[H

مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

تعارض الأدلة 02 - المقصد الأول

1المقصد الأول:

المقصد الأول ونبحث فيه عن أمور ثلاثة:

1.1الأمر الأول في معنى التعارض:

وينبغي التنبيه أولا على انه لا حاجة الى التفسير الدقيق للكلمة اذ ليس هذا العنوان موضوعا لحكم في رواية معتبرة ليبحث عن حدوده نعم ورد التعبير به في مرفوعة زرارة المروية في غوالي اللئالي لابن ابي جمهور الاحسائي وسياتي ان شاء الله تعالى ان مرويات هذا الكتاب لا اعتماد عليها اصلا. وانما الوارد في الروايات وكذا تعابير القدماء من العامة والخاصة هو الاختلاف بين الحديثين كما تبين مما سبق فالمهم في هذا المقام هو التعبير المناسب الذي يحتوي على جميع فصول هذا المبحث.

وقد تبين مما ذكرناه في المدخل ان لهذا المبحث حدا واسعا الا ان كلمة التعارض هنا بدل عن كلمة الاختلاف التي وردت في تعابير الروايات والاصحاب وقد ركزوا البحث على الحديثين المختلفين او بوجه اوسع الظاهرين المختلفين نظراً الى احتمال كون العلاج الوارد في الاخبار العلاجية مخالفاً لما عليه بناء العقلاء او ما تقتضيه قوانين النشر والكتمان والطريقة الخاصة للأئمة عليهم السلام في تبليغ الاحكام فهذا هو الذي يستوجب تحديد كلمة التعارض بتعريف يناسب كلمة الاختلاف الملحوظة في الروايات وكلمات الاصحاب.

ويقع الكلام في جهات:

1.1.1الجهة الأولى: تحديد التعارض

الجهة الأولى: ان الشيخ الانصاري والمحقق الخراساني قدس سرهما حدّدا التعارض بوجهين مختلفين.

قال الشيخ قدس سره: «غلب (التعارض) في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما ولذا ذكروا ان التعارض تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض او التضاد». 

وقال المحقق الخراساني قدس سره: «التعارض هو تنافي الدليلين او الادلة بحسب الدلالة ومقام الاثبات على وجه التناقض او التضاد حقيقة او عرضاً بان علم بكذب أحدهما اجمالاً مع عدم امتناع اجتماعهما اصلاً».

ويفترق التعريفان في نقطتين:

احداهما: تقييد صاحب الكفاية التنافي بكونه بحسب الدلالة ومقام الاثبات ولم يرد هذا القيد في تعريف الشيخ.

الثانية: اضافة صاحب الكفاية نوعاً آخر من التنافي وهو التنافي بالعرض الناشئ من العلم الاجمالي بكذب أحدهما.

ونحن نقدم البحث حول النقطة الثانية من الفرق بين التعريفين. فنقول:

لابد في تقييم هذا التعريف من مراجعة العرف لملاحظة الفهم العرفي لمفهوم الظاهرين المتعارضين. والظاهر ان المتعارضين بحسب الفهم العرفي هما الكاشفان اللذان يلاحظ التنافي بين محكييهما فيعلم اجمالا بعدم مطابقة أحدهما للواقع وهذا العلم يعتمد على امر عقلي او عقلائي او شرعي ولابد في كل منهما ان يكون واضحاً بيّناً.

فـ الأول نظير دلالة أحد الدليلين على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه فان اجتماع النقيضين محال عقلاً حتى في الأمور الاعتبارية.

و الثاني نظير دلالة احد الدليلين على وجوب شيء والاخر على حرمته فان ذلك وان لم يكن محالاً عقلاً الا انه مستنكر عند العقلاء لحصول التنافي بينهما اما من جهة المبدأ واما من جهة المنتهى.

اما من جهة المبدأ فلان اللازم من اعتبار الحكيم للوجوب اشتمال الفعل على مصلحة ملزمة ولازم اعتباره للحرمة اشتماله على مفسدة ملزمة. والحكيم لا ينشئ الوجوب والحرمة الا تبعاً للمصالح والمفاسد الملزمة وحيث انهما لا يجتمعان فاعتبارهما معاً ينافي الحكمة.

و اما من جهة المنتهى فلان الاحكام الشرعية انما جعلت لتكون جزءاً من الدوافع النفسية الباعثة الى الخير والقائدة لإرادة البشر الى السير نحو الكمال. ولا شك في ان اعتبار الوجوب والحرمة معاً يمنع من قيادة الارادة و يستوجب تحير المكلف في مرحلة العمل.

وهذا هو معنى التضاد في الاحكام اذ لا يعقل التضاد بالاصطلاح الفلسفي فيها لأنها أمور اعتبارية لا تقبل الاتصاف بالتضاد بالمعنى المعروف المختص بالأمور المتأصلة.

و الثالث نظير دلالة أحد الدليلين على وجوب القصر على المسافر في الصلاة والآخر على وجوب التمام فان التمانع هنا ليس عقليا ولا عقلائياً الا ان من الواضح شرعاً عدم وجوب صلاتين من نوع واحد في وقت واحد. وهكذا دلالة أحد الدليلين على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة والآخر على وجوب صلاة الجمعة مع ان الواجب صلاة واحدة قطعاً. فهذه القضية الشرعية الواضحة توجب تنافي الدليلين.

ويلاحظ انا قيدنا العلم الإجمالي المقوم للتعارض بكونه معتمدا على أحد الأمور الثلاثة. والوجه في ذلك ان هناك موارد يتعلق العلم الاجمالي بكذب أحد مضموني الدليلين مع انه لا يدخل في مبحث التعارض نظير ما إذا دل أحد الدليلين على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال والآخر على ثبوت دية الحرّ في قتل العبد المدبّر وعلمنا بملاحظة أمور خارجة عن نطاق المضمونين بكذب أحدهما بحيث لا يستند العلم الاجمالي الى قضية واحدة تنافي صدق القضيتين معاً. ففي مثل ذلك لا يصدق عرفاً ان الخبرين متخالفان او متعارضان ولا تشمله الاخبار العلاجية حيث ان موضوعها الخبران المختلفان فلابد في حلّ المشكلة حينئذ من التماس طريق آخر.

وسيأتي البحث عنه لما ذكرناه في المدخل من عدم اختصاص هذا المبحث بالظاهرين المتعارضين وان البحث عن سائر الجهات ليس استطراداً.

بعد ملاحظة هذا التعريف الذي قدمناه استناداً الى الفهم العرفي نرجع الى تعريف صاحب الكفاية ومن تبعه لتقييمه في ضوء ما قدمناه من ملاحظات.

ذكرنا ان تعريف صاحب الكفاية قسّم التعارض الى: تعارض مستند الى تناقض الدليلين و تعارض مستند الى تضادهما و تعارض مستند الى العلم الاجمالي بكذب أحدهما.

وهنا نتساءل: هل التعارض في القسمين الاولين لا يستند الى علم اجمالي بكذب أحدهما؟! 

لا اشكال في ان العلم الاجمالي موجود في الأقسام الثلاثة فلا يصح جعله أحد الأقسام. و هنا اعتراض آخر على هذا التعريف وهو ان العلم الاجمالي المذكور فيه يشمل صورة عدم استناد العلم الى قضية واحدة تنافي صدق القضيتين معاً وقد بيّنا عدم شمول التعارض لهذا المورد.

اما تعريف الشيخ قدس سره فلقائل ان يقول بشموله لجميع اقسام التعارض بلا حاجة الى اضافة قيد العلم الاجمالي لان المورد الذي لا يكون فيه التعارض مستنداً الى تناقض او تضاد في المدلول وهو القسم الثالث الذي يستند فيه العلم الاجمالي الى قضية شرعية يمكن ان يشمله التعريف ايضاً باعتبار حصول التناقض بلحاظ المدلول الالتزامي في كل واحد من الدليلين.

توضيح ذلك: ان المعتبر كما ذكرنا هو تنافي المدلولين والمراد بالدلالة الدلالة اللفظية الشاملة للدلالة الالتزامية وقد ذكرنا في التعريف ان القضية الشرعية الثالثة التي تستوجب التنافي بين المدلولين لابد ان تكون قضية واضحة نظير مسألة القصر والتمام فان وحدة الصلاة المكتوبة امر واضح عند المسلمين وبهذا اللحاظ يقتضي كل من الدليلين حصر الصلاة الواحدة في نوع خاص بالدلالة الالتزامية لوضوح اللزوم وهذا معنى التناقض في المدلول الالتزامي.

وهذا بخلاف ما إذا كانت القضية الثالثة غير واضحة وان كانت معلومة عندنا فانها حينئذ انما تكون من لوازم المخبر به وهو لا يقتضي الدلالة الالتزامية التي هي من الدلالات اللفظية وانما ينتج مدلولاً عقليا مكتشفاً بمقدمة عقلية خارجية. وقد وقع الخلط في كثير من الموارد بين هذين القسمين فتوهم ان مقتضى اللزوم مطلقا هو الدلالة الالتزامية.

1.1.2الجهة الثانية: التنافي يسري من المدلولين الى الدليلين

ان التنافي انما يكون اولاً وبالذات بين المدلولين ويتصف بها الدليلان ثانيا وبالعرض وكثيراً ما يوصف الكاشف بأوصاف المنكشف وقد قيل في المنطق ان الحسن والقبح يسري من المعنى الى اللفظ ومن هنا نلاحظ الاشمئزاز الحاصل من بعض الالفاظ نظراً الى تقزز النفس من تصور المعنى.

اذن فالتنافي انما يعرض الدليلين مع الواسطة في العروض والا فهو حقيقة عارض على المدلولين والا لم يكن يحصل الظهور للدليلين مع انهما معاً ظاهران. وهذا العروض بالواسطة صحّح توصيف الدليلين بالتعارض فلا نعني بالتعارض بين الدليلين الا هذا المعنى.

هذا ولكن التنافي بين المدلولين يؤثر تأثيراً حقيقياً في الدليلين وفي منع اتصافهما بالحجية الفعلية ومنع دليل الحجية من شمولهما معاً. ولازم ذلك اقتضاء كل منها لان يكون مشمولاً لدليل الحجية الا في الحجج الطولية وهي الموارد التي نعترف فيها بصحة الجمع الدلالي وقد مرّ ان صاحب الكفاية اضاف الى تعريف المشهور قوله (بحسب مقام الدلالة والاثبات) للإشارة الى ان التعارض وصف للكاشفين في هذه المرحلة بالذات.

وهنا يتوجه سؤال اليه وهو ان التنافي بين الحجيتين بهذا المعنى لا يمكن ان يكون على وجه التناقض او التضاد لانهما يتوقفان على وحدة الموضوع وهو هنا متعدد.

وقد تبدل صيغة السؤال بحذف كلمة التضاد فيه نظراً الى انه يمكن ان يتحقق بين الحجيتين لانهما امران وجوديان واما التناقض فلا يتصور فيهما.

ولا ينبغي ان نتطرق لتصحيح عبارات الكفاية وتوجيهها الا اننا ننبه ان المحقق الاصفهاني قدس سره ذكر ما يندفع به السؤال بصيغتيه واجماله: «ان الحجية ان قلنا بانها جعل الحكم المماثل فالتناقض او التضاد بين المدلولين ينعكس بنفسه في الدليلين فان مقتضى حجية كل دليل جعل الحكم الذي يدل عليه فحجيتهما معاً تقتضي جعل الحكمين المتناقضين او المتضادين. وان قلنا بانها جعل المنجزية والمعذرية فالتنافي بين الحجيتين من جهة لزوم نوع من التناقض او التضاد بالعرض».

وحيث وصل بنا البحث الى هنا فقد اتى دور النقطة الأولى من الفرق بين تعريف صاحب الكفاية وتعريف المشهور والذي يهمنا هو بيان الغرض من التقييد بقوله «حسب مقام الدلالة والاثبات» مع ملاحظة ما مرّ من تفسيره بمقام الحجية.

انّ غرضه من هذا التقييد هو اخراج موارد الجمع العرفي من مبحث التعارض. وذلك لانه يدعي ان موارد الجمع من موارد الحجج الطولية بمعنى ان العام ليس حجة في عرض حجية الخاص فلا يمكن تعارضهما بحسب مقام الحجية وبذلك يخرجان عن تعريف التعارض.

ولا نحتاج الى تطويل التعليق على هذا الكلام بعدما فصلناه في المدخل من الحاجة الى تعميم البحث لموارد الجمع العرفي.

1.1.3الجهة الثالثة: التعارض بين العام والخاص

في ان التعارض بالمفهوم الذي فسرناه او بمعناه العرفي يصدق على موارد الجمع العرفي كموارد التخصيص او الحكومة على وجه التضييق.

التخصيص بالمخصص المنفصل قد يكون بين العام والخاص وقد يكون بين العامين من وجه اما الأول فهو من موارد التعارض جزماً لان التخصيص ليس الا بين موجبة كلية وسالبة جزئية او سالبة كلية وموجبة جزئية ولا اشكال في ان بينهما تناقضاً.

واما التخصيص بين العامين من وجه فهو انما يكون بملاحظة احد المرجحات الدلالية الموجبة لإجراء حكم احدهما على المجمع فينتج تخصيص الدليل الآخر كما اذا دل احد الدليلين على نجاسة البول من كل مالا يؤكل لحمه ودل الآخر على عدم النجاسة في بول كل ما يطير فان بين العنوانين عموماً من وجه حيث يجتمعان في الطير غير المأكول الا اننا نحكم بتقدم الدليل الثاني وطهارة بول الطير مطلقا نظراً الى ان العكس يستوجب الغاء عنوان الطير عن اقتضاء الطهارة لدورانها مدار اكل اللحم وعدمه وهو خلاف ظاهر الرواية الثانية حيث اعتبر عنوان الطير موضوعاً للطهارة.

وهذا التخصيص حكم عقلائي بلا ريب ولكنه يعتبر عندهم علاجاً للتعارض وليس معنى ذلك ان العرف لا يتحير في اول مواجهته لعام وخاص او عامين من وجه على النحو المتقدم بل المراد انه بعد دراسة الموقف ومحاسبة الدليلين وملابساتهما يحكم بتقدم أحدهما على الآخر بل ليس ذلك امراً مسلّماً ايضاً فربما يكون في بعض الموارد محلاً للخلاف.

والحاصل ان نفس العموم والخصوص لا يكفيان في الحكم بأوسعية مقام الاثبات عن مقام الثبوت بل يحتاج الى تأمل وملاحظة:

فإذا ورد العام وقبل حلول وقت العمل به ورد الخاص فالعرف يحكم بالتخصيص لعدم المانع من تدرج الحكم بهذا النحو.

واما إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل فقد يحكم بالنسخ لإمكانه وقد يأول الخاص على وجه لا يلزم التخصيص وقد يجعله قرينة على ارادة معنىً آخر من العام:

فإذا ورد في الدليل الحكم باستحباب اكرام العلماء ثم ورد الامر بإكرام بعض العلماء بالخصوص وهو ظاهر في الوجوب فكما يمكن ان يجعل مخصصاً لجواز الترك في الحكم العام كذلك يمكن حمل الخاص على الاستحباب بناءاً على كتمان قرينة جواز الترك لمصلحة والوجه في ذلك ان حمله على الوجوب يستوجب الالزام وثبوت المصلحة الملزمة من حين صدور العام المصرح بالندب الى زمان صدور الخاص.

وسيأتي بيان وجوه الكتمان في قرينة جواز الترك فمنها القاء الاختلاف لمصلحة ومنها السوق الى الكمال فإن الائمة عليهم السلام قد لا يصرحون باستحباب شيء ليهتم به السامع بتوهم وجوبه وبذلك ينساق الى الكمال المطلوب ومنها الحكم المؤقت فقد يأمر الامام مكلفاً بعينه امراً وجوبياً بالحج مثلاً مع انه غير واجب عليه نظراً الى مصلحة خاصة في الحكم المؤقت و وجوبه حينئذ من باب الولاية العامة وغير ذلك مما سيأتي ان شاء الله تعالى من وجوه الكتمان.

والحاصل ان الحكم بالتخصيص عرفاً وعدم التنافي بين العام والخاص ليس امراً واضحاً مسلماً مطرداً في جميع الموارد.

ومن هنا حكي عن جماعة – كما سيأتي ان شاء الله – عدم جواز الجمع العرفي في موارد العام والخاص ووجوب ملاحظة المرجحات الصدورية. وهذا وان لم يكن صحيحاً الا ان الجمع العرفي ليس هو العلاج بقول مطلق بل لابد من ملاحظة الموقف بدقة.

وهنا محاولتان لنفي التعارض بين العام والخاص:

المحاولة الأولى: ما ذكره بعض الاعاظم من ان العقلاء لا يرون التناقض في محيط التشريع بين العام والخاص والمطلق والمقيد مع ضرورية التناقض بين الايجاب الكلي والسلب الجزئي وكذا العكس لما شاع وتعارف ذلك في وعاء التشريع فإنك ترى في القوانين العرفية الغاء الكليات في فصل وبيان حدودها ومخصصاتها في فصول أخرى وترى ان فيلسوفاً او اصوليا لو ادعى قاعدة كلية في فصل ثم ادعى خلافها في بعض الموارد يقال تناقض في المقال اللهم الا ان ينبه على انتقاضها في بعض الموارد.

وقد جرت سنة التشريع الاسلامي من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والائمة المعصومين عليهم السلام على الطريقة العرفية في تشريع القوانين لمصالح هم اعلم بها ولعل منها ايجاد الحاجة في الناس الى العلماء والفقهاء وفيه بقاء الدين ورواج الشريعة.

و نلاحظ على هذا القول ان التشريعات العرفية ليست من قبيل تأخير البيان المستوجب لكتمان القرينة بل مجموع القوانين المجعولة في كتاب واحد تعتبر كلاماً واحداً متصلاً فكل ما يضاف الى القانون العام من مواد استثنائية لا يعتبر الا كالاستثناء الوارد في الكلام المتصل ومن الواضح ان ذلك لا يعتبر تناقضا. واما ما لم يكن من قبيل الكلام المتصل كما إذا وردت المادة الاستثنائية في مذكرة خاصة متأخرة وهو ما يحدث كثيراً في القوانين العرفية فهو خارج عما نحن فيه لانه من قبيل النسخ لا التخصيص والموجب لذلك هو انكشاف عدم قابلية القانون العام على عمومه للتنفيذ.

واما التشريعات الواردة في شريعة السماء فتأخير البيان فيها لمصالح يترتب على كتمان بعض الاحكام ومن هنا نشأ التدرج في تبليغها. ولهذا الاجمال تفصيل سيأتي ان شاء الله تعالى.

المحاولة الثانية: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره ولعله يظهر ايضا من بعض عبارات الشيخ قدس سره من انتفاء التعارض بين العام والخاص فيما نلتزم فيه بالتخصيص من جهة ان الخاص ان كان قطعي السند والدلالة والجهة (جهة الصدور) فهو وارد على الدليل العام وان كان غير قطعي من أحد الوجوه فهو حاكم عليه.

و لكن من الواضح ان هذه المحاولة لا ترفع التعارض بين المدلولين وانما ترفعه بين الحجيتين كما مر ذلك في كلام صاحب الكفاية قدس سره والمراد بالتعارض هو تنافي المدلولين دون الحجيتين.

وهنا نكتة أخرى في هذه المحاولة وهي طولية الحجج بين العمومات والمخصصات و يمكن ان نوجه هذا القول بما يلي:

ان حجية العام تستند الى اصالة العموم التي هي من صغريات اصالة الظهور. واصالة الظهور ليست الا البناء على التعهد العقلائي وهو التزام كل متكلم بظاهر كلامه في المجتمع الذي يعيش فيه ومن هنا نشأ حجية الاقرار عند العقلاء.

و بعبارة اخرى: ان الأصل العقلائي في كل حديث هو تطابق الارادة الجدية مع الارادة التفهيمية فالسامع يأخذ بظاهر كلام المتكلم الا ان يدل دليل عقلي على عدم امكان ارادة الظاهر او يصرّح المتكلم بعدم ارادته او ينصب القرينة على ذلك وهذا هو الذي يحدث بين العام والخاص فان الدليل الخاص قرينة على ان مقام الثبوت والواقع في الدليل العام اقل حدوداً من مقام الاثبات والالقاء. وهذه القرينة تمنع من التمسك بالتعهد العقلائي المذكور كما ان العلم بالخلاف وقيام الحجة عليه يمنعان من التمسك به ايضاً بمعنى ان التعهد محدود بعدم العلم بالخلاف وقيام الحجة عليه والتصريح بخلافه.

هذا ولكن يبقى في هذه المحاولة ملاحظة أخرى وهي التفصيل بين صورة القطع بالتخصيص بان كان الدليل الخاص قطعياً من الجهات الثلاث: السند و الدلالة و الجهة (جهة الصدور) فهو وارد على الدليل العام وبين صورة عدم القطع من احدى الجهات فهو حاكم عليه. و هذا غير صحيح.

اما إذا كان مقام الاثبات غير مطابق لمقام الثبوت قطعاً فهو خارج عن التعهد العقلائي لا بالورود بل بالتخصص. وهذا لا يلازم كون الدليل قطعياً من الجهات الثلاث فقد يكون الدليل الخاص قطعياً كذلك ولكنه لا يكون مخصصاً بل يكون ناسخاً. واما إذا لم يكن عدم التطابق قطعياً فهو من قبيل الورود سواء كان الدليل الخاص قطعياً او غير قطعي.

ويظهر ذلك بملاحظة ما ذكرناه في تقرير طولية حجية العام والخاص حيث نبهنا على ان التعهد العقلائي محدود من اول الامر بعدم قيام العلم او الحجة المعتبرة على ارادة الخلاف. وعليه فبعد قيام الحجة العقلائية الموقّعة من جانب الشارع يرتفع موضوع التعهد الا انه رفع تكويني بمعونة من التعبد والتوقيع الشرعي. وهذا هو الورود.

ويمكن المحاولة لإبداء مثال للحكومة وهو فيما إذا كان الدليل الخاص حجة شرعية تأسيسية لا عقلائية نفذها الشارع فهي غير مشمولة للتحديد العقلائي للتعهد.

ولا بدّ في صحة هذا المثال من ملاحظة الحكم العقلائي بالتحديد:

فإن كان من قبيل القضية الخارجية الناظرة الى الحجج العقلائية الفعلية فهذا المثال صحيح.

واما ان كان استكشاف الحكم العقلائي من السيرة العملية للعقلاء فلابد من ان تكون الحجة المحددة للتعهد هو كل حجة معتبرة وان كانت مستحدثة نظراً الى ان العمل العقلائي مسبوق دائماً بقانون ذهني وهذا القانون لا يتقيد بحجة دون أخرى.

فمرجع الخلاف الى الخلاف في بناء العقلاء فقد ذهب المحقق الاصفهاني قدس سره الى ان اعتماد بناء العقلاء انما هو على العمل الخارجي فهو كالقضية الخارجية. ولكنا نقول: ان مستند بنائهم دائماً قوانين ذهنية عامة لا تتقيد بوقت دون وقت أو مجتمع دون آخر.

وكيف كان فعملية التخصيص سواء كان بين عام وخاص او بين عامين من وجه ليست الا علاجاً عقلائياً للتعارض ولا تمنع من تحقق التعارض ابتداءً اذ ليس التعارض الا تصادماً بين ظهورين.

 

1.1.4الجهة الرابعة: التعارض بين الحاكم والمحكوم

 

الحكومة على قسمين:

القسم الأول: الحكومة على وجه التوسعة. كقوله عليه السلام «الطواف بالبيت صلاة» ومرجع هذا القسم الى جعل حكم لموضوع آخر وهذا القسم ليس مورداً للبحث هنا لعدم تعارض فيه. وقد اوضحنا حقيقته في مباحث الاستصحاب.

القسم الثاني: الحكومة على وجه التضييق. وهي محل البحث لأنها شبيهة بالتخصيص المقتضي للتعارض وهي عبارة عن حكم العقلاء بتقدم الدليل المشتمل على التنزيل على غيره مع تصادمهما في المراد التفهيمي.

ونعبر عن الأول بالدليل الحاكم وعن الثاني بالدليل المحكوم.

والدليل الحاكم نوع من انواع الاعتبار الادبي وهو بوجه عام طريقة خاصة في التفهيم تعتمد على التأثير في المشاعر النفسية للمخاطب واستخدامها في الوصول الى الهدف من الخطاب عن طريق أسهل و اضمن و اوقع في النفوس وهذه هي الغاية التي من اجلها دوّن فنّ البلاغة.

و لتوضيح الحال في الحكومة التضييقية لابد من التعرض لجهات من البحث:

الجهة الأولى: في بيان الطابع الخاص الذي يتسم به التعبير في الدليل الحاكم على وجه التضييق وبيان انواعه:

بما ان الدليل الحاكم يحتوي على نوع من التنزيل فهو ينقسم بهذا الاعتبار الى قسمين: تنزيل ايجابي و تنزيل سلبي.

اما التنزيل الايجابي فهو نادر في الأدلة الشرعية وهو يتمثل في اعطاء حد شيء لشيء آخر.

مثاله: انه لو قام الدليل على ان «كل من ليس بمسلم نجس»، فهو يشمل أولاد المسلمين ايضاً، ولكي يخرجهم المشرع من هذا الحكم يقول: «ولد المسلم مسلم». فهذا التعبير وان كان شبيها بالتعبير في الحكومة على وجه التوسعة حيث انه ايضاً اعطاء حدّ شيء لشيء آخر ولكنه في الواقع محدّد للحكم العام الوارد في الدليل الأول وبهذا الاعتبار يعتبر من الحكومة التضييقية.

واما التنزيل السلبي فهو كثير في الأدلة الشرعية و هو ينقسم الى اقسام باعتبار اختلاف مَركز النفي فيه:

القسم الأول: ما يكون مركز النفي فيه نفس موضوع الحكم الانشائي أعني الأسباب الانشائية التي يتوصل بها الى احكام وضعية كالنكاح والبيع وغيرها فاذا ورد في الدليل «لا طلاق الا بإشهاد» كان مركز النفي الموضوع الذي يتوصل به الى الاعتبار القانوني الشرعي وهو انفصام عرى الزوجية وبينونة الزوجين.

القسم الثاني: ما يكون مركز النفي فيه نفس موضوع الحكم التأسيسي او ما يلحق به وهو ما رتب عليه الشارع حكما تأسيسيا كالشك في الصلاة فينفيه الشارع بدليل حاكم حيث يقول «لا شك لكثير الشك» وكذلك الربا بلحاظ الحكم الوضعي حيث ينفيه بقوله «لا ربا بين الوالد والولد».

القسم الثالث: ما يكون مركز النفي فيه متعلق الحكم الالزامي زجراً او بعثاً او ما يتوهم كونه حكماً الزامياً كقوله «لا صلاة الا الى القبلة» او «لا صلاة فيما لا يؤكل لحمه» وكذلك الربا بلحاظ حكمه التكليفي حيث ينفيه الشارع بقوله: «لا ربا بين الوالد والولد».

القسم الرابع: ما يكون مركز النفي فيه نفس الحكم كقوله «رفع ما لا يعلمون» على أحد الاحتمالات في معنى الحديث. وهو ان المراد نفي الحكم غير المنكشف على تقدير تحققه واقعاً.

القسم الخامس: ما يكون مركز النفي فيه امراً غير مرتبط بالحكم في مرحلة التشريع الا انه قد يكون معلولاً للحكم في مرحلة التطبيق الخارجي بالنسبة الى حالة المكلف الخاصة. كقوله صلى الله عليه وآله وسلم «لا ضرر ولا ضرار في الاسلام» بلحاظ نفي الضرر لا نفي الضرار فانه داخل في قسم آخر. فالضرر اسم مصدر بمعنى التضرر وليس موضوعاً لحكم ولا متعلقا لحكم ولا حكماً بنفسه بل هو معلول للحكم بلحاظ الوضع الخاص للمكلف. فاذا كان دليل الحكم الشرعي مطلقا يشمل صورة التضرر من تطبيقه كالغسل لمن يتضرر به مثلاً فهذا الدليل يرفع ذلك الحكم.

الجهة الثانية: في بيان مضمون الدليل بحسب هذه التعابير:

يختلف مضمون الدليل باختلاف مركز النفي ففي القسم الأول يدل الدليل على عدم ترتب الحكم الوضعي على الموضوع المنفي. والسرّ في ذلك ان «الطلاق» المنفي في المثال السابق انما يستعمل في إحداث البينونة بين الزوجين بحسب الاعتبار القانوني ومن المعلوم ان البينونة التي لا تعترف بها السلطة القانونية ليست مقصودة لمن يوقع الطلاق فنفي الشارع للطلاق في صورة خاصة لا يراد به الا عدم اعتراف الشارع بهذا الطلاق بحسب اعتباره القانوني فينتج شرطية الطلاق المعتبر شرعاً بالإشهاد. وهذا النفي لا يفيد حكماً تكليفياً اذ يكفي في ايجاد الزاجر للمكلف عدم اعتبار هذا الطلاق قانوناً لانه لا يستعمل هذا الطلاق إذا علم عدم ترتب الاثر الشرعي عليه.

وفي القسم الثاني يدل الدليل على عدم ترتب الاحكام الخاصة بالموضوع الشرعي على هذا النوع منه. فقوله «لا شك لكثير الشك» معناه ان الاحكام المختصة بالشاك في الصلاة لا تشمل كثير الشك ومرجعه الى تقيد الموضوع في تلك الاحكام بالشاك المتعارف.

وفي القسم الثالث يدل الدليل على عدم صحة العمل الذي تعلق به الحكم ان كان بعثياً في الصورة الخاصة. فقوله «لا صلاة فيما لا يؤكل لحمه» يدل على عدم صحة الصلاة مع استصحاب اجزاء الحيوان غير المأكول. ومثل هذا الدليل لا يتضمن نهياً تكليفياً فان اتيان الصلاة ليس لرغبة فيها ذاتاً وانما هو لتفريغ الذمة عن التكليف الشرعي فيكفي في الانزجار عما لا يرتضيه الشارع اعلام المكلفين بعدم انطباق العنوان المأمور به على هذا النوع الخاص وبالملازمة يدل على المانعية كما انه يدل على الشرطية في مثل قوله «لا صلاة الا بفاتحة الكتاب».

و ان كان الحكم زجرياً فالدليل يدل على عدم تناول الزاجر للمورد الخاص.

وفي القسم الرابع يكون اعلاماً بعدم اهمية الحكم بحدّ يكون الاحتمال منجزاً عقلائياً له كما هو أحد الوجوه المحتملة في حقيقة البراءة الشرعية وتفصيله في محله.

وفي القسم الخامس يدل على رفع كل تكليف يكون موجباً للضرر على المكلف. وذلك لان الضرر بنفسه امر مرغوب عنه لا يتحمله الانسان على نفسه الاّ بتأثير عامل خارجي. ومن العوامل المؤثرة في تحمل الضرر الاحكام التشريعية. والشارع المقدس بقوله «لا ضرر» ينفي وجود كل عامل يستوجب الضرر في احكامه التشريعية.

واما قوله «لا ضرار» فهو نهي تكليفي فان الضرار مصدر من باب المفاعلة ومعناه الاضرار بالآخرين وهو معلول للعوامل الشهوية والغضبية في الانسان فهو بنفسه مما يقتضيه الطبع البشري ونفيه يتوقف على ايجاد الزاجر في نفوس المكلفين.

فاختلاف المعنى في الجملتين انما هو بلحاظ اختلاف مصحّح السلب فان مصححه في الجملة الأولى رفع الاحكام التشريعية الموجبة للضرر واما الثاني فلا يمكن ان يصحح السلب فيه رفع الحكم الشرعي فان البشر بطبعه يميل الى المضارة فلا بد ان يكون مصححه الزجر التكليفي عنه.

الجهة الثالثة في سرّ اختيار هذه التعابير في بيان الحكم:

السبب في انتخاب هذا النوع من البيان دون التصريح بالمراد هو استخدام أقرب الطرق واضمنها في التأثير في نفوس المخاطبين لبلوغ الهدف المنشود. اذن فلانتخاب التخصيص بلسان المسالمة الذي هو الحكومة التضييقية عوضاً عن المعارضة بلسان التخصيص الصريح موارد خاصة نذكر بعضها:

المورد الأول: إذا كان للدليل العام تناسب شديد بين الحكم والموضوع عند العرف.

كما إذا ورد في الدليل «وجوب اكرام العلماء» بنحو عام و أراد الشارع اخراج الفساق منهم من هذا الحكم فيمكنه ان يعبر عنه بقوله: «لا تكرم فساق العلماء» ويمكن ان يعبر عنه بقوله: «العالم الفاسق ليس بعالم» وهذان التعبيران لا يختلفان من حيث الارادة التفهيمية فان مقتضى كل منهما هو انتفاء الحكم عن «العالم الفاسق» وانما يختلفان من حيث التأثير في نفس السامع او في شعور المجتمع بوجه عام.

وذلك من جهة ان كرامة العلماء عند المجتمع تقتضي ان لا يستثنى أحد منهم من وجوب الاكرام فكأن التصريح بعدم وجوب الاكرام مع الاعتراف بكونه عالماً يجرح الشعور العام تجاه منزلة العلم والعلماء فاحتراماً لعواطف المجتمع الطيبة يختار المقنن التعبير الثاني وهو يحتوي على انكار اتصافه بالعلم وبذلك يخرجه عن مجموعة العلماء موضوعاً وان كان غرضه الأصلي نفي الحكم عنه.

المورد الثاني: شدة الاهتمام بالحكم العام الموجبة لاشتهاره

كحرمة الرّبا فإن كثرة رواج الربا في الجاهلية الذي هو من أقبح انحاء استغلال المترفين للناس و اكلا لأموالهم بالباطل وتعارفه بين الناس بحيث اعتادوا عليه كانت تقتضي هجوماً اعلاميا شديد اللهجة عليه وهذا ما أدّى الى ترابط ذهني خاص بين الربا والحكم بالحرمة بحيث لا يقبل التخصيص والاستثناء. ولذا عبّر عن مورد التخصيص بنفي الموضوع «لا ربا بين الوالد والولد».

المورد الثالث: إباء الدليل العام عن التخصيص من حيث التعبير كقوله تعالى {ان الظن لا يغني من الحق شيئاً} وقوله عليه السلام «فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك» فمثل هذه التعابير وان ابت عن التخصيص الا انها لا تأبى الحكومة لان لسانها لسان مسالمة.

الجهة الرابعة: ان ابراز نفي الحكم بلسان التنزيل (وهو الذي نعبّر عنه بالحاكم عند وجود دليل على خلافه) لا يتوقف في نفسه على وجود حجة معتبرة على الشمول او الاطلاق بل يحسن الاتيان به حتى لو كان الدليل القائم على الحكم المحدّد مهملاً او مجملاً لا يثبت الشمول مع كون شدة التناسب بين الحكم والموضوع – مثلا – مقتضياً لشمول الحكم لجميع افراد الموضوع.

فلو فرضنا ان دليل الحكم بوجوب اكرام العلماء هو الاجماع فمن الواضح انه لا إطلاق له يشمل الفاسق الا ان تناسب الحكم والموضوع عند العرف يوجب استبعاد الاستثناء منه نظراً الى كرامة العلم عندهم بوجه عام من دون ملاحظة صفتي الفسق والعدالة فالمناسب ايضاً في مثل ذلك هو التخصيص بلسان المسالمة الذي هو الحكومة.

بل قد يكون الدليل الحاكم متوقفاً على عدم وجود حجة معتبرة على الجانب المحكوم وذلك في مثل قوله «رفع ما لا يعلمون» فان الحكم المرفوع هو ما لم تقم حجة عليه. والسرّ في اختيار لسان الحكومة في مثل ذلك دون الترخيص صريحاً في مخالفة الحكم المحتمل هو احترام شعور المؤمنين تجاه احكام الله تعالى والمحافظة على كرامة الاحكام عندهم وقدسيتها فيقال في مورد عدم قيام الحجة مع احتمال وجود الحكم واقعاً: ان الحكم الالهي غير موجود في هذه الحال. حتى لا يتوهم انه موجود ولا يجب امتثاله وتقديسه.

ومن هذا القبيل ايضاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم «لا ضرر» فان «الحكم الضرري» المنفي لا يجب ان يكون ثابتا بدليل شرعي بل يمكن التمسك بهذه القاعدة في نفي الحكم المحتمل الذي يستوجب الضرر على فرض وجوده مع عدم وجود إطلاق في دليله يشمل حالة الضرر.

وقد تبين مما قدمناه ان المبرر للتعبير التنزيلي في ابراز نفي الحكم عن حصة خاصة من الطبيعي قد لا يكون وجود دليل يشملها بعمومه او اطلاقه فربما يكون هناك دليل لفظي شامل ولا يبرر نفي الحكم بلسان التنزيل كما إذا كان المرتكز في ذهن المخاطب عدم تناسب الحكم لجميع افراد الموضوع عكس ما ذكرناه في مصحح التعبير التنزيلي من شدة تناسب الحكم للشمول وربما يكون المبرر للتنزيل موجوداً ولا يكون هناك دليل شامل وربما يجتمعان فبينهما عموم من وجه.

وعلى ضوء هذا البيان نستنتج ان تقديم الدليل المشتمل على التنزيل على غيره لا يمكن ان يعلل بكونه ناظراً بالطبع الى الدليل الآخر ومحدداً للمراد الجدي منه او – بتعبير آخر – قرينة خاصة على بيان أوسعية مقام الاثبات عن مقام الثبوت في الدليل الآخر. وذلك لان الدليل المشتمل على التنزيل لا ينظر بحسب الطبع الى الدليل الآخر ولا يحدد المراد النهائي منه ابتداءً لما قلناه من انه لا يتوقف على وجوده اصلاً وانما يمسّ ابتداءً نفس الحكم المتوهم شموله للحصة الخاصة فينفيه عنها.

بل الأولى ان يعلل التقديم بان الغرض من الدليل التنزيلي وان كان نفي الحكم المتوهم شموله للحصة الخاصة عنها الا ان منشأ التوهم قد يكون عموم الدليل الآخر او اطلاقه. فبهذا الاعتبار يكون الدليل التنزيلي مقدماً عليه ونعبر عنه بالدليل الحاكم.

الجهة الخامسة: انه يمكن القول بان الحاكم والمحكوم متعارضان اذ الفرق بين الدليل الحاكم والمخصص ليس الا من جهة الارادة الاستعمالية واما من جهة الارادة التفهيمية فهما متفقان فكلا التعبيرين ينافيان العموم او الاطلاق المستفادين من الدليل الآخر. اذن فالمسالمة الظاهرية في لسان الدليل الحاكم لا تنافي تعارضه لمضمون الدليل المحكوم فان عبرنا عنهما بالمتعارضين فهو بملاحظة المراد التفهيمي وان نفينا عنهما التعارض فهو بملاحظة المراد الاستعمالي.

 

1.2الامر الثاني: تمييز التعارض عما يشابهه

الامر الثاني مما نتعرض له في المقصد الأول هو تمييز التعارض عما يشابهه:

الكلام في هذا الامر في ثلاث جهات نوضح في الأولى تمييز التعارض عن الورود على وجه التضييق وفي الثانية نميّزه عن اشتباه الحجة باللاحجة وفي الثالثة نميّزه عن التزاحم.

و نلاحظ في هذه الجهات الاقتصار في تعريف هذه الأمور على المعرّف الاجمالي ولا نتطرق لتفصيل مباحثها اذ لا يناسب المقام.

1.2.1الجهة الأولى: تمييز التعارض عن الورود على وجه التضييق:

انما قيدنا الورود بالتضييق لانه هو الشبيه بالتعارض واما الورود على وجه التوسعة فلا تشابه بينهما فلو فرضنا ثبوت قانون عقلي يتضمن حسن العقاب مع البيان كانت ادلة حجية الحجج واردة عليه ومثبتة للبيان الذي هو موضوع ذلك القانون ولكن لا يتوهم فيها التعارض. وانما يتوهم فيها المعارضة بالنسبة الى قانون قبح العقاب بلا بيان حيث انها تحدد الموضوع نوعاً ما.

ولابد هنا من تعريف اجمالي لـ «الورود» فنقول:

لو فرضنا ان قاعدة كلية شرعية او عقلية لا تشمل فرداً بخصوصه نعبّر عن هذا الفرد بانه خارج عن القاعدة. وهذا الخروج على قسمين: تكويني و تعبدي.

وكل منهما على قسمين ايضاً فـ «الخروج التكويني» ان لم يكن بمعونة من التعبد فهو التخصص وان كان بمعونة منه فهو الورود التضييقي.

و «الخروج التعبدي» ان كان بلسان المسالمة فهو الحكومة التضييقية وان كان بلسان المعارضة فهو التخصيص.

فإذا دل الدليل على وجوب اكرام العلماء وفرضنا ان زيداً فقد علمه فهو خارج عن الحكم بـ التخصص وإذا ورد في الدليل بان خبر الثقة حجة كان وارداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان اذ ينتفي موضوعه وهو اللابيان بتحقق البيان تكويناً الا ان كونه بياناً بمعونة من التعبد الشرعي. واما التخصيص والحكومة فقد مر مثالهما.

ومن هنا يظهر ان هناك جامعاً بين الورود و الحكومة و التخصيص وهو تأثير التعبد الشرعي في تحقق كل منها بخلاف التخصص فلولا هذا التعبد الشرعي كان مورد كل من هذه الثلاثة داخلاً تحت القانون العام فلولا دليل حجية خبر الثقة كان مورد خبر الثقة داخلاً تحت عنوان اللابيان ومشمولا لقانون قبح العقاب بلا بيان. ولولا الدليل الحاكم «العالم الفاسق ليس بعالم» كان العالم الفاسق مشمولا للحكم بوجوب الاكرام. ولولا الدليل المخصص «لا تكرم العالم الفاسق» كان ايضاً مشمولا للحكم العام.

ويشترك التخصيص و الحكومة التضييقية في كون الخروج فيهما تعبدياً محضاً كما مرّ.

ويشترك الورود و الحكومة التضييقية في ان كلا منهما يحتوي على نوع من الاعتبار الادبي والقانوني ويفترقان في ان الحكومة نفي تعبدي فلابد من ان يكون الموضوع في الدليل المحكوم امراً تكوينياً حتى يصح النفي الاعتباري اذ لابد في الاعتبار من مخالفة التكوين. والدليل الحاكم وان كان المراد به نفي الحكم الا ان لسانه نفي الموضوع اعتباراً.

واما الورود فهو ليس نفياً اعتبارياً بل هو اعتبار لأمر آخر يستوجب الانتفاء التكويني فلابد من ان يكون الموضوع في الدليل المورود امراً اعتبارياً حتى يمكن انتفاؤه تكويناً بسبب الاعتبار والا فلو كان الموضوع تكوينياً لم يمكن سلبه تكويناً بالاعتبار.

فلو ورد في الدليل أن «كل من ليس بمسلم نجس» وعلمنا بان المراد المسلم التكويني وورد دليل آخر بان «ولد المسلم مسلم» كان ذلك حاكماً على الدليل الاول لانتفاء الموضوع و هو «اللا مسلم» عن ولد المسلم بالاعتبار. والغرض انتفاء الحكم.

واما لو علمنا بان المراد بالمسلم اعم من المسلم التكويني والاعتباري كان الدليل الثاني وارداً على الدليل الأول لانتفاء الموضوع وهو «اللا مسلم تكويناً واعتباراً» عن ولد المسلم انتفاءاً تكوينياً بمعونة من الاعتبار الشرعي.

اذن فيمتاز الورود عن الحكومة التضييقية بفارق جوهري وهو اختلاف الموضوع في الدليل المورود والمحكوم من حيث كونه موضوعاً تكوينياً او اعتبارياً.

و بهذا يتبين ان الدليل الحاكم يعارض الدليل المحكوم مضموناً كما ذكرناه سابقاً لان مرجع نفي الموضوع فيه الى نفي الحكم فيستفاد منه أوسعية مقام الثبوت عن مقام الاثبات. واما الدليل الوارد فلا يقتضي ذلك ابداً ولا يعارض ثبوت النجاسة مثلاً لكل من ليس بمسلم لا تكويناً ولا اعتباراً بل يخرج فرداً عن موضوعه تكويناً فكما لا يعارض التخصص العموم كذلك لا يعارضه الورود اذ التعبد فيه لا ينافي تطابق مقام الثبوت ومقام الاثبات في الدليل المورود.

ولذا صح الورود بالنسبة الى الاحكام العقلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان مع ان الاحكام العقلية ليس لها مقامان مقام ثبوت ومقام اثبات ولذا لا تقبل التخصيص.

1.2.2الجهة الثانية: تمييز التعارض عن اشتباه الحجة باللاحجة .

إذا علم اجمالاً بان أحد الحاكيين حجة دون الآخر كان مورد اشتباه الحجة باللاحجة.

وهذا العنوان يغاير عنوان التعارض حسب التعريف الذي ذكرناه فانه متقوم بالعلم الاجمالي بان أحد الكاشفين النوعيين مخالف للواقع مع استناد العلم الى قضية واضحة.

وكما انهما متغايران عنوانا متغايران ايضاً من حيث المصاديق و الاحكام.

اما تغايرهما في العنوان فيظهر من ملاحظة التعريفين فان الترديد في اشتباه الحجة باللاحجة بين الحجيتين وفي التعارض بين المدلولين.

واما تغايرهما من حيث المصاديق فلأن بينهما عموماً وخصوصاً من وجه فاذا علمنا بان أحد الراويين ليس ثقة و أخبر كل منهما بخبر الا انهما غير متنافيين مضموناً فهنا يصدق اشتباه الحجة باللاحجة و لا يصدق التعارض. كما انه يصدق التعارض في مورد تنافي المضمونين مع ترجيح أحدهما بأحد المرجحات الموجبة لتعين الحجة ولا يصدق اشتباه الحجة باللاحجة وكذلك في مورد تعادل الحجتين على القول بالتساقط.

و يتصادق العنوانان فيما إذا علمنا اجمالاً بان أحد الخبرين المتنافيين مضموناً حجة دون الآخر كما إذا علمنا بان لأحدهما مرجح من المرجحات واشتبه ذو المزية بالخالي عنها. وكذلك في مورد تعادل الحجتين على القول بان كل واحد منهما حجة ان كان الآخر مخالفاً للواقع على تفصيل سيأتي ان شاء الله تعالى وحيث انا نعلم بان أحدهما مخالف للواقع بموجب التعارض تتردد الحجة بينهما.

و اما تغايرهما من حيث الاحكام فمن جهتين:

الجهة الأولى: ان نفي الثالث في مورد اشتباه الحجة باللاحجة امر قطعي فان الحجة الشرعية متمثلة في أحدهما قطعاً ومقتضاها نفي كل حكم مناف لمضمون الدليلين معاً. واما في مورد التعارض فنفي الثالث ليس بذلك الوضوح. وقد خصص لمسألة نفي الثالث مبحث خاص من مباحث التعارض. وسيأتي الاشكال فيه بناء على القول بتساقط المتعارضين.

الجهة الثانية: ان اجراء الأصول لا مانع منه في مورد التعارض بناء على القول بالتساقط اذ لا حجة على الخلاف لكي يمنع من جريان الأصول ولكنها في مورد اشتباه الحجة باللاحجة انما تجري إذا كانت الحجة المرددة قائمة على حكم ترخيصي واما إذا كانت قائمة على حكم الزامي فلا تجري.

وذلك لان العلم الاجمالي بكون أحدهما حجة يستوجب العلم الاجمالي بثبوت أحد المضمونين تعبدا:

فاذا كان مضمون أحدهما وجوب صلاة الجمعة مثلاً ومضمون الآخر وجوب صلاة الظهر فالعلم الاجمالي بوجوب أحدهما يمنع من اجراء الأصول المرخصة.

واما إذا كان مضمون كل منهما الترخيص في شيء سبق وجوبه او حرمته فالعلم الاجمالي بالترخيص في أحدهما لا يمنع من استصحاب الحكم الالزامي فيه كما حرّر تفصيله في مباحث الاشتغال.

1.2.3الجهة الثالثة: تمييز التعارض عن التزاحم:

و نبحث هنا عن امرين:

الامر الأول: في تمييز التعارض عن التزاحم اساساً. 

الامر الثاني: في تشخيص ما ينطبق منهما على الموارد المشتبهة التي وقع الخلاف فيها. 

1.2.3.1الامر الأول: تمييز التعارض عن التزاحم

التزاحم غالبا ينشأ من قصور القدرة من امتثال تكليفين معاً بشرط ان يكون القصور مستنداً الى العوارض الاتفاقية بمعنى ان لا يكون التضاد بين الفعلين دائمياً كما إذا دار الامر بين انقاذ غريق وحريق فالحكمان «انقذ الغريق» و«انقذ الحريق» لا يتنافيان وانما المتعذر هو الجمع بينهما في المورد الخاص.

ولا شك ان بين التعارض و التزاحم فوارق كثيرة فالمرجحات في باب التعارض تلاحظ في رجحان أحد الدليلين الكاشفين وهي في باب التزاحم تلاحظ في رجحان أحد الحكمين المنكشفين. وفي التعارض لو حكمنا بالتساقط نرجع الى الأصول على المختار واما في التزاحم فلا نرجع اليها من غير فرق بين فقد المرجحات وعدمه بل لابد من امتثال أحدهما.

انما الكلام في التخريج الفني للفرق بينهما.

اما علماء العامة فحيث توقفوا في الاجتهاد على ما وصل اليه الاقدمون وسدوا باب التطور العلمي في الفقه والأصول لم يظهر منهم وجه علمي في الفرق بينهما وتوهموا ان مرجع التزاحم الى عدم صلاحية الدليلين للامتثال فحكموا بوجوب الرجوع الى استصلاح الفقيه، والمراد بالاستصلاح حكم الفقيه بما يراه مصلحة وهو من شؤون القول بالقياس والرأي. ذكر ذلك الغزالي ومثل له بما إذا تترس الكفار بجماعة من المسلمين بحيث لا يمكن الجمع بين حفظ حياة المسلمين ودفع شر الكفار.

ولكن علماءنا ولا سيما المتأخرين منهم حاولوا ان يميزوا بين التعارض والتزاحم بفارق علمي. ولكي نتمكن من التمييز بينهما لابد من التعرض لمبحث التزاحم بصورة اجمالية ولا نتطرق الى تفصيل مباحثه كما صنعه غيرنا فان له قسماً مختصاً به في المباحث الاصولية.

ومحور البحث في التزاحم هو محاولة علاجه ومما ذكروا في علاجه نظرية الترتب والمراد به الترتب المأموري فلابد أولا من تفسيره ثم البحث في انه العلاج العقلائي ام ان هناك علاجاً آخر.

الترتب على قسمين:

القسم الأول: الترتب الآمري، وهو ان يأمر المولى بضدين في آن واحد ويصرّح بان كلا منهما مشروط بترك متعلق الآخر او يأمر بأمر مطلقا و بآخر مشروطاً بترك متعلق الأول.

وهذا التقييد لحاظي ولا يختص بموارد التضاد الاتفاقي. والبحث عنه خارج عما نحن فيه الا اننا نذكر اجمالاً منه ليتميز عن الترتب المأموري.

وقد اختلف علماؤنا في القول بالترتب الآمري فاثبته بعضهم كالمحقق الثاني وأنكره آخرون وقالوا باستحالته. و المناقشات المذكورة هنا ثلاثة:

المناقشة الأولى: الاشكال الموضوعي وهو ان هذا خارج عن الامر بالضدين الذي هو موضوع البحث لان الامر بكل منهما مشروط بترك الآخر فهو امر بضدين في زمانين لا في زمان واحد.

المناقشة الثانية: الاشكال القانوني وهو ان هذا موجب لتحير المكلف في مرحلة المنتهى فانه إذا ترك الفعلين معاً لتحقق موضوع كل من الحكمين لان كلاً منهما مشروط بترك الآخر فيتوجه اليه الامر بالضدين.

المناقشة الثالثة: الاشكال الوجداني وهو ان الوجدان لا يساعد هذا النحو من الامر فان مقتضاه استحقاق العقوبتين إذا ترك الامرين لما مر من تحقق موضوعهما بذلك مع انه لا يستحق وجداناً الا عقاباً واحداً لعدم تمكنه الا من امتثال أحدهما.

وسيجيء تقريبه في الجملة في بعض المباحث الآتية ان شاء الله تعالى.

وقد ذكرنا الجواب عن هذه المناقشات في مبحث الترتب.

القسم الثاني: الترتب المأموري، وهو نفس التقييد المذكور في القسم السابق الا انه هناك لحاظي من الآمر وهنا علاج للتزاحم من المكلف. فاذا كان المكلف غير متمكن من امتثال حكمين مجعولين على نهج القضايا الحقيقية سواء كانا بجعلين أو بجعل واحد فهل يجب الالتزام بالترتب وتقييد كل منهما او أحدهما بترك متعلق الآخر ام لا؟

وهذا لا يلازم القول بإمكان الترتب الآمري فيمكن ان نلتزم هناك بالإمكان ولا نعتبره هنا علاجاً عقلائياً لقصور القدرة عن امتثال الحكمين مع فرض عدم التصريح من المولى.

وهذا يختص بموارد التضاد الاتفاقي فان موارد التضاد الدائمي مع فرض عدم الترتب الآمري داخل في باب التعارض.

فالمهم في مبحث التزاحم هو البحث عن العلاج العقلائي لقصور القدرة عن امتثال الحكمين وانه هل يتمثل في الترتب المأموري ام لا؟ فلابد اولاً من ملاحظة تأثير قصور القدرة في الحكم الشرعي.

1.2.3.1.1ملاحظة تأثير قصور القدرة في الحكم الشرعي

وهنا مسالك ثلاثة:

المسلك الأول: ان قصور القدرة يؤثر في الحكم الانشائي اي في مرحلة صدوره من المشرع. ومعنى تأثيره فيه ان يكون الحكم بنفسه محدوداً في مرحلة انشائه بعدم التزاحم مع الاهم او المساوي او يكون إطلاق دليله محدودا بعدم صرف القدرة في ضده الذي لا يقل اهمية عنه.

المسلك الثاني: ان قصور القدرة يؤثر في الحكم الفعلي اي في مرحلة تحقق موضوعه خارجاً ومعنى تأثيره فيه تحقق التنافي بين الحكمين المتزاحمين في مرحلة تحقق الموضوع لكل منهما وانه لابد وان نلتمس علاجاً في هذه المرتبة برفع اليد عن إطلاق الامر في أحدهما اوكليهما او على نحو آخر سيأتي ان شاء الله تعالى.

المسلك الثالث: ان قصور القدرة يؤثر في تنجز الحكم اي في مرحلة استحقاق العقوبة على مخالفته. ومعنى تأثيره فيه انه لا يمكن الحكم باستحقاق العقوبة على مخالفة التكليفين معاً ولا بد من الالتزام بمحدودية التنجيز.

وعلى المسلكين الاخيرين لا يرتبط التزاحم بباب التعارض لان التعارض صفة الكاشفين وهما يحكيان عن الحكم الانشائي فاذا فرضنا كون التزاحم مؤثراً في تحديد مرحلة الفعلية او التنجيز كان الفرق بينهما واضحاً ولكنهما يتشابهان على المسلك الأول.

توضيحه:

انه إذا كان المكلف غير قادر على امتثال حكمين معاً استحال تكليفه بهما معاً سواء كانا مجعولين بقضية واحدة نحو «انقذ كل غريق» او بقضيتين نحو «انقذ كل غريق» و «انقذ كل حريق» لانه تكليف بما لا يطاق والاحكام محدودة بالقدرة عقلاً وشرعاً بل مرجعه الى طلب الجمع بين الضدين وهو في نفسه غير معقول فاحد الحكمين غير ثابت قطعاً ومخالف للواقع.

ومن هنا يشبه التزاحم باب التعارض فان التعارض صفة للدليلين اللذين تنافى مدلولهما بحيث يعلم اجمالاً عدم مطابقة أحدهما للواقع وهنا ايضاً دليلان متنافيان في المدلول ويعلم اجمالاً بعدم مطابقة أحدهما للواقع. وهذا العلم مستند الى قضية عقلية وشرعية واضحة وهي عدم جواز التكليف بما لا يطاق.

وعليه فلابد اما من تجديد النظر في تعريف التعارض وتبديله بصيغة اخرى لا تشمل هذا المورد اذ لا شك في اختلاف التعارض والتزاحم من حيث الاحكام واما من تمييز التزاحم عن التعارض بناءً على هذا المسلك. وهذا هو الذي يحاول اثباته التقريبان الآتيان للمسلك الأول.

ونحن نقتصر في بيان كل من هذه المسالك على تقريبين:

 

التقريب الأول للمسلك الأول:

ان التزاحم وان اشبه التعارض في تنافي الدليلين الا ان التنافي بين الدليلين بلحاظ المدلولين على قسمين:

القسم الأول: التنافي بين المدلولين المطابقيين والالتزاميين اي في مجال انشاء الحكم والملاكات المقتضية له وهذا القسم هو الذي يحدث في مورد التعارض.

القسم الثاني: التنافي بين المدلولين المطابقيين فقط اي في مرحلة انشاء الحكم. وهذا هو الذي يحدث في مورد التزاحم.

توضيح ذلك:

ان الدليل الدال على وجوب صلاة الجمعة مثلاً له مدلول مطابقي وهو واضح وله مدلول التزامي ايضاً وهو ان صلاة الجمعة تشتمل على مصلحة ملزمة فاذا دل دليل آخر على عدم وجوبها كانا متنافيين بحسب المدلول المطابقي و الالتزامي اما الأول فواضح واما الثاني فلأن الدليل الثاني يدل على عدم اشتمال صلاة الجمعة على مصلحة ملزمة بعد الكسر والانكسار.

واما في المتزاحمين فلا تنافي بين المدلولين الالتزاميين اذ لا منافاة بين كون انقاذ هذا الغريق ذا مصلحة ملزمة بعد الكسر والانكسار وبين كون انقاذ الغريق الآخر ذا مصلحة ملزمة كذلك فان المراد بالكسر والانكسار هو ملاحظة ذات الفعل مع جميع ملازماته وملزوماته.

وبعد كشف الملاك نقطع بان الحكم يدور مداره اذ المدلول المطابقي قد سقط عن الاعتبار بالتعارض فان قلنا بإمكان الترتب وكانا متساويين من حيث الأهمية نقول بالترتب من الطرفين وان كان أحدهما اهم فالأمر بالاهم مطلق والامر بالآخر مترتب على ترك الاهم وان أنكرنا الترتب لم يمكن كشف مثل هذا الخطاب بل نكشف الامر بالاهم مطلقا ان كان أحدهما اهم والا فنكشف الخطاب التخييري لاستحالة الترتب وعدم امكان الخطاب بهما معاً.

وهذا التقريب يظهر من كلمات المحقق الخراساني والمحقق العراقي قدس سرهما.

ونلاحظ على هذا التقريب عدة ملاحظات:

أولا: ان هذا يتوقف على كون دلالة الدليل على ملاك الحكم على نهج الدلالة الالتزامية حتى تكون من اقسام الدلالة اللفظية وتبقى معتبراً بعد سقوط المدلول المطابقي بناءً على القول به.

وهذا غير واضح فإنا وان التزمنا خلافاً للأشاعرة بأن الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد الا ان الكلام في انه ثابت بالبرهان العقلي فيكون من لوازم المخبر به عقلاً وهي تسقط بعد سقوط المدلول المطابقي لا محالة لعدم بقاء الملزوم ام انه من اللوازم البينة الواضحة التي تدل عليها اللفظ بالدلالة الالتزامية فنلتزم بالبقاء بناءً على القول به؟

وثانياً: ان القول ببقاء المدلول الالتزامي بعد سقوط المدلول المطابقي ليس اصلاً موضوعياً وسيأتي انه محل للنقض والابرام لدى الاعلام.

وثالثاً: ان هذا الفرق بين التعارض والتزاحم لا يمكن ان يعدّ تفسيراً عاماً لتوقفه على القول بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد مع ان الاشاعرة المنكرين لذلك يفرقون بين التعارض والتزاحم ايضاً فلابد من البحث عن فارق بينهما يصح القول به حتى مع انكار المصالح والمفاسد.

فان قيل: ان اعتبار الأهمية من مرجحات باب التزاحم يدل على ملاحظة الملاكات.

قلنا: يحتمل ان يكون اعتبار الأهمية بلحاظ القانون الجزائي المترتب على التكليف فقد يتضمن عقاباً صارماً وقد يتضمن عقاباً خفيفاً.

التقريب الثاني للمسلك الأول:

ان دليل الحكم وان كان مطلقاً لا يحتوي على تقييد لحاظي الا انه مقيد بحكم العقل بعدم صرف المكلف قدرته في ضدٍ واجب لا يقل اهمية عن متعلقه. وهكذا يدخل التزاحم في باب الورود فان امتثال كل من الحكمين يرفع موضوع الآخر ان كانا متساويين فيكون الورود من الجانبين وامتثال الأهم يرفع موضوع الآخر دون العكس فيكون الورود من جانب واحد.

وهذا التقييد من المرتكزات البديهية عند العقلاء وهو شبيه بالترتب الآمري الا ان التقييد هناك لحاظي وهنا ارتكازي. وكلاهما يؤثران في تقييد الحكم نظير ما يقال – وهو الصحيح – من ان وجه اعتبار خيار الغبن والعيب هو الشرط الضمني الارتكازي فان التزام كل من المتبايعين مشروط ضمنا بحسب ارتكاز العقلاء بعدم كون المبيع معيباً وعدم زيادة ما انتقل منه على ما انتقل اليه في المالية العرفية وان كان منشأ الارتكاز كثرة تكرار هذا الشرط في المعاملات.

هذا هو أصل التقريب وقد ذكرناه في مبحث الترتب من باب ابداء الاحتمال وذكرنا فيه عدة مناقشات لا نذكرها هنا طلباً للاختصار.

وقد يضاف الى ذلك بان القدرة المعتبرة في التكاليف على قسمين:

أحدهما هو الذي يحكم العقل بتقيد جميع التكاليف به و يعتبر هذا التقييد مخصصاً لبياً لجميع ادلة الاحكام وهذه القدرة في مورد الامر بالضدين متعلقة بأحدهما تكويناً ونعبر عنها بالقدرة العقلية.

والآخر عبارة عن عدم اشتغال المكلف بضد لا يقل اهمية عن متعلق الامر وهذا هو الذي يتقيد به كل من الحكمين المتزاحمين وقد عبّر عنه بالقدرة الشرعية وان كان معناه المصطلح هو دخالة القدرة في الملاك.

هذا، وامامنا الشواهد العقلائية فلابد من دراستها لنرى هل هناك ما يدل على ارتكازية هذا التقييد عرفاً ام لا؟

وبهذا الصدد ننبه على ما يلي:

أولا: إذا ورد دليلان يحكيان عن امرين بين متعلقيهما تضاد دائمي نراهما متعارضين فان احتملنا كون أحدهما ناسخاً للآخر فهو والا التمسنا لتعارضهما علاجاً، كالحكم بالتساقط مع فرض التعادل، كما إذا ورد خبر من المولى يأمر فيه بالسير شرقاً وآخر بالسير غرباً ولو كان هناك تقييد ارتكازي عرفي كما ادعي لم يكن وجه لذلك. وهذا يكشف عن ان هذا التقيد المزعوم ليس امراً ارتكازياً عند العرف وكذا عند الاصوليين فانهم يعدون ذلك من المتعارضين.

نعم قد يقال: بان الجمع العرفي يقتضي تقيد كل منهما بعدم صرف القدرة في الآخر.

ولكن هذا ليس جمعاً عرفياً كما سيأتي ان شاء الله تعالى مع ان الالتزام بالتقييد علاجاً لتعارض الظهورين غير التقييد الارتكازي على نحو الورود كما هو المدعى. ولو صح ان هذا المورد من الورود لم يكن وجه لمحاولة الجمع العرفي لعدم التعارض بين الوارد و المورود.

ومقتضى هذا التقييد ان مرجع قوله «سر شرقاً وسر غرباً» الى التعبيرين التاليين «سر شرقاً ان لم تسر غرباً» و «سر غرباً ان لم تسر شرقاً» ولو كان هذان التعبيران هو التفسير العقلائي للأمرين الاولين لكان التصريح بهما مستحسناً ايضاً مع ان المناسب في مثل ذلك هو تشريع الوجوب التخييري بان يقول «سر اما شرقاً واما غرباً» مضافاً الى ان هذين التعبيرين يقتضيان تعدد العقوبة إذا ترك الامرين وهو خلاف الوجدان كما سيأتي بخلاف التعبير التخييري.

ثانياً: إذا كان هذا التقييد ارتكازياً فلابد من ان يكون الموافق لمرتكز العقلاء تعدد العقوبة في صورة تركهما معاً وان كانا متساويين فان نتيجة هذا التقييد هو الترتب الآمري وبذلك يتوجه الينا حتى في صورة التساوي خطابات متعددة كل منها يقتضي عقوبة على مخالفته وهذا مخالف لمرتكز العقلاء.

ويشهد لهذه الدعوى ما ذكره صاحب الكفاية من انه كان يعترض على استاذه بأن هذا يستوجب تعدد العقوبة وكان بصدد الجواب. وغرضنا من هذا الاستشهاد هو بيان المرتكز الذهني لصاحب الكفاية.

ومما يشهد لها ايضاً انه لا ينبغي الاشكال في عدم تعدد العقوبة فيما لو غرقت سفينة تحتوي على ألف راكب ولم يستطع المكلف الا انقاذ أحدهم فترك واجبه ولم ينقذ احداً فان القول بتوجه ألف خطاب اليه بعدد الغرقى واستحقاقه ألف عقوبة وارتكابه ألف ذنب مخالف لحكم الضمير والوجدان.

و مجمل القول: ان عدم وضوح استحقاق تعدد العقوبة في مثل ذلك يكشف عن ان المضمون العقلائي لمورد الامر بالضدين ليس هو الامر بكل منهما مشروطاً بترك متعلق الآخر ولا اقل من ان لا يعتبر ذلك امراً ارتكازياً بديهياً ان لم نقل بان خلافه هو المرتكز البديهي.

ثالثاً: ان التحير العقلائي في مورد الامر بالضدين متمثل في كلمات فقهاء العامة والخاصة وقد مر قول العامة بوجوب الرجوع الى استصلاح الفقيه واما الخاصة فقد خصصوا لذلك هذه المباحث الطويلة في الترتب وليس ذلك الا لعدم ارتكازية هذا القيد وبداهته والا لم تكن حاجة الى هذه الابحاث وكيف يغفل هذا الجمع الغفير من العلماء عن امر بديهي؟! 

واما ما ذكر من تقسيم القدرة الى عقلية وشرعية ففيه ان القدرة العقلية المذكورة في التقريب متعلقة بأحد الضدين ولا شك ان عنوان أحد الضدين ليس موضوعاً للحكم فمتعلق القدرة العقلية مبهم ولابد من تعيينه بمتمم الجعل التطبيقي كما سيأتي توضيحه وبعده لا يبقى مجال لاعتبار القدرة الشرعية بل لا مصحح له.

المسلك الثاني: ان قصور القدرة يؤثر في مرحلة الفعلية وهذا رأي المحقق النائيني قدس سره وله تقريبان:

أحدهما ما نسبه اليه مقررو درسه وتبعوه على ذلك ويشهد له بعض عباراته و الآخر نراه مناسبا لمجموع كلماته المنقولة ونحتمل ان يكون ذلك مقصوده واقعاً.

التقريب الأول للمسلك الثاني:

ويعتمد على ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: انه لا اشكال في ان التكليفين المجعولين على نهج القضايا الحقيقية مع اشتراط كل منهما بالقدرة بحكم المخصص اللبي لا يعتبران عند العقلاء من المتعارضين اذ لا منافاة بين قوله «اقيموا الصلاة» وقوله «جنبوا مساجدكم النجاسة» في مجال انشاء الحكم.

النقطة الثانية: ان المكلف ليس له الا قدرة واحدة بالنسبة الى الضدين وهي متعلقة بأحدهما فقط تكويناً والمفروض ان القدرة من شرائط التكليف وانه لا يكون فعلياً الا مع تحقق موضوعه وشرائطه التي منها القدرة. 

وحينئذ فإما ان نلتزم بفعلية التكليفين المتضادين مع وحدة القدرة وهذا غير ممكن اولاً لعدم المقتضي لتحقق الموضوع الا لأحدهما وثانياً لانه يستلزم طلب الجمع بين الضدين.

و إما ان نلتزم بالعلاج بأحد وجهين:

الأول: ان كلا الحكمين في صورة التساوي يسقطان رأساً ويسقط أحدهما وهو المهم في صورة عدم التساوي.

الثاني: ان إطلاق أحد الحكمين وهو الأهم او كليهما في صورة التساوي يقيد بعدم صرف القدرة في الآخر.

وحيث ان الضرورات تقدر بقدرها فلابد من الالتزام بالوجه الثاني وعدم سقوط الحكم رأساً.

والاساس في هذه النقطة ان الاطلاق الذي لابد من تقييده انما هو في مرحلة الفعلية لا الانشاء كما هو مبنى التقريب الثاني للمسلك الأول فانه مقيد بحكم المخصص اللبي.

النقطة الثالثة: ان نتيجة هذا العلاج هو نفي الحكم بانتفاء موضوعه لا نفي الحكم عن موضوعه.

توضيحه:

انه قد تبين مما سبق ان عدم صرف القدرة في كل من الواجبين او في خصوص الاهم من قيود الهيئة للحكم الآخر فاذا صرفنا القدرة في أحدهما نبقى عاجزين عن امتثال الواجب الآخر فينتفي الحكم بانتفاء موضوعه وهو القدرة وليس هذا كالعلاج في المتعارضين فانه نفي للحكم عن حصة من موضوعه في مقام العلاج مع ثبوته لها في مقام الاثبات كما هو الحال في التخصيص مثلاً. 

ولوضوح الفرق بين البابين عند المحقق النائيني قدس سره قال على ما حكي عنه «ان القول بأن الأصل عند الشك هو التعارض أو التزاحم ناشئ عن ذلك (الخلط بين البابين) أيضا وهو يشبه القول بأن الأصل في الأشياء هل هي الطهارة أو البطلان في البيع الفضولي فان الفرق بين البابين كبعد المشرقين فكيف يصح امكان تصادقهما على مورد واحد ليكون أحدهما هو الأصل دون الاخر» 

ونقتصر في مناقشة هذا المسلك بهذا التقريب على ثلاث اعتراضات طلباً للاختصار في المقام:

الاعتراض الأول: ان هذا الاطلاق المعترف به في كل من الحكمين والذي قيد بموجب الحكم الآخر هل له مصحح في مرحلة الانشاء ام لا؟ 

و بعبارة اخرى: ان الغرض من انشاء الحكم التكليفي هو ايجاد الداعي او الزاجر بالإمكان في نفوس المكلفين فهل يكفي في الغرض الموجب لإنشاء الحكم امكان تحقق الداعي في نفس المكلف بالحكم المجعول ام لا بل لا بد من كونه محققاً للداعي في نفسه بالفعل؟ 

فان قلنا بكفاية ذلك في صحة انشاء الحكم بنحو مطلق فما هو الموجب لرفع اليد عن اطلاقه في مجال تحقق الموضوع مع انه إطلاق صحيح في مجال جعل الحكم وان قلنا بعدم كفايته فلا بد من التقييد في مرحلة الانشاء وهو يوافق التقريب الثاني للمسلك الأول.

الاعتراض الثاني: ان المقيد في مرحلة الفعلية هل هو الشرع ام العقل؟ لا يمكن القول بانه الشرع لان التشريع لا يؤثر الا في مجال انشاء الحكم ولا يرتبط مرحلة تحقق الموضوع بالتشريع اصلاً فلابد من ان يكون المقيد هو العقل.

و العقل اما ان يراد به العقل النظري او العملي والأول ليس الا مدركاً للواقعيات ومرآة يعكس الواقع الموضوعي وليس له عمل انشائي اصلاً والمفروض انه ليس هناك تقييد واقعي من المشرع فيدركه واما العقل العملي فهو المنشئ للأحكام الا ان حكمه ينحصر في التحسين والتقبيح وغاية ما نكشفه من العقل هنا هو الحكم بقبح العقاب او حسنه إذا فعل كذا او ترك كذا ونتيجة ذلك اختصاص التقييد بمجال تنجز الحكم دون فعليته.

الاعتراض الثالث: ان ما ذكر من ان نتيجة العلاج نفي الحكم بانتفاء موضوعه لا عن موضوعه غير واضح لان ذلك ان كان بملاحظة ما قبل العلاج بالتقييد ففيه ان لنا حينئذ قدرة يمكننا صرفها في كل منهما فان صرفناها في أحدهما كان بالنسبة الى الآخر تعجيزاً اختيارياً.  والتعجيز الاختياري بصرف القدرة في ضد الواجب سواء كان واجباً اهم ام مساوياً له ام مباحاً ام حراماً لا يوجب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه بل هو من قبيل سقوط الحكم بمخالفته. وان كان بملاحظة ما بعد العلاج والتقييد بعدم صرف القدرة في الآخر فالموجب لانتفاء الحكم هو التقييد وهو نفي للحكم عن موضوعه كسائر موارد التقييد.

التقريب الثاني للمسلك الثاني:

ان فعلية الحكم تتوقف على تحقق موضوعه الا ان بعض الموضوعات لما فيها من الابهام في مرحلة التطبيق تحتاج الى متمم الجعل التطبيقي.

توضيحه:

ان الشارع لو قال: رفع ما اضطروا اليه مثلاً واضطر المكلف الى أحد امرين من شرب الخمر وشرب النجس فأحد الامرين بعنوانه ليس محرماً وانما المحرم هو كل منهما بحدّه فقد يتوهم هنا عدم الاضطرار الى الحرام حتى يرفع حكمه اذ ما اضطر اليه ليس محرماً وما هو محرم لم يضطر اليه. وليس كذلك بل الاضطرار انما هو الى الاقل مفسدة بحكم العرف وان كان الاضطرار بالنظر البدوي الى أحد الامرين الا ان متمم الجعل التطبيقي وهو هنا حكم العقلاء يطبق عنوان المضطر اليه على الأقل مفسدة.

والسرّ فيه ان عنوان الاضطرار لا ينطبق على الحصة الا إذا اندكت ارادتها في ارادة الجامع فاذا أكره على أحد امرين من شرب الخمر وشرب النجس فلا شك في ان ارادة شرب الخمر لا تندك في ارادة الجامع عرفاً بل تزيد عليه مفسدة واما لو كانا متساويين في المفسدة فعنوان المضطر اليه ينطبق على كل ما يختاره المكلف فان الجامع بالنسبة اليهما على حد سواء.

ومن هنا ذهب المحقق النائيني قدس سره في تنبيهات الاشتغال الى ان الاضطرار الى غير معين في حكم الاضطرار الى المعين. واعترض عليه جماعة بان الاضطرار لا يتعين باختيار المكلف وذكرنا هناك توجيه كلامه بما مر.

واما فيما نحن فيه فالقدرة وهي قيد الموضوع بحكم المخصص اللبي متعلقة بأحدهما الا انها تتعين في الاهم بحكم العقلاء وهذا هو متمم الجعل التطبيقي فان لم يصرف المكلف قدرته فيه اعتبر قادراً على المهم فالترتب انما هو في مرحلة تطبيق عنوان القادر عرفاً وان كانا متساويين اعتبرت القدرة متعلقة بكل واحد منهما مشروطاً بترك الآخر.

 وبهذا البيان يظهر ان قصور القدرة كيف يؤثر في مرحلة الفعلية وتحقق الموضوع على رأي المحقق النائيني قدس سره وكلامه في مبحث الاضطرار يناسب ما ذكرنا وكذا كلامه في بعض صور الحكمين المتزاحمين من غير جهة قصور القدرة كمسألة الزكاة الآتية ان شاء الله تعالى.

والاعتراضات الثلاثة السابقة لا ترد على هذا التقريب اما الاولان فلأنهما موجهان الى التقييد بعدم صرف القدرة وهذا التقريب لا يشتمل على تقييد زائد على التقييد بأصل القدرة. واما الثالث فلانه موجه الى القول بان نتيجة العلاج نفي الحكم بانتفاء موضوعه وهذا التقريب لا يشتمل الا على تعيين الموضوع المهم بحكم العقلاء الا ان في هذا التقريب نقطتين من الضعف:

النقطة الأولى: انه يتوقف على كون القدرة التكوينية المحددة لمرحلة الانشاء واحدة متعلق بعنوان انتزاعي لتحتاج في تعيينها الى متمم الجعل التطبيقي كما هو مفروض ايضاً في جميع الوجوه السابقة. وسيأتي ان الصحيح هو تعدد القدرة التكوينية.

النقطة الثانية: ان متمم الجعل بالتقريب المذكور مما لم يثبت بناء العقلاء عليه لانه يستلزم تعدد استحقاق العقوبة في صورة التساوي وتركه للأمرين اذ يعتبر بتركه لكل منهما قادراً على الآخر وبتركه لهما يكون قادراً عليهما فيتحقق موضوع التكليفين. وتعدد العقوبة في المتزاحمين المتساويين مما لا تساعده مرتكزات العقلاء كما بيناه في محل آخر.

المسلك الثالث:

وهو ان قصور القدرة يؤثر في مرحلة التنجز واستحقاق العقاب على ترك التكليف. ولهذا المسلك مناهج متعددة وقبل ذكرها لابد من تقديم مقدمة نبين فيها معاني للقدرة لنرى ما يناسب منها الاعتبار في مرحلة التنجز. ولا يخفى ان للقدرة مباحث مفصلة لم تذكر مجموعاً في الأصول وانما ذكرت متشتتة وقد جمعناها في مبحث الضد. ولكننا نقتصر هنا على اجمال البحث.

1.2.3.1.2تحديد الحكم و معاني القدرة

القدرة تستعمل في ثلاثة موارد وتختلف معناها بحسبها:

الأول: مورد تعلقها بمتعلقات الاحكام.

الثاني: مورد تعلقها بالجمع بين امتثالين.

الثالث: مورد تعلقها بتحصيل الموافقة القطعية.

اما المعنى الأول فهو ما نعبّر عنه بانه كون المكلف بحيث ان شاء فعل وان شاء ترك. وهذا يتوقف اولاً على وجود القوة المنبثة في العضلات. وثانياً على وجود الآلات والاسباب والمعدات الخارجية ان توقف العمل عليها. وثالثاً على نفي الموانع عن تحقق العمل الخارجي فلا يقال للمقعد انه قادر على الجهاد ولا للأعمى انه قادر على الاستهلال ولا للمغلول انه قادر على اي عمل يقتضي حركة وسيراً.

وهذه القدرة بالنسبة الى الضدين متعددة فالإنسان قادر على كل منهما بمعنى تمكنه من الفعل وتمكنه من الترك وانما هو عاجز عن الجمع بينهما. وقد ذكر في الكتب الكلامية بحث مفصل عن تعدد القدرة المتعلقة بالضدين ووحدتها واختار بعض الاشاعرة وحدتها وتوهم بعض الأصوليين انه من الأمور المسلمة.

فان قلت: مقتضى تعلق القدرة بكل منهما التمكن من الجمع بينهما.

قلت: ليس كذلك ولا ملازمة بين القدرة على كل واحد والتمكن من الجمع فان الجمع بين الامرين ماهية ثالثة قد تكون مقدورة وقد لا تكون مقدورة وربما يكون كل من الامرين ممكنا والجمع بينهما مستحيلا ولذلك لا يعقل تحقق المقتضي بالنسبة الى الجمع بين الضدين مع وضوح امكان تحقق المقتضي بالنسبة الى كل منهما.

واما المعنى الثاني للقدرة فهو الذي نفقده في موارد التزاحم فلا يقال ان لنا القدرة التامة على امتثال هذا والقدرة التامة على امتثال ذاك في التزاحمين. وهذا يكشف عن توسعة في استعمال لفظ القدرة فقد لوحظ هنا تعلقها بالجمع بين الامرين مضافاً الى المعنى الاول وهو كونه بحيث ان شاء فعل وان شاء ترك.

واما المعنى الثالث فهو الذي نفقده في بعض موارد العلم الاجمالي فاذا علمنا اجمالا بوجوب أحد الضدين كالسير اما شرقاً واما غرباً فالمخالفة القطعية مقدورة ولكن الموافقة القطعية غير مقدورة فمتعلق العجز هو العلم بالموافقة. وإذا علمنا بحرمة أحد الضدين فالموافقة القطعية مقدورة بتركهما معاً ولكن المخالفة القطعية غير مقدورة لعدم امكان الجمع بينهما. وإذا دار الامر بين وجوب شيء وحرمته فلا يمكن العلم بالموافقة ولا بالمخالفة. والموافقة الاحتمالية حاصلة دائماً اذ لا يمكن الجمع بين الترك والفعل ولا اجتنابهما معاً.

والقدرة بهذا المعنى لا تعتبر الا في مرحلة التنجز قطعاً والاّ لصحّ القول بعدم جعل شيء من الحكمين في مورد دوران الامر بين المحذورين.

انما الكلام في المعنيين الاولين للقدرة ونركز البحث على المعنى الثاني حيث اعتبر في المسلك الأول محدداً في مرحلة الانشاء وفي المسلك الثاني في مرحلة الفعلية وغرضنا اثبات انه محدد في مرحلة التنجز كما ذكره جماعة من الاعاظم.

و هنا مناهج ثلاثة نبحث عنهم اجمالاً ونفصل القول في المنهج المختار:

المنهج الأول: ان القدرة بالمعنيين الاولين كليهما تحدد الحكم في مرحلة التنجز ولا ربط لها بالإنشاء والفعلية.

المنهج الثاني: ان القدرة بالمعنى الأول تحدد الحكم في مرحلة الفعلية وبالمعنى الثاني في مرحلة التنجز.

المنهج الثالث: ان القدرة بالمعنى الأول تحدد الحكم في مرحلة الانشاء وبالمعنى الثاني في مرحلة التنجز.

ومجمل القول في المنهج الأول ان الاحكام الانشائية كما تشمل القادر تشمل العاجز ايضاً و أهم ما ذكر في تصويره طريقان:

الطريق الأول: ما اختاره جمع من مشايخنا كالسيد الشاهرودي وشيخنا الحلي قدس سرهما. وهو ان الحكم التكليفي مرجعه الى الحكم الوضعي عكس ما ذكره الشيخ الانصاري قدس سره. ومفاد الامر بالشيء على هذا القول هو انشاء النسبة الايقاعية وهي اعتبار شيء على ذمة المكلف نظير اعتبار المال على ذمة المديون وكما ان سائر الاحكام الوضعية كاعتبار الدين لا تتقيد بالقدرة كذلك اعتبار العمل الذي نعبر عنه بالحكم التكليفي وكل منهما لا يوجب الا اشتغال الذمة وهو لا يتقيد بالقدرة. هذا هو الدرجة الاولى لاعتبار الحكم التكليفي. والدرجة الثانية هي اعتبار الباعثية والزاجرية له وهو امر ينتزعه العقلاء من تحقق الحكم بالدرجة الأولى مع العلم والقدرة. وهذه الدرجة مساوقة لمرحلة التنجز.

وقد ذكرنا في مبحث الاحكام الوضعية في الاستصحاب تفصيل الفرق الجذري بين الاحكام الوضعية والاحكام التكليفية. واجماله ان الحكم الوضعي لا يصلح بنفسه وبلا واسطة لتوجيه ارادة المكلف نحو الفعل او الترك كما شأن الحكم التكليفي وانما هو حكم تمهيدي وموضوع اعتباري لان ترتب عليه احكام أخرى وتوضيحه في محله.

الطريق الثاني: انكار اعتبار القدرة مطلقاً في الاحكام القانونية. ويبتني على امرين:

الامر الأول: انكار انحلال الحكم القانوني وما اشبهه الى احكام متعددة بدعوى ان الشخص إذا دعا قومه لإنجاز عمل او دفع بلية فانه بخطاب واحد يدعو الجميع الى ما رامه لا انه يدعو كل واحد بخطاب مستقل مضافاً الى لغوية الانحلال.

الامر الثاني: ان الحكم القانوني ليس تابعاً لملاك الحكم في سعته وضيقه بل يكفي مصححاً له امكان انبعاث عدة من المخاطبين بهذا الخطاب ولا حاجة الى انبعاث كل واحد منهم.

وتفصيل الكلام في نقد ما ذكر لهذا المسلك من الشواهد موكول الى محله واجماله:

ان المراد بالانحلال ليس تعدد الخطاب وكثرة المبرز (بالكسر) بل تعدد الحكم من جهة ربطه بالأمور المتكثرة وهذا التعدد اعتباري لا حقيقي. والشاهد على ان العقلاء يعتبرون الحكم القانوني متكثراً حكمهم بفراغ ذمة من امتثل الحكم واشتغال ذمة غيره و بتنجز الحكم بالنسبة الى من وجد فيه شرائط التنجز وعدم تنجزه بالنسبة الى الفاقد لها.

مضافاً الى انه لا ريب في انحلال التكليف حسب تعدد افراد الموضوع في العام الشمولي بل قيل ان الموضوع فيه نفس الكثرات المضافة الى الطبيعة. وبذلك ادعي الفرق الثبوتي بينه وبين المطلق الشمولي خلافاً لما تسالموا عليه من الفرق الاثباتي بينهما. وهذه التفرقة وان كان محل مناقشة كما اوضحناه في محله الا انه على اي حال لا يناسب انكار الانحلال مطلقاً.

واما القول بكفاية انبعاث عدة من المخاطبين في صحة الخطاب القانوني وانه لا يعتبر تمكن جميع الافراد من الفعل والترك بل يشمل من كان عاجزاً تماماً فهو ممنوع بل الاختصاص بالمتمكن من الواضحات. ولذا يقبح السؤال من المشرع عن شمول امره للاستهلال مثلاً للعميان فضلاً عن اجابته بالإيجاب.

نعم يكفي في صحة ابراز التكليف بصورة عامة كثرة من يتمكن من امتثاله فان هذا المقدار كاف في التناسب الذي يجب لحاظه بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي وفقدان هذا المقدار هو الموجب لاستهجان تخصيص الاكثر.

واما المنهج الثاني وهو تحديد القدرة بالمعنى الاول للحكم في مرحلة الفعلية فهو رأي بعض المتأخرين ومنشؤه القول بان الحكم التكليفي ليس امراً انشائياً بل هو نسبة واقعية بين المولى والعمل وهو كون المولى بحيث لو سئل عن العمل على فرض التمكن لأجاب بالثبوت. وهذه هي المرحلة المساوقة لمرحلة الانشاء ومن الواضح عدم تقيدها بالقدرة. واستشهد على ذلك بان العبد يجب عليه انقاذ ابن المولى إذا غرق وان كان المولى نائماً وليس ذلك الا لتحقق الحكم بحقيقته.

اما تفسير الحكم بما ذكر فقد مرّ الجواب عنه وان الحكم امر انشائي. واما شاهده ففيه ان وجوب ذلك انما هو لحكم العقلاء بوجوب دفع المضرة عن المولى وشؤونه.

واما المنهج الثالث فهو المختار ويظهر الميل اليه من السيد الطباطبائي في رسالته المعمولة في المسألة. وقد نقل السيد الاستاد دام ظله كلامه من النسخة المصححة بقلم العلامة السيد محمد صادق بحر العلوم وهي موجودة في مكتبة مدرسة السيد البروجردي قدس سره: قال قدس سره في ص 165:

«ان قلت ان هذا مناف لما هو المشهور من ان القدرة شرط في أصل التكليف فان مقتضاه انه لو لم يكن قادراً لم يكن مكلفاً اصلاً. قلت: المقامات مختلفة ففي بعض المقامات القدرة شرط في أصل التكليف وفي بعضها شرط في التنجيز كما في الواجبين المتزاحمين ولعل المعيار انه لو كان الفعل غير مقدور من حيث هو فالقدرة شرط في أصل التكليف وان كان مقدوراً من حيث هو الا انه بملاحظة وجوب الآخر غير مقدور بمعنى ان الجمع بينهما غير مقدور فهي مثل العلم في انه شرط في التنجيز فمطلق القدرة ليس شرطاً في أصل التكليف. الى آخر ما افاده في تقريب ذلك».

وما ذكره بقوله «ولعل المعيار...» هو الصحيح عندنا.

ويتركب هذا المنهج من دعويين:

الأولى: ان أصل القدرة بمعنى كون المكلف بحيث ان شاء فعل وان شاء ترك تحدد الحكم في مرحلة الانشاء.

الثانية: ان القدرة التامة حتى بملاحظة التمكن من الجمع بين الامتثالين تؤثر في تنجز الحكم.

وقد اتفقت العدلية على الدعوى الأولى الاّ من شذّ والسّر فيه ان شمول التكليف للعاجز تكليف بما لا يطاق بل قال المحقق النائيني قدس سره انه تكليف محال لا تكليف بالمحال فان حقيقة التكليف ليست الاّ الانشاء بداعي جعل الداعي والزاجر بالإمكان ولا محل له بالنسبة الى من لا يتمكن من العمل فتنتفي في هذا المورد حقيقة التكليف. نعم يمكن انشاء صورة الامر بداعي السخرية او التعجيز او غير ذلك لا بداعي التكليف. وكيف يمكن دعوى شمول إطلاق الامر بالاستهلال للأعمى مع ان الامر بالاستهلال ليس الا طلب فتح العين والنظر بدقة لرؤية الهلال ولا يُظنّ بأحد ان يدعي انعقاد الظهور في هذا الامر بالنسبة الى الاعمى.

هذا مضافا الى الآيات والروايات الدالة على تحديد التكليف بالقدرة ففي مجمع البيان في تفسير قوله تعالى {لا يكلف الله نفسا الا وسعها}: «ثم بين سبحانه انه فيما امر ونهى لا يكلف الا دون الطاقة فقال (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) اي لا يأمر ولا ينهى احدا الا ما هو له مستطيع» وفيه في تفسير قوله تعالى {لا نكلف نفسا الا وسعها}: «اي الا ما يسعها ولا يضيق عنه».  وقال في المنار: «التكليف هو الالزام بما فيه كلفة والوسع ما تسعه قدرة الانسان من غير عسر وحرج». 

والآية تدل على تقيد التكليف بعدم الحرج فضلا عن القدرة. والروايات كثيرة. راجع باب الاستطاعة في توحيد الصدوق. ومقدمة العبادات في الوسائل.

واما الدعوى الثانية فنذكر لها تقريبا اجماليا وستتضح أكثر بعد الجواب عما يرد عليها من الاعتراض.

اما التقريب الاجمالي فهو ان العقلاء يجدون التكليفين المتزاحمين متوجهين إليهم ويشعرون بان كلا منهما يقتضي ان يكون داعيا للفعل الا انهم يحاولون معالجة الموقف نظرا الى قصور القدرة عنهما معا ولا يمكن تخطئة العقلاء في الأمور الاعتبارية فانها ليست الا ما يعتبره العقلاء وليس لها واقع موضوعي خارج نطاق اعتبارهم. وعليه فلا معنى للتخطئة فيها.

ومما يشهد لإمكان اجتماع التكليفين المتزاحمين التعبير الوارد في بعض الروايات ففي رواية حسن التفليسي قال «سألت ابا الحسن عليه السلام عن ميت وجنب اجتمعا ومعهما ماء يكفي أحدهما ايهما يغتسل؟ قال: إذا اجتمعت سنة وفريضة بدء بالفرض» وهذا التعبير يدل على اجتماع الحكمين.

ولذلك ربما يجعل أحد المرجحات كون أحد التكليفين فريضة في فرض كون الآخر سنة.

ثم ان في سند الرواية بحثا. وقد حاول المحدث النوري في خاتمة المستدرك تصحيحه نظرا الى ان الراوي عن التفليسي هو البزنطي كما استظهره. وفي متنها اضطراب ايضا. ولتفصيل البحث في الجهتين محل آخر.

وعلى وفق هذا الارتكاز جرى المحقق النائيني قدس سره حيث نقل عنه القول بان التنافي بينهما في مرحلة الامتثال اي فعلية الداعوية والزاجرية وهو مساوق لمرحلة التنجز مع انه قائل بتقيد الحكم في مرحلة الفعلية.

 

1.2.3.1.3الاعتراضات على المنهج المختار وجوابها

ويمكن ان يوجه الى هذا التقريب ثلاثة اعتراضات:

الاعتراض الأول: ان التفكيك بين المعنيين الاولين للقدرة لا وجه له وكلاهما يؤثران في مرحلة الانشاء.

توضيح ذلك:

ان الحكم له تقسيمات سابقة وتقسيمات لاحقة. والمراد بالتقسيمات السابقة الأمور التي ينقسم متعلق الحكم بلحاظها ولا تتوقف على فرض وجود الحكم. فمن هذا القبيل القدرة بالمعنيين الاولين في التقريب فيقال: هذا الفعل «متعلق الحكم» مقدور او غير مقدور. وهذان الفعلان «متعلقي الحكمين المتزاحمين» يمكن الجمع بينهما او لا يمكن. فلا يلاحظ في التقسيم وجود الحكم اذ لا يتوقف كون المكلف بحيث ان شاء فعل وان شاء ترك على تعلق الحكم بالفعل او الترك وكذلك الجمع بين الفعلين.

وكل ما كان من هذا القبيل يلاحظ في مرحلة الانشاء بحسب الارتكاز العقلائي ومع دخالته في الحكم يكون الحكم مشروطا به ولو بتقيد المتعلق به.

والمراد بالتقسيمات اللاحقة الأمور التي تتوقف على فرض وجود الحكم. ومن هذا القبيل القدرة بالمعنى الثالث فان امكان تحصيل الموافقة القطعية او المخالفة القطعية او كليهما معا وعدم امكانه من الامور التي تتوقف على فرض وجود الحكم والعلم به اجمالا. وكذلك تقسيم الحكم الى معلوم ومجهول فان العلم ايضا يتوقف على وجود الحكم.

وكل ما كان من هذا القبيل لا يمكن ان يتحدد به الحكم في مرحلة الجعل والانشاء فان مورد القدرة بالمعنى الثالث هو مورد تحقق الحكم فكيف يتحدد بها؟! وكذلك العلم بالحكم ولذا لا نقول بالتصويب المعتزلي.  

والجواب عن هذا الاعتراض ان القدرة بالمعنى الثاني لو كانت متقومة بإمكان الجمع بين الضدين فقط صح الاعتراض ولكنها تتقوم بأمور أخرى تجعلها في مرتبة متأخرة عن الحكم كما يظهر من جملة من كلمات المتأخرين وان كان في بعضها تأمل كما اوضحناه في محله.

أحدها: ان يكون الحكمان طلبيين فلو كان السير شرقا متعلقا للطلب والسير غربا متعلقا للنهي لم يكن امتثالهما غير مقدور.

الثاني: ان يكون الحكمان الزاميين ولذا قال جماعة من الاعاظم بعدم التزاحم بين المستحبات.

الثالث: ان يكون المزاحم معلوما ولذا قيد جماعة كالمحقق النائيني ومن تبعه القول بالترتب بالعلم بالحكم المزاحم فلو علم بالمهم ولم يعلم بالاهم لم يعتبر عاجزا عن اتيان المهم فان المعجز المعتبر في الترتب هو المعجز العقلائي.

الرابع: ملاحظة الأهمية في الحكم المزاحم فان صرف القدرة في امتثال الامر المهم لا يوجب اعتبار المكلف عاجزا بالنسبة الى امتثال الامر الأهم بل يعد تعجيزا اختياريا بالنسبة اليه ولذا يعتبر عاصيا.

فالقدرة التامة انما تنتفي في ما إذا كان الفعلان ضدين لا يمكن الجمع بينهما وكان (الحكمان) طلبيين الزاميين معلومين متساويين في الأهمية او تلاحظ القدرة بالنسبة الى الأقل أهمية وهذه الصفات الأربعة صفات للحكم. اذن فالقدرة التامة (المعنى الثاني) من الأمور اللاحقة للحكم.

الاعتراض الثاني: انه لا اشكال في عدم جواز توجه الخطاب الشخصي بوجوب الفعلين المتضادين فلا يجوز عقلا إلزام شخص معين بخطاب شخصي بإنقاذ غريقين متباعدين مع عدم القدرة على الجمع بينهما. وكما لا يصح ذلك في الاحكام الشخصية لا يصح ايضا في الاحكام القانونية العامة فانها تنحل الى خطابات شخصية ولا فرق بين القسمين الا في ان المبرِز في الاحكام الشخصية خطاب مختص وفي الاحكام القانونية خطاب مشترك واما المبرَز فهو متعدد فيها.

والجواب عنه بوجهين:

الوجه الأول: ان الفارق بين القسمين امر آخر ايضا وهو ان ملاك الجعل اي مصحح انشاء الحكم في الحكم الشخصي هو ايجاد الداعي والزاجر في نفس المكلف بالإمكان وعليه فلا يصح انشاء الحكم إذا كان المكلف منبعثا او منزجرا بدوافعه النفسية بل قد يستقبح الخطاب الشخصي في مثل هذا المورد نظرا الى انتزاع الاهانة منه لدلالته على عدم انزجاره او انبعاثه.

واما الاحكام القانونية فيكفي في صحة انشائها كون المكلفين ولو في حالة شاذة في معرض الوقوع في العمل المبغوض او ترك العمل المفروض ولذا يشمل تحريم الخبائث جميع المكلفين مع ان غالب الناس لا يتناولون شيئا منها بأنفسهم وتشمئز منها نفوسهم فالمصحح لإنشائها هو احتمال تناول البعض ولو في حالة شاذة.

الوجه الثاني: ان الخطابات القانونية لها مراحل ثلاث: الانشاء والفعلية والتنجز وقد لا يكون لها في مرحلة الانشاء مخاطب اصلا. واما الخطابات الشخصية فجميع المراحل فيها مندمجة بعضها ببعض في اغلب الموارد فلا بد من ان تكون محتوية لمصحح جميع المراحل حتى يصح انشاؤها.

الاعتراض الثالث: ان الخطابات القانونية كما يتوقف انشاؤها على ملاك الجعل بمعنى مصحح الانشاء كذلك تتحدد حسب هذا الملاك وقد ذكرنا فيما سبق ان مصحح انشاء الحكم هو جعل الداعي والزاجر في نفس المكلف فكما ان انشاء الحكم لو لم يكن قابلا لإيجاد الداعي لا وجه له كذلك لا وجه للخطاب بنحو مطلق يشمل موارد التزاحم اذ لا يمكنه في هذه الموارد ايجاد الداعي والزاجر لعدم تمكن المكلف من الجمع بين الامتثالين فلابد من تحديد الحكم في مرحلة انشائه بعدم صرف القدرة فيما لا يقل عنه أهمية.

ويمكن ان يوجه الاعتراض بصيغة أخرى وهي:

ان الحكمين المتزاحمين لو كانا مطلقين في مرحلة الانشاء وكان الخطاب بهما موجّها الى المكلف في عرض واحد كانا بلا ملاك فان الداعي لهذا الاطلاق ان كان طلب الجمع بينهما فهو محال وان كان صرف القدرة عن الآخر فالمفروض انه لا يقل عنه أهمية فلا وجه له.

والجواب عنه بوجهين:

الوجه الأول: النقض بموارد قصور الكاشف كما إذا دار الامر بين المحذورين (الوجوب والحرمة) فان الحكم شامل لهذا المورد بلا اشكال مع انه لا يمكن ان يكون داعيا للعمل حتى على وجه الاحتياط لاحتمال الحرمة. وكذا إذا قامت الحجة على الحكم المضاد للحكم الواقعي فكان مقتضى الحجة هو الحرمة مثلا والحكم الواقعي هو الوجوب فلا يمكن الاحتياط ايضا.

فلو صح ما ذكر من ان الاحكام في مرحلة الانشاء محدودة بحدود قابليتها للتأثير في نفس المكلف إذا كان في سبيل التعبد بالأوامر والنواهي الشرعية لزم القول بالتصويب المعتزلي وعدم شمول الحكم لهذه الموارد بل وكذلك في موارد الشبهات البدوية اذ لا يمكن للحكم الالزامي الواقعي ان يكون داعيا للفعل لجريان البراءة وان أمكن الاحتياط الا انه ليس الزاما ناشئا من داعوية الحكم فكما لا يمكن الالتزام بمحدودية الحكم في هذه الموارد فكذلك في موارد قصور القدرة فلا تنافي بين محدودية قابلية التأثير وشمول الحكم وسعته.

الوجه الثاني: ان ملاك جعل الحكم القانوني – كما ذكرنا في جواب الاعتراض الثاني – ليس هو الداعوية والزاجرية بالإمكان بل يكفي كونه قابلا لان يكون داعيا او زاجرا بالإمكان بان تتحقق شرائط التنجز وبهذا نرد على التصويب المعتزلي.

واما الصيغة الثانية للاعتراض فالجواب عنه يتوقف على تفسير الاطلاق وهو على قسمين:

القسم الأول: الاطلاق الذاتي في قبال التقييد الذاتي (الارتكازي) وهو الذي يحدث في صورة عدم لحاظ امر آخر يقاس اليه متعلق الحكم او موضوعه كما إذا كان غافلا عن المقيس اليه بل قد يكون المنشئ غير ملتفت الى القيد رأسا كما إذا وقف دارا على عنوان العالم وهو لا يعلم ان العلماء منهم اخباري ومنهم اصولي ومنهم انسدادي ومنهم انفتاحي الى غير ذلك من التقسيمات العارضة على عنوان العالم فهذا الاطلاق ذاتي. وفي قباله التقييد الذاتي وهو تقيد الحكم بالقيود الارتكازية اللاشعورية. وهذا الاطلاق والتقييد لا يعتبران عملا من المنشئ حتى يستقبح او يستحسن اما الاطلاق فلان المفروض انه لم يلاحظ القيد بل قد لا يكون عالما به واما التقييد فلانه تقيد في الواقع فليس فعلا من المنشئ.

القسم الثاني: الاطلاق اللحاظي وقد قيل بانه عمل وجودي وان بينه وبين التقييد تقابل التضاد. وليس كذلك بل هو عبارة عن عدم تقييد الهيئة بقيد مع لحاظ المتعلق او الموضوع مقيسا اليه. فهذا ايضا ليس عملا وجوديا من المنشئ بل هو ترك للتقييد الا انه حيث كان مع لحاظ القيد اعتبر عند العقلاء عملا. ولذا يستقبح ويستحسن وكثيرا ما يعتبر ترك عمل عملا قبيحا او حسنا كما هو واضح.

فان كان المراد بالإطلاق في الاعتراض هو القسم الأول كما هو الظاهر بقرينة الالتزام بان التقييد ذاتي فالجواب عنه واضح لما ذكرنا من ان الاطلاق الذاتي ليس عملا فيسأل عن الداعي له.

وان كان المراد به القسم الثاني فالجواب عنه ان صحة إطلاق الحكم تتوقف على وجود المصلحة او المفسدة في متعلقه بنحو مطلق والمفروض انه كذلك في ما نحن فيه فلو لم يصح الاطلاق فلابد من ان يكون من جهة مانع خارجي. وقد يتوهم ان المانع هو طلب الجمع بين الضدين او المنع من صرف القدرة في الواجب الآخر. ولا يمنع شيء منهما على الاطلاق اذ لا يلزم منه هذان المحذوران فان المفروض ان الاطلاق ليس الا في مرحلة الانشاء وهذان المحذوران لا يلزمان الا في مرحلة التنجز وهي متأخرة عن الانشاء بمرحلتين فيتوقف حدوث المحذورين على فعلية الحكم ثم تحقق شرائط التنجز فيكفي في دفعهما عدم تنجز الحكمين معا.

1.2.3.1.4كيفية تحديد الحكم في مرحلة التنجز

وبعد دفع هذه الاعتراضات تبين لزوم القول بالتحديد في مرحلة تنجز الحكم الا ان الكلام في حدود هذا التحديد. وقد اختلف العلماء على اقوال:

القول الأول: تنجز الاهم فان ترك فالمهم وان كانا متساويين فكل منهما يتنجز بشرط ترك الآخر.

ويترتب عليه استحقاق تعدد العقوبة في صورة تركهما معا.

القول الثاني: تنجز الأهم فقط وتنجز أحد المتساويين. فالعقوبة واحدة في صورة تركها معا في الصورتين. وهذا رأي شيخنا الحلي قدس سره.

القول الثالث: تنجز الأهم فان ترك فالمهم وتنجز أحد المتساويين. فالعقوبة متعددة إذا ترك الأهم والمهم معا وواحدة ان ترك المتساويين معا. و هذا هو المختار.

وتفصيل البحث عن هذه الاقوال موكول الى محله ولكن لا بأس بكلمة مختصرة لتوضيح المطلب:

قد مرّ الاستدلال بالشواهد العقلائية على عدم تعدد العقوبة إذا ترك الواجب في المتساويين ومثلنا لذلك بما إذا غرقت سفينة تحتوي على ألف راكب والمكلف لا يستطيع الا انقاذ أحدهم فترك واجبه فلا ينبغي الاشكال في انه يستحق بنظر العقلاء عقوبة واحدة فقط.

واما في صورة الاختلاف من جهة الأهمية فلا يبعد ان يكون حكم العقلاء طوليا بمعنى انهم يعتبرون المكلف قادرا على الأهم فان ترك اعتبر قادرا على المهم وهذا التدرج في اعتبار القدرة يقتضي تعدد العقوبة على تركهما معا نظير التدرج الزماني في حصول القدرة على الامتثال.

فلو فرضنا ان بحضرة المكلف مائة شخص مشرفين على الهلاك عطشا وهو يستطيع انقاذ أحدهم بما لديه من الماء فلو كانوا بدرجة واحدة من مقربة الهلاك وترك انقاذ واحد منهم فماتوا جميعا في لحظة واحدة فالكلام فيه كما مر في مثال الغرقى ويعتبر مذنبا بذنب واحد. واما لو فرضنا تدرجهم في الموت بمعنى انه لم يسق الأول حتى مات وبقي الآخرون يستنجدون به فلم يسق احدا حتى مات آخر وهكذا حتى ماتت المائة بالترتيب كان عليه مائة ذنب بحسب النظر العرفي وبحكم الضمير والوجدان.

ولعل من حكم بتعدد العقوبة في الأهم والمهم والمتساويين جميعا كان ينظر الى مثل هذا المثال ومن حكم بوحدتها في الموردين نظر الى مثال الغرقى.

هذا إذا كان قصور القدرة لأمر خارج عن اختيار المكلف واما لو فرضنا ان منشأ قصور القدرة سوء اختياره فلا شك في انه يستحق العقوبتين لانه تعجيز اختياري الا ان العقل يحكم بلزوم امتثال الأهم في صورة وجوده وترك المهم حذرا عن الوقوع في اشد العقوبتين.

الى هنا ننتهي من البحث عن التزاحم استطرادا وتبين بذلك الفروق الجذرية بين التعارض والتزاحم.

1.2.3.2الامر الثاني: تشخيص الموارد المشتبهة بين التعارض والتزاحم:

 

الموارد المشتبهة ثلاثة:

المورد الأول: مورد اجتماع الامر والنهي وبحث عنه الاعلام في مباحث الالفاظ.  

المورد الثاني: موارد عدم قصور القدرة كمسألة الزكاة الآتية.

المورد الثالث: المسائل الدورانية في المركبات الارتباطية.

اذن فيقع البحث أولا في المورد الثاني:

1.2.3.2.1موارد عدم قصور القدرة

ذكر المحقق النائيني قدس سره ان التزاحم قد يقع بين حكمين مع عدم قصور القدرة على الجمع بينهما. ومثل لذلك بما إذا كان لاحد خمسة وعشرون ابلا وملك واحدا بعد ستة أشهر ثم حال الحول على الخمسة والعشرين فانه يجب عليه دفع خمس شياة فاذا مضى ستة أشهر اخرى فقد حال حول على الستة والعشرين ومقتضى قانون الزكاة وجوب دفع بنت مخاض. وعليه فيزكى المال الواحد في العام الواحد مرتين. وهذا مقطوع البطلان للروايات الدالة على عدم وجوب الزكاة في المال الواحد في العام الواحد عن طرق العامة والخاصة. وبذلك يحصل التزاحم بين الحكمين.

وحيث ان المحقق النائيني يعد التقدم الزماني أحد مرجحات باب التزاحم فقد حكم بوجوب دفع خمس شياة والاجتزاء به فاذا مضى على مجموع الستة والعشرين عام آخر بان كان تمام الخمسة والعشرين السابقة باقية على ملكه مضافا الى الآخر ومضى على ملكيته للآخر معها سنة كاملة وجبت عليه بنت مخاض. وقد افتى بذلك الفقهاء كلهم الا نادرا في هذه المسألة او نظيرها.

واعترض عليه بعض تلامذته بان هذا ليس داخلا في باب التزاحم لتمكنه من الجمع بين امتثالي الحكمين الا ان العلم الاجمالي بعدم وجوبهما معا يقتضي تنافي الدليلين فلا بد من اعمال قواعد التعارض. قال: وهذا في غاية الوضوح وجل مقام شيخنا الاستاد عن خفاء ذلك عليه الا ان العصمة لأهلها.

واعترض عليه تلميذه الآخر وهو شيخنا الحلي قدس سره بنفس الاعتراض الا انه اعتذر عن ذلك في مجلس البحث بان الذي يسهل الخطب هو انه قدس سره ليس منفردا به بل يوافقه عليها الفقهاء قدس الله اسرارهم فانهم قد أفتوا بذلك ايضا.

هذا ولكن الصحيح هو ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من دخول المسألة في باب التزاحم. ويتضح ذلك بملاحظة ما ذكره في تنبيهات البراءة واوضحناه هناك وذكرنا اجماله في تقريب مسلكه على رأينا في تأثير قصور القدرة في الحكمين المتزاحمين فراجع.

وهو ان بعض الموضوعات يتوقف رفع ابهامها في مرحلة التطبيق على متمم الجعل التطبيقي كالاضطرار الى ارتكاب أحد المحرمين اوترك أحد الواجبين فانه لا اشكال في تأثير الاضطرار هنا في رفع الحكم بموجب حديث الرفع او غيره الا ان المضطر اليه هو الجامع بين الامرين وليس له حكم شرعي حتى يرفع بحديث الرفع والموضوع للحكم الشرعي هو كل من الامرين بحده والمفروض انه ليس مضطرا اليه. فلا بد حينئذ من الرجوع الى ارتكاز العقلاء في مثل ذلك.

والظاهر ان بناءهم في صورة اختلاف الحكمين في الأهمية على اعتبار المضطر اليه متمثلا في ترك امتثال المهم دون الأهم وفي صورة تساويهما على اعتباره متمثلا في ما يختاره المكلف لدفع اضطراره.

ومثل هذا الاعتبار سواء كان عقلائيا ام شرعيا هو الذي نعبر عنه بمتمم الجعل التطبيقي. وهذه القاعدة تجري في كل عنوان طرأ عليه الابهام سواء كان موضوعا لحكم تكليفي او وضعي او جزائي وسواء كان موضوعا لحكم الشارع او العقل كحكم العقل بالتنجيز والتعذير. ففي جميع ذلك يحتاج انطباق بعض العناوين الى متمم الجعل التطبيقي.

ومنه يظهر انه لا فرق بين كون العنوان المذكور دخيلا في مرحلة الانشاء او الفعلية او التنجز. فاختلاف الاقوال في بعض العناوين من هذه الجهة لا يؤثر في تطبيق هذه القاعدة.

ومن هذه العناوين (القدرة) فانها – بناءا على ما ذكره المحقق النائيني من انها في مورد التزاحم متعلقة بعنوان أحدهما – دخيلة في مرحلة الفعلية. وقد ذكرنا ان القدرة التامة (المعنى الثاني) دخيلة في مرحلة التنجز. وكذلك الاضطرار فقد اختلف في انه رافع للحكم في مرحلة الانشاء او التنجز.

والحاصل ان هذه القاعدة سارية المفعول على جميع هذه التقادير.

ومسألتنا من هذا القبيل. توضيح ذلك:

ان مرور عام واحد على المال الزكوي من قيود الموضوع في وجوب الزكاة. ولابد من ان يكون هذا العام غير متداخل في عام آخر اذ لو كان العام المتداخل كافيا في وجوب الزكاة وجب دفعها في كل يوم بعد مرور عام كامل بل كل ساعة بل كل آن فان في كل آن يصدق حلول عام آخر غير العام الأول على المال الا انه عام متداخل معه في جميع آناته الا الآن الماضي وهكذا. وهذا يكشف عن ان المعتبر في العام الموجب لوجوب الزكاة ان لا يتداخل شيء منه في عام آخر.

اذن فالمعتبر في وجوب خمس شياة مرور عام تام غير متداخل مع الغير على خمسة وعشرين ابلا والمعتبر في وجوب بنت مخاض مرور عام تام آخر على ستة وعشرين ابلا. والمفروض في المسألة مرور سنة ونصف وهذا لا يحتوي الا على عام واحد فقط بوصف كونه تاما غير متداخل.

ويقع السؤال في ان هذا العام هل يعتبر حولا للنصاب الأول او للنصاب الثاني؟ 

وهذا هو التنازع في الحكمين في مرحلة الموضوع فكل منهما يدعو هذا الموضوع المحقق لنفسه. وهذا بعينه نظير تنازع الحكمين في صرف القدرة فيهما بناءا على رأي المحقق النائيني ومن تبعه من اعتبار القدرة شرطا في الموضوع. فالتزاحم في كلا الموردين تزاحم في مرحلة الفعلية وتحقق الموضوع على رأيه قدس سره.

فلابد من مراجعة العقلاء لاستخراج متمم الجعل التطبيقي:

فان قلنا بان المعتبر عندهم في تحقق الموضوع المردد بين حكمين متدرجين أنه موضوع للسابق منهما تم ما ذكره. ونحن لا ننكر ما ذكره في هذه المسألة وان انكرناه في التزاحم من حيث القدرة فان منشأ الاشكال هناك تعدد القدرة التكوينية المعتبرة بحكم العقل في مرحلة الانشاء وبتبعها في مرحلة الفعلية عندنا. فلا حاجة من هذه الجهة الى متمم الجعل التطبيقي. واما القدرة التامة التي اعتبرها المحقق النائيني شرطا في الموضوع فهي عندنا دخيلة في مرحلة التنجز كما مر تفصيله.

وهذا بخلاف ما نحن فيه فان الحول التام غير المتداخل دخيل في مرحلة الفعلية وهو في المسالة المفروضة واحد فيقع التزاحم وبحكم العقلاء يعتبر الحول للنصاب المتقدم زمانا. ويشهد لما ذكرنا انه لولا ذلك للزم ان لا تجب الزكاة إذا ملك في آخر كل سنة ما يكمل نصابا آخر في سنين متعددة. وهذا مما لا يمكن الالتزام به.  

والظاهر ان هذا هو الوجه في فتوى الاصحاب بوجوب دفع الزكاة للنصاب الأول. وقد ذكر السيد الحكيم قدس سره في المستمسك ما يمكن ان يفسر بذلك. 

و لو فرضنا ان المسألة من باب التعارض فنحن بين ثلاثة أمور:

الأول: ان نقول بتساقط الدليلين وعدم وجوب شيء على المكلف.

الثاني: ان نقول بوجوب كلا الامرين بمقتضى العلم الاجمالي بوجوب أحدهما.

الثالث: ان نحكم بالتخيير بين الامرين.

والوجه في الأول دعوى عدم العلم الاجمالي بوجوب شيء عليه فيرجع بعد تساقط الدليلين الى الأصول المرخصة.

والوجه في الثاني القول بتحقق العلم الاجمالي بوجوب أحد الامرين او الالتزام بنفي الثالث مع تعارض الدليلين المتعادلين ومقتضى نفي الثالث عدم جواز الحكم بالبراءة كالأول والتنجيز كالثالث.

والوجه في الثالث دعوى تحقق العلم الاجمالي بوجوب شيء عليه مع دوران الامر بين التخيير والتعيينين. ومقتضى اصالة البراءة عن كل من الخصوصيتين الحكم بالتخيير.

هذا والفقهاء قدس الله اسرارهم لا يلتزمون بشيء من هذه الوجوه.

وقد يقال في توجيه كلام المشهور على مسلك التعارض انه بعد مضي سنة من تملك النصاب الخامس يجب عليه اعطاء خمس شياة وبعد اعطائه ومضي سنة على تملك النصاب السادس يتحقق التعارض بين ما دل على وجوب بنت مخاض وما دل على ان مالا واحدا لا يزكى من جهتين في عام واحد فيتساقطان.

وهذا الكلام غير صحيح لان التعارض على فرض وجوده يكون بين الأدلة في مرحلة الانشاء ولا وجه لتطبيق أحد الدليلين وملاحظة فعلية موضوعه اولا ثم اعتبار التعارض بين الدليلين الاخرين.

ولتوضيحه محل اخر.

وهناك طريق آخر لحل مشكلة التزاحم في بعض الموارد نذكره اجمالا:

وهو ان التزاحم لو كان ناشئا من لزوم الضرر او الحرج الشديد من الجمع بين الحكمين لا من عدم القدرة على الجمع بينهما أمكن التمسك بدليل رفع الاضطرار او الحرج وبضميمة متمم الجعل التطبيقي يتعين المرخص فيه في صورة الاختلاف في ترك المهم لكونه اقل مفسدة من ترك الأهم ويتخير المكلف في صورة التساوي بينهما. و عليه فلا حاجة الى القول بالترتيب في مثل هذه الموارد وهي كثيرة في الفروع الفقهية.

بل يمكن تعميم هذا الطريق لمورد التزاحم الناشئ من قصور القدرة أيضا ان فسرنا الاضطرار بالأخذ بالمضر دفعا لما هو اشد ضررا. وذلك لان الاضطرار بهذا المعنى يصدق في موارد قصور القدرة ايضا لدوران الامر بين ترك الأهم وترك المهم وكل منهما اخذ بالمضر ويتعين بمتمم الجعل التطبيقي في ترك المهم.

ولكن هذا التفسير لكلمة الاضطرار وان ورد في تفسير المنار الا انه غير ثابت لغة.

1.2.3.2.2التزاحم في المسائل الدورانية

المورد الثالث من موارد اشتباه التعارض بالتزاحم المسائل الدورانية. ولها فروع كثيرة في ابواب الفقه فكلما دار الامر في المركبات الارتباطية بين الاخلال ببعض شروطها او اجزائها او موانعها والبعض الآخر، أُعتبر من المسائل الدورانية. وقد اختلف في انها داخلة في باب التعارض فيلاحظ مرجحاته او انها داخلة في باب التزاحم فيلاحظ مرجحاته.

الظاهر من كلمات الفقهاء قدس الله اسرارهم هو الرجوع الى قواعد باب التزاحم في هذه المسائل. وقد تعرض بعضهم – كالمحقق الهمداني قدس سره – لهذا البحث في مسألة دوران الامر بين الصلاة قائما موميا للركوع والسجود والصلاة قاعدا مع الاتيان بهما. وقد حكم جماعة منهم بتقديم الصلاة قاعدا نظرا الى أهمية الركوع والسجود. وهذا يشهد على اعتبار المسألة من موارد التزاحم. وهذا ايضا هو مختار المحققين النائيني والعراقي قدس سرهما.

وخالفهم بعض من تأخر عنهم. و يمكن تقريب ما افاده في ضمن مقدمتين:

المقدمة الأولى: ان التزاحم انما يتصور بين حكمين لكل منهما اطاعة وعصيان ولا يكون المكلف قادرا على امتثالهما معا فيدور الامر بين اطاعة كل منهما وعصيان الآخر. وهذا لا يمكن ان يتحقق في التكاليف الارتباطية. وذلك لان الارتباطية لا تتحقق الا بتعلق امر وحداني بأمور متكثرة فيكتسب الامر من المكثرات كثرة نعبر عنها بالانحلال الى اوامر ضمنية وتكتسب المكثرات من الامر الوحداني وحدة اعتبارية وبهذا الاعتبار تعتبر عملا واحدا. وعليه فليس في موارد التكاليف الارتباطية اوامر متعددة لكل منهما اطاعة وعصيان مستقل. واما الوجوب الانحلالي المتكثر فلا يؤثر في التزاحم اذ ان هذه الكثرة لا توجب تعدد الاطاعة والعصيان ولا يحتوي كل من الوجوبات على ملاك مستقل لتلاحظ الأهمية فيها فان الملاك متقوم بالمجموع. 

المقدمة الثانية: ان الامر بالمركب يسقط بالعجز عن اتيان بعض اجزائه معينا او مرددا وذلك لان الكل ينتفي بانتفاء جزئه والامر متعلق بالكل والكل غير مقدور فيسقط الامر لاشتراط التكليف بالقدرة ولا فرق في ذلك بين كون غير المقدور جزءا معينا منه او الجمع بين جزءين من اجزائه. وعليه فالمورد خارج عن بابي التعارض والتزاحم الا اننا نلتزم بوجوب اتيان الميسور من المركب الارتباطي في موردين:

المورد الأول: ان يكون الدليل على اعتبار الجزء او الشرط غير المقدور قاصرا عن شمول صورة العجز عنه بالخصوص كما إذا كان دليل اعتباره لبيا.

المورد الثاني: ان يدل دليل آخر على وجوب اتيان الميسور كما هو الحال في الصلاة حيث قام الاجماع على عدم سقوطها بالعجز عن بعض اجزائها وشرائطها. ويدل عليه ايضا ما ورد من ان الصلاة لا تترك بحال. وحينئذ فيجب الاتيان بمركب آخر بعد عدم التمكن من المركب التام وهو متعين في صورة تعين الجزء غير المقدور فان الواجب حينئذ هو المركب ما عدا ذلك الجزء فقط كما إذا لم يتمكن من القيام مثلا. واما إذا كان غير المقدور مرددا بين امرين فلابد من ملاحظة دليلي اعتبارهما فان ترجح أحدهما على الآخر بمرجح دلالي اخذ به كما إذا كان دلالته على اعتباره بالعموم والآخر بالإطلاق والا فيؤخذ بالأرجح سندا. واما إذا تعادلا فيدور الامر غالبا بين ثلاثة امور: التخيير وتعيين كل منهما. والصحيح في موارد دوران الامر بين التخيير والتعيينين هو الرجوع الى البراءة عن الخصوصيتين فنحكم بالتخيير.

هذا والصحيح هو ما ذهب اليه المشهور من الرجوع الى قواعد باب التزاحم في هذه المسائل سواء كان التزاحم بالمعنى المذكور في التقريب ممكن التحقق فيها ام كان غير ممكن. والبحث في مقامين:

المقام الأول: في انها داخلة في عنوان التزاحم بالمعنى العام ان قلنا بان التزاحم بالمعنى المذكور لا يتحقق في المركبات الارتباطية.

وذلك لان التزاحم بالمعنى العام هو تنازع الحكمين في مرحلة تحقق الموضوع بان يوجد موضوع واحد يمكن اعتباره موضوعا لكل منهما. وهذا المعنى هو الذي قلنا بتحققه في مسألة الزكاة السابقة. وهو متحقق هنا ولم يدل دليل على لزوم تطبيق قواعد التعارض في أي مورد لم يتحقق فيه التزاحم بالمعنى الخاص. فالذي نحن بصدده الآن اثبات ان المسألة هنا داخلة في التزاحم بالمعنى العام فنقول: ان المسائل الدورانية على ثلاثة اقسام:

القسم الأول: ما يدور الامر فيه بين واجبين من غير الاركان.

القسم الثاني: ما يدور الامر فيه بين ركنين.

القسم الثالث: ما يدور الامر فيه بين الاركان وغيرها.

اما القسم الأول فلا بد فيه من ملاحظة ثلاثة اقسام من الأدلة: 

القسم الأول: اطلاقات الامر بالمركب بصورة اجمالية نحو «اقيموا الصلاة». وقد ورد «ان الصلاة ثلاثة اثلاث ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود» فيتحقق موضوع التكليف حتى مع العجز عن سائر الواجبات. وهذه الاطلاقات مثبتة للتكليف في صورة العجز عن بعض الأجزاء.

القسم الثاني: اطلاقات ادلة الجزئية والشرطية بالنسبة الى الأمور الدخيلة في موضوع التكليف وان لم تكن دخيلة في مفهوم المأمور به كقوله عليه السلام «من لم يقم صلبه في الصلاة فلا صلاة له» ومقتضى إطلاق دخالتها في موضوع التكليف سقوطه عن المركب غير المشتمل عليها في صورة عدم القدرة عليها فان ظاهرها الارتباطية المطلقة بينها وبين المركب وهذه الاطلاقات نافية للتكليف في صورة العجز عن بعض الأجزاء.

القسم الثالث: الأدلة التي تحدد الارتباطية التي دلت على اطلاقها القسم الثاني من الادلة. وهذا القسم يرفع المشكلة.

فمن هذا القبيل قوله عليه السلام «لا تنقض السنة الفريضة» في ذيل صحيحة «لا تعاد». ومفاد هذه الجملة ان السنن لا ترتبط بالفرائض ارتباطا مطلقا بل يختص ارتباطها بمورد خاص. ولم يذكر بالتحديد مورد الارتباط في الرواية الا ان ظاهرها عدم الارتباط في صورة العذر كيفما كان. وعليه فالعجز عن السنن لا يمنع من تعلق الامر بالفرائض.

ومن هذه الاطلاقات ايضا قوله عليه السلام «ما من شيء حرمه الله الا وقد احله لمن اضطر اليه» فانها ايضا تحدد الارتباط المذكور.

و تقريبه بمقدمتين:

المقدمة الأولى: ان الحلية لا يراد بها الاباحة بل المراد بها حل عقدة الحظر كما ورد في أقرب الموارد وغيرها من كتب اللغة فكل ما كان محرما في الشرائع السابقة او الشريعة الإسلامية او في العادات الجاهلية او توهم فيه الحرمة ورفع عنه الحظر يعبر عنه بالحلال ولذا يقابل به الحرام.

وبهذا التفسير للحلية ندفع الاشكال المشهور في الحديث الوارد في الشروط حيث استثنى من الشروط التي يجب الوفاء بها كل ما حلل حراما او حرم حلالا فوقع الاشكال عند الاعلام في القسم الثاني من المستثنيات (حرم حلالا) اذ ما من شرط الا ويحرم حلالا بمعنى ما لا منع عنه بالذات او بالعرض.

والجواب عنه ان المراد بالحلال قسم خاص من الاحكام الهدمية للشارع المقدس. توضيحه:

ان للشارع احكاما بنائية يأمرنا بالتعبد بها واحكاما هدمية وهي تنقض الاحكام والعادات السابقة فمنها تحليل ما حرموا على أنفسهم فلو شرط أحد المتعاملين تحريم شيء من تلك المحللات كان نقضا للشريعة كتحليل الحرام وهو غير جايز. والحاصل ان العقود وكل الالتزامات بين الناس محترمة عند الشارع الا ما عارض الاحكام التشريعية سواء كانت هدمية او بنائية. واما الاباحة فهي نفي الحكم وليست بنفسها حكما شرعيا.

المقدمة الثانية: ان الحرمة لها معنيان: عام وخاص.

اما الحرمة بالمعنى الخاص فهي أحد الاحكام الخمسة التكليفية.

واما الحرمة بالمعنى العام فهي المحرومية التي تحصل للمكلف بسبب قانوني وان لم يكن تحريما بالمعنى الخاص كمحرومية المكلف من ترك الواجب سواء كان استقلاليا او ارتباطيا وضمنيا. فهل المراد بالحرمة في الرواية السابقة (ما من شيء حرمه الله الا وقد احله لمن اضطر اليه) هو الحرمة بالمعنى العام او المعنى الخاص؟ وهل يشمل الحرمة الضمنية الناشئة من الامر بالمركبات الارتباطية ام لا؟ 

هناك شواهد من الروايات تدل على ان المراد بها الحرمة بالمعنى العام وإنها تشمل الحرمة الضمنية. وهي الروايات التي طبق الامام فيها نفس هذه الكبرى على موارد الاضطرار الى ترك بعض الاجزاء.

و بعد ملاحظة هذه الأدلة الثلاثة: إطلاق ادلة الامر بالمركب بصورة اجمالية، إطلاق ادلة الاجزاء والشرائط، الادلة التي تحدد الارتباطية المطلقة، نستنتج ان ما كان من الاجزاء والشرائط غير مقدور معينا وكان من السنن فلا اشكال في ان مقتضى القسم الأول من الأدلة وجوب الاتيان بالميسور اذ القسم الثاني قد قيد بموجب القسم الثالث بغير موارد العذر.

واما إذا دار الامر بين ترك أحد الجزءين او الشرطين او اتيان أحد المانعين اما لقصور القدرة او للاضطرار فلا بد من الرجوع في تعيين المضطر اليه او غير المقدور الى متمم الجمل التطبيقي وهو اعتبار العقلاء. ولا شك انهم يعتبرون المضطر اليه او غير المقدور متمثلا في الاقل اهمية فالعذر يختص به دون الأهم.

فظهر انه لا مناص من اجراء قواعد التزاحم حتى لو لم ينطبق تعريف التزاحم حسب ما هو مذكور في التقريب على هذا القسم من المسائل الدورانية.

واما القسم الثاني من المسائل الدورانية وهو ما كان الامر فيه دائر بين ركنين فلابد من مراجعة ادلة الابدال. وذلك لان الشارع المقدس قد جعل لكل من الاركان ابدالا حين العجز عنها وهي مترتبة فمن لم يستطع القيام الذي هو ركن في الجملة يجب عليه الجلوس ومن لم يستطع الجلوس يضطجع اما بترتب بين الايمن والايسر كما هو الاحوط او مخيرا بينهما ومن لم يستطع يجب عليه الاستسقاء. ومن لم يستطع الركوع والسجود يومي لهما.

ولا شك ان الموضوع في ادلة الابدال هو العجز عن المبدل منه وحينئذ فان كان غير المقدور معينا فلا اشكال في الرجوع الى البدل ولا يوجب ذلك سقوط الامر بالمركب. وان كان مرددا كما هو مفروض المسالة توقف تعيين غير المقدور على متمم الجعل التطبيقي فلا بد من ملاحظة الأهمية أيضا.

واما القسم الثالث منها وهو ما كان الامر فيه دائرا بين ترك ركن وغيره كما إذا دار الامر بين القيام موميا والجلوس راكعا وساجدا فلا بد اما من الاخلال بالقيام او الركوع والسجود. فقد اختلف الفقهاء في ترجيح كل منهما فقال بعضهم بتقديم الجلوس راكعا وساجدا لأهميتهما بالنسبة الى القيام من جهة الركنية. ولنا في ذلك بحث مفصل ذكرناه في الفقه.

والذي يهمنا ذكره هنا من ناحية البحث الاصولي هو انه لابد من ملاحظة ان الركن هل هو خصوص الركوع والسجود الحقيقيين ام اعم منهما ومن بدلهما وهو الايماء؟

الثابت بالدليل هو تقدم الجامع بينهما على القيام من حيث انه ركن واما تقدم الركوع والسجود الحقيقيين فلم يدل عليه دليل. والشاهد له ان الركن بمعنى ما يبطل بالإخلال به سهوا كما هو الصحيح في تفسيره ينطبق على الايماء ايضا بالنسبة لمن وظيفته الايماء.

وقد ظهر ان هذا القسم ايضا يتوقف تعيين غير المقدور فيه على متمم الجعل التطبيقي الذي يحكم بملاحظة الأهم فان قلنا بان الركن هو الركوع والسجود الحقيقيان فهما مقدمان على القيام وان قلنا بان الركن اعم منهما ومن بدلهما نرجع في تعيين الأهم الى الأدلة الخاصة التي تدل على تعين القيام. وتفصيلها في الفقه.

الى هنا ننتهي من المقام الأول وقد تحصل لدينا ان اللازم في المسائل الدورانية هو الرجوع الى قواعد باب التزاحم وان لم ينطبق عليها تعريف التزاحم المذكور.

المقام الثاني: في إثبات ان التزاحم بالمعنى المشهور ينطبق على المسائل الدورانية ولا تنافيه الارتباطية الموجودة في موضوع تلك المسائل:

قلنا ان التزاحم قد عرّف في التقريب المذكور بانه يتحقق بين تكليفين مستقلين لكل منهما اطاعة وعصيان مستقل ولا يتمكن المكلف من اطاعتهما معا.

وقد يستغرب بدوا ان يدعى انطباق هذا التعريف على اجزاء المركب الارتباطي فان المفروض ان الامر هنا واحد والمأمور به واحد والانحلال اعتباري لا يوجب تعدد الاطاعة والعصيان.

ونحاول هنا تطبيق هذا التعريف على اجزاء المركب الارتباطي وبهذا الصدد ننبّه على أمور:

  1. الامر الأول: ان الارتباطية الملحوظة في متعلق الامر على قسمين:

القسم الأول: الارتباطية الناشئة من تعلق الامر الوحداني بمجموعة من الأفعال مشروطة بشروط وجودية وعدمية فتكتسب تلك المجموعة من وحدة الامر وحدة اعتبارية ويكتسب هو من كثرتها كثرة اعتبارية نعبر عن كل منها بالوجوب الضمني.

وهذا القسم من الارتباطية يمنع من تحقق التزاحم بالمعنى المذكور في المركب الارتباطي.

القسم الثاني: الارتباطية المتحققة لا من ناحية وحدة الامر. وعبر عنه المحقق النائيني قدس سره بمتمم الجعل المفيد للجزئية والشرطية والمانعية.

ويتصور ذلك فيما إذا أمر الشارع بالأركان نحو اقيموا الصلاة وهي الفرائض وأمر بأوامر متعددة متعلقة بالسنن بنحو متمم الجعل المفيد للجزئية والشرطية والمانعية. والجعل في مثل ذلك وان كان متعددا الا انه يفيد الارتباطية في مقام الامتثال ولذا وصفنا متمم الجعل بكونه مفيدا للجزئية والشرطية.

وهذا القسم من الارتباطية لا يمنع من تحقق التزاحم.

ومن الطريف ان القائل بالتقريب المذكور يوافق المحقق النائيني قدس سره في القول بهذا النحو من الارتباطية في مبحث توجه الامر الى الناسي في تنبيهات الاشتغال.

وكيفية تحقق هذه الارتباطية على ما تصوره المحقق النائيني هي ان امرا مطلقا يتعلق بالأركان ويوجه الى عامة المكلفين والاوامر المتعلقة بالسنن يتقيد كل منها بأمرين: الاتيان بالأركان والالتفات الى السنة المأمور بها.

وقد يتقيد بأمور أخرى ايضا كالقدرة. وهذه الاوامر مغايرة للأمر المتعلق بالأركان وذلك لانه مطلق من جهة الاتيان بالأركان والالتفات الى السنة وهذه الاوامر مقيدة بهما و«غير المقيد» بشيء غير «المقيد» به.

وهنا يتوجه سؤال اليه: ما هو السبب في تعدد الامر مع امكان ان يجمع الشارع الاركان والسنن في امر واحد؟

ويجيب عنه المحقق النائيني بان السنن لا دخالة لها في تحقق الملاك بقول مطلق وانما تؤثر في تحققه في صورة الالتفات اليها والاركان دخيلة في تحقق الملاك بقول مطلق ولابد من ايصال هذا المعنى (تقيد السنن وإطلاق الفرائض) الى المكلفين وايصال هذا المعنى الى المكلفين يتوقف على امر آخر متعلق بالسنن ليتسنى له الصيغة التي تفهم هذا المعنى.

وذلك لانه مع وحدة الامر لا يمكن ان يفهم هذا المعنى الا بهذه الصيغة مثلا: «من كان آتيا بالأركان ناسيا للفاتحة صحت صلاته». وتوجيه هذا الخطاب للمكلف الناسي للفاتحة غير صحيح لان المصحح للخطاب التكليفي هو ايجاد الداعي والزاجر بالإمكان في نفس المكلف وتوجيه هذا الخطاب يستلزم فقدان موضوعه حين توجه المكلف للخطاب فورا اذ لا يبقى ناسيا بعد التوجه الى هذا الخطاب فلا يمكنه ان يكون مؤثرا في ايجاد الداعي والزاجر بالإمكان.

ولوكان وجوب الفاتحة مجعولا بأمر آخر أمكن تقييد موضوع ذلك بالآتي بالأركان الملتفت الى الفاتحة مع ان المفروض ان الامر بالأركان موجه الى عامة المكلفين غير مقيد بالقيود المذكورة في الامر بالفاتحة.

ونحن لا نريد بهذا البيان الاعتراف بصحة كل ما جاء في هذا التقريب لمتمم الجعل وانما أردنا التنبيه على ان هذا القسم من الارتباطية معترف بها عند بعض الاعلام.

 

  1. الامر الثاني: الأدلة في باب الصلاة تساعد تعدد الامر فيها:

ان الادلة في باب الصلاة تساعد هذه الدعوى اي تعدد الامر.

وقد ورد هذا الاعتراف ايضا في الدراسات. ونحن نعتقد عدم اختصاص ذلك بالصلاة بل هو جار في كل مركب من الفرائض والسنن. ولا بد من ذكر بعض الادلة:

أ: روى الصدوق بسند صحيح عن زرارة عن أحدهما قال «ان الله تبارك وتعالى فرض الركوع والسجود والقراءة سنة فمن ترك القراءة متعمدا اعاد الصلاة ومن نسي فلا شيء عليه». 

ورواها الكافي بسند ضعيف عن محمد بن مسلم (المصدر ح 4009).

ب: صحيحة «لا تعاد» المعروفة روى زرارة عن ابي جعفر عليه السلام انه قال «لا تعاد الصلاة الا من خمسة: الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود ثم قال: القراءة سنة والتشهد سنة فلا تنقض السنة الفريضة».

وتدل الرواية على ان الصلاة مركبة من فرائض وسنن وان الاخلال بالسنن لا يبطل الصلاة ان كان معذورا مع التحفظ على الفرائض اما لان الامر بالسنن مقيد واما لوجه آخر سيأتي ان شاء الله تعالى.

جـ : صحيحة زرارة المروية في الكافي والتهذيب قال سألت ابا جعفر عليه السلام عن الفرض في الصلاة فقال «الوقت والطهور والقبلة والتوجه والركوع والسجود والدعاء. قلت: ما سوى ذلك؟ قال: سنة مفروضة (في فريضة)». 

د: صحيحة عبد الله بن سنان قال: «قال أبو عبد الله عليه السلام «إن الله فرض من الصلاة الركوع والسجود ألا ترى لو أن رجلا دخل في الاسلام لا يحسن ان يقرأ أجزأه ان يكبر ويسبح ويصلي»».  

وهي تدل على نفي الارتباطية المطلقة بين الامر بالفرائض والامر بالسنن.

الى غير ذلك من الروايات الكثيرة في الأبواب المتفرقة. وقد ذكرنا في محله عدم اختصاص قاعدة «لا تنقض السنة الفريضة» بالصلاة بل تجري في كل عمل مركب من فرائض وسنن. وبهذه القاعدة نحكم بإجزاء الأوامر الظاهرية مع الاخلال بالسنن من جهة الجهل القصوري.

 

  1. الامر الثالث: كيفية تحقق الارتباطية من غير جهة وحدة الامر:

ان هنا سؤالا يتوجه الى القول بهذه الارتباطية وهو: ان الامر بالسنن امر بواجبات أخرى غير الفرائض وهو كما يمكن مفيدا للارتباطية يمكن ان يكون انشاء لواجب في واجب بل هو الظاهر منه بل يساعده التعبير في بعض الروايات السابقة كقوله «سنة في فريضة» فما هو الموجب لتأثير هذه الاوامر في ايجاد الارتباطية بين متعلقاتها ومتعلق الامر المطلق؟ 

والجواب عن هذا السؤال ان متمم الجعل المفيد للارتباطية يتصور على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: ان يكون الامر بالأركان مشروطا بعدم عصيان الاوامر المتعلقة بالسنن. وان كان اوامر السنن مستقلة لكل منها اطاعة وعصيان مستقل الا ان تعلق الامر بالأركان مشروط بعدم عصيانها. وعصيانها انما يتحقق بعد وصولها الى المكلف والتفاته اليها وقدرته عليها وتذكره لها فالإخلال بالسنن بعد فرض تنجزها المشروط بالأمور المذكورة يوجب بطلان الصلاة وان اتى بالأركان نظرا الى الشرط العدمي في الامر بها.

فهذه الارتباطية لا تتوقف على كون اطرافها واجبا بالوجوب الضمني كما هو الحال في الارتباطية الناشئة من وحدة الامر بل هي تنشأ من اشتراط الامر بالأركان بعدم عصيان الأوامر المتعلقة بالسنن وان كان كل منها امرا مستقلا.

ويتصف الامر بالسنن بكونه متمم الجعل نظرا الى ان الامر بالأركان المشروط بعدم عصيان اوامر السنن لا يكفي في الارتباطية الشاملة الكاملة ما لم يرد اوامر السنن.

الوجه الثاني: ان يكون الامر بالأركان مطلقا و أوامر السنن مقيدة بإتيان الأركان والالتفات الى السنن. ويتحقق الارتباط بينهما في مرحلة الحكم الجزائي المترتب على عصيان الامر بان يكون موضوع الحكم الجزائي بوجوب الاعادة عقوبة شاملا لمن ترك احدى السنن عالما عامدا.

والحكم بوجوب الاعادة حكم بالفساد لان الفساد يفسر بوجهين:

الأول: عدم مطابقة المأتي به للمأمور به. وهذا المعنى غير موجود في المورد المفروض لان الاتيان بالأركان كاف في انطباق المأمور به.

الثاني: اتيان العمل بحيث يجب معه الاعادة او القضاء وهذا المعنى حاصل في هذا المورد.

والمراد بالارتباطية ان لا يكفي الاتيان ببعض الاجزاء دون بعض في عدم وجوب الاعادة او القضاء. وهذا المعنى هو الذي يتحقق بين الاركان والسنن بالتقريب المذكور.

وهذا التقريب وان قدمناه على صورة فرضية علمية الا ان له بعض الشواهد في الروايات:

ففي صحيحة زرارة قال «سألته عن محرم غشي امرأته وهي محرمة قال: جاهلين او عالمين؟ قلت: أجبني عن الوجهين جميعا. قال: ان كانا جاهلين استغفرا ربهما ومضيا على حجهما وليس عليهما شيء. وان كانا عالمين فرق بينهما من المكان الذي أحدثا فيه وعليهما بدنة وعليهما الحج من قابل (الى ان قال) قلت فأي الحجتين لهما؟ قال: الأولى التي أحدثا فيها ما أحدثا والأخرى عليهما عقوبة» (الوسائل ج9 ص257 ب 3 من كفارات الاستمتاع من كتاب الحج ح 9).

فتدل هذه الصحيحة على ان الحج الأول صحيح بمعنى انطباق المأمور به عليه فلا يترتب عليه آثار تارك حجة الاسلام ولكنه غير صحيح بمعنى عدم وجوب الاعادة وذلك لان الاعادة انما وجبت عليه عقوبة.

ويشهد له ايضا موثقة سماعة قال «سألت ابا عبد الله عليه السلام عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى ان يغسله حتى يصلي قال: يعيد صلاته كي يهتم بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه». 

هذا وقد ذكرنا فيما سبق ان قاعدة «لا تنقض» تنفي الارتباطية في حال العذر فان كانت الارتباطية المنفية هناك من هذا القبيل كان مقتضى نفيه عدم العقاب حتى بالنسبة الى الجاهل اذ لا يلزم منه اخذ العلم بالحكم في موضوع دليله بل يمكن ان يؤخذ العلم قيدا في موضوع الحكم الجزائي بان يقول من ترك الأركان او اتى بها وترك احدى السنن عالما عامدا بطلت صلاته.

والذي تحصل لنا ان الارتباطية لا تتوقف على ما ذكره الاعلام من ان امرا واحدا قد تعلق بجميع الأجزاء وهو متوجه الى المكلف المختار وكلما اضطر الى ترك جزء او تبديله ببدله توجه اليه امر آخر متعلق بمركب آخر بل يصح ان يتعلق امر واحد بالأركان و أوامر متعددة بكل من السنن والارتباطية متصورة على هذا الفرض بالوجهين المتقدمين.

وقد يتوهم أن تعدد الامر في كلا الوجهين يستوجب تعدد العقوبة بالنسبة الى تارك الصلاة.

والجواب عنه ان موضوع الامر بغير الأركان مقيد بالإتيان بالأركان فالتارك لها لا يتوجه اليه الامر بغيرها فاتحد العقاب.

ويمكن ان يقال ايضا ان اعادة الصلاة بعد الاخلال بالسنن يستوجب رفع العقوبة المترتبة على الاخلال بها في الصلاة الأولى وهذا نظير التوبة الرافعة للعقوبة ونظير اجتناب الكبائر الموجبة لغفران الصغائر على ما هو ظاهر الآية المباركة وقد اذعن به بعض المحققين، فرفع العقاب بعد الاعادة لا يوجب عدم كون الامر بالسنن مفيدا للحكم التكليفي.

الوجه الثالث: ان يكون امر واحد متعلقا بالفرائض و أوامر متعددة متعلقة بالسنن الا انها تعتبر متممة للجعل من جهة ان الملاك الموجب للأمر بالفرائض و الامر بالسنن واحد الا ان تقوّم الملاك بالفرائض مطلق وبالسنن مقيد بالقدرة والالتفات. وكذلك العقاب في مرحلة الحكم الجزائي واحد بالنسبة الى تارك الاركان اوتارك السنن قادرا ملتفتا.

ولعل القائلون بمتمم الجعل يقصدون هذا الوجه. وعليه لا يتم تصوير التزاحم بالمعنى المشهور بين اجزاء المركب فان الامر المتعلق بالمركب واحد في الواقع وانما اضطر المشرع الى تعدد الامر ليتسنى له الامر بالأركان للناسي دون السنن كما تقدم.

ولكن هذا الوجه قد لا يطابق مضمون الروايات فان مقتضاها ان السنن من أوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولذا عبر عنها بأنها سنة في فريضة وستأتي ان شاء الله تعالى في باب «علل اختلاف الأحاديث» روايات تدل على ان بعض الأمور مما سنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وان اطاعة الرسول واجبة لأمر الله تعالى بإطاعته ويستفاد منها ان السنن لها أوامر مستقلة قابلة لإطاعة وعصيان مستقلين. وسيأتي ايضا الاشكال في ذلك.

1.3الأمر الثالث: في مقتضى الأصل في المتعارضين

الامر الثالث مما وعدنا ان نذكره في المقصد الأول من مقاصد هذا المبحث هو بيان مقتضى الأصل في المتعارضين عند فقدان المرجحات السندية والدلالية.

ولابد ان نشير هنا الى نقطتين تمهيدا للبحث:

النقطة الأولى: ان البحث في كلمات بعض المتأخرين قد وقع في مقامين:

المقام الأول: في ان مقتضى الأصل في المتعارضين هل هو التساقط او التخيير؟ 

المقام الثاني: في ان المتعارضين – بعد افتراض ان يكون الأصل هو التساقط – هل ينفيان الثالث ام لا؟ 

ولكنا نجعل محور البحث سؤالا واحدا وهو:

انا لو لم نعلم اجمالا بحجية أحد الدليلين المتعارضين وفقدان المرجح فهل يمكن ان نحكم بنفي الثالث ام لا؟

والسر في العدول ان الدليلين المتعارضين قد يكونان بحيث يعلم اجمالا موافقة أحدهما للواقع وقد يكونان بحيث لا يعلم ذلك اجمالا. اما في الصورة الأولى فلا شك في انتفاء الثالث والحكم بالحجية التخييرية انما الكلام في الصورة الثانية ولذا خصصنا البحث بها.

ومن هنا يظهر ان البحث في المقام الأول في كلماتهم لا وجه له حيث انهم جعلوا موضوع البحث عن كون الأصل هو التساقط او التخيير جميع موارد تعارض الدليلين. وهذا غير صحيح فان موارد العلم الاجمالي بحجية أحدهما لا معنى لجعل الحجية التخييرية لهما فهو لغو بل غير معقول لكفاية العلم الاجمالي في حجية أحدهما ونفي الثالث. و لنذكر بعض الأمثلة لتوضيحه:

  • إذا كان مدلول أحد الدليلين المتعارضين وجوب شيء ومدلول الآخر عدم وجوبه فاستحالة ارتفاع النقيضين قاضية بنفي الثالث قطعا ونتيجته الحجية التخييرية.
  • إذا كان مدلول أحدهما نجاسة الكتابي ومدلول الآخر طهارته وقلنا بانهما ضدان لا ثالث لهما بالمعنى المعقول للتضاد في الاحكام فاستحالة ارتفاع الضدين اللذين لا ثالث لهما تنفي الثالث بالوجدان.
  • إذا كان مدلول أحدهما وجوب صلاة الجمعة ومدلول الآخر وجوب صلاة الظهر فالعلم الخارجي الناشئ مما دل على وجوب احدى الصلاتين فقط ينفي الثالث. وكذا مورد دلالة أحدهما على القصر والآخر على التمام.

النقطة الثانية: الحجج التي يدور البحث حولها في المقام:

 

النقطة الثانية: ان الحجج التي يدور البحث حولها هي الحجج التي اعترف بها في مباحث حجية الظن وهي كما يلي:

  1. ظواهر الالفاظ.
  2. الخبر الموثوق الصدور وهو الصحيح القدمائي.
  3. خبر الثقة. وهو عندنا غير معترف بحجيته الا في اخبار اهل الخبرة وهي خارجة عن محل البحث. وانما تشمله دائرة البحث نظرا الى حجيته عند جماعة من اعلام المتأخرين.

والدليل على حجية كل من هذه الحجج أحد امرين: بناء العقلاء و الأدلة اللفظية.

فان كان دليل الحجية في اي واحد منها بناء العقلاء فقد يقال بانه لا يشمل مورد التعارض لانه دليل لبي لابد من الاخذ بمقداره المتيقن. واما ان كان الدليل لفظيا فلابد من ملاحظة ما يقتضيه الدليل بالنسبة الى موارد التعارض.

قيل وهناك من الأدلة اللفظية ما تدل على حجية الأمور الثلاثة.

اما الأدلة اللفظية الدالة على حجية الأمور الثلاثة فليست الا فرضية فاقدة لمقومات الاثبات. وانما الدليل على الحجية هو بناء العقلاء فحسب. وما يستدل بها من الروايات ليست الا مشيرة الى المرتكز العقلائي فسؤال الراوي عن الامام عليه السلام «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني» لا يدل الا على ارتكازية الكبرى في ذهنه وهو حجية خبر الثقة على ما فسروا به كلمة الثقة. وقد ذكرنا في محله ان المراد بها من يوثق بعلمه واجتهاده اذ لم يكن كلام في وثاقة يونس وانما كان الكلام في صحة آرائه حتى ان مخالفيه اعترفوا بان كتبه في الاخبار صحيحة. وتوضيح الكلام في ذلك موكول الى محله.

واما ان بناء العقلاء دليل لبي لا يشمل موارد التعارض فسيظهر ذلك من خلال المباحث الآتية ولا يمكن ان نعترف به الا بعد ملاحظة الشواهد العقلائية والاذعان بانها لا تكفي لإثبات حجية المتعارضين في الجملة.

وبعد هاتين النقطتين نرجع الى السؤال الأساس الذي يبتني عليه البحث والذي استخلصناه من النقطة الأولى وهي:

انا لو لم نعلم اجمالا بموافقة أحد الدليلين للواقع فهل ينفيان الثالث كما لو كنا نعلم اجمالا بموافقة أحدهما له ام لا؟

1.3.1طريقان لإثبات نفي الثالث

وهنا طريقان لإثبات امكان نفيهما للثالث:

و الطريق الأول يبتني على ان يكون الدليلان المتعارضان حجتين في مدلولهما المطابقي في الجملة اما بان يكون كل منهما حجة بشرط ان يكون الآخر مخالفا للواقع او بشرط الاخذ به او بوجه آخر من التقييد كما سيأتي ان شاء الله تعالى واما بان يكون أحدهما غير المعين حجة فاذا تمت حجية أحدهما معينا او غير معين انتفى الثالث لا محالة.

و الطريق الثاني الذي اختاره المحقق النائيني قدس سره يبتني على تساقط الدليلين من حيث المدلول المطابقي وتطابقهما من حيث المدلول الالتزامي على نفي الثالث وانه لا مانع من التفكيك بين الدلالتين.

وعلى ضوء ما ذكرنا يتبين ان البحث عن نظرية نفي الثالث ودعمها بالدليل يقع في مقامين:

المقام الأول: في ملاحظة ادلة حجية الحجج سواء كانت ادلة لفظية او بناء من العقلاء وأنها هل تدل على حجية أحد الدليلين المتعارضين لا على التعيين او حجية كل منهما مشروطا ام لا؟ 

المقام الثاني: في ان الدليلين هل يدلان بمدلولهما الالتزامي على نفي الثالث بعد سقوط المدلول المطابقي عن الحجية ام لا؟

1.3.1.1المقام الأول:

اما في المقام الأول فهناك عدة محاولات لإثبات حجية أحد الدليلين المقتضية لنفي الثالث:

المحاولة الأولى: ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره بناء على تفسيرنا لكلامه لا على ما فهمه الاعلام وهو:

ان المفروض في المقام اننا نعلم اجمالا بمخالفة أحد الدليلين للواقع ولا نعلم اجمالا بموافقة أحدهما له ولا مانع من شمول ادلة الحجية لهما الا هذا العلم الاجمالي وهو الموجب لتعارضهما كما ذكرناه في بداية هذا البحث. ومقتضى هذا العلم الاجمالي هو سقوط أحدهما عن الحجية دون الآخر وحيث انا لا نميز الحجة عن اللاحجة لا يمكننا الاخذ بالمدلول المطابقي لشيء منهما الا انه لا مانع من الاخذ بالمدلول الالتزامي لما هو حجة منهما والحكم بنفي الثالث.

والمبنى الأساس لهذه النظرية هو اثبات ان المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة بدعوى ان العلم الإجمالي يكشف عن الواقع ولو في الجملة.

و لإثبات هذه الدعوى تقريبان:

التقريب الأول: ما يظهر من بعض كلمات المحقق العراقي قدس سره وهو ان العلم الإجمالي يكشف عن الواقع كشفا ذاتيا فلو علمنا اجمالا بنجاسة أحد الاناءين كان النجس الواقعي منكشفا لدينا الا انه منكشف بصورته الاجمالية. واستشهد على ذلك بانه لو تعين المعلوم بالإجمال انطبق العنوان المعلوم بالإجمال على شراشر وجوده لا على جزئه التحليلي. والعلم بالشيء قد يكون علما به بعنوانه الشخصي وقد يكون علما به بعنوانه الكلي المنطبق عليه. والعلم الإجمالي من القسم الثاني. ومن هنا يقال في امكان عمومية الوضع وخصوصية الموضوع له ان تصور الكلي تصور للفرد بوجه.

وبهذا التقريب يظهر فيما نحن فيه ان الدليل الذي يكشف العلم الاجمالي عن مخالفته للواقع واقعا لا يشمله دليل الحجية ولكنه يشمل الآخر. وحيث انهما مشتبهان عندنا فالمورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة.

وفي هذا التقريب مناقشات لا مجال لذكرها ومجمل القول ان العلم الاجمالي انما يكشف عن الجامع الانتزاعي لا الواقع الخارجي. والكلي لا يحكي عما ينطبق عليه وانما يحكي عما يطابقه وما يطابقه هو الحجة الجامعة لا الفرد. و الإشارة الوهمية لا توجب تشخصا للكلي وكشفا عن الواقع و إلا لكان الجاهل البسيط عالما بالواقع.

مضافا الى انه لو كان كلا الاناءين نجسا او فيما نحن فيه كان كلا الدليلين مخالفا للواقع فلا يمكن القول بان أحدهما هو المعلوم بالعرض دون الآخر في قبال المعلوم بالذات الذي هو نفس الصورة الاجمالية لانه ترجيح بلا مرجح. ولا يمكن القول بان هذا العلم الاجمالي غير مطابق للواقع.

التقريب الثاني: ان المكشوف بالعلم الإجمالي هو الواقع ولكن لا بالكشف الذاتي بل بالكشف العقلائي.

توضيحه:

ان المستفاد من كلمات صاحب الكفاية في موارد متفرقة وخصوصا في اواخر مباحث القطع هو ان للعلم الاجمالي جهتين من الكشف. احداهما: الكشف عن الواقع بخصوصه وهو كشف عقلائي بمعنى ان العقلاء يعتبرون العلم الإجمالي كاشفا عن الواقع بضم الإشارة الوهمية اليه او باعتبار ان الواقع كما يمكن ان ينكشف بعنوانه الخاص يمكن ان ينكشف بعنوانه العام كما مر في التقريب الأول. فالفرق بين التقريبين ان الأول يعتبر الكشف عن الواقع ذاتيا والثاني يعتبره عقلائيا. وهذا الكشف هو المؤثر في التنجيز و بإمكان الشارع ان يلغيه لانه حجة عقلائية لا ذاتية.

وفيما نحن فيه نعلم اجمالا بمخالفة أحد الدليلين للواقع فالمخالف للواقع معلوم ومنكشف بصورته الاجمالية الا ان هذا الكشف فاقد للتمييز. وهذا لا يمنع من انكشاف الواقع بإجماله. فدليل الحجية لا يشمل أحدهما وهو المخالف للواقع ولكنه يشمل الآخر. وحيث اننا لا يمكننا تشخيص الحجة عن اللاحجة لا نستفيد من المدلول المطابقي لما هو حجة واقعا. ولكن لا مانع من الاخذ بالمدلول الالتزامي المشترك بينهما وهو نفي الثالث.

فظهر ان دعوى صاحب الكفاية ان أحدهما غير المعين حجة لا يقصد به غير المعين واقعا بل غير المشخص عند العالم اجمالا واما في الواقع فهو متعين.

و على هذا التقريب ايضا عدة اعتراضات:

الاعتراض الأول: انه حتى في موارد العلم الاجمالي بالحكم الالزامي لا ينكشف الواقع. ووجوب الاحتياط ليس من هذه الجهة ولا من تعارض الأصول المرخصة في الأطراف وتساقطها كما يدعيه جمع من الاعلام بل لان احتمال الوجوب او الحرمة إذا اعتمد على العلم الاجمالي يعتبر عند العقلاء احتمالا قويا. والاحتمال القوي عند العقلاء حجة كما ذكرناه في مباحث الاشتغال.

والحاصل انه لا شاهد على كون المعلوم بالإجمال مرآة عند العقلاء للكشف عن الواقع.

الاعتراض الثاني: ان هذا التقريب لا يفيد في المقام لان الموجب للتعارض هو تعلق العلم الاجمالي بالجامع وكشفه عنه والمعلوم بالإجمال هو عدم حجية أحد الدليلين وهذا بمدلوله الالتزامي يستوجب التعارض ومدلوله هو «ان كان هذا حجة فالآخر ليس بحجة وان كان ذاك حجة فهذا ليس بحجة» فلا يتوقف التعارض على تنجيز العلم الاجمالي للواقع بل هذا العلم الاجمالي لا ينجز واقعا لان متعلقه عدم الحجية وهو انما ينجز إذا تعلق بحكم الزامي.

الاعتراض الثالث: ان منع العلم الإجمالي عن حجية أحد الدليلين لو كان باعتبار كشفه العقلائي كان النتيجة تعارضه مع دليل الحجية في ذلك الدليل المخالف للواقع وبعد تعارضهما وتساقطهما نحكم بعدم الحجية له لا بمنع العلم الاجمالي عن حجيته.

المحاولة الثانية: ان ادلة حجية الحجج لها اطلاقان: إطلاق افرادي و إطلاق احوالي. ولا ريب في عدم امكان الاخذ بالإطلاقين في مورد تعارض الدليلين الا انه يمكن رفع اليد عن الاطلاق الاحوالي والاخذ بالإطلاق الافرادي بان يقال: ان كلا منهما حجة ولكن بشرط كون الآخر هو المخالف للواقع. وحيث ان مخالفة أحدهما للواقع معلوم وبه يتقوم التعارض فحجية أحدهما ثابتة بهذا الاطلاق وواصلة الى المكلف الا انه حيث لا يميز المخالف للواقع لم يتميز له الحجة ايضا فالمورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة وعليه فانتفاء الثالث واضح.

ان قيل: يحتمل ان يكون كلاهما مخالفا للواقع وحينئذ فالنتيجة حجيتهما معا. وهو غير معقول.

فالجواب عنه: ان حجية كل منهما مشروط بمخالفة الآخر للواقع. ووصول الحجية الى المكلف مشروط بعلمه بمخالفة الآخر للواقع. فوصول حجيتهما معا الى المكلف يتوقف على علمه بمخالفتهما معا للواقع وهو خلاف الفرض اذ لا يبقى تعارض بينهما حينئذ فلا يمكن ان يصل الى المكلف حجيتهما معا. فان قلنا بان الحجية ليست من الاحكام الواقعية التي لا يختلف فيها الوصول وعدمه بل تتوقف على الوصول فحجيتهما معا غير ثابتة واقعا فهي كسائر الاحكام الظاهرية التي لم تصل الى المكلف لا أثر لها في مرحلة العمل.

ولابد من عرض هذا الجمع بين اطلاقي دليل الحجية على مرتكزات العقلاء. وقد تبين بما ذكرناه في التقريب ان مقتضى هذا الجمع هو حجية كل من الدليلين مشروطا بمخالفة الآخر للواقع سواء كان بنفسه مخالفا للواقع ام موافقا. وهذا النحو من الحجية لا تساعده المرتكزات العقلائية. ولو فرضنا ان المراد بدليل الحجية هو الأدلة اللفظية فلابد أيضا ان يكون الجمع بينهما موافقا لمرتكز العقلاء وهو ممنوع مع ان أصل وجود الأدلة اللفظية التأسيسية على ذلك ممنوع ايضا.

المحاولة الثالثة: وهي بنفس التقريب الذي ذكرناه في المحاولة الثانية مع تقييد الحجية في كل منهما بموافقته للواقع بدلا عن التقييد بمخالفة الآخر للواقع الذي ورد في المحاولة الثانية.

والجواب عنه بوجهين:

الأول: ان مفروض المسألة كما ذكرنا هو عدم العلم الاجمالي بموافقة أحدهما للواقع اذ لوكان لنا علم اجمالي بها كفى ذلك في نفي الثالث. وعليه فشرط الحجية وهو موافقة الواقع غير معلوم عندنا فالحجية غير واصلة. والطريف ان شرط الحجية في هذا الفرض يوجب لغوية جعل الحجية فانا إذا علمنا بموافقة الواقع معينا او غير معين كان جعل الحجية لغوا اما في صورة التعين فواضح واما في صورة عدم التعين فلان الحجية المجعولة لا بد من ان تكون تخييرية وهي معلومة بالفرض فجعلها لغو.

الثاني: ان التقييد بموافقة الواقع لا يناسب الحجية فان الحجية هي التي تعرض الدليل ليعين مسير الجري العملي للمكلف سواء طابق الواقع ام لا الا انه إذا طابق الواقع كان حجة للشارع على المكلف و إذا خالفه كان حجة للمكلف على الشارع.

المحاولة الرابعة: وتقريبها أيضا نفس التقريب السابق الا ان التقييد هنا بالأخذ بالدليلين. فكل من الدليلين حجة بشرط الاخذ به. وحيث ان العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع مانع عن الاخذ بالدليلين فلابد للمكلف أن يأخذ بأحدهما وهو الحجة حينئذ لحصول شرط الحجية له.

ويترتب على ذلك انه لو تركهما معا لم تثبت الحجية لشيء منهما. وبذلك يتضح ضعف هذه المحاولة. ومن البعيد ان يلتزم أحد بتقيد الحجية باختيار المكلف.

فان قلت: فما الوجه في تشريع الحجية التخييرية كما إذا ورد: «خذ بأحدهما».

قلت: اختيار أحدهما في هذا المورد واجب على المكلف كما هو مدلول الامر بالأخذ.

المحاولة الخامسة: نفس التقريب السابق مع تقييد حجية كل منهما بعدم الاخذ بالآخر.

ويترتب عليه حجيتها معا إذا لم يأخذ بشيء منهما وحجيتها معا غير معقول بسبب التعارض.

هذا مع ان هذه المحاولات الأربعة تبتني على وجود دليل لفظي للحجية وهو غير ظاهر.

المحاولة السادسة: وتقريبها ان العلم الإجمالي إنما تعلق بمخالفة أحدهما للواقع فهو مانع عن حجية أحدهما معينا ولكن لا يمنع من حجية أحدهما لا على التعيين.

وهذا التقريب محتمل كلام صاحب الكفاية. والجدير بالذكر ان عنوان أحدهما في هذا التقريب يراد به غير المعين واقعاً لا بحسب علم المكلف كما كان في التقريب الأول الذي ذكرناه تفسيراً لكلام صاحب الكفاية.

و توضيح هذا التقريب بحيث تندفع عنه اعتراضات القوم يتوقف على بيان أمور:

الامر الأول: ان عنوان (أحد الخبرين) عنوان انتزاعي كلي. و الأمور الإنتزاعية مما يبتدعها الذهن عند إدراكه شيئاً خارجياً. ويعبّر عن ابداعات الذهن بالتكثرات الإدراكية فكثيراً ما يحلّل الذهن شيئاً بسيطاً إلى امور متعددة أو يخترع عناوين تنطبق عليه. والكثرة هنا لا تتبع الكثرة الواقعية في الخارج وانما تعتمد على الادراك الفعلي. ومن هذا القبيل الأمور الإنتزاعية. ويعبّر عن الشيء الخارجي المدرَك بمنشأ الإنتزاع. والأمور الإنتزاعية تتبع مناشئ انتزاعها في الوجود وفي جميع مقومات الماهية فيها.

فاذا تصورنا امرين: (خبرين – ظهورين – رجلين.. وهكذا) فللذهن ان ينتزع منهما مفهوماً ينطبق على كل منهما وهو أحد الخبرين، أحد الظهورين، أحد الرجلين. وهذا المفهوم موجود إذا كان منشأ انتزاعه موجوداً. وينعكس فيه جميع مقومات الماهية في منشأ انتزاعه. فاذا تصورنا جوهرين فأحد الجوهرين جوهر ايضاً. ولا يحتاج في وجوده إلى الموضوع. وهو الذي يميز الجوهر عن العرض وأحد العرضين عرض ويحتاج في وجوده إلى الموضوع.

ونظير هذا العنوان عنوان الكلي في المعين الذي يبحث عنه في مسألة بيع صاع من صبرة في المكاسب. فالصاع من صبرة كلّي غير متشخص في الخارج الاّ انه مضاف إلى العين الخارجية وهي الصبرة الخاصة. فهذا الصاع غير موجود بحدّه في الخارج وانما ينتزعه الذهن من الصبرة الموجودة في الخارج.

والحاصل ان الأمور الإنتزاعية ليست اموراً موهومة كما قيل بل لها واقع الا ان واقعية كل شيء بحسبه فواقعية المفاهيم المتأصلة بواقعية ما بحذائها في الخارج وواقعية المفاهيم الإنتزاعية بواقعية مناشئ انتزاعها.

وبهذا البيان يندفع الاعتراض على التقريب المنسوب إلى صاحب الكفاية بأن أحد الخبرين غير موجود او أحد الخبرين ليس خبراً.

الامر الثاني: ان وجه الاحتياج إلى عملية انتزاع عنوان أحد الامرين او أحد الأمور ونحوهما يمكن أن يكون أحد الأمور الآتية:

الأول: تعلق الصفات النفسية بهذا العنوان كما في العلم الإجمالي فانه يتقوم بكلي انتزاعي كأحد الامرين او أحد الأمور فاذا علمنا اجمالاً بوجوب الظهر او الجمعة فالمعلوم بالإجمال انما هو أحد الوجوبين حقيقة. وقد يعبر عنه مسامحة بانا نعلم بوجوب أحد الامرين. وفي مثله يكون كل من المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض كليا انتزاعياً.

الثاني: تعلق بعض الأمور الاعتبارية به كما هو المختار في الوجوب التخييري ففي مثله يصح ان نقول نعلم بوجوب أحد الامرين فمتعلق الوجوب امر انتزاعي ولكن العلم به ليس علما اجماليا متقوما بكلي انتزاعي بل المعلوم هو الوجوب الشخصي المتعلق بهذا العنوان الاجمالي. فلا يصح ان نقول نعلم اجمالاً بأحد الوجوبين فان العلم الاجمالي المتقوم بالجامع الانتزاعي يتقوم بمنفصلة مانعة الخلو مع الشك في جميع الاطراف فلابد من أن يصدق قولنا ان لم يكن هذا واجباً كان الآخر واجباً مع انا نعلم تفصيلاً بعدم وجوب كل من الفعلين بحدّه.

الثالث: تعلق الغرض بإجمال التعبير. فاذا كنا نعلم بان زيداً عادل وعمراً غير عادل او كنا نعلم بعدالتهما معاً صحّ ان نعبّر بالعلم بعدالة أحدهما إذا تعلق غرض بعدم التصريح بعدالة العادل منهما أو بعدالتهما معاً. فهذا العنوان هنا حدّ للتعبير، وليس حداً للعلم ولا للواقع الخارجي.

الأمر الثالث: ان الصفات النفسية كاليقين والشك تتعدد بتعدد الصور الذهنية التي تتعلق بها ولا يدور مدار الواقع الذي تعكسه الصور الذهنية فاذا علمنا بان زيداً عادل وشككنا في انه ابن عمرو وكان في الواقع ابنه فالواقع الخارجي الواحد بعنوان انه زيد معلوم العدالة وبعنوان انه ابن عمرو مشكوك العدالة.

ويستفاد من هذا الامر في تطبيق قاعدة الطهارة في موارد الشك الإجمالي.

و توضيحه:

انا لو شككنا في طهارة شيء بحدّه ونجاسته حكمنا بطهارته بموجب «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر» وهذا الشك شك تفصيلي بمعنى ان الشك غير متقوم بالجامع الانتزاعي.

و إذا علمنا بطهارة أحد الماءين ونجاسة الآخر فلا شك في وجوب الاجتناب عنهما الا انه يمكن تحصيل الطهارة للصلاة حينئذ بالتوضي من أحدهما والصلاة معه ثم تطهير مواضع الوضوء بالماء الآخر والوضوء به ثم تكرار الصلاة فيحصل العلم التفصيلي بصلاة مع طهارة الا انه امتثال اجمالي. والبحث في كفايته وعدم كفايته موكول إلى محله.

وفي مثل ذلك يمكن ان نفرض احتمال وقوع نجاسة أخرى غير النجاسة المعلومة بالإجمال في أحد الاناءين فيكون لدينا حينئذ علم اجمالي بنجاسة أحدهما وشك اجمالي في طهارة الآخر. ولكي يصير هذا الفرض كالفرض السابق في إمكان تحصيل صلاة مع طهارة، لابد من إجراء قاعدة الطهارة لرفع الشك الإجمالي. ومجرى هذه القاعدة لا يمكن أن يكون هذا بعينه وهذا بعينه لعدم إمكان اجراء الأصول المرخصة في أطراف العلم الإجمالي إلا أن هنا شكاً اجمالياً متعلقاً بعنوان أحدهما وفي ذلك تجري القاعدة وأثره الحكم بطهارة ما لم يصبه النجاسة المعلومة بالإجمال واقعاً فيرجع هذا الفرض في النتيجة كالفرض السابق ويمكن معه تحصيل صلاة مع طهارة.

ويلاحظ في هذا الفرض ان لدينا شكين تفصيليين وعلماً اجمالياً وشكا اجمالياً مع أن الواقع الخارجي ليس إلا اناءين من ماء. وليس ذلك إلا من جهة تعدد الشك والعلم بتعدد الصور الذهنية.

ويمكن أيضاً اجراء استصحاب الطهارة إذا كانا معاً معلومي الطهارة سابقاً ثم علم بنجاسة أحدهما غير المعين وشك في نجاسة الآخر، فلا مانع من استصحاب طهارة الشيء المشكوك إجمالاً لصدق «لا تنقض اليقين بالشك».

وعلى ضوء هذه الأمور الثلاثة يتبين ان ما ورد في التقريب ليس الا نظير اجراء اصالة الطهارة في مشكوك الطهارة بالشك الإجمالي.

توضيحه:

ان دليل حجية الخبر أو الظهور لا يشمل معلوم الصدق أو معلوم الكذب. وإنما مورده مشكوك الصدق والكذب وكذلك اصالة الظهور واصالة التطابق بين الإرادة الجدية و الإرادة الاستعمالية، واصالة عدم اشتباه الراوي.

والمفروض في المقام انا نعلم اجمالاً بعدم مطابقة أحد الدليلين للواقع ولا نعلم إجمالاً بمطابقة أحدهما له. ومقتضى عدم العلم الإجمالي بالمطابقة الشك الإجمالي في المطابقة. فالمسألة نظير مسألة العلم الإجمالي بنجاسة أحد الاناءين واحتمال نجاسة الآخر التي قلنا فيها بجريان قاعدة الطهارة أو استصحابها. وعليه فما المانع من التمسك بدليل الحجية لإثبات حجية أحدهما لا على التعيين بمقتضى الشك الإجمالي؟!

وبهذا التقريب تندفع بعض المناقشات التي أوردها القوم على هذه الفرضية وهي ثلاث:

المناقشة الأولى: ان الأمر الانتزاعي أمر موهوم ليس له واقع موضوعي حتى يشمله دليل الحجية.

وقد تبين ضعف هذه المناقشة في الأمر الأول.

المناقشة الثانية: ان أحد الخبرين وإن كان موجوداً تبعاً لمنشأ انتزاعه الا انه ليس خبراً.

وقد تبين ضعف هذه المناقشة أيضاً في الأمر الأول.

المناقشة الثالثة: ان إطلاق الأدلة لا يشمل إلا ما كان خبراً خارجياً محسوساً فالإطلاق ينحل بحسب الافراد الموجودة في الخارج أو التي ستوجد في الخارج. والوجود مساوق للتشخص. فلا تشمل الاطلاقات الخبر بالمعنى الانتزاعي ولا يمكن في المقام تطبيق دليل الحجية أكثر من مرتين.

والجواب عنه – مضافاً إلى انهم كثيراً ما يتمسكون بالعمومات والاطلاقات في الأمور الانتزاعية – ان الشك كما بينا في الأمر الثالث يكثر الفرد باعتبار تعلقه بعنوان انتزاعي فيتكون فرد انتزاعي مغاير للفردين منشأ الانتزاع الا ان المغايرة ليست في الوجود الخارجي بل باعتبار انه عنوان كلي ينطبق عليهما.

نعم لو لم يكن لنا علم اجمالي بكذب أحدهما لم يتحقق الشك الإجمالي بصدق أحدهما كما إذا كان هناك خبران نشك في صدق كل منهما وكذبه فلا يصح هنا ان نعتبر أحدهما أيضاً فرداً للخبر اذ لا مصحح لانتزاعه. والتعبير بالشك في أحدهما وان صحّ في نفسه الا انه حدّ للتعبير لا للشك كما ذكرناه في الامر الثاني. فالمعتبر في كون «أحدهما» فرداً هو المصحح العقلائي لانتزاعه بحيث يكون حداً للصفات الحقيقية أو الأمور الاعتبارية دون ما كان حداً للتعبير.

والمصحح العقلائي يختص بموارد الحاجة إلى الانتزاع فلو كان لأحد صبرة من حنطة تشتمل على عشرة صيعان متفرقة فاعتبار الملكية هنا مختص بهذه العشرة ولو باع صاعاً بنحو الكلي في المعين يعتبر المشتري مالكاً لصاع من هذه الصبرة مع ان اعتبار ملكية البائع باقية على جميع هذه العشرة فليس ذلك الا لاعتبار العقلاء صاعاً كلياً في الصبرة منتزعاً من الصيعان العشرة مغايراً لها مغايرة الكلي للفرد.

وكذلك اعتبار الكسر المشاع فلا يعتبر ملكية النصف المشاع مثلاً لمن يملك الجميع وإنما يعتبر في موارد خاصة كبيع النصف.

والحاصل ان هذا التقريب لا مناقشة فيه من هذه الجهات الاّ انه لابّد من ملاحظة ان المراد بدليل الحجية اما ان يكون بناء العقلاء واما ان يكون الأدلة اللفظية فعلى افتراض ان يكون دليل الحجية بناء العقلاء فلابد من ملاحظة الشواهد التي تدل على بنائهم على حجية أحدهما غير المعين والاّ فهذا التقريب لا يعدو ان يكون فرضية لا يدعمها الدليل. فلو دلت الشواهد العقلائية على نفي الثالث أمكن تفسير البناء العقلائي المستنتج من تلك الشواهد من الناحية العلمية بهذه الفرضية لو لم يكن هناك تفسير آخر أكثر انسجاماً معها واما لو كانت الشواهد تدل على عدم الحجة على نفي الثالث فهذه الفرضية تسقط عن الاعتبار.

هذا. وقد اقام بعض الاعلام عدة شواهد على عدم انتفاء الثالث. وسيأتي البحث عنها وعن امكان اقامة الشواهد على نفي الثالث وعدمه ان شاء الله تعالى.

وعلى افتراض ان يكون دليل الحجية هي الأدلة اللفظية فلابد من ان نجعل كل دليل منها تحت الملاحظة لنرى هل دلالتها على الحجية بالتأسيس او بإمضاء بناء العقلاء. فان كان على النحو الثاني فهو تابع في حدود الحجية لبنائهم ايضاً. وقد مرّ ان القول بوجود أدلة لفظية من النحو الأول لا يتجاوز فرضاً بحتاً.

1.3.1.2المقام الثاني:

المقام الثاني في امكان نفي الثالث تمسكاً بالمدلول الالتزامي للدليلين المتعارضين كما أفاده المحقق النائيني وتقريب ذلك على ما يستفاد من فوائد الاصول:

ان الدليلين المتعارضين إذا لم نعلم إجمالاً بموافقة أحدهما للواقع كما حددنا البحث به على قسمين:

القسم الأول: ان يدل كل منهما بالدلالة الإلتزامية على نفي الآخر.

القسم الثاني: ان يكون نفي كل منهما من لوازم مدلول الآخر خارجاً.

فالقسم الأول كما إذا ورد دليلان، مضمون أحدهما وجوب شيء ومضمون الآخر حرمته. فيدل الدليل الأول بالدلالة الإلتزامية على انتفاء جميع الأحكام ما عدا الوجوب. ويدل الدليل الثاني على انتفاء جميعها أيضاً ما عدا الحرمة. وهما يتعارضان في الوجوب والحرمة. فالدليل الأول يثبت الوجوب والدليل الثاني ينفيه وهو بدوره يثبت الحرمة والدليل الأول ينفيها. ولكنهما يتوافقان في نفي سائر الأحكام فيختص تساقطهما بموردي التعارض ويبقيان حجتين في ما عداهما.

والقسم الثاني كما إذا ورد: «تجب صلاة الجمعة» وورد: «تجب صلاة الظهر» فلا يدل أحدهما على نفي الآخر بالدلالة الإلتزامية اذ لا تلازم ابتداء بين وجوب صلاة الجمعة وعدم وجوب صلاة الظهر وكذلك العكس. ولكنا حيث نعلم خارجاً عدم وجوب الأمرين معاً بمقتضى الأدلة الخاصة كان لازم صدق كل منهما خارجاً عدم صدق الآخر، فنفي الآخر من اللوازم الخارجية لصدق كل منهما. ومثل هذين الدليلين لا يدلان على انتفاء الثالث فان احتملنا عدم وجوب شيء منهما لا يمكن نفي هذا الاحتمال بهما.

و الأساس في هذه الفكرة هو الفرق بين المدلول الإلتزامي ولوازم المخبر به وان حجية الخبر في الأول لا تتبع حجيته في المدلول المطابقي في السقوط بخلاف حجيته في الثاني.

و لتوضيح ذلك لابد من تقديم أمرين:

الأمر الأول: ان الدلالة الإلتزامية التي هي من أنحاء الدلالات اللفظية تتقوم بان يكون المدلول لازماً بيّناً (بالمعنى الأخص) للمدلول المطابقي. ومعنى ذلك أن يكون تصور المدلول المطابقي مستلزماً لتصور اللازم. ولكي نأخذ فكرة واضحة عن الدلالة الإلتزامية نشرح الدلالة اللفظية بوجه عام:

كيف تنشأ الدلالة؟

دلالة اللفظ على معناه الموضوع له إنما تكون دلالة أُنسية، بمعنى ان كثرة استعمال اللفظ واخطار المعنى بأسباب أخرى كالإشارة توجب تلازماً ذهنياً بين اللفظ والمعنى بمقتضى قانون تداعي المعاني. واسباب التداعي ثلاثة:

  1. التشابه بين معنيين:

فاذا تصورنا شيئاً سواء كان بإخطار أحد او بسبب آخر فقد يؤدي ذلك إلى تصور أمر آخر مشابه له بموجب الذهنية الخاصة لنا وانعكاس التشابه في ذهننا.

  1. التضاد بين معنيين:

ففي مجال التصور كثيراً ما نتصور شيئاً وننتقل إلى ضده وفي مجال التصديق قد نسمع بقضية فننتقل إلى قضية أخرى موضوعها وحكمها ضدان للموضوع والحكم في القضية الأولى، فإذا سمعنا: الصلاة واجبة انتقلنا إلى قضية: ترك الصلاة حرام بالمعنى الأعم للحرمة.

  1. كثرة التقارن في الأحساس:

ولعل هذا السبب هو الذي يحصل في أكثر موارد تداعي المعاني بل ثبت بالتجربة انه يوجب التداعي حتى في إدراك الحيوانات. ومن هذا القبيل الانتقال من تصور اللفظ إلى تصور المعنى. ومن الخطأ ان نتوهم ان دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له ظاهرة طبيعية لوضع الواضع بل هي تنشأ من اخطار المعنى بسبب آخر كالإشارة مع التلفظ باللفظ الخاص وكثرة التقارن بين هذا التلفظ وذاك الاخطار في الاحساس.

وأما الدلالة الالتزامية أي دلالة اللفظ على لازم الموضوع له في الذهن فتختلف أسبابها. وكيفية نشوء هذه الدلالة ان اللفظ بموجب تداعي المعاني بالوجه المذكور يستوجب خطور المعنى المطابقي وهو بدوره قد يجلب معه إلى ذهن السامع معنى آخر بينه وبين المعنى المطابقي أحد أسباب التداعي الثلاثة. وبتكرر هذا الاستعمال الموجب لإخطار المعنى غير الموضوع له يتحقق بين هذا المعنى واللفظ تلازم ذهني منشأه كثرة التقارن في الإحساس فتسقط الواسطة بعد ذلك ولا يعود اللفظ في اخطاره للمعنى الثاني بحاجة إلى اخطار المعنى الاول. وهكذا يولد المدلول الإلتزامي للّفظ. وحينئذ يتحقق للفظ واحد مفرداً كان او جملة ظهوران مستقلان متلازمان.

ومن هنا يظهر أن الحكم بحجية الاخبار في مدلولاتها الإلتزامية من جهة تعدد الدلالة والحكاية. قال المحقق الخراساني: «ان الطريق أو الامارة كما يحكي عن المؤدى ويشير اليه كذا يحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها». () والمراد اللوازم البينة. والمحقق النائيني إنما قال هنا بحجية الخبر في مدلوله الإلتزامي و انها مستقلة عن حجيته في مدلوله المطابقي من باب تعدد الظهور أيضاً.

وأما لوازم المخبر به فهي ما لا يكون بينها وبين المدلول المطابقي تلازم ذهني، وإنما يوجد بينهما تلازم خارجي وهو اللزوم غير البين بمعنى ان تصور اللازم والملزوم والملازمة يوجب القطع باللزوم. واللفظ الدال على الملزوم لا يدل على اللازم.

الأمر الثاني: قد اشتهر بين الأصوليين ان الامارات حجة في لوازمها الخارجية ومداليلها الإلتزامية. أما حجيتها في المداليل الالتزامية فقد ظهر وجهها مما ذكرناه في الامر الأول. واما حجيتها في اللوازم الخارجية فقد تعرضنا لبيان وجهها في مبحث الأصل المثبت من تنبيهات الاستصحاب.

ومن الوجوه المذكورة هناك هو ان الامارة علم تعبدي من جهة ان الشارع اعتبر من قامت لديه الأمارة على شيء عالماً به فلو فرضنا انه كان يعلم به حقيقة فلا شك في أنه يعلم بتحقق لوازمه الخارجية أيضاً. فهناك تلازم بين العلم بالملزوم والعلم باللازم. وهذا التلازم في العلم الحقيقي ينعكس عند العقلاء في العلم الاعتباري. وعليه فلابد للشارع حيث اعتبر المكلف عالماً بالملزوم ان يعتبره عالماً باللازم لعدم الانفكاك بين الاعتبارين عند العقلاء. وهذا الوجه هو الذي يظهر من كلمات المحقق النائيني في ذلك المبحث.

وعلى هذا التقرير فحجية الامارات في لوازمها تستند إلى التلازم بين حجية الامارات فيها وحجيتها في مؤدياتها. وهذا بخلاف حجية الامارات في المدلولات الإلتزامية. فانها تستند إلى التلازم بين الظهورين واما حجية الامارة في كل من الظهورين فهي مستقلة عن الآخر.

وعلى ضوء ما ذكرناه من الأمرين يتبين ان السرّ في حجية الدليلين المتعارضين في مدلولهما الإلتزامي دون ملزومهما الخارجي هو تلازم الظهورين في الأول وتلازم الحجيتين في الثاني فحجية الامارة في لوازمها الخارجية وان كانت معترفاً بها إلا انها تابعة لحجيتها في المدلول المطابقي فتسقط حينما تسقط والمفروض في المقام سقوط الدليلين عن الحجية في المدلول المطابقي فتسقطان عن الحجية في الملزوم الخارجي أيضاً. وأما في المدلول الإلتزامي فلا تلازم بين الحجيتين. وعليه فيصح القول ببقاء حجية الدليلين المتعارضين في المدلول الالتزامي مع القول بسقوطهما في المدلول المطابقي.

نعم قد ينشأ تلازم بينهما من سبب خارجي كما اذ علمنا باتحاد منشأ الاشتباه في الظهورين وهذا خارج عن محل البحث.

وتلخص مما قدمناه ان نظرية المحقق النائيني بهذا التقريب تتركز على أسس ثلاثة:

أولا: ان الدليلين المتعارضين لكل منهما ظهوران متلازمان أحدهما في المدلول المطابقي والآخر في المدلول الإلتزامي. ولكل منهما أيضاً لوازم خارجية ليست مدلولة للّفظ.

ثانيا: ان دليل حجية الأمارة يشمل المدلول المطابقي والإلتزامي معاً. لأنها ظاهرة في كل منهما ولا تشمل اللوازم الخارجية. وإنما نلتزم بحجية الامارة فيها من جهة التلازم بين اعتبار الامارة حجة في الملزوم واعتبارها حجة في اللازم.

ثالثا: (وهذا بمنزلة النتيجة) ان كلا من الدليلين المتعارضين بعد سقوطهما في المدلول المطابقي يسقطان عن الحجية في اللوازم الخارجية للتلازم بين الحجيتين ولكنهما حجتان في المدلول الإلتزامي لان التلازم هنا بين الظهورين. والمفروض ان الامارة لم تسقط عن الظهور في المعنى المطابقي وإنما سقطت عن الحجية فيه.

وقد اعترض على هذا التقريب بعدة مناقشات:

المناقشة الأولى: انا نسلم تعدد الظهورات بالنسبة للمدلول المطابقي والمدلول الإلتزامي. إلا ان الضد المنفي بالدلالة الإلتزامية هو الحصة الخاصة من نفيه الملازمة لإثبات الضد الآخر في المدلول المطابقي وليس المنفي هو طبيعة الضد. فلو كان المدلول المطابقي وجوب شيء فالمدلول الإلتزامي هو نفي الإباحة ولكن لا مطلقاً بل حصة خاصة من النفي ملازمة للوجوب. وهو خلاف المقصود من نفي الثالث.

و الجواب عنها يظهر بملاحظة القانون الذي ذكرناه في كيفية تحقق الدلالة الإلتزامية وهو ان اخطار المعنى يستلزم خطور ضده في ذهن السامع بمقتضى تداعي المعاني مصحوباً بمحمول مضاد للمحمول في المدلول المطابقي وبمقتضى التلازم الذهني ينعقد ظهور اللفظ في المعنى الإلتزامي المذكور. وهذا القانون لا يناسب التحديد في المدلول الإلتزامي.

المناقشة الثانية: ان هذا التقريب يستلزم حجية الخبر في المدلول الإلتزامي حتى لو علمنا تفصيلاً بعدم مطابقته للواقع. وهذا مقطوع البطلان. والسرّ فيه تبعية الدلالة الإلتزامية للدلالة المطابقية في الحجية كما تتبعها في الوجود. ولا فرق في ذلك بين سقوط المدلول المطابقي عن الحجية للعلم التفصيلي بكذبه وسقوطه للعلم الإجمالي.

وبإمكاننا أن نستشهد على بطلان اللازم المذكور بمثال عرفي ومثال شرعي.

فلو فرضنا أن أحداً أخبرنا بسفر زيد نحو المشرق، وعلمنا باشتباهه في ذلك فهل يتوهم حجيته عرفاً في عدم سفره غرباً؟! فلو كانت القضيتان متعددتين بحسب مدلول اللفظ وكان هناك ظهوران له وكان حجة في كل منهما بحجية مستقلة كما هو المدعى في هذه النظرية لصحّ التمسك بالمدلول الإلتزامي حتى مع العلم بمخالفة الخبر للواقع.

ولو قامت البينة على أن ثوباً معيناً أصابه بول لدلت بالملازمة الشرعية على نجاسته فلو علمنا اشتباه الشاهدين في ذلك فهل يتوهم ان الثوب محكوم بالنجاسة لبقاء حجية البينة في المدلول الإلتزامي؟! مع ان مقتضى التقريب عدم الفرق بين الدلالة الإلتزامية والتصريح.

و الجواب ان السرّ في تبعية المدلول الالتزامي للمدلول المطابقي في السقوط عن الحجية في المثال العرفي المذكور هو وحدة المنشأ الإدراكي في القضيتين. وهي تقتضي التلازم في السقوط عن الحجية حتى لو كانتا قضيتين صريحتين. فلو أخبرنا أحد أن زيداً توجه شرقاً وصرح بانه لم يذهب غرباً ولا شمالاً ولا جنوباً وعلمنا بانه مشتبه في الخبر الأول وان بقية تصريحاته ناشئة من هذا الاشتباه حكمنا لا محالة بكذب الجميع. واما لو علمنا بتعدد المنشأ الإدراكي، كما إذا أخبرنا الطبيب بأن سبب الصفرة التي تعلو زيداً هو اليرقان ثم صرّح بانها لا تستند إلى السل، أو مرض القلب مثلاً وعلمنا بان نفيه للأخيرين يستند إلى تحاليل وتصاوير خاصة وعلمنا باشتباهه في الخبر الأول كان مقتضى اصالة عدم الاشتباه هو صحة إخباره في غيره. ولا فرق في ذلك بين تصريحه بنفي الاخيرين أو إخباره بالدلالة الإلتزامية.

ولو شككنا في وحدة المنشأ الادراكي وتعدده حكمنا بصحة ما عدا معلوم الكذب أيضاً بمقتضى اصالة عدم الاشتباه وسائر الأصول.

والحاصل ان ما نشاهده من التلازم بين عدم حجية المدلول الإلتزامي وعدم حجية المدلول المطابقي في اغلب الأمثلة العرفية سببه وحدة المنشأ الإدراكي.

ولو فرضنا ان الدليل الشرعي قد صرح بالمدلول الالتزامي كما إذا ورد: يجب الدعاء أول الشهر وليس بمباح مثلاً. وسقط المدلول الأول بالمعارضة مع دليل مصرح بالمدلول الثاني أيضاً كما إذا ورد: يحرم الدعاء أول الشهر وليس بمباح فلا إشكال في جواز التمسك بالجملة الثانية إلا ان يمنع من جريان اصالة الجد علمُنا بوحدة منشأ الإبراز كما إذا علمنا بأن منشأ الابراز في الجملتين هو التقية مثلاً.

ومع غض النظر عن ذلك ففي المثال العرفي المذكور سرّ آخر يمنع من إجراء أصالة عدم الاشتباه وهو غير موجود في الدليلين المتعارضين. بيانه:

ان أحداً لو أخبرنا بتوجه زيد شرقاً أفادنا بالملازمة عدة جمل سالبة:

زيد لم يتوجه غرباً، زيد لم يتوجه شمالاً، زيد لم يتوجه جنوباً، زيد لم يبق في مكانه.

فلو علمنا انه مشتبه في خبره بمعنى أننا علمنا خارجاً ان زيداً لم يتوجه شرقاً والمفروض ان المراد بكذب الخبر، الكذب الخبري لا المخبري وإلا تغير مجرى البحث اذ لا يبقى وثوق بخبره فلو علمنا انه مشتبه في خبره فقد تحقق علم اجمالي بكذب احدى الجمل السالبة فانه لو لم يتوجه شرقاً فهو قد توجه شمالاً أو جنوباً أو غرباً أو بقي في مكانه. وهذا العلم الإجمالي يمنع من إجراء أصالة عدم الاشتباه في المداليل الإلتزامية.

وفي هذا أيضاً لا يختلف المدلول الإلتزامي والقضية الصريحة فلنفرض ان المخبر صرّح بالجملات السالبة وأننا علمنا بعدم مطابقة الجملة الموجبة للواقع فالعلم الإجمالي المزبور بحاله. بل لا فرق في ذلك بين العلم بتعدد المنشأ الإدراكي ووحدته وعدم العلم بشيء منهما أيضاً.

وهذا العلم الإجمالي لا يوجد في الدليلين المتعارضين. فلو أخبرنا أحد بتوجه زيد شرقاً وآخر بتوجهه غرباً نعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع، إلا أننا لا نعلم إجمالاً بكذب احدى الجمل السالبة (زيد لم يتوجه شمالاً، زيد لم يتوجه جنوباً، زيد لم يبق في مكانه). وذلك لأننا لا نعلم إجمالاً صدق أحد الخبرين المتعارضين بل نحتمل ان يكونا كاذبين معاً فلا يتحقق العلم الإجمالي بكذب بقية الجمل السلبية ولا مانع من إجراء اصالة عدم الاشتباه في المداليل الإلتزامية.

وأما المثال الفقهي الذي ورد في المناقشة فالجواب عنه انا إذا علمنا وحدة المنشأ في الشهادة بإصابة البول والشهادة بالدلالة الإلتزامية بنجاسة الثوب كما هو الثابت في اشباه المثال فقد ذكرنا انه يمنع من التمسك حتى بالتصريح فلا ربط له بتبعية الدلالة الإلتزامية للدلالة المطابقية. وأما إذا علمنا تعدد المنشأ او احتملناه فالشهادة الثانية غير مقبولة لا لتبعية الإلتزام للمطابقة في السقوط بل لان الشرط في الشهادة ان يكون المشهود به امراً حسيّاً والطهارة والنجاسة لا تدخلان تحت الإحساس إلا أن ترجع إلى الشهادة على أمر حسّي.

المناقشة الثالثة: ان هناك فروعاً فقهية معترفاً بها عند الكل وهي لا توافق نفي الثالث مهما كان تقريبه وهي كما يلي:

الفرع الأول: لو كانت دار في يد زيد وادعاها عمرو وبكر وأقام كل منهما البينة على ان الدار له تعارضت البينتان في المدلول المطابقي وتساقطا الا ان لكل منهما مدلول التزامي وهو نفي ملكية الدار عن كل من عدا عمرو أو بكر فلو بقيتا حجتين في مدلولهما الإلتزامي كما هو المدعى لزم منه أمران لا يقول بهما فقيه ولا متفقه.

  1. يلزم منه ان لا تكون الدار لذي اليد (زيد).
  2. يلزم منه أن تكون الدار مجهولة المالك.

و الجواب عنه: اما عن اللازم الأول فهو صحيح ولابد من الإلتزام به وكل الفقهاء فيما نعلم يلتزمون به. ويستفاد من كلام المحقق النراقي في المستند، والسيد الطباطبائي في ملحقات العروة ان النص والفتوى متطابقان على ان البينتين في مثل ذلك لو تعارضتا ولم يكن لأحداهما مرجح ونكل المتداعيان عن الحلف فالمرجع هو القرعة ولم يقل فيما نعلم أحد ببقاء المال في ملكية ذي اليد.

وأما اللازم الثاني فهو غير لازم ومقتضى البينتين حصر الملكية في عمرو وبكر ونفيه عن جميع من عداهما وإنما تتعارضان في تعيين الملكية في أحدهما فكيف يلزم منه نفي الملكية عن الجميع حتى تكون الدار مجهولة المالك؟!

بل يمكن دعوى ان هذا الفرع شاهد على حجية الامارتين المتعارضتين في نفي الثالث. وذلك لتطابق النص والفتوى على القرعة مما يدل على عدم خروج الملكية عنهما وانه لا يعتنى باليد مع انها امارة بنفسها. ولكن هذا الشاهد لا يعين كيفية نفي الثالث من بين التقريبات المذكورة وغيرها. هذا وسيأتي الكلام حول الاستشهاد بهذا الفرع ان شاء الله تعالى.

الفرع الثاني:

لو شهد عادل بان الدار لزيد وشهد آخر بانها لعمرو لم تجز شهادتهما في المدلول المطابقي فان الشاهد الواحد بدون ضم اليمين لا يفيد في اثبات الحقوق المالية إلا أنهما يتوافقان في المدلول الإلتزامي وهو نفيه عن غيرهما فيتحقق الموضوع فيه وهو شهادة العدلين فلابد من الالتزام به ولا يلتزم به أحد.

و الجواب عنه أن هذا النقض يتوقف على أمرين في اعتبار الشهادة، لابد من ملاحظة أدلتها لاثباتهما:

  1. ان لا تختص الشهادة بالمداليل المطابقية بل تشمل المدلول الإلتزامي لما يشهد به الشاهد.
  2.  ان لا تختص الشهادة بما يكون بين لفظ الشاهدين تساوياً من حيث المدلول، بل تشمل ما لو كان بينهما عموماً وجه. فان المفروض في المقام ان الشاهد الأول ينفي الملكية عن جميع الناس ما عدا زيد فيشمل عمراً والآخر بالعكس فهما يتطابقان في نفي الملكية عما عدا زيد وعمرو ويتخالفان فيهما.

وهذان التعميمان لا يستفادان من إطلاق أدلة الشهادة. وتفصيله في محل آخر.

هذا مع أن الكلام فيما إذا تساقط المدلولان المطابقيان بالتعارض. واما النقض في الشهادة في هذا الفرع فهو من جهة أخرى وهذا خارج عن محل الكلام، ولا يرد به النقض.

الفرع الثالث:

لو كان دار في يد زيد وقامت البينة على انها لعمرو وأقرّ عمرو بانها ليست له فمقتضى بقاء المدلول الإلتزامي بعد سقوط الملزوم عن الحجية القول بأن الدار ليست لزيد (ذي اليد). وهذا لم يلتزم به أحد.

ووجه الملازمة ان اليد والبينة والاقرار كل منها امارة إلا أن أماريتها طولية شرعاً وعرفاً. فاليد وان كانت امارة على الملكية الا ان البينة تتقدم عليها. والبينة وان كانت امارة الا ان اقرار من له البينة على نفسه يتقدم عليها. وحينئذ فالبينة القائمة على ملكية عمرو للدار تسقط في مدلولها المطابقي بمقتضى اقرار عمرو. إلا ان لها مدلولا إلتزاميا وهو نفي الملكية عن غير عمرو وفي هذا المدلول لا يخالفها إلا اليد وهي متأخرة عنها في الحجية فلا تقاومها. وبذلك تسقط اليد عن الاعتبار وتبقى الدار بلا مالك.

و الجواب عنه: انه لابد من ملاحظة طولية الحجج عند العقلاء. فلو فرضنا ان الدار ليست تحت يد أحد وقامت البينة على ملكية عمرو لها وسقطت البينة في مدلولها المطابقي بإقراره فهل يلتزم أحد من العقلاء ان الدار لا مالك لها وليست من المباحات الأصلية أيضاً بمقتضى المدلول الإلتزامي للبينة لأن المدلول الإلتزامي لها ان الدار ليست لغير عمرو وليست من المباحات الأصلية؟!

من الواضح انه ليس كذلك فما هو السرّ هنا في سقوط المدلول الالتزامي تبعاً للمدلول المطابقي؟

السّر هو طولية الحجج فان المراد بها تقدم الامارة الفوقانية بمدلولها المطابقي والالتزامي على الامارة التحتانية بمدلولها المطابقي والإلتزامي. وعليه فإقرار عمرو بان الدار ليست له يدل بمدلوله الإلتزامي على ان الدار لغيره، وهذا المدلول الإلتزامي الإيجابي يتقدم على مدلول البينة الالتزامي السلبي وهو عدم ملكية غير عمرو للدار فينتج ان الدار لغير عمرو. و «غير عمرو» عنوان مبهم. واليد هي الامارة التي تتكفل رفع ابهامها وهي تعين المالك.

ولو فرضنا عدم الطولية بين المدلول الإلتزامي للإقرار والمدلول الإلتزامي للبينة، كانت النتيجة أيضاً ملكية ذي اليد. وذلك لأن المفروض ان الاقرار بمدلوله الإلتزامي يثبت ملكية الغير والبينة بمدلولها الالتزامي تنفيها فهما متعارضان في المدلول الالتزامي وبعد تساقطهما تبقى اليد بلا معارض.

هذا مضافاً إلى ان الاخذ بالمدلول الإلتزامي إنما يصحّ إذا لم يواجه حجة معارضة بمدلولها المطابقي. والمقام من هذا القبيل. وذلك لأن مقتضى الاقرار نفي الملكية عن عمرو. ومقتضى المدلول الإلتزامي للبينة نفي الملكية عن غير عمرو ونفي الاباحة الاصلية. والمفروض أننا نأخذ بالمدلولين فينتج عدم ملكية أحد للدار وعدم كونها من المباحات الأصلية وهذا مما قام الدليل على خلافه.

والحاصل ان البحث في مورد تعادل الحجتين لا في مورد طوليتهما في الحجية.

المناقشة الرابعة وهي مقتضى التحقيق في المقام:

ان المبنى الأساس لنظرية المحقق النائيني قدس سره في نفي الثالث هو تعدد الظهور في كل قضية لها مدلول التزامي وهذا غير صحيح. كما ان ما ذكره صاحب الكفاية من ان الامارة كما تحكي عن المؤدى كذا تحكي عن لوازمه وملزوماته غير صحيح أيضاً.

و توضيح المقام ان الدلالات على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الدلالة الاخطارية.

وهي الذي عبّرنا عنها في تقريب نظرية المحقق النائيني بالدلالة الانسية. وهي تنشأ بين اللفظ والمعنى المطابقي ثم بين المعنى المطابقي والمدلول الإلتزامي بالتلازم الذهني وقلنا هناك ان تكرار ايجاد اللفظ واخطار المعنى بسبب من الأسباب (كثرة التقارن في الاحساس) يوجب تلازماً ذهنياً بين اللفظ والمعنى. وبذلك ندرك المعنى كلما سمعنا اللفظ. وهذا أحد أنواع تداعي المعاني. وكذلك المعنى المطابقي يستدعي اخطار المعنى الإلتزامي في الذهن ويستتبعه طبقاً لقانون تداعي المعاني ايضاً اما بعلاقة التشابه أو التضاد أو كثرة التقارن في الاحساس. وهذا التلازم الذهني لا يلازم التلازم الخارجي فقد يكون بين المتلازمين ذهنا تفارق في الخارج. فبينهما عموم من وجه. وأما ما ذكر في المنطق من أن الدلالة الالتزامية إنما تختص باللازم البين بالمعنى الأخص فهو تخصيص بمورد اجتماع التلازمين. وهو وان كان من موارد الدلالة اللفظية الاخطارية الا انه قسم منها ولا يختص الاخطار به.

القسم الثاني: الدلالة التفهيمية.

والمراد بها حكم السامع بان المتكلم يقصد بكلامه تفهيمه. وتتقوم بأمرين:

  1. احراز ان لا يكون المتكلم ساهياً أو غافلاً.
  2. احراز عدم ما يوجب صرفه عن تفهيم المقاصد.

وهذه الدلالة تختص بالمدلول المطابقي فالمتكلم وان كان عالماً بأن السامع ينتقل إلى لوازم كلامه الا ان المقصود بالتفهيم قد يكون مختصاً بالمدلول المطابقي ولا ضرورة في ان يكون لازم الكلام سواء كان لازماً ذهنياً أم خارجياً مراداً بالإرادة التفهيمية.

ومنشأ هذه الدلالة ان العلة الغائية للتكلم ليس إلا قصد التفهيم فيحكم به بعد إحراز عدم السهو والغفلة وعدم ما يمنع منه.

القسم الثالث: الدلالة التصديقية.

والمراد بها حكم السامع ان المتكلم مضافاً إلى إرادة التفهيم جاد في كلامه بمعنى انه ملتزم بجميع ما يفيده الكلام بحسب الظهور العرفي وانه ليس هازلاً أو مستهزئاً. وهذه الدلالة أخص من الدلالة السابقة.

ثم ان الكلام بعد اشتماله على مقومات الدلالتين التفهيمية والتصديقية يقع موضوعاً للحكم بالحجية. ومنشأ هذا الحكم هو الميثاق الإجتماعي فان العقلاء يرون من لوازم حضارتهم انشاء مواثيق وعهود اجتماعية في محادثاتهم ومعاملاتهم وسائر علاقاتهم.

ومن تلك المواثيق أنّ كل انسان عاقل إذا صدر منه الكلام مشتملاً على الشرائط الآتية فهو مأخوذ بمدلوله المطابقي وبما يستلزمه من لوازم سواء اخطرها بالبال فتكون من اللوازم الذهنية أو لم يخطرها فتكون من اللوازم الخارجية. وسواء قصد تفهيمها أم لم يقصده أم قصد عدم تفهيمها.

ويشترط الحكم بالحجية بإحراز ثلاثة أمور ولو بالأصل:

  1. ان لا يكون المتكلم ساهياً أو غافلاً.
  2. ان لا يكون متأثرا بما يصرفه عن قصد التفهيم.
  3. ان يكون جاداً في كلامه.

ولولا هذا الميثاق لاختل نظام المجتمع. اذ يمكن بدونه لكل من كان طرفاً لعقد او معاهدة ان يدعي الهزل والمزاح وغير ذلك.

فتبين بما ذكرنا ان حجية الكلام في لوازمه لا تتبع تعدد الظهور وان تعدد القضية يتبع تعدد قصد التفهيم وهو غير متعدد في المدلول المطابقي والإلتزامي. وتبين أيضاً ان ما ذكره المنطقيون من الدلالة الالتزامية إنما هي نوع من الدلالة الاخطارية وهي ليست موضوعاً للحجية. وأن الحجية تدور مدار الملازمة الخارجية. وان مجرد الاخطار لا يوجب ظهوراً مستقلاً.

وبعد أن تبين لنا موضوع الحجية عند العقلاء نلاحظ انهم لا يوافقون على التفكيك بين حجية الملزوم وحجية اللازم الا في موارد خاصة، نذكر من باب المثال مورداً واحداً:

قد اشتهر بين الأصوليين ان الامر إذا دار بين التخصيص والتخصص حمل على التخصيص. وهذا يبتني على أساس التفكيك بين الحجيتين. و توضيح ذلك إجمالاً:

انه لو ورد عام نحو: «كل عالم يجب اكرامه». وعلمنا بعدم وجوب اكرام زيد العالم، فهل يمكن الحكم بانتفاء عنوان العالم عنه بدعوى ان عكس نقيض القضية السابقة هو «كل من لا يجب اكرامه فليس بعالم» أم لا؟ الصحيح هو الثاني. ومنشأه التفكيك بين حجية القضية الأصل وعدم حجية القضية العكس، مع انها لازمها الخارجي.

ولكن هذا تابع لميثاق آخر من المواثيق الاجتماعية. وتفصيله في محله. وأما في أكثر الموارد فالمرتكزات العقلائية لا تساعد التفكيك بين حجية الكلام في مدلوله المطابقي وحجيته في لوازمه سواء كانت بينة أم غير بينة وسواء كان الكلام خبراً أم انشاءاً.

وبعد الاعتراف بهذا الميثاق إذا علمنا بسبب التعارض أو أمر آخر ان الكلام فاقد لاحد الشروط السابقة لم يمكن الحكم بالحجية لعدم تحقق موضوع الميثاق الاجتماعي.

1.3.1.3 

فتحصل من مجموع ما قدمناه في تقريب القول بنفي الثالث:

ان كل ما ذكروه من وجوه التقريب غير صحيحة أساساً الا وجهين منها فانهما يتوقفان على تأييد الشواهد العقلائية وهما:

  • حجية أحد الدليلين المتعارضين لا على التعيين. وهي المحاولة السادسة.
  • حجية كل واحد بشرط ان لا يكون الآخر مخالفاً للواقع وهي المحاولة الثانية.

فلابد اذن من ملاحظة الشواهد العقلائية أو الشرعية. وقبل ذكرها والبحث عنها نشير إلى مقتضى القاعدة في التعارض على مسلكنا الخاص. و لهذا الغرض نقسّم موارد التعارض إلى قسمين ونبحث عن كل منهما مستقلاً:

القسم الأول: التعارض بين الظهورين.

بمعنى أن لا يكون بين الدليلين تعارض كلي وانما الذي اوجب التعارض بينهما هو الالتزام بحجية الظهور في كل منهما وبالإمكان رفع التعارض برفع اليد عن أحد الظهورين أو كليهما.

ولكي نتمكن من توضيح موقفنا الخاص نذكر ان حجية الظواهر عندنا من باب الموضوعية لا الكاشفية، خلافاً للقوم حيث اعتبروا الظواهر كاشفة عن المراد الواقعي. وقد ذكرنا في مبحث حجية الظواهر وأشرنا إليه في نقد نظرية المحقق النائيني ان حجية الظواهر ليست إلا تعبيراً عن حكم العقلاء بموجب المواثيق الاجتماعية الإرتكازية بان المتكلم ملزم بظاهر كلامه وبلوازمه إذا تم موضوع الميثاق وهو يتم بإحراز ان يكون المتكلم ملتفتا إلى كلامه جاداً فيه قاصداً لتفهيم معناه وإن تم إحراز ذلك بالأصل.

وعليه فالتعارض بين الظهورين يتوقف على عدم تشخيص موضوع الميثاق من بين الدليلين الظاهرين ولو من باب عدم إمكان الجمع الدلالي الموجب لاستكشاف المراد الواقعي.

وفي مثل ذلك مقتضى القاعدة التساقط وعدم الاخذ بشيء منهما للشك في شمول البناء العقلائي الموجب للشك في تحقق موضوع الميثاق ولم نجد في المرتكزات العقلائية ما يشهد بالاعتناء بهما في هذا المورد الا ما ربما يقال في مورد واحد وهو:

انه لو خصّص عام بمخصص جزئي مردد بين متباينين فانا نجد في ارتكازنا حجية العام في أحدهما. مثلا: لو ورد: «كل عالم يجب اكرامه» ثم ورد «لا يجب اكرام زيد» وتردد زيد بين زيد بن خالد وزيد بن عمرو. والمفروض انطباق عنوان العالم عليهما. وحيث ان العام ينحل بحسب افراد الموضوع الى ظهورات متعددة ونعلم من المخصص عدم حجية أحد الظهورين: «أكرم زيد بن عمرو» و «أكرم زيد بن خالد» فيتعارضان ويتساقطان ومقتضى ذلك عدم وجوب اكرامهما معاً مع انا نجد من أنفسنا وجوب اكرام أحدهما فهذا شاهد على ان الظهورين المتعارضين لا يمكن إلغاؤهما معاً.

ولكن هذا ايضاَ لا يعتبر شاهدا وذلك لان السّر في شهادة الوجدان بوجوب اكرام أحدهما هو العلم بان عموم أكرم العلماء لم يخصص الاّ بزيد واحد هو المراد الواقعي للمولى فأحد هذين مما نعلم بانه يشمله العام دون المخصص فهو ممن يجب اكرامه فمنشأ العلم بوجوب اكرام أحدهما هو شمول العام لا الظهوران الانحلاليان المتعارضان.

القسم الثاني: التعارض بين الخبرين.

وهنا ايضاَ لابد من ملاحظة دليل حجية الخبر وحدود سعته لتشخيص ما هو الحجة من الاخبار. وقد انتهينا في مباحث حجية الخبر الى حجية الخبر الموثوق بصدوره المعبر عنه بالصحيح القدمائي. فالحجة عندنا من بين الاخبار ما يوثق بصدوره بملاحظة الاعتماد على الكتاب الناقل للخبر ووثاقة الرواة في سنده ومطابقته لفتاوى القدماء للاطمئنان بعدم التحريف وموافقته للكتاب والسنة وغير ذلك من موجبات الوثوق مع انتفاء ما يوجب عدم الوثوق بصدوره كاضطراب المتن وغرابته ومخالفته للكتاب والسنة واختلاف النسخ زيادة ونقيصة الموجب لعدم الوثوق بصدور الزائد ونحو ذلك.

وعليه فاذا كان كل من الدليلين بنفسه واجداً لملاك الحجية وهو الوثوق بالصدور كما هو المفروض فتساقطهما بالتعارض يبتني على تأثير التعارض في زوال ملاك الحجية اي الوثوق بالصدور نظراً الى العلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع. وبإمكاننا منع ذلك بإحدى محاولتين تختص كل منهما ببعض الموارد:

المحاولة الأولى: دعوى بقاء الوثوق بصدورهما معاً باعتبار أن التعارض المشهود ليس الا ناشئاً من عجزنا عن الجمع الدلالي بينهما ومنشأ العجز عدم الإحاطة بالأسباب الواقعية الموجبة لاختلاف الأجوبة من المعصومين عليهم السلام.

وسيأتي في الفصل القادم ان شاء الله تعالى البحث عن هذه الأسباب بمقدار وسعنا واستقراءنا. ونتيجة هذا البحث انا نعترف بأن أكثر الاختلافات المشهودة بين الأحاديث انما هي اختلافات في مجال ابراز الحكم ولا تعبر عن اختلاف واقعي ولا عن كذب أحد الخبرين.

ومن الواضح ان هذه المحاولة تختص بما إذا لم يحصل لنا العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع بعد ملاحظة ما ذكرنا من اسباب اختلاف الاجوبة.

المحاولة الثانية: دعوى حصول العلم الإجمالي او الاطمئنان بصدور أحدهما وذلك اما بملاحظة القرائن الخاصة واما من باب تجمع الاحتمالات في المحور الواحد نظير ما يحصل في التواتر الإجمالي.

توضيح ذلك انه لو أخبرنا أحد بمجيء زيد وآخر بمجيء عمرو وهكذا تجمعت اخبار ولا يفيد كل منها الوثوق بمضمونه إلا انها تجتمع في مضمون اجمالي وهو مجيء أحد من المذكورين وكل من الاخبار يؤثر في تحقق الاحتمال بالنسبة إلى مضمونه. وتجمعها في المضمون الإجمالي يوجب تجمع الاحتمالات فيه فقد يحصل الاطمئنان وقد يحصل العلم بتحقق المضمون الإجمالي. وهذا ما نطلق عليه التواتر الإجمالي.

وفي محل البحث لو فرضنا ان كلاً من الخبرين سقط عن الوثوق بصدوره الاّ انه يبقى فيه احتمال قوي ومع ضم الاحتمال في الخبر الآخر وتجمع الاحتمالين في محور (صدور أحدهما) قد يحصل الاطمئنان بل يحصل العلم بصدوره ويكفي هذا العلم الإجمالي في منع تساقطهما.

وأما بناءً على القول بحجية خبر الثقة كما هو المشهور بين المتأخرين فمقتضى القاعدة التساقط الا ان تقام الشواهد على اعتبار الخبرين مؤثرين في الجملة عرفاً أو شرعاً. وبهذا الصدد نذكر بعض الشواهد وندرسها:

الشاهد الأول: قد مرّ في مناقشة نظرية المحقق النائيني فروع فقهية زُعم انها تنافي القول بنفي الثالث واحتملنا في الفرع الأول ان يكون شاهداً على نفي الثالث وهو:

انه لو تعارضت بيّنتان في ان الدار لزيد أو لعمرو فقد اتفق الفقهاء والنصوص ان المال بعد فقدان المرجح يوزع بينهما بالتنصيف في بعض الموارد وفي بعضها يدفع لمن يخرج باسمه السهم في القرعة. وهذا الحصر في الملكية بينهما يدل على نفي الامارتين المتعارضتين للثالث.

ولكن الاستشهاد به مشكل من جهة ان مورد فصل الخصومات لا يقاس بمورد استكشاف الأحكام لما نشاهده من الفرق الكبير بين الموردين شرعاً وعرفاً فالقوانين المدنية والشرعية في القضاء تحتوي على نوع من التوسعة في استكشاف الواقع لا يمكن الاعتماد عليها في استكشاف الأحكام. وقد تشتمل على تضييق لا يمكن الوقوف عنده في استكشاف الأحكام.

فمن القسم الثاني خبر الثقة بناءً على حجيته في الأحكام. ومن المعلوم ان خبر الواحد لا يعمل به في القضاء وان كان في الحقوق المالية.

ومن القسم الأول الحلف منضماً إلى الخبر أو منفرداً في بعض الموارد فانه يعتبر من أسس القضاء مع انه لا يؤثر شيئاً في استكشاف الأحكام وسائر الواقعيات.

ومنه تعارض البينتين فلو تداعى شخصان في دار وأقاما البنية وادعاها آخر بلا بينة فلا شك ان البينتين تمنعان الثالث ولكن ذلك لا يعني ان الامارتين المتعارضتين تنفيان الثالث في استكشاف الأحكام أيضاً.

الشاهد الثاني: الروايات الدالة على التخيير في مورد التعارض كقوله عليه السلام «بايهما اخذت من باب التسليم وسعك» والمحدث الكليني قدس سره قد تمسك بها في مقدمة الكافي.

ولكن سيأتي في الفصل المختص بالأخبار العلاجية ان هذه الروايات لا اعتماد عليها اما سنداً واما دلالة واما من كلتا الجهتين.

الشاهد الثالث: اتفاق الفقهاء في اختلاف المقومين في تعيين ما به التفاوت بين الصحيح والمعيب ان قوليهما لا يسقطان عن الاعتبار بالكلية وان اختلفوا في طريقة تعيين القيمة بعد التعارض. فمنهم من قال بوجوب الرجوع إلى الأقل تمسكاً بالبراءة في الزائد عليه. ومنهم من قال بوجوب الرجوع إلى القرعة. والمشهور وجوب الجمع بين القولين. وكل الاقوال تجتمع في عدم تساقط القولين.

واختلفوا أيضاً في تفسير الجمع الذي ذهب اليه المشهور اذ لا مجال للجمع الدلالي. فقال جماعة ان الجمع بينهما انما يتحقق بتوزيع الحجية على القولين، فكل منهما حجة في النصف فاذا قوم أحدهما داراً بألف وقوّمها آخر بثمانمائة، فنصفها يقوّم بخمسمائة والنصف الآخر بأربعمائة. وذهب الشهيد قدس سره إلى قول آخر وهو ملاحظة التفاوت بين القيمتين. ولسنا الآن بصدد تفصيل هذه الأقوال. وإنما أردنا الاستشهاد بما تجتمع فيه الاقوال وهو الاعتناء بالقولين مع تعارضهما.

ولدراسة هذا الاستشهاد لابد لنا من توضيح اجمالي للتسعير. ولعلّ ذلك يحلّ بعض المشكلات في باب الارش أيضاً وهو:

أن الشيخ قدس سره ومن تأخر عنه ذكروا ان التسعير إخبار عن امر واقعي هو القيمة وبذلك يدخل تسعير المقومين في الخبرين المتعارضين إذا كان كل منهما حائزاً لشرائط الحجية. ولهذه الفكرة جذور في علم الكلام لا يهمنا ذكرها. وهذا هو منشأ عدول المتأخرين عن رأي المشهور في اختلاف المقومين.

ولكن الصحيح ان التسعير أمر موضوعي لا طريقي والقيمة ليست أمراً واقعياً وإنما هو أمر اعتباري. ويساعد ذلك كلمات أهل اللغة أيضاً ففي مجمع البحرين: قوّمه: جعل له القيمة. وفي المنجد: قوّم المتاع: جعل له قيمة معلومة. ومثله تماماً في أقرب الموارد. فالتقويم هو جعل القيمة لا الاخبار عنها. وبما أن القيمة أمر اعتباري فلابد في تحققها من اعتبار العقلاء ايّاها.

وكيفية اعتبار العقلاء في موارد التسعير هو أن المقوّم الذي قد قوي حدسه بالنسبة إلى سعر السلعة الخاصة لاختصاصه بها نحو اختصاص يلاحظ متاعاً معيّناً بما فيه من مميّزات تزيد في الرغبات وبما للناس إليه من حاجة في شأن من شؤون الحياة، وبما يحتاج تحصيله من بذل للجهد وبملاحظة التنافس عليه وبشؤون أخرى متعلقة به، ثم يعتبر له قيمة خاصة. و يوافقه العقلاء في ذلك، بمعنى انهم يعتبرون وفقاً لاعتباره فتكون القيمة قيمة عقلائية.

ولو اختلف مقومان أو أكثر في عملية التسعير فلا بد لاستخراج القيمة العقلائية من مراجعتهم، والظاهر بناءهم على اعتبار معدّل القيمتين قيمة للمتاع.

والنتيجة وان اتحدت مع القول بحجية كل من القولين في النصف الا ان السرّ فيه هو استخراج معدل القيمتين لا توزيع الحجية حتى يكون منشأ للإشكال. كما صنعه الشيخ وتبعه من تأخر عنه.

والحاصل ان القيمة تختلف باختلاف الأنظار ولا تختلف فيها الأنظار اذ ليست من الأمور الواقعية. وبذلك يظهر ان الحق في المسألة السابقة هو رأي المشهور وان المسألة لا ترتبط بتعارض الأمارتين فلا يمكن الاستشهاد بها.

وبعد سقوط الشواهد فالمهم في نفي الثالث هو حصول الوثوق بموافقة أحد الخبرين للواقع بلحاظ تجميع القرائن، كما ذكرنا.