مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة عبس سورة مكية تتناول في مقطعها الاول امرا مهما يعتبر من اسس الرسالات وهو أن الاهتمام في الرسالة انما هو بتزكية الانسان مهما كانت مكانته الاجتماعية فرسالة السماء لا تتبنى تشكيل حزب ولا حكومة ولا تاسيس نظام اقتصادي او سياسي ولا تدعو الى مشروع اجتماعي وان كانت ربما تشتمل على بعضها ولذلك لا تهتم رسالة السماء بالشخصيات الاجتماعية او اصحاب المال والسلطة الا بمقدار ما تهتم باي واحد من البشر.

ثم تتعرض السورة بعد هذا المقطع للتنديد بالانسان الكافر بربه ولتحذيره من يوم القيامة وأهوالها.

وقد روت العامة في شأن نزول الآيات الاولى من السورة روايات كثيرة تدل على أنها نزلت في عبدالله ابن أم مكتوم الأعمى وأنه أتى رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم وعنده رجل او رجال من عظماء المشركين فجعل يقول يا رسول الله أرشدني او قال علّمني مما علّمك الله او اخذ يستقرئ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم آية من القرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرض عنه ويقبل على المشركين فيقول لهم أليس حسنا أن جئت بكذا وكذا فيقولون بلى والله او يقبل على بعضهم ويقول أترى بما أقول بأسا؟ فيقول لا. ففي هذا اُنزلت.

وورد في بعض الروايات ذكر عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة في من كان عند الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

وورد في بعضها أنه لما جاء عبدالله ورآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كره مجيئه وقال في نفسه يقول هذا القرشي انما أتباعه العميان والسفلة والعبيد فعبس في وجهه.

وفي بعضها أنه لما نزل فيه ما نزل أكرمه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وكان يقول له: ما حاجتك؟ هل تريد من شي؟

وفي بعضها أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان إذا رآه قال (مرحبا بمن عاتبني فيه ربي) وانه استخلفه على المدينة مرتين.

وفي بعضها أنه ما رئي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بعد هذه الآية متصدّيا لغني ولا معرضا عن فقير.[1]

ولنا على هذا النقل بصورة عامة عدة ملاحظات:

الاولى: ان الروايات المذكورة قد اختلفت في من كان يحدثه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأنه كان واحدا او اكثر مع ان الحادثة واحدة.

والغريب ان المنقول عن عائشة وحدها مختلف في ذلك فقد ورد في نقل الترمذي وقد حسّنه وفي نقل الحاكم وقد صحّحه وكذا في صحيح ابن حبّان أنّ الذي كان عنده صلى اللّه عليه وآله وسلّم رجل من عظماء المشركين.

وفي حديث آخر رواه الحاكم عنها وصححه ايضا وكذا في نقل ابن مردويه عنها ان الذي كان عنده صلى اللّه عليه وآله وسلّم عتبة وشيبة.

وفي نقل آخر لابن مردويه وابن منذر عنها ايضا انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان في مجلس فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة.

وفي رواية انس انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يكلم ابي بن خلف.

وفي رواية ابن عباس انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يناجي عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبا جهل بن هشام.

وفي رواية الضحاك انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لقي رجلا من أشراف قريش فدعاه إلى الإسلام فأتاه عبد الله بن أم مكتوم فجعل يسأله عن أشياء من أمر الإسلام فعبس في وجهه.

وفي نقل مجاهد انه كان صنديدا من صناديد قريش.[2]

وهذا الاختلاف بنفسه يضعف الاعتماد على هذه الرواية لوفرضت صحة الاسانيد ونحن لا نعتقد بصحتها طبعا ويلاحظ أنها لم ترد في الصحيحين مع أنه لا يهمّنا ايضا.

الملاحظة الثانية: أنّ هذه السورة بناءا على هذه الروايات من أوائل السور المكية اي قبل ان يستفحل الامر على قريش فانهم ما كانوا بعد ذلك يحضرون عند الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ووقعت بينهم القطيعة وعليه فعائشة التي تروي هذه الحادثة لم تكن موجودة حينها او كانت صغيرة لم تحضرها ولم تسمع بها في نفس التاريخ فهي ترويها عن شخص آخر غير مذكور.

واما ابن عباس فقد ولد قبل الهجرة بثلاث سنين فلم يكن موجودا حين الحادثة قطعا. واما أنس بن مالك فهو من اهل المدينة وكان ابن عشر سنين حين الهجرة.

والحاصل أن الرواية بجميع طرقها مرسلة بحذف الواسطة.

الملاحظة الثالثة: أن هذه القصة تنافي ما هو معلوم من أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الرفيعة وقد وصف الله تعالى خُلقه الكريم بقوله (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[3] وما أعظم ما يستعظمه الله تعالى؟! فكيف يلائم ذلك هذه المواجهة؟!

بل إن هذا ينافي العصمة فالرسول وظيفته إرشاد الجاهل وتعليم المستعلم خصوصا اذا كان أعمى لا يستطيع بنفسه الوصول الى ما يجب ان يصل اليه.

بل إن عامة الناس عادة لا يألون جهدا في مساعدة ذوي الاعاقة فكيف بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم؟!

والقوم لا يتورعون من الاعتراف بشدة العتاب في الآيات قال في الكشاف (وفي الإخبار عما فرط منه ثم الإقبال عليه بالخطاب دليل على زيادة الإنكار كمن يشكو إلى الناس جانيا جنى عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجها له بالتوبيخ وإلزام الحجة. وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك كأنه يقول: قد استحق عنده العبوس والإعراض لأنه أعمى، وكان يجب أن يزيده لعماه تعطفا وترؤفا وتقريبا وترحيبا).

ما أقبح هذا القول من مسلم يعتقد برسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟!

وهناك محاولات لتوجيه القصة ودفع هذا الاشكال عنها:

المحاولة الاولى: أنّ الاعمى لا يختلف عنده العبوس وعدمه فهو لا يتأثر من عبوسه وإعراضه صلى الله عليه وآله وسلّم.

وهذا باطل قطعا أوّلا لأنّه كان يطلب باصرار ان يقرئه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم شيئا من القرآن او يعلّمه أمرا من دينه وهو لا يردّ عليه ولا يستجيب طلبه بل يكلّم المشرك! والاعمى يسمع ما يدور بينهما.

وثانيا من جهة أن الحاضرين ومنهم ذلك المشرك يرون هذا العبوس فيكون تحقيرا له عند غيره وهو أقبح خصوصا مع حضور المشرك.

وثالثا لو كان كما ذكر فلماذا هذا العتاب الشديد؟!

المحاولة الثانية: أن الرجل كانت له علاقة خاصة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وقيل انه كان من ارحام السيدة خديجة عليها السلام ولذلك كان يدخل في دار الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بعد الهجرة مع حضور امهات المؤمنين فكان يأمرهن بالتحجب فمن الممكن أن يحمل هذا العبوس والاعراض على هذه العلاقة الخاصة وانه لذلك ما كان يتأذى من إعراض الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

وهذا ايضا واضح البطلان اولا لان هذا الاختصاص كان بين الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والمؤمنين جميعا ولم يكن ذلك موجبا لعدم رعاية الآداب الاجتماعية.

وثانيا انه حتى لو فرض عدم تأذيه من فعل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كما هو الحال في غيره ايضا الا أنه لا يبرر صدور الفعل منه صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

وثالثا لو كان كذلك لم يعاتبه الله تعالى على ما ورد في هذه الروايات كما مر في الوجه الاول.

المحاولة الثالثة: أن مضمون الآيات ليس معاتبة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فهو قد عمل بما هو مقتضى الحكمة لدعوته ولصالح المؤمنين فأراد ان يستميل هؤلاء العتاة المردة ليكفّوا ــ على الاقل ــ شرهم عن المسلمين. والآيات انما نزلت لييأس الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من هؤلاء وأن لا يخاف كيدهم وشرّهم وأن يطمئنّ بأنّ الله تعالى يدفع كيدهم وشرّهم ويرفع راية الاسلام رغما على انوفهم.

وهذا ايضا غير صحيح فالعتاب واضح في الآيات. وهذه الروايات لو صحت فانها تصرّح بالعتاب بل فيها أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يكرمه بعد ذلك دائما وكلما رآه ويقول: ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ وفي بعضها أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يقول (مرحبا بمن عاتبني فيه ربي).

وهناك اربع ملاحظات اخرى تتبين من خلال تفسير الآيات ان شاء الله تعالى فتكون مجموع الملاحظات سبعة.

وفي المقابل روى الشيعة أن المعني بذلك رجل من بني امية وفي التفسير المنسوب الى علي بن ابراهيم (نزلت في عثمان وابن أم مكتوم وكان ابن أم مكتوم مؤذنا لرسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم وكان أعمى وجاء إلى رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم وعنده أصحابه و عثمان عنده، فقدّمه رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم عليه فعبس وجهه وتولى عنه فأنزل الله عَبَسَ وَتَوَلَّى.. يعني عثمان)‏.

وقال الشيخ الطوسي قدس سره في التبيان بعد الرد على الرواية المنقولة عن العامة: (وقال قوم: إن هذه الآيات نزلت في رجل من بني أمية كان واقفاً مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلّم فلما أقبل ابن أم مكتوم تنفّر منه وجمع نفسه وعبس في وجهه وأعرض بوجهه عنه فحكى اللَّه تعالى ذلك وأنكره معاتبة على ذلك).

وفي مجمع البيان نقلا عن الشريف المرتضى قدس سره (قد روي عن الصادق عليه السلام أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه).

ولكن لم يذكر الطبرسي رحمه الله مستنده والموجود في تنزيه الانبياء هكذا: (وقد قيل إنّ هذه السورة نزلت في رجل من أصحاب رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان منه هذا الفعل المنعوت فيها ونحن وان شككنا في عين من نزلت فيه فلا ينبغي ان نشكّ في أنها لم يعن بها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم..).

ومهما كان فهذه الرواية ايضا مرسلة ولا اعتماد عليها ونعم ما قال الشريف المرتضى قدس سره أنّ الامر مشكوك ولكنه مهما كان فاسناده الى الرسول المعصوم صلى اللّه عليه وآله وسلّم غير صحيح قطعا.

 

عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى...

(عبس) أي قطّب ما بين عينيه وأظهر الكراهة في وجهه. ويقال رجل عابس الوجه اي غضبان كما ورد في كتاب العين.

والتولي: الاعراض. وأصله الولاية بمعنى القرب والمتابعة وكون الشيء بعد شيء آخر ولكنه اذا عدّي بـ (عن) أفاد العكس فيكون التولي عن شيء بمعنى التباعد عنه ولا يعني هنا الابتعاد في المكان بل الاعراض عنه استخفافا به. ولا بدّ من تقدير (عن) هنا وتقدير من اعرض عنه ايضا.

ويعلم من السياق أن الذي اعرض عنه هو الاعمى وانما لم يذكر لدلالة السياق فالتقدير (وتولى عن الاعمى أن جاءه). و(أن) تعليل للاعراض اي لأن جاءه.. و(أن) مخففة من المثقلة اي لأنه جاءه اي جاء عنده.

وظاهر الآية أنّ الذي عبس وتولّى شخص آخر غير الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فانه هو المخاطب فلو كان العابس المتولي هو الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لكان بصيغة الخطاب (عبست وتوليت أن جاءك الاعمى).

وهذه ملاحظة رابعة على القصّة الملفّقة ولكنّ القوم حاولوا توجيه الآية لتوافق القصّة وقد مرّ كلام الزمخشري في توجيهها بأن ضمير الغائب يفيد زيادة الانكار فان الانسان اذا جنى عليه أحد يوجّه الخطاب أوّلا الى سائر الحاضرين ويشكوه بأنه جنى عليه بكذا وكذا ثم يعود الى مخاطبته والتنديد به.

وهذا كلام غريب جدا لا يصدر الا عن مثل الزمخشري الذي عهدناه في مواضع عديدة قليل الادب مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كما مرّ في تفسير الآية الاولى من سورة التحريم. وكيف يمكن أن يخاطب الله الناس تنديدا بالرسول الحبيب صلى اللّه عليه وآله وسلّم؟! وأين العصمة؟! وأين الخلق العظيم؟!

وقال الآلوسي (وفي التعبير عنه عليه الصلاة والسلام بضمير الغيبة إجلال له صلّى اللّه عليه وسلم لإيهام أنّ من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه صلّى اللّه عليه وسلم مثله..).

وهذا أغرب اذ لا يلاحظ فيه أي إجلال بل حتى لو أفاد هذا الايهام فمعناه أنه لا يتوقع منه ذلك وليس فيه إجلال بل تقبيح وتنديد.

مع أنه نقل كلام الزمخشري كوجه آخر ولم يردّ عليه ولو صحت الرواية وأمكن صدور مثل هذا الفعل من الرسول المعصوم صلى اللّه عليه وآله وسلّم لكان ما ذكره الزمخشري هو الوجه المقبول والمتبادر. فأين تذهبون؟؟!!

وقال ابن عاشور (لمّا كان صدور العتاب من اللّه لنبيه صلى اللّه عليه وسلم لم يشأ اللّه أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام فوجّهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثا على أن يترقب المعنيّ من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب، وهذا تلطف من اللّه ليقع العتاب في نفسه مدرّجا وذلك أهون وقعا).[4] وهذا ايضا لا يختلف عن سابقه.

والحاصل أن المنصف ان كان خالي الذهن عما تلقيه هذه الرواية الملفقة المكذوبة لا يكاد يشكّ من ملاحظة الآيتين أنّ المعنيّ بالعتاب شخص آخر كان حاضرا محضر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فجاءه الاعمى وجلس عنده فتقزّز منه كما يفعله كثير من اصحاب المال والجاه اذا جلس الفقير بجانبهم في مسجد او مجلس.

ولكن ربما يوهم ما يتعقبهما من الآيات التي تخاطب الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم خلاف ذلك فلا بد من ملاحظتها.

 

وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى...

استفهام انكاري اي ليس هناك شيء يخبرك عن حال هذا الاعمى الذي احتقرته وأعرضت عنه فلعله يزّكّى اي يتزكّى. والتزكّي من الزكاة اي الطهارة والمراد طهارة النفس من أنحاء الرجس كالشرك والكفر والنفاق والاثم والبغي ونحوها.

وتزكية الانسان بوجه عام هو الهدف الاسمى من الرسالات. والترديد بينها وبين التذكر من جهة أنه هدف ثانوي فان لم يتمكن الانسان من التزكية التامّة وهي لا تحصل بالطبع الا للأوحدي من الناس فلعله يتذكّر مما يسمع من آيات الله تعالى فتنفعه الذكرى اي التذكير ومعناه أنه ينتفع من هذا التذكير ولو نفعا جزئيا فيترك بعض المعاصي او يأتي بما يجب عليه فينتفع به في الآخرة.

وقوله تعالى (وما يدريك..) بصيغة المضارع يدل على أنه لا يوجد ما يوجب علمه ودرايته بحاله من التزكي او الانتفاع بعد التذكر في المستقبل لانه من العلم بالغيب ولا يعلم به احد الا عن طريق الوحي وإعلام الله تعالى.

وهذا الخطاب ليس خطابا للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كما يظنّون لأنّ نفي الدراية عن حال الشخص الحاضر حتى في المستقبل لا يصحّ بالنسبة له صلى الله عليه وآله وسلم لانه كان يعلم مثل هذه الامور عن طريق الوحي وانما لا يعلم به غيره من الحاضرين لأنّ المستقبل لا يعلم الا عن طريق الوحي.

وهذه ملاحظة خامسة على هذه الرواية المكذوبة التي تداولوها.

وعليه فالخطاب انما هو للشخص العابس المعرض عن الاعمى. والقصد منه أنّ هذا المجلس لم يؤسّس للمحاورة حول تجارة او زراعة او اي شأن من شؤون الدنيا وانما اُسّس للتزكّي والتذكّر ولا فرق في ذلك بينك وبين هذا الاعمى الفقير ولا ميزة لك عليه.

ويلاحظ أنّ هذا التميّز الذي يشعر به اصحاب المال والجاه والسلطة في مقابل الفقراء متعمّق في نفوس البشر سواء في مواجهة الرسالات او في سائر المجامع والله تعالى ينقل من قوم نوح عليه السلام وهم أول الاقوام البشرية التي ورد ذكرها في القرآن أنهم اعترضوا على رسولهم بأن الذين آمنوا به هم من أصحاب الاعمال المتدنّية فلا يمكنهم ان يدخلوا في هذا المجمع ويحضروا محضره ويجتمعوا مع هؤلاء الفقراء والأراذل من الناس.

قال تعالى في حكاية كلامهم (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ..) وفي حكاية جوابه عليه السلام (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ).[5]

وقال تعالى في موضع آخر (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)[6]

ويلاحظ أن هذه السورة اي الشعراء نزلت قبل سورة عبس بناءا على هذه الرواية لان من آياتها قوله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[7] فتكون سورة الشعراء قبل وجوب إنذار الاقربين لانها تشتمل على بدء الحكم بوجوب انذارهم وهذه القصة لو صحت فهي بعد إنذارهم فان محتوى القصة محاولة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم إقناع بعضهم ليؤمن به.

وبهذه الملاحظة يتبين وجه آخر من الاستبعاد فان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان مسبوقا بما حكاه الله تعالى عن قوم نوح وجوابه عليه السلام فلا يبقى وجه لدعوى أنّ هذه الآيات نزلت لتنبّه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بهذا الامر المهم وهو أن الدعوة تهتمّ بالانسان المتقي الذي يحاول التزكي والتذكر وان كان فقيرا ولا تهتمّ بأصحاب الكبر والخيلاء وان كانوا أغنياء.

مع أن هذا الامر من أوّليّات الدعوة الالهية. ومن المستحيل ان يجهله الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

وهذه سادس الملاحظات على هذه الرواية.

وسابعها أن عبوس الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وإعراضه عن الاعمى مخالف لصريح قوله تعالى (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[8] وهذه الآية ايضا وردت في سورة الشعراء التي نزلت في أوائل البعثة كما مرت الاشارة اليه. وهذه الآية وردت بعد الامر بانذار العشيرة مباشرة.

 

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى...

الاستغناء الواقعي هو عدم الحاجة وهو بقول مطلق خاص بالله تعالى ولكن يطلق مقيدا ولو تقديرا على غيره بمعنى كون الشخص غير محتاج الى بعض الناس في بعض شؤونه ولا يوجد من يستغني عن غيره مطلقا حتى عن البشر بل حتى عمّن دونه في الشأن الاجتماعي.

فالمراد بالاستغناء هنا من يملك من الثراء والجاه ما يجعله مستغنيا عن غيره من الناس في شؤون مهمة او أنّه يرى نفسه مستغنيا كما قال تعالى (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)[9] اي رأى نفسه مستغنيا.

و(تصدّى) فعل مضارع وأصله (تتصدى) حذفت احدى التاءين منه تخفيفا.

والتصدّي في الاصل من الصدد والعرب يبدّل الحرف الثاني المتكرر في آخر الكلمة ياءا كالتمدي من التمدد والتمطي من التمطط والتظني من التظنن وغيرها وهي كثيرة. والتصدي للشيء الاقبال اليه والتصدي عن الشيء الاعراض عنه.

والمضارع يدل على الاستمرار اي أن الاقبال على الاغنياء دأبك وديدنك حسب هذا التفسير (والعياذ بالله وحاشا رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم).

ولكن القوم ارتكبوا تأويلا بعيدا لتخفيف وطأة العتاب على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقالوا إن المراد به الاستغناء عن الدين ومعارفه بمعنى أنه لا يجد نفسه محتاجا الى هداية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.[10]

مع أنه بعيد جدا عن ظاهر اللفظ وانما قالوا ذلك لان تصدّي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم للغني لمجرد غناه امر قبيح عقلا وعرفا حتى لو لم يرد فيه نصّ.

 

وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى...

اي (يتزكى). وهذه جملة حالية اي تقبل عليه من دون ان يهمّك شأنه من حيث التزكّي فانت انما تهتمّ به لماله وان علمت انه لا يتزكّى فإنّ هذا شأنه الخاص به ولا يرتبط بك من قريب ولا من بعيد!!!

وهذا خطاب غريب يوجّه الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بناءا على هذه الروايات الملفقة مع أنه لا يهمّه شأن الا التزكية. ولذلك عمد القوم الى تأويل الآية بما لا يناسب السياق فقيل بناءا على أن (ما) نافية ان المراد تنبيه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم على أن عدم تزكّيه وهدايته لا يضرّك فلا وجه لحرصك على اسلامه بحيث تقبل عليه وتعرض عن المؤمن الاعمى.

وقيل ان (ما) للاستفهام الانكاري والمعنى ماذا يضرك ان لم يتزكّ الرجل فانت رسول وما عليك الا البلاغ.[11]  

وهذا غير صحيح بوجهيه فالرسول يجب ان يهمّه اسلام الجميع وتزكّيهم سواء كان فقيرا ام غنيا فلا معنى لنفي اهتمامه بتزكّي المستغني وانما يخاطب بمثل ذلك وبأن دوره هو التبليغ اذا كان يتحسر على ضلالهم وعدم اهتدائهم أما أصل محاولة الهداية والارشاد فلا بدّ منها.

وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى...

السعي هو العدو او المشي السريع وربما يعبّر به عن الجد والجهد في العمل وهنا يحتمل الامرين وجملة (وهو يخشى) حالية اي جاءك مسرعا او جادّا جاهدا نفسه حال كونه خائفا من ربه وعاقبة امره لانه مؤمن بالله وباليوم الآخر وانما جاء يحاول الاستزادة من العلم ومعرفة آيات الله تعالى والحلال والحرام ولكنك تتلهى عنه.

و(تلهى) ايضا فعل مضارع اي تتلهى وهو ايضا يدل على أن ذلك دأبه وديدنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم (والعياذ بالله). والتلهي عنه بمعنى عدم الاهتمام به والاشتغال بغيره.

 ومن الواضح حسب السياق أن هذه الآيات خطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم واعتراض على هذا التمييز فالغني اذا جاءك تتصدى له اي تتعرض له وتقبل اليه ولا يهمّك اهتداؤه واذا جاءك الفقير المؤمن الخاشع تعرض عنه وتشتغل بغيره.

ومن قال من الشيعة أن العابس غير الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أرجع هذه الضمائر والخطاب والعتاب الى ذلك العابس مع أنه خلاف الظاهر ان لم نقل انه مخالف لصريح الآية فان الذي يتصدى للمراجع سواء كان مستغنيا او فقيرا هو الرسول صلى الله عليه واله وسلم.

وأما الآخرون فقد تمسكوا بهذا السياق وهذه القرائن على أن العابس هو الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لأنها لا يمكن ان تكون خطابا لغيره كما هو واضح.

والصحيح أن الخطاب في قوله (اما من استغنى فانت له تصدى) الى هنا للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم على أساس توهم العابس ومن يرى رأيه فهناك رأي سائد او خلق ثابت متمكن في نفوس أصحاب الجاه والمال والسلطة وهو لزوم تميّزهم في المجالس والمجامع ووسائل النقل وغير ذلك خصوصا بالنسبة للفقراء وأصحاب المهن المتواضعة وقد مرت بنا الآيات التي تتحدث عن قوم نوح عليه السلام.

وهذا الخطاب ينقل توقّع هؤلاء من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم اي ان هذا العابس يتوقع أن تكون هكذا فاذا جاءك الغني تتصدّى له لينفعك بثرائه وأتباعه ولا تهتمّ بأنه يتزكّى او لا يتزكّى فهذا شأنه واما الفقير فلا تتوجه اليه بل اطرده من محضرك حتى يحضره الأكابر وأعيان القوم وعِلْيتهم والا فستبقى رسول الفقراء والوضعاء.

وانما أتى بفعل المضارع الدال على الاستمرار لأن مقصود هؤلاء هو لزوم أن تكون هذه السيرة مستمرة في جميع الحالات.   

والحاصل أن هذه الآيات تتعرض لحالة اجتماعية خطيرة باقية حتى في المجالس الدينية الى يومنا هذا والدين يحاول أن يطهّر هذه المجالس من هذه العادة والسيرة الخبيثة وهي أنّ أصحاب المال والجاه والسلطة يريدون ان يتميّزوا عن غيرهم حتى في المساجد وحتى في محضر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

ولا ينظر سياق الآيات الى شخصية هذا العابس فان المسألة عامّة مستمرة والغرض تصوير حالة هذا الانسان الحاضر في مجلس الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وقد جاءه أعمى فقير ليجلس عنده مع أنه لا يطلب منه شيئا وانما أتى ليسمع من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ما يفيده في دينه فعبس الرجل وتقزّز منه وجمع نفسه وأعرض بوجهه عنه فالله تعالى يخاطبه (وما يدريك لعلّه يزّكّى) اي إن هذا المحضر لتزكية النفس وللتذكر وانت لا تعلم ما يقصد فلعله يريد ان يتزكّى او يتذكّر ولا فرق في ذلك بين الفقير والغني كما أنهما لا يختلفان في الحضور لدى مستشفى للعلاج فلماذا تتقزّز منه؟!

ثم يخاطب الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ليبين له ما يدور في خلد هذا النوع من الناس وما يتوقعونه منه ليكون منهم على حذر ولا يفسح لهم المجال فهم يريدون أن يقرّب اليه الأغنياء والكبراء من دون أن يهتمّ بهدايتهم وإرشادهم ويُبعد عنه الفقراء حتى لو جاءوا اليه لطلب الهداية!!!     

ولعل قائلا يقول: لماذا نزلت هذه الآيات موهمة وغير واضحة لنحتاج الى هذه التأويلات ويظهر في أعداء الاسلام من يتهجم على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأنه لا يمكن ان يكون رسولا وهذه صفته بموجب آيات القرآن؟!

والصحيح أن من الواضح حسب سياق الآيات أنها لم تنزل الا في شأن رجل حاضر في المجلس وأن هذا العتاب موجّه اليه وأنها تحكي عن هذا التفكر الخاطئ وتندد به.

ولكن الذي أوقع المفسرين في الخطأ هو هذه الاحاديث التي صنعتها مصانع بني امية وهم أعداء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأعداء القرآن وحيث لم يتمكنوا من تحريف الفاظ الكتاب مهما بذلوا من جهد وصنعوا من أحاديث حاولوا بمثل هذه الاقاصيص تحريف معاني الآيات وليست هذه المجموعة هي الوحيدة التي تصدّى مصنع الاحاديث لتحريف معناها.

ومن الغريب ما تسرّب الى كتبنا من هذا القبيل فقد روى الطبرسي في المجمع عن الامام الصادق عليه السلام أنه قال (كان رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال مرحبا مرحبا لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكفّ عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم مما يفعل به).

وقوله والله لا يعاتبني فيك ابدا اي بعد نزول هذه الآيات. وقوله كان يكفّ عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم اي يترك حضور مجلسه بسبب هذه الاقوال والملاطفات منه صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

ولا شك في أن هذا الحديث مكذوب على الامام الصادق عليه السلام وانما هو من أحاديث العامة تسرّبت الى كتبنا. ومما يدل على كونه موضوعا أنه لم ينقل في اي تاريخ او حديث ان عبد الله كان يستثقل الحضور عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

ويلاحظ أن بعض مؤلفي الشيعة كانوا معجبين ببعض أحاديث العامة ويحاولون نقلها الى كتبهم بطرق اخرى والله يعلم كيف كانوا يروون والى اي سند يستندون فالباحث يجب عليه ان ينتبه الى أن ايّ حديث في كتبنا لا يشبه أحاديث اهل البيت عليهم السلام ولا يتفق عليه علماؤنا ويخالف ثوابت المذهب خصوصا في عصمة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السلام قد يكون من هذا القبيل ويكون دخيلا ومتسرّبا الينا.

ومن هذا القبيل رواية فضل ليلة الرغائب كما أوضحناه في مقال خاص.

 

كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ...

مرّ الكلام في مفاد كلمة (كلا) في تفسير سورة النبأ وقلنا إنها قد لا تفيد الا التنبيه ولكن المعروف أنها للردع والزجر فان كانت للتنبيه فهي مثل (ألا) وحينئذ لا ترتبط بما سبق بل يؤتى بها لإعلام أن ما بعدها أمر مهم وأنه هو المقصود في المقام.

وان كان للزجر والردع فالمعنى واضح ايضا ومفادها ردع الجميع عن متابعة هذه الأفكار الخاطئة وإبطال ما تبنّته الجاهلية من التمييز بين الفقراء والاغنياء وتبعتها أتباع الجاهلية في الاسلام.

وقوله (انها تذكرة) بناءا على أن (كلّا) للتنبيه هي الجملة التي يراد التنبيه بها وبناءا على كونها للردع والابطال جملة تعليلية اي تلك الافكار باطلة لان هذه الآيات تذكرة للجميع.

والضمير يعود الى الآيات او الى المعارف التي يتلقونها من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او يعود الى القرآن ويكون التأنيث من جهة الخبر.

والتذكرة مصدر بمعنى التذكير. والذكر خلاف النسيان وانما يعبر عن الآيات بالذكر لانها تذكّر الانسان بما ينساه او يتناساه مما تقتضيه فطرته من التوجه الى الله تعالى وعبادته وتحصيل رضوانه.

والمعنى أنه لا مبرر للعبوس والتقزز فهذه الآيات انما نزلت للتذكير ولا يختلف الناس في ذلك فالله تعالى غني عن كل شيء ولا يختلف عنده الغني والفقير.

وقوله (فمن شاء ذكره) جملة معترضة والقصد منه أن الانسان مخير في التذكر والانصياع للحق وعدمه فيتبع ذلك اختياره ومشيئته وفي هذا التعبير ايضا تأكيد على عدم الاختلاف بين الغني والفقير. والضمير يعود الى القرآن ولعله اختار الضمير المذكر هنا لتناسب القوافي ومعنى ذكر القرآن حفظه والعمل به وعدم تناسيه في جميع شؤون الحياة.

 

فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ...

الجار والمجرور متعلق بخبر (إنّ) اي انها تذكرة موجودة في صحف مكرمة.

والصحف جمع صحيفة على غير قياس. والقياس صحائف وهي كل ما يكتب عليه وهي في الاصل بمعنى الشيء المنبسط ولذلك تطلق على وجه الارض وعلى اناء الاكل الواسع.

والظاهر أن المراد بها هنا مجموعات من الآيات نزلت بها الملائكة فأطلق على كل مجموعة صحيفة بنحو من العناية والتجوز اذ ليس في اللغة لفظ يدل على هذه الحقائق البعيدة عن أذهان اصحاب اللغة فلا بد من استعارة الالفاظ الموضوعة للمفاهيم القريبة من تلك المعاني ولو بعناية.

وقد وصف الصحف بثلاثة اوصاف:

الاول أنها مكرمة والتكريم بمعنى الاحترام والتبجيل ويطلق الكريم على كل ما له قدر وقيمة كما يقال الاحجار الكريمة.

والثاني أنها مرفوعة وهذه الصفة ايضا بمعنى أن لها مقاما رفيعا عند الله تعالى.

والثالث أنها مطهرة بمعنى تنزهها عن الكذب والخطأ وعن ان يتدخل فيها أحد فهي صادرة من الله العلي القدير ومنتقلة الى قلب الرسول الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم بواسطة الملائكة المقربين فهي بعيدة عن رجس الكذب والتخليط وعن تدخل الشياطين كما كان يتوهمه المشركون وقد ردّ الله تعالى عليهم في مواضع عديدة منها قوله تعالى (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ).[12] 

وأكّد هنا ايضا بعد توصيفها بالطهر والقداسة بأنها بأيدي سفرة كرام بررة للتنبيه على أنها بأيدي طاهرة وأمينة وقوية في الدفاع عنها. وهذه ايضا ثلاثة اوصاف للملائكة الكرام حملة الوحي.

والسفرة جمع سافر بمعنى الكاتب تشبيها لنقل الملائكة الكرام وتحملهم للآيات المباركة بالكتابة والاستنساخ او جمع سفير على غير قياس باعتبار أنهم سفراء بين الله تعالى ورسله.

ووصفهم ايضا بأنهم كرام اي لهم شأن عظيم ومقام جليل عند الله تعالى.

وبأنهم بررة وهي جمع بارّ وهو من البرّ وقد اختلف اللغويون في تفسيره وذكروا من معانيه الصدق والخير والاحسان والطاعة والصلاح وخلاف العقوق، فيمكن أن يكون البر هنا بمعنى الطاعة او من الصدق لا الصدق في القول بل الصدق في التعهد والالتزام كما يقال سيف صادق اذا كان قاطعا اي يصدق في ما هو المطلوب منه.

وهكذا الملائكة فهم أقوياء في ما يراد منهم كما قال تعالى (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[13] ففي هذه الآية جمع بين كونهم شدادا أقوياء وكونهم مطيعين للاوامر.

ولا يبعد صحة ما قاله ابن الفارس في معجم المقاييس من أن البر بمعنى الصدق في جميع الموارد كما أن الحج المبرور لا يبعد ان يكون بمعنى صدق الانسان في تعهده والتزامه بترك محرمات الاحرام.

ويبدو أن القصد من هذه النعوت التي تعود كلها الى القرآن الكريم إمّا بلحاظ ذاته وإمّا بلحاظ حملته الذين اوصلوه من عند الله تعالى الى مسامع البشر هو حثّ الانسان على التذكر بما يشتمل عليه من مواعظ والوثوق بما يحتويه من معارف وحقائق ليكون نتيجة لما مرّ من التنبيه على أن الهدف من الدين وإرسال الرسل وإنزال الكتب هو التزكية والتذكرة ومقدّمة لما يتلوها من التنديد بكفر الانسان.

وقيل: المراد بالصحف المصاحف التي بأيدينا.

وهو غير صحيح لأنه تعالى وصفها بأنها بما هي صحف بأيدي سفرة وهم الملائكة. ولكن القائل يدعي أن المراد بالسفرة كتبة الوحي باعتبار أنه جمع سافر وهو الكاتب ويطلق عليه لانه يسفر عن الحقائق بالكتابة.

ولكن ليس كل كاتب للقرآن كريما بارّا ولا موجب هنا لتكريمه اذ القصد من هذا التوصيف الحثّ على متابعة الكتاب والتزكي والتذكر به ــ كما سيأتي ــ ولا دخل لكاتب المصحف او طابعه وناشره بل حتى تاليه وقد ورد في الحديث المرسل (ربّ تال للقرآن والقرآن يلعنه)[14].

هذا مضافا الى أن سائر الاوصاف ايضا لا ترتبط بهذه المصاحف التي بأيدينا فهي ليست مرفوعة مطهرة الا اذا كانت تحكي عن نفس الكلام الذي نزل على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بواسطة الملائكة عليهم السلام وتلك الصحف هي المرفوعة المطهرة والسبب أنه من الممكن ان يكتب احد مصحفا خطأ وان لم يتعمد وهذا المصحف قد لا تشمله الاوصاف المذكورة.

 


[1] راجع تفسير الطبري والدر المنثور وغيرهما

[2] كل ذلك وارد في الدر المنثور في ذيل الاية الكريمة

[3] القلم: 4

[4] التحرير والتنوير في تفسير الاية

[5] هود: 27- 31

[6] الشعراء: 111- 115

[7] الشعراء: 214

[8] الشعراء: 215

[9] العلق: 6- 7

[10] كما في فتح القدير وروح المعاني والتحرير والتنوير وفي ظلال القران

[11] كما في فتح القدير وروح المعاني وغيرهما

[12] الشعراء 210- 212

[13] التحريم: 6

[14] مستدرك الوسائل ج4 ص249