجوبي ينتهي امده بإتيان متعلقه.
وبذلك تندفع الشبهة العقلية.
اما في النقطة الثانية اي الشبهة الشرعية، فالقدر المتيقن منها مورد «اعادة الصلاة جماعة بعد اتيانها فرادى».
ومنشأ الشبهة ان العمل الأول لا شك انه لا بشرط من جهة الانفراد والجماعة، فالمأمور به منطبق عليه قهراً و الإجزاء عقلي، فكيف يمكن ان يجعل الثانية فريضة كما في الرواية.
وأما ما ورد في «الالتحاق بجماعة المخالفين إذا انعقدت بعد ان صلى فريضة»، فهو خارج عما نحن فيه، إذ المراد بذلك تأليف القلوب أو غيره من دواعي التقية، ولذا صرّح في بعضها بان يقصد الفريضة الفائتة وفي بعضها التطوع وفي بعضها مطلق التسبيح.
وما ورد في هذا الباب روايتان معتبرتان ومرسلة:
الرواية الأولى ما رواها الكليني والشيخ عنه وهي معتبرة حفص بن البختري «عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال: يصلي معهم ويجعلها الفريضة»[13] ( ).
الرواية الثانية ما رواها الصدوق بإسناده عن هشام بن سالم (وهي معتبرة أيضاً) «عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال يصلي معهم ويجعلها الفريضة ان شاء»[14].
وفي الفقيه بعد ذلك: «وروي انه يحسب له أفضلهما واتمهما»، ولكن صاحب الوسائل نقل هذا الذيل بعد رواية أخرى عن الصدوق ترتبط بظاهرها بانعقاد جماعة المخالفين بعد صلاته، وبذلك تخرج عما نحن فيه.
وهذا الاشتباه صار منشأ لاشتباه المحقق الاصفهاني قدس سره في هامشه على حاشيته على الكفاية وفي «الأصول على النهج الحديث» حيث قال:
«والظاهر ان ما أرسله في الفقيه بقوله وروي ... تتمة رواية رواها عن الصادق قال رجل...».
ونقل ما قدمه عليها في الوسائل، وبمراجعة الفقيه يظهر الحق، ولكن جامع الأحاديث استقام في النقل. وكيف كان فهذه الرواية مرسلة لا اعتبار بها والمهم الروايتان المعتبرتان.
هذا وقد اختلف في دفع الشبهة فذهب بعضهم الى تفسير الروايتين بما لا ينافي الحكم العقلي المذكور وذهب بعضهم الى ان تبديل الامتثال معقول فهنا مسلكان في دفع الشبهة:
المسلك الأول تفسير مفاد الروايتين بأحد الوجوه الآتية:
الوجه الأول: ما ذكره الشيخ الطوسي في ذيل رواية حفص[15] قال:
«والتي في هذا الحديث ان من يصلي ولم يفرغ من صلاته، ووجد جماعة فليجعلها نافلة ثم يصلي في جماعة. وليس ذلك من فرغ من صلاته بنية الفرض، لأن من صلى بنية الفرض فلا يمكن ان يجعلها غير فرض».
وأيده المحقق الوحيد البهبهاني بأن ذلك مقتضى صيغة المضارع، إذ لم يرد في الرواية «انه صلى ثم وجد» بل ورد «يصلي». وأيّده أيضاً بان هشام بن سالم راوي هذا الخبر روى نفس هذا المعنى عن سليمان بن خالد عن الصادق عليه السلام. وكلام الشيخ وان كان في ذيل رواية حفص الا ان رواية هشام بنفس المعنى.
ورواية سليمان هكذا قال:
«سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل دخل المسجد فافتتح الصلاة فبينما هو قائم يصلي إذ أذن المؤذن وأقام الصلاة، قال: فليصل ركعتين ثم ليستأنف الصلاة مع الامام ولتكن الركعتان تطوعا»[16].
والظاهر ان الوحيد اراد بذلك ان هشام بعد ان سمع هذا المعنى من سليمان سأل الامام عليه السلام عنه ليتأكد من صحته.
ولكن هذا الاحتمال غير واضح في الرواية لقوله «يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة» و «ثم» تستعمل في العطف مع التراخي والانفصال فلا يمكن حمل الرواية على من لم يفرغ من صلاته، وأما رواية هشام عن سليمان فتختلف عن هذه الرواية ولا موجب للقول بوحدتهما في المعنى.
الوجه الثاني: ما احتمله الشيخ قدس سره قال في التهذيب:
«ويحتمل أيضاً ان يكون أراد بقوله ويجعلها فريضة قضاءاً لما فاته من الفرائض».
ثم استشهد برواية تدل على هذا المعنى، وهذا الاحتمال خلاف الظاهر أيضاً لقوله ويجعلها الفريضة والظاهر ان اللام للعهد الذكري.
الوجه الثالث: ما نسب الى أكثر الفقهاء وهو ان مفاد الرواية «استحباب اعادة نفس طبيعة المأمور به»، لا تبديل الامتثال، فالأمر الوجودي المتعلق بصلاة الظهر – مثلاً – ساقط بالإتيان الأول انفراداً، إلا أنه يستحب صلاة الظهر ثانية جماعة.
وأما قوله عليه السلام ويجعلها الفريضة، فالمراد اتيان الصلاة مع قصد عنوان الفريضة السابقة أي قصد صلاة الظهر، كما ورد في صلاة الآيات استحباب اعادة الصلاة بقصد نفس العنوان ما دامت الآية باقية، واختار هذا الوجه الشيخ الانصاري وجماعة.
وهذا الوجه أيضاً خلاف الظاهر، اذ يقتضي ان يكون المراد بالفريضة العنوان المعرف لصلاة الظهر مثلاً مع قطع النظر عن صفة الفرض، فان معنى الفريضة «الواجب»، والمراد هنا العنوان المنطبق عليه الوجوب سابقاً، ولكنه يؤتى به مستحباً. فالفريضة مأخوذة بعنوان المعرفية والأصل فيما إذا دار الأمر بين معرفية العنوان وموضوعيته ان يكون مأخوذاً على وجه الموضوعية، فهذا الاحتمال وان كان أقرب من الأولين إلا أنه لا يصار إليه إذا أمكن حمله على ظاهره وتوجيه امكان مفاده عقلاً.
المسلك الثاني: الاخذ بظاهر الروايات والقول بجواز تبديل الامتثال عقلاً وإتيان الصلاة بقصد الأمر الوجوبي. ونسبه المحقق الهمداني في صلاته إلى الشهيدين قدس الله اسرارهم ومال اليه.
قال في ص665:
«الظاهر ان مقصود القائلين بجواز نية الفرض ان له رفع اليد عما أتى به أولاً والقصد إلى وقوع المعادة اطاعة للأمر الوجوبي الذي كان موجهاً إليه. نظير ما لو قلنا بجواز الاعادة للإجادة، فان معناه انه لو أتى بفرد غير كامل في مقام امتثال الأمر بطبيعة الصلاة كالصلاة بلا خضوع مثلاً، له الغاء هذا الفرد ما دام الوقت باقياً واختيار اطاعتها في ضمن فرد كامل. كما له شواهد في الأوامر العرفية المتوجهة الى عبيدهم، فلا يبعد ان يدعى ان اعادة المنفرد صلاته جماعة، هي من هذا الباب فإنا وان لم نلتزم بمشروعية الاعادة للإجادة على الاطلاق في الأحكام التعبدية التي لا احاطة لنا بمناطاتها، ولكن لا ننكر جوازها بعد مساعدة الدليل عليها».
ولكن ما ذكره مبهم في نفسه اذ رفع اليد عما تحقق سابقاً وتسبب في سقوط الأمر لا معنى له، وليس رفعه ووضعه بيد المكلف، فهذا تعبير أدبي لا يؤثر تأثيراً قانونياً ويمكن ان نوجه ذلك بطريقين:
التوجيه الأول: ان يكون مرجع رفع اليد إلى الإقالة.
وقد وردت الاقالة في باب البيع وذكره بعضهم في باب الصلح أيضاً، وانه قد يفيد فائدة الابراء، بل وردت الإقالة في باب الزكاة أيضاً ففي صحيحة بريد بن معاوية بعد أمر الجابي بالمناصفة مع صاحب المال لأخذ الزكاة منه واخذ القسم الذي يرضى به:
«فاقبض حق الله منه وان استقالك فاقله ثم اخلطها»[17].
وهذه اقالة في الواجبات بعد إيجاد الفرد نظير ما نحن فيه إلا ان المقيل هنا نفس العامل.
التوجيه الثاني: ان يكون من باب التصرف في مرحلة الامتثال أو المأمور به.
أما التصرف في مرحلة الامتثال فتقريبه:
ان الأمر متعلق بالطبيعي والمكلف يأتي بالفرد الخارجي لينطبق عليه عنوان المأمور به. إلا أنّ انطباق الكليات التي هي متعلقات للأوامر ليس كانطباق الكليات الطبيعية على افرادها، فانطباق عنوان «الإنسان» على «زيد» انما هو بلحاظ ان وجوده وجود للإنسان طبعاً والانسان منتزع منه وانطباقه عليه قهري. ولكن انطباق عنوان «الصلاة» على ما يأتي به المكلف يتوقف على قصد العنوان، كما يتوقف عليه في أداء الدين فالهوهوية هنا اعتبارية، والانطباق بالعناية فهو خاضع للجعل وقابل للتصرف.
وهنا يمكن الاشتراط بنحو الشرط المتأخر، بان لا ينطبق عنوان الماهية الاعتبارية المقومة للحكم الوجوبي على الفرد المأتي به، الا بشرط عدم تعقبه بفرد أفضل كإتيان الصلاة جماعة، وسيأتي ان الشرط المتأخر جايز في التكوينيات فضلاً عن التشريعيات.
وأما التصرف في مرحلة المأمور به فتقريبه ان:
تكون الصلاة الانفرادية حين تعلق الأمر بها مشروطة بنحو شرط الواجب لا شرط الوجوب، بان لا يتعقبه الفرد الأفضل كالصلاة بالجماعة، فان تعقبه لم يكن مأموراً به وهذا الشرط أيضاً بنحو الشرط المتأخر. فعلى أحد هذين الوجهين يحمل رفع اليد في عبارة المحقق الهمداني قدس سره.
هذا ويمكن المناقشة في تفسيره بالإقالة بوجوه:
الوجه الأول: ان نتيجة الاقالة عود الحكم الأول سواء كان تكليفاً أو وضعاً، وهو معقول في نفسه واستحالة اعادة المعدوم خاصة بالتكوينيات ولا تأتي في الاعتباريات، ولكن لابد من ان يكون الحكم العائد نفس الحكم الأول والحكمان يتغايران بتغاير المتعلق ولو بنحو الاطلاق والتقييد، لان نسبة المتعلق الى الحكم كنسبة الماهية الى الوجود.
والحكم الأول هنا متعلق بطبيعي الصلاة لا بشرط الانفراد والجماعة، فان كان الحكم العائد كذلك أيضاً لزم جواز تبديل الامتثال بصلاة انفرادية، وهو غير جايز بالاتفاق، وان كان متعلقاً بالصلاة جماعة – كما هو المفروض – لزم تغاير الحكم العائد مع الحكم الأول، وهو ينافي الإقالة.
ولا تقاس بالإقالة في باب الزكاة اذ يجوز للمالك بعدها الاعطاء من أي قسم من المال اراده فالحكم العائد كالحكم الأول متعلق بالطبيعي لا بشرط بخلاف ما نحن فيه.
الوجه الثاني: ان الاقالة إنما تصح في الأحكام الوضعية دون الأحكام التكليفية، وذلك لأن الحكم الوضعي لا يلغى بتخلل العدم. فبيع الدين على من هو عليه لو اقيل كان سبباً في عود الحكم الوضعي السابق وهو ملكية الدائن لمقدار الدين في ذمة المدين، وتخلل العدم لا يوجب الغاء الملكية.
ولكن الحكم التكليفي إذا سقط بالامتثال لا يمكن عوده فان سقوطه لأحد الوجهين السابقين:
تحقق الملاك والمصلحة أو الامن من العقوبة.
وبعد حصولهما لا يبقى ملاك مصحح لعود الحكم السابق وإن كان المتعلق الطبيعي لا بشرط. وعود الحكم بلا مصحح وملاك لا يوجب انبعاثاً في نفس المكلف.
وأما الاقالة في باب الزكاة فالوجه فيها ان المتحقق أولاً في الزكاة حكم وضعي وهو تعلق حق الفقراء بالمال الزكوي بأحد الوجوه المذكورة في الفقه، ويترتب عليه الحكم التكليفي وهو وجوب أدائه. فاثر الاقالة عود الحكم الوضعي السابق وتعلق حق الفقراء بالعين الزكوية وهذا بخلاف الصلاة حيث انه حكم تكليفي محض.
الوجه الثالث: ان هذه الاقالة لو كانت نافذة كانت نتيجتها عود الحكم السابق وهو وجوب الصلاة، فلو أقال ولم يصل جماعة لزم استحقاقه لعقوبة تارك الصلاة ولا يلتزم به أحد ولا تدل عليه الرواية.
فان قلت: ان نفوذ الاقالة مراعى بإتيان الصلاة جماعة وإلا الغيت.
قلنا: لا يعقل ذلك فان الأمر بالصلاة جماعة متوقف على نفوذ الإقالة وعود الحكم السابق، فان كان نفوذها متوقفاً بنحو الشرط المتأخر على اتيان الصلاة جماعة، لزم توقف الأمر بالصلاة جماعة على اتيانها، ولا يمكن ان يكون الأمر بالشيء مشروطاً بنحو الشرط المتأخر بإتيان متعلقه، فان الداعي لإنشاء الأمر هو إيجاد الداعي في نفس المكلف لإتيان المتعلق، فلا يعقل أن يكون مشروطاً بإتيانه.
وأما التصرف في مرحلة الامتثال بان يكون الأمر متعلقاً بالماهية لا بشرط من غير تقييد للهيئة ولا للمادة، ولكن انطباق الماهية على جزئي الصلاة منفرداً يكون مراعىً بعدم تعقبه للصلاة جماعة، ففيه ان ذلك غير معقول فيما نحن فيه بل مطلقاً. فان هذا الفرد من الصلاة انفراداً:
ان كان واجداً للمصلحة الملزمة فالتصرف في مرحلة الامتثال وكون فرديته للمأمور به مراعىً لا وجه له ولا مصحح لاعتباره.
وان لم يكن واجداً للملاك فالإطلاق في وعاء الأمر واللا بشرطية الشاملة له لغو:
اذ لو كانت الماهية لا بشرط هي الواجدة للمصلحة في وعاء الأمر فالتصرف في الامتثال بلا ملاك.
وان لم تكن واجدة فاطلاق الهيئة والمادة في وعاء الأمر بلا ملاك.
وأما التصرف في المأمور به بان نلتزم بتقييد المادة، فيكون الواجب هو الصلاة انفراداً مع عدم تعقبه بالصلاة جماعة، فالإشكال فيه ان هذا القيد داخل تحت الطلب، وعليه فلا يجوز اتيان الجماعة بعد ذلك لان تحصيل قيود المادة واجب.
وهنا وجه آخر، وهو تقييد الهيئة بان يكون الأمر الوجوبي المتعلق بالصلاة انفراداً مشروطاً بعدم تحقق الصلاة جماعة في مجموع الوقت قبلها وبعدها، فان اتى بالصلاة جماعة بعدها انكشف عدم توجه الأمر بالصلاة انفراداً.
و الجواب عنه ان الأمر المتعلق بالصلاة جماعة:
ان كان وجوبياً لزم القول بالترتب، بمعنى ان الواجب ابتداءاً هو الصلاة جماعة فان تركها وجبت الصلاة انفراداً وهذا لا يقول به أحد.
وان كان ندبياً وكان اتيان الصلاة انفراداً في اول الوقت بقصد الوجوب باستصحاب عدم اتيان الجماعة في المستقبل، فهو خلاف الفرض المبحوث عنه اذ كل هذه المحاولات لرفض المسلك السابق وهو استحباب الصلاة جماعة بعد الصلاة انفراداً.
فتحصل ان موافقة الشهيدين مشكل، فالصحيح هو الوجه الذي ذهب اليه أكثر الفقهاء من استحباب الصلاة جماعة، وان قوله «ويجعلها الفريضة»، بمعنى جواز قصد الفريضة السابقة بعنوانها، لا بوصف كونها فريضة، فلا يلزم من الروايات جواز تبديل الامتثال.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين
[1] الرواية مروية في كتب العامة بوجوه مختلفة ومنها ما في سنن ابي داود ج 1 ص 497.
[2] الكافي ج 3 ص 22 باب السواك.
[3] التقريرات ص 97.
[4] الكافي ج1 ص 330 باب في تسمية من رآه عليه السلام ح 1.
[5] الاضافة الى نفسه وردت في جملة سابقة في الحديث حول العمري الاب قال عليه السلام (العمري ثقتي فما أدى اليك عني فعني يؤدي...) ولم ترد هذه الاضافة هنا فيما رأيت من النسخ.
[6] الكافي ج 5 ص 292 باب الضرار.
[7] في ج11 ص 153 و في ج32 ص43.
[8] امالي الشيخ ص 618.
[9] مقدمة جامع الأحاديث ص 99: ح: 699.
[10] الهداية ص 62.
[11] تهذيب الاحكام ج 4 ص 186.
[12] راجع مقدمة جامع الاحاديث ح: 692 و 693 و 694.
[13] الوسائل ج 5 ص457 ب 54 من صلاة الجماعة ح 11.
[14] الوسائل ج 5 ص 455 ح 6.
[15] التهذيب ج 1 ص 260.
[16] الوسائل ج 5 باب 56 من صلاة الجماعة ح 1.
[17] الوسائل ج 6 ص 89.