فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ...
الفاء تفريع على كل ما مر من بيان مراحل تكوين الانسان ثم امره بالنظر الى طعامه فان النتيجة تظهر في ذلك اليوم.
قال الخليل على ما في العين (الصاخّة صيحة تصخّ الآذان فتصمّها ويقال هي الامر العظيم يقال رماه الله بصاخّة اي بداهية وامر عظيم). وقال ابن دريد في الجمهرة (كل صوت شديد نحو وقع الصخرة على الصخر وما اشبهه صخّ). وهذا المعنى يظهر من جرس اللفظة اي الصخّ ومن المعلوم أن اصول الالفاظ الموضوعة للمعاني حكاية الاصوات.
والحاصل أن المراد بها الصيحة العظيمة التي بها تقوم الانفس للحساب يوم القيامة وهي ما عبّر عنها في مواضع اخرى بالنفخ في الصور والنقر في الناقور والصيحة والقارعة والزجرة ونحوها. وجواب قوله (فاذا) مقدر يدل عليه قوله تعالى (وجوه يومئذ مسفرة).
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ...
(يوم) بدل من قوله (اذا جاءت) لان (اذا) ظرفية.
والمرء قيل انه الانسان مطلقا وقيل الرجل مطلقا وقيل الرجل الكامل. والمروءة كمال الرجولة كما في العين. ولا يبعد ان يكون المراد هنا الاخير إشعارا بأن هذا شأن من كان في الدنيا ذو مروءة ورجولة كاملة فليس فراره من خوف وجبن جُبل عليه بل لسبب آخر وهو ما أشار اليه في قوله تعالى (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه).
وقيل ان فراره بسبب أنه يراهم في عذاب فيخاف من نفس العاقبة. وقيل انه هو المؤمن يفر منهم خوفا من ان يتشبثوا به. وقيل يفر منهم خوفا من مقاضاته بما فرط من حقوقهم. وغير ذلك من الاقاويل.
وهي بعيدة كل البعد لا دليل عليها ولا قرينة في اللفظ وتفقد الآية لطفها وتبعدها عن المقصود وهو ان انشغاله بما يهمّه يُبعده عن أعزّ أقربائه.
وهذا أمر غريب فالانسان في هذه الحياة يضحّي بنفسه وهي أعزّ ما لديه دفاعا عن اولاده وعرضه ووالديه وقرابته وهناك يفرّ منهم لا يريد أن يشاركهم في همّهم ولعله يعلم انه لا يستطيع أن يعمل شيئا الا أن وجوده معهم لعله يخفّف من آلامهم ولكنه يبخل عليهم حتى بهذا المقدار من المواساة فما هو السبب؟
السبب ما ورد في قوله تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[1] وقوله تعالى (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ..)[2] وغيرهما من الآيات التي تبيّن ظهور العداء بين الانسان ومن كان يحبّه في الدنيا.
ولعل السر في العداء أنه يتبين له أن هؤلاء كانوا في الواقع أعداءا له وان برزوا بصورة الاحباب لأنهم كانوا يسوقونه نحو الكفر والفسق ويزيّنون له عمله القبيح ويطلبون منه ما لا يحلّ له ولعل هذا هو سرّ العداء في قوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ..).[3]
والحاصل أنّ الانسان يوم تتبين له الحقائق يعلم أنه أخطأ في معرفة أعدائه وأخلائه ولكنه لا يستطيع أن يعمل شيئا الا أن يفرّ منهم وكأنه يخاف أن يزيدوا من شقائه.
والتعبير بالصاحبة دون الزوجة للتأكيد على بقاء صحبتهما وودّهما الى يوم الفراق فان الزوجة قد لا تكون مصاحبة لزوجها بل بينهما شقاق وانفصال.
والبنين يشمل البنات من باب التغليب كما أن الاخ يشمل الاخت ولعل الإفراد للاشارة الى أنه يفرّ منه حتى لو كان أخاه الوحيد وهو أعزّ على الانسان.
وأمّا التدرّج في الذكر بتقديم الأخ ثم الأبوين ثم الزوجة والبنين فقيل إنّه للتدرّج في القرب فهو يفرّ أوّلا من أخيه ثمّ من والديه مع أنّهما أقرب ثم من اُسرته التي كان يُؤويهم. ويمكن أن يكون الترتيب لرعاية قوافي الآيات.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ...
الضمير في قوله (منهم) ان عاد الى البشر المعلوم من السياق فلعل تكرار التعبير بالمرء للتأكيد على أنه مع كمال رجولته منشغل بنفسه لا يهمه غيره وان عاد الى المذكورين اي الاخ والوالدين والاهل فلا بد من تفسير المرء بالانسان كما قال بعضهم او يكون بمعنى الرجل ويكون الاطلاق على المراة من باب التغليب وعليه فالمراد أنهم ايضا لا يهمهم فراره فكل منهم مشغول بنفسه وكل منهم يفرّ من الآخر.
والشأن: الخطب كما في العين. وهو الامر المهم. وكأنه في الاصل بمعنى المقصود تقول العرب ــ كما في معجم المقاييس ــ شأنت شأنه اي قصدت قصده ويقولون ما لي في هذا شأن اي ليس هذا مطلبي وما أبتغيه.
فالمراد هنا أنّ كل انسان له أمر يخصه وهو بصدده وهو يغنيه اي يكفيه بمعنى أنه يأخذ كل ما له من همّ وعزم وقوة وفكر فلا يبقى له ما يصرفه على غيره.
وتكرار الظرف اي (يومئذ) بعد قوله (يوم يفرّ) وكذا في الآيات التالية للتأكيد على أن هذه الامور من خصائص ذلك اليوم.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ...
اي الناس ذلك اليوم صنفان ويبدو حال كل صنف من تباشير وجوههم فوجوه في ذلك اليوم مسفرة. والاسفار في الاصل الانكشاف ومنه سفرت المرأة اذا كشفت عن وجهها وحيث استعمل في إسفار الصبح وهو لا يتمّ الا بإشراقه وإضاءته كُنّي به عن الإشراق والإضاءة وهو المراد هنا اي وجوههم مشرقة مضيئة فرحا وسرورا.
والاستبشار من البِشر وهو انبساط الوجه حسنا وجمالا وحيث ان الانسان اذا اخبر بما يسره ينبسط وجهه عُبّر عن هذا الإخبار بالتبشير وعن انبساط المبشَّر بالاستبشار فالمعنى أنهم يبشَّرون بالجنة وبالسعادة فيستبشرون وهذا الاستبشار والضحك بادية على وجوههم.
والصنف الآخر وجوههم عليها غبرة اي غبار الكآبة والحزن.
والرهق: الغشيان اي تغشى وجوههم وتعلوها قترة. وهي على ما في العين (ما يغشى الوجه من غبرة الموت والكرب). وقيل انها بمعنى السواد كما عن ابن عباس ولعله كناية عن الخزي والذل. وقيل انها الغبرة ايضا والمراد أن على وجوههم غبار فوق غبار. وهو بالطبع كناية عن الكرب والتألم وليس بمعنى الغبار بالذات اذ لا خوف منه.
والحاصل ان هذا تصوير لوجوههم المكروبة في مقابل وجوه اهل الجنة الضاحكة المستبشرة.
أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ...
الضمير يعود الى اصحاب الوجوه التي عليها غبرة او الى نفس الوجوه باعتبار انها كناية عن اصحابها. وجمع لهم وصفي الكفر والفجور لان الاول صفتهم النفسية فهم كافرون في اعتقادهم والثاني صفة اعمالهم.
والفجور من الفجر بمعنى الشق ولا يطلق على كل عمل قبيح بل على ما يشق الستر في الدين او في قانون المجتمع. فالفاجر في الدين من يرتكب الكبائر الواضحة والفواحش. والفاجر في المجتمع من يرتكب الجرائم العظيمة حسب القانون.
ولا شك ان المراد بالكفر ليس هو خصوص من يكفر بربه بمعنى انكار الاله او انكار الربوبية او انكار ضروريات الدين بل يشمل ترك بعض الواجبات كالصلاة والحج فضلا عن انكار ما اوصى به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم في اهل بيته عليهم السلام.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
[1] الزخرف: 67
[2] البقرة: 254
[3] التغابن: 14