قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ...
لعل المناسبة بين هذا المقطع وما قبله هو أن القصة التي استدعت نزول المقطع الاول تحكي عن كبر الانسان وغروره وطغيانه على ربه فهذه الآيات تنبهه على أن أصله لا يستدعي الكبر وأنه انما بلغ هذه المرحلة من الكمال بفضل من الله تعالى وأنه سيستمر في تجاوز مراحل اخرى الى أن يرجع الى ربه فيلقى جزاء طغيانه.
وقوله تعالى (قتل الانسان) تنديد به بصيغة الدعاء عليه وقد مر الكلام في نظيره في تفسير سورة المدثر وهو قوله تعالى (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)[1] وقلنا انه دعاء عليه بالموت بل بأشنعه وهو القتل. ومثله قوله تعالى (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).[2]
والدعاء ليس دائما على حقيقته سواء كان دعاءا لاحد او عليه فان الصلاة على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السلام كثيرا ما لا يقصد بها الدعاء بل لا يلتفت القائل الى كونها دعاءا وانما القصد منها إعلام الحب والولاء لهم ولذلك تعدّ الصلاة عليهم من الشعارات الدينية التي تحكي عن متابعة اهل البيت عليهم السلام.
ومثلها ايضا الدعاء للتعجيل في فرج مولانا الامام المهدي المنتظر عليه السلام او لطول عمره وسلامته فانا نعلم أن الله تعالى حافظه وناصره ونعلم أنه لا يعجّل فرجه عن موعده الذي لا يعلمه الا الله تعالى سواء طلب الناس التعجيل او التأجيل فليست هذه الأدعية الا اظهارا للحب والولاء والمتابعة.
ومنه ايضا السلام فانه تحية بصيغة الدعاء فاذا قلت سلام عليك كان دعاءا له بالسلامة ولكن لا يقصد به الدعاء حقيقة ولا يلتفت القائل الى هذا المضمون اساسا وانما يقصد التحية.
والمراد بالانسان جنسه ولا ينافي وجود قلة من أفراده لا يشملهم التنديد فان المناط في التنديد بالجنس هو غلبة الامر في الافراد والقول بأن المراد به فرد خاص من المشركين لا مستند له وينشأ اختلاقه من استبعاد التنديد بالجنس.
وقوله (ما أكفره) إنشاء للتعجب والله تعالى لا يتعجب من شيء فهو خالقه ولا يرى منه الا ما هو العالم به من الازل والعجب لا يكون الا مما لا يعرف سببه فلا يتوقع ولكن الغرض من إنشاء التعجب في امثال هذه الموارد سواء كان من الله تعالى ام من غيره هو اظهار أن الشيء قد بلغ الغاية في الامر فلا حاجة الى ما عبر به المفسرون من انه للتعجيب.
والآيات التالية حيث تنبه على نعمه تعالى على الانسان تبيّن وجه العجب في كفره. والكفر: الستر فيصدق على من ينكر ربه سواء انكر وجوده او انكر ربوبيته او انكر عموم ربوبيته او انكر نعمه كما يصدق على من لا يشكر النعم فيكون إنكارا عمليا.
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ...
سؤال موجّه الى الانسان نفسه لكي يسأل عن نفسه أنه خلق من أي شيء؟ وما هو أصله؟ ومن هو خالقه؟
والقصد من توجيه هذه الاسئلة تنبيه الانسان الى هذه الحقائق التي يغفل عنها فأول أمر يجب ان ينتبه له أنه خلق من نطفة وهي الماء القليل ويعبّر بها عن منيّ الرجل.
والقصد من الاشارة اليه التنبيه على أن أصل الانسان من شيء حقير لا يملك حولا ولا قوة وليس فيه ما يستدعي هذا الكبر والغرور وكل ما يجده الانسان في نفسه مما يبعثه على الكبر والاعجاب بنفسه فهو مما وهبه الله تعالى.
وقوله (فقدّره) يمكن ان يكون بمعنى إعطائه القدرة وان يكون بمعنى تقدير كل ما فيه من اعضاء واجزاء داخلية وخارجية وعناصر يتشكل منها جسمه فكل ذلك بقدر محدد ولو زاد بعضها على ما هو عليه او تغير موضع بعض الاعضاء لم ينل الانسان كل ما يناله في وضعه الحاضر بل لعله ما كان ليبقى حيا.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ...
الضمير في قوله (يسّره) يعود الى السبيل. والتقدير يسّره له اي للانسان. وهذا التعبير يفيد أنه تعالى هدى الانسان الى السبيل ومضافا الى الهداية يسّره له.
والمراد بالسبيل قد يكون سبيل الحياة اي يسّر له سبل الحياة على هذا الكوكب فعلّمه كيف ياكل ويشرب وكيف يكثر نسله وكيف يعالج امراضه وكيف ينتقل من مكان الى مكان الى غير ذلك من سبل الحياة. وقد يكون المراد سبيل الهداية الى الله تعالى ومرضاته كما قال تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).[3]
وتيسير السبيل لعله باعتبار أن الله تعالى لم يكتف بما أودعه في الانسان من الفطرة السليمة التي تبعثه الى كسب رضا الله تعالى بل ارسل الرسل وانزل الكتب وجعل للانسان ائمة في مقاطع مختلفة من التاريخ ليكونوا له اُسوة.
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ...
ذكر الاماتة ضمن عدّ مراحل تطوّر الانسان الذي يمنّ الله تعالى بها عليه للاشارة الى ان الموت ليس فناءا له فهو ليس كسائر الاحياء بل الموت انتقال من عالم ضيّق محدود الى عالم وسيع مطلق.
والإقبار قيل انه بمعنى جعل القبر له وان هناك فرقا بين قَبَره وأقبَرَه فالاول بمعنى الدفن ويباشره الانسان والثاني بمعنى إعداد القبر له ويمكن ان يسند الى الله تعالى باعتبار أنه تعالى امر بالدفن او جعل الارض قابلا للدفن فيه او علّم الانسان ان يدفن موتاه كما يظهر من قوله تعالى في قصة ابني آدم (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ..).[4]
ولكن الظاهر أن المراد بالإقبار الاخفاء كما هو اصل المعنى على ما في معجم المقاييس قال (يدل على غموض وتطامن ومن ذلك قبر الميت.. (الى ان قال) قال ابن دريد ارض قَبور: غامضة. ونخل قبور: يكون حملها في سعفها).
فالمراد أن الله تعالى بعد موت الانسان يخفيه عن الابصار والمشاعر ولكنه باق لا يفنى الا انه في عالم آخر واما الاقبار بمعنى إعداد القبر فليس امرا عاما يشمل كل انسان كما هو المقصود هنا فربما يحترق الانسان وربما تفترسه السباع وربما يلقى في البحر او يبيده الانفجار او المواد المذيبة.
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ...
(اذا) ظرفية اي ينشره حينما يشاء اذ لا يوجد امر آخر يحدّد الوقت غير المشيئة الالهية. والانشار والنشر واحد وهو بمعنى الإحياء، وأصل النشر البسط، وحيث إنّ منح الحياة يوجب بسط القدرة والحركة استعير للإحياء والمراد به هنا النشور يوم القيامة.
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ...
(كلا) يمكن ان تكون اداة تنبيه فقط فلا حاجة الى فرض ما تكون (كلا) رادعة عنه.
وعلى تقدير كونها للردع فيمكن ان تكون تأكيدا للنفي الذي بعدها.
واذا لزم تقدير شيء قبلها فمن الممكن أن تكون نفيا لما يتوقع ان يقع سؤالا بعد كل ما ورد قبلها وهو أن الانسان بعد كل هذه المراحل التي قطعها هل قضى ما امره به ربه؟ والجواب النفي. والقضاء: الأداء والإنهاء ومنه قضيت ديني اي أدّيته.
انما الذي أشكل على المفسرين ما تقتضيه (لمّا) وهي أداة جزم ونفي تفيد معنى (لم) مع اختلاف في بعض الجهات اهمها أن ما بعدها منفي الى الآن وهذا الامر لا يستفاد من (لم) والثاني أن المنفي بعدها متوقع كقوله تعالى (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ)[5] اي لم يذوقوه حتى الآن وسيذوقونه او هو متوقع وكقوله تعالى (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..)[6] اي لم يدخل ويتوقع أن يدخل الايمان في قلوبكم.
والكلام في تطبيق الامرين هنا فان الزمان الملحوظ في الآية على ما قالوا هو حين الموت والمعنى ان الانسان لم يقض ما أمره حتى الآن اي حين الموت ولكن لا يتوقع ان يقضيه بعده فارتبك التفسير واضطر بعضهم الى تفسير الانسان بقسم خاص.
وقال بعضهم ان المراد ان البشر من عهد آدم عليه السلام الى زمان نزول الآية لم يقض ما أمره اذ لا يخلو بشر عن تقصير.
وردّ بأن الآية بصدد بيان أن البشر في غاية الكفر كما قال (ما أكفره) فلا نظر في الآية الى هذا التقصير.
والظاهر ان المراد عدم بلوغ المجتمع البشري الى تلك المرحلة من النضج والادراك أن يقضي ما أمره به ربه فالكفر بالمعنى العام الشامل لكفران النعم هو الصبغة العامة للانسان ولكن من المتوقع أن يبلغ الانسان الى هذه المرحلة من الكمال.
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ...
الفاء للتفريع والظاهر أنه تفريع على قوله (ما أكفره) اي اذا أراد الانسان أن لا يكفر بنعم ربه فلينظر الى طعامه وسائر نعم ربه ويشكره عليها.
وقيل انه متفرع على قوله (لمّا يقض ما أمره) فالمراد أنه اذا أراد أن يقضي ما أمره به ربه فلينظر الى طعامه.
والاول اولى فان النظر الى الطعام ليس مما امر به الله تعالى كتكليف مستقل لينطبق عليه القضاء بما أمره.
ويتبين بما ذكرنا أن الانسان في قوله (قتل الانسان) هو نفس الانسان المذكور فهو الذي بلغ حد الاعجاب بكفرانه وهو بذاته الذي يجب ان ينظر الى طعامه.
والنظر قد يتعدى بـ (في) فيفيد معنى التأمل والتدقيق وهنا قد تعدى بـ (الى) ومعناه استخدام العين للنظر الحسي ففيه إشارة الى وضوح الامر بحيث لا يحتاج الى أكثر من نظر العين.
والمراد حثّه على ملاحظة النعم الالهية المكتنفة به وأقرب شيء اليه طعامه الذي يتقوى به ولا يمكنه العيش بدونه فليلاحظ أنه كيف يتهيأ له؟ هل له الدور الكامل في إعداده أم أنه من صنع ربه؟
فهذه إحدى الامارات الواضحة التي تدل على ربوبيته تعالى للخلق ولو لم يكن هناك هدف لبقائه حيّا وتنعمه بالدنيا لما تهيأ كل وسائل بقائه وتنعمه.
والطعام كل ما يؤكل فيشمل النباتات المأكولة بأجمعها كما يشمل الحيوان ايضا ولذلك عطف على ما يأكله الانسان من النبات ما يعلفه الحيوان لأنه ايضا بالنتيجة طعام للانسان.
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا...
(أنّا..) بتأويل المصدر بدل من (طعامه). ومن هنا تبدأ الاشارة الى مراحل تكوّن الطعام والتي لا دخل للانسان فيها نهائيا وهذه مجرد اشارات الى ما يفهمه عامة الناس ولا يحتاج الى بحث علمي والا فمراحل التكون كثيرة ودقيقة ولكن القرآن لا يخاطب العلماء فحسب بل يخاطب عامّة الناس فلا بد من كون الآيات التي تذكر كأدلة لعموم ربوبيته تعالى قابلة للفهم المتعارف ففي اول مرحلة من مراحل تكوّن النبات لا بد من نزول المطر.
والصبّ: الاراقة من أعلى. والماء العذب الذي لا بد منه للنبات ليس الا المطر. وكل ما في الارض من المياه العذبة منه ايضا فلولا صبّ الماء من السماء لم يمكن لاي نبات ان ينبت.
ونزول المطر يتبع عوامل طبيعية وظروف خاصة ليس للانسان اي دخل فيها والله تعالى لرحمته بعباده هيّأ كل هذه الظروف والأسباب ليأكل الانسان ويشرب وكذلك الحيوان ولتنبت على الارض الاشجار المختلفة والزروع ولولا ذلك لم يمكن العيش على هذا الكوكب.
وما أكفر الانسان حيث ينفي أن يكون كل هذا التدبير من ربّ حكيم وأنّ لكل هذه الظروف المؤاتية هدفا وغاية!!!
وانما ينفي ويكفر لئلا يلزمه شكر هذا الرب المنعم عليه فيقول إن كل ذلك تحقق صدفة ومن دون هدف ولكنها وافقت حاجة الانسان فبقي حيا لا أن الغرض بقاؤه حيا ويعتقد أن كل هذه الامور الدقيقة وهذا النظام العجيب الذي يحكم الطبيعة والكون ليس مقصودا وليس وراءها تدبير وحكمة!!!
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا...
ومن المراحل التي لا بدّ منها لتكوّن النبات هو شقّ الارض وانما تشير اليه الآية بالخصوص لأنه أمر يدعو الى الاستغراب ومع ذلك فهو أمر مشهود للجميع وهو انشقاق الارض لتخرج النبتة الصغيرة الغضة الرطبة الناعمة فتجدها تشقّ الصخور والاراضي الصلبة وكأنّها قطعة من حديد ووراءها طاقة دافعة قوية.
وان هذا لأمر مذهل يبعث كل ناظر الى التوقف والتأمل ولكنه لكثرته وتكرره لا يثير اي اعجاب لدينا لاننا اعتدناه فالانسان بحاجة الى من يبعثه للتأمل في هذه الظواهر الغريبة ليؤمن بالربوبية المطلقة التي شملت كل هذه القوانين والنُظُم مما تحقق تلك المقاصد الحكيمة.
والمصدر في الآيتين (صبّا) و(شقّا) مفعول مطلق يدل على كونه صبّا عجيبا وشقّا عجيبا ولعل منشأ العجب هو ما أشرنا اليه.
وهناك احتمالان اخران في المراد بشق الارض:
الاول: ان المراد حرث الانسان للارض بالوسائل المتاحة له مقدمة للزرع وقالوا انه انما اسند الى الله تعالى لانه مسبب الاسباب فهو الذي خلق الانسان وأودع فيه العقل والقدرة وخلق له أرضا صالحة للحرث وجعل قدرة الشقّ والحرث في الآلات التي يستخدمها.
وهو تفسير بعيد لان الآية تحاول صرف نظر الانسان الى التدابير التي ليس له دخل فيها حتى وان كان بتدبير من الله تعالى فهذا نظير قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)[7] حيث يسند الى الانسان جزءا من العملية وهو الحرث ولكن ينبهه على عدم كفايته للحصول على النبات المقصود لولا عوامل كثيرة في الطبيعة مجهولة له عادة وهي دخيلة في خروج النبات من الارض فالزارع في الحقيقة ليس هو الانسان بل الله تعالى وان كان للانسان دور في إعداد الارض وإلقاء البذر.
الثاني: ان المراد نزول الامطار الغزيرة التي شقت الارض الصخرية قبل ملايين السنين لتخرج منها التربة الصالحة للزرع. واستشهد بعضهم لذلك بأن الشقّ لو اُريد به خروج النبات لكان قوله تعالى (فأنبتنا فيها حبا) تكرارا له.
وهو ايضا تفسير بعيد لأنّ هذه الامور ليست مما تبدو بالنظر الى الطعام وما جرى عليه من المراحل في الطبيعة بحيث يشعر به الانسان العادي. والآية كما ذكرنا تنبه الانسان على أن آيات ربوبيته تعالى واضحة لا تحتاج الى علم غزير ولا تأمّل ودقّة ولا ملاحظة تاريخ الكون والطبيعة بل يكفي في معرفتها النظر والرؤية الحسية البسيطة الى النبات.
وأما ترتب الانبات على الصب والشق فبيانه في تفسير الآية التالية.
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا...
الفاء تدل على أن إنبات الحبّ مرحلة اخرى تترتّب على الصبّ والشقّ المذكورين فلا يراد بالشق نفس مرحلة إنبات الحب وان كانت من مراحل تكوّن النبات وذلك لأنّ الذي يشقّ الارض بأمره تعالى ليخرج ليس هو الحب والعنب ونحو ذلك وانما هو النبتة الصغيرة التي ينبت فيها الحب والعنب وغيرهما بتدابير متصلة ومتلاحقة فالمراد بإنبات الحبّ تكوّن الحبّ في الزرع.
والحبّ يطلق على الحنطة والشعير والرزّ ونحوها كما يطلق على بزور الرياحين وسائر انواع النبات. وقيل: المراد به هنا خصوص الحنطة بل قيل: انه اذا اطلق فلا يقصد الا الحنطة ولا دليل عليه.
والعنب معروف واما القضب فهو في الاصل بمعنى القطع. وقد اختلف اللغويون والمفسرون في المراد به والظاهر أن المراد ما يقطع من نفس النبات ويؤكل كالخضروات ولكن بعض اللغويين خصّه بما يأكله الحيوان رطبا. وعمّمه بعضهم. والظاهر هو التعميم او الاختصاص بما يأكله الانسان نظرا الى ذكر طعام الحيوان في الأخير.
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا...
الزيتون يطلق على الثمرة والشجرة والنخل اسم للشجر وهما معروفان.
والحدائق جمع حديقة من الحدق وهو الاحاطة قال في معجم المقاييس (اصل واحد وهو الشيء يحيط بالشيء). وقيل انها بمعنى الارض ذات الشجر. وقيل ان وجه التعبير عنها بالحديقة تشبيهها بالعين حيث يحدق اي يحيط البياض بالسواد. وقيل لا يقال حديقة حتى يكون مسوّرا فهذا هو وجه الاطلاق.
والغلب جمع غلباء وهو من الغلبة اي القهر والقوة والشدة كما في معجم المقاييس والمراد به هنا القوة والشدة وعظمة الجسم وغلظه. ورجل أغلب اي عظيم الرقبة كما يوصف به الاسد ايضا.
وتوصيف الحديقة بالغلبة قد يكون من جهة كون أشجارها عظيمة ملتفّة بنفسها فهي غلباء وقد يكون التوصيف بالعظمة والشدة للحديقة نفسها باعتبار كثرة الشجر فيها فكأنّ بعضها ملتفّ ببعض.
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا... الفاكهة ما لذّ وطاب من الثمار. والتفكّه: التنعّم والإعجاب بالشيء. والمراد كل ما يؤكل لا لرفع الجوع بل للتلذّذ فحسب. والأبّ: المرعى.
روى السيوطي في الدر المنثور عن عدة من المحدثين منهم ابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان والخطيب والحاكم (قال: وصححه) عن أنس (أن عمر قرأ على المنبر فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً إلى قوله وَأَبًّا قال كل هذا قد عرفناه فما الأبّ؟ ثم رفع عصا كانت في يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك ان لا تدري ما الأبّ اتّبعوا ما بُيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكِلوه إلى ربه).
وروى ايضا عن عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن يزيد (أنّ رجلا سأل عمر عن قوله (وَأَبًّا) فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرّة).[8]
قال: وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن ابراهيم التيمي قال (سئل أبو بكر عن قوله (وَأَبًّا) فقال أيّ سماء تظلني وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم).
وفي إرشاد المفيد رحمه الله (ورووا أن أبا بكر سئل عن قول الله تعالى: «وَ فاكِهَةً وَأَبًّا» فلم يعرف معنى الأبّ في القرآن، وقال: ايّ سماء تظلّني وأيّ أرض تقلّني أم كيف أصنع ان قلت في كتاب الله بما لا أعلم اما الفاكهة فنعرفها واما الأبّ فالله أعلم به، فبلغ أمير المؤمنين عليه السلام مقاله في ذلك فقال: يا سبحان الله أما علم أنّ الأبّ هو الكلأ والمرعى؟ و أن قوله تعالى «وَ فاكِهَةً وَأَبًّا» اعتداد من الله سبحانه بإنعامه على خلقه فيما غذّاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تحيى به أنفسهم، وتقوم به أجسادهم).[9]
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ... مفعول لاجله اي أنبتنا الحبّ وكذا وكذا ليكون متاعا لكم ولانعامكم كما في مجمع البيان او باعتبار أن المتاع اسم مصدر بمعنى التمتيع كما قال الازهري في تهذيب اللغة.
وقد اختلفت كلمات اللغويين في معنى المتاع في الاصل وأنه هل هو بمعنى التلذذ او بمعنى الامتداد والارتفاع. ومهما كان فالذي يبدو من الاستعمال اللغوي أنه يطلق على كل ما ينتفع به لمدة وأمد محدود ومن هنا عبر في القرآن عن كل ما في هذه الحياة بانه متاع اي ان امده محدود وان كان طويلا نسبيا وهذا بلحاظ مقارنته بما في الحياة الآخرة.
ومتاع الانعام هو الأبّ. وقد أشرنا الى أنّ ذكر متاع الانعام وطعامه ضمن التنبيه على طعام الانسان من جهة أن الانعام بنفسها طعام له.
ويلاحظ أن الآيات المباركات أشارت الى أنواع النبات بذكر نماذج من كل نوع فمنه ما يؤكل حبه ومنه ما يؤكل ثمره كالعنب ومنه ما يؤكل ساقه بالقطع كالخضار ومنه ما يستفاد من ثمره في غير الاكل ايضا كالزيتون حيث يستفاد من زيته للاكل وللاستضاءة ومنه ما يستفاد من شجره في شتى الوجوه كالنخل حيث يستخدم سعفه وجذعه وعذقه وليفه ويؤكل ثمره ولقاحه وجُمّاره ومنه ما يستخدم للزينة وللتنزه كالحدائق ومنه ما يؤكل لا لرفع الجوع بل للتفكه ومنه ما يأكله الحيوان. وبهذا يتبين الوجه في تخصيص هذه النباتات بالذكر.
[1] المدثر: 19
[2] المنافقون: 4
[3] الانسان: 3
[4] المائدة: 31
[5] ص: 8
[6] الحجرات: 14
[7] الواقعة: 63- 64
[8] درّة السلطان بكسر الدال ما يضرب به الناس!!!
[9] الارشاد: ج1 ص 200<