سورة الاعلى سورة مكية كما يبدو من مضامينها بل يظهر من قوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى) انها من اوائل السور ويقال انها السابعة او الثامنة.
ولكن قيل انها مدنية وقيل ان الآيات الست الاخيرة نزلت في المدينة باعتبار ما ورد في الاخبار عن طرق العامة والخاصة من ان المراد بالتزكي في قوله تعالى (قد افلح من تزكى) زكاة الفطرة وان المراد بالصلاة في الآية التالية صلاة عيد الفطر.
وسيأتي البحث عن ذلك ان شاء الله تعالى.
ومن مضامين السورة أن الهداية الالهية التي يبلغها الرسل جزء من نظام التكوين والخلق. ومنها ايضا الربط بين تعاليم القرآن الكريم وكتب الانبياء السابقين.
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى...
التسبيح هو التنزيه والتبرئة والظاهر انه لا يستعمل الا في تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه ولا يستعمل هذا التعبير في تنزيه غيره.
وقيل انه عام. وروى ابن دريد في الجمهرة وروده في بعض الاشعار وقال ان بعضه بمعنى البراءة كقول الاعشى (سبحان من علقمة الفاخر) ومعناه التبري من فخره وبعضه بمعنى التعجب كقول الشاعر (سبحان من فعلك يا قطام). ولعله يقصد ان التقدير (سبحان الله) فانه يستعمل للتعجب.
ويمكن ان يكون ما ورد في شعر الاعشى للتعجب ايضا كما في الصحاح فلا دليل على ورود استعمال التسبيح في تبرئة غيره تعالى في اللغة كما قال آخرون.
وقال الازهري في تهذيب اللغة (ومعنى تنزيه الله من السوء تبعيده منه من قولك سبحت في الارض اذا أبعدت فيها).
وفي معجم المقاييس انه في الاصل بمعنى الصلاة النافلة ثم اطلق على تنزيهه تعالى عما لا ينبغي له من الاوصاف.
ولكن الظاهر انه في اصل اللغة بمعنى التنزيه والتبرئة.
ويتعلق التسبيح غالبا بذاته المتعالية بحرف او بدونه كقوله تعالى (وَيُسَبِّحُونَهُ..)[1] وقوله (يُسَبِّحُونَ لَهُ..)[2] واللام هنا لتأكيد تعلق الفعل بالمفعول.
وقد يتعلق باسمه الكريم من دون حرف كما هنا وقد يتعدى بحرف كقوله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ).[3]
وحيث ان التنزيه والتقديس للذات المتعالية بالذات فيقع السؤال عن وجه تعدية التسبيح الى الاسم الكريم فقيل: تسبيح الاسم تسبيح للذات بطريق اولى، فمعنى تسبيح الاسم تنزيهه من أن يذكر بما لا يناسبه نظرا الى عظمته بعظمة المسمى.
وقال العلامة الطباطبائي (تنزيهه – أي الاسم – أن لا يذكر معه ما هو تعالى منزه عنه كذكر الآلهة والشركاء والشفعاء ونسبة الربوبية إليهم وكذكر بعض ما يختص به تعالى كالخلق والإيجاد والرزق والإحياء والإماتة ونحوها ونسبته إلى غيره تعالى أو كذكر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى من الأفعال كالعجز والجهل والظلم والغفلة وما يشبهها من صفات النقص والشين ونسبته إليه تعالى. وبالجملة تنزيه اسمه تعالى أن يجرد القول عن ذكر ما لا يناسب ذكره ذكر اسمه تعالى وهو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل).
ويمكن أن يقال: إنّ التسبيح ليس اعتقادا ولا أمرا لفظيا نظير ما امرنا به في الركوع والسجود فان المطلوب هناك هو اللفظ حتى لو لم يفهم الانسان معناه او لم يقصده غفلة كما هو الغالب، بل التسبيح المأمور به في الآية الكريمة ونظائرها أمر إنشائي كالمدح والذّم، وهو عبادة خاصّة بالله تعالى، فكما أنّ الانسان ينشئ باللفظ او غيره البيع او النكاح، او ينشئ التمنّي او الترجّي او ينشئ مدحا او ذمّا او تعجّبا كذلك ينشئ التسبيح.
وإنشاء الحقائق الاعتبارية باللفظ أقوى من انشائها بغيره، واذا كان التسبيح باللفظ او الكتابة فلا يتعلق الا بالاسم الكريم، وان كان الغرض انشاء التسبيح للذات المتعالية، فكما يصح تعدية التسبيح الى الذات كقوله تعالى (فسبحه) كذلك يصح تعديته الى الاسم، لأنه هو المتعلق في الانشاء اللفظي.
وللبحث في حقيقة الامور الانشائية مجال واسع في الاصول.
وأما اضافة الاسم الى (ربك) مع توصيفه تعالى بما ذكر من الصفات الدخيلة في الربوبية المطلقة لعله بسبب أن الامر بالتسبيح هنا مقدمة للتنبيه على ما أنعم الله تعالى به على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم مما هو جزء من تربيته ليكون رسولا موفقا وهو ما يأتي في قوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى).
وتوصيفه تعالى بالاعلى هو عين التسبيح والتنزيه لانه تعالى لا يقاس بشيء ليكون أعلى من شيء وانما هو أعلى من أن يوصف ويقاس بخلقه او بما يتوهمه الانسان فيصح ان يقال ان ذكر هذا الوصف للتعليل اي سبحه لانه الاعلى.
وقد ورد في روايات الخاصة والعامة أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم قال لما نزلت الآية (اجعلوها في سجودكم) كما قال عند نزول قوله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[4] (اجعلوها في ركوعكم).[5]
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى...
الخلق هو الايجاد سواء كان ابتداعا كخلق السماوات والارض اي الكون باكمله فانه ليس الا ابتداعا من غير مثال واحداثا للوجود من غير اصل ام كان ايجاد شيء من شيء كخلق الانسان والحيوان وبهذا المعنى ينسب الى غيره تعالى ايضا كما قال (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا).[6]
والمراد هنا مطلق الخلق لا خصوص خلق الانسان فقد سوى كل ما خلق.
والتسوية بمعنى التعديل اي تقدير كل جزء من أجزاء الشيء حسب الحاجة والمصلحة ووضعه في موضعه المناسب.
والفاء للترتيب اي سوى ما خلق اي لم يخلق الاشياء من دون تناسب ونظام.
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى...
التقدير جعل الشيء بمقدار محدود او تحديد اجزاء الشيء او محاسبة الشيء في الكيل او الوزن او العدّ او غيرها ليوافق مورد الحاجة او المصلحة. ومنه قوله تعالى (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ).[7] وعليه فيكون التقدير هنا تابعا للخلق في الآية السابقة كما قال تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[8] وقال في خصوص الانسان (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ).[9]
ولكن الذي يناسب تكرار اسم الموصول وترتب الهداية على التقدير كما هو مقتضى الفاء ان يكون المراد تقدير غاية الشيء ووظائفه والدور الذي يؤديه في الكون فالله تعالى خلق كل شيء لغاية وهداه اليها. والمراد الهداية التكوينية الموجودة في كل الاشياء بطبيعتها.
وهذا امر عام يشمل الانسان وغيره كما قال تعالى (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).[10] كل هذا مقدمة للتنبيه على هدايات السماء التي نزلت على البشر بواسطة الرسل عليهم السلام وأن هداية الانسان كهداية سائر الخلق جزء من نظام الكون.
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى...
المرعى تطلق على مكان الرعي وتطلق على نفس الكلأ الذي تأكله الدوابّ ويظهر من بعض أهل اللغة أنّ الاصل في هذه المادة الحفظ ومنه قوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[11] ومنه ايضا الحديث النبوي المشهور وان لم اجده في مصادرنا (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)[12] ولما اطلق على الراعي باعتبار أنه يحفظ الدوابّ توسع فيه فاطلق على فعل الدابة ايضا.
وقيل إن الاصل فيه هو أكل الدابة للاعشاب وحيث انه يلازم محافظة الراعي لها حين ارتعائها اطلق لفظ الرعي على الحفظ. والظاهر أن مثله في الاحتمالين الكلاءة والكلأ.
ومهما كان فالمراد بالمرعى هنا نفس الاعشاب التي تأكلها الدوابّ. و(أخرج) بمعنى أنبت لان المراد اخراجه من الارض.
والغثاء – على ما في معجم مقاييس اللغة – كلمة تدل على ارتفاع شيء دنيّ فوق شيء من ذلك. ومنه غَثَيان النفس اي التقيؤ كأنها تجيش بما خبث من الطعام في المعدة.
فالمراد هنا أنه تعالى يجعل النبات الطيب الذي تأكله الدوابّ في النهاية غثاء اي نبتا يابسا تتراكم بعضه على بعض ولا يفيد شيئا.
والاحوى النبت الذي اسودّ من القدم والعتق كما في تهذيب اللغة.
والكلام في مناسبة ذكر هذا الوصف للرب جل وعلا مع سياق الآيات فقيل إن المراد الاشارة الى أن من شؤون الربوبية الانهاء كما أن من شؤونها الابتداء فهو يخرج المرعى وينهي حياته فتكون الآية كقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ).[13]
ولكنه لا يفسر التخصيص بذكر المرعى.
وقيل إنها اشارة الى أن الحياة الدنيا كالمرعى نهايتها الزوال والفناء كما قال تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا).[14] ونحوها من الآيات.
ولكنه بعيد جدا لعدم تناسبه مع سياق الآيات.
وبعضهم أضاف الى ذلك ما يتعقب الموت من الحياة الآخرة وكأنّ الآية تشير الى ما ورد في مجموعة من الآيات من تشبيه احياء الموتى باحياء الارض بعد موتها بسبب المطر كقوله تعالى (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ).[15]
ومن الواضح أن الآية لا تشتمل على هذا المعنى ولا تشير اليه.
وأغرب من الكل ما ورد في بعض التفاسير من أن الآيات بصدد بيان النعم الالهية التي تثبت الربوبية العليا ومنها اخراج المرعى من الارض ثم تبديله الى غثاء احوى وهذا يفيد من ثلاث جهات فالغثاء غذاء للدواب في الشتاء اولا وسماد للارض ثانيا ويتبدل الى فحم حجري بعد ملايين السنين ثالثا.
والحاصل أن التكلف واضح من التفاسير في ربط هاتين الآيتين بالسياق.
والذي يبدو لي أنهما واردتان في نفس سياق الاهتمام بالهداية الالهية فان الهدف منهما احتقار النعم المادية الموجودة على الارض لئلا يقتصر الانسان في حياته على التلذذ بهذه النعم بل ينظر الى هذه الحياة كمعبر الى الحياة الابدية.
والقرآن تارة يسرد هذه النعم لبيان رحمته تعالى واكرامه للانسان وتارة يحتقر هذه النعم باعتبارها متاع الحياة الدنيا كقوله تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).[16]
فالآيتان تشبهان قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا)[17]
وأما التعرض لخصوص المرعى فلعله ايضا لتحقير ما يهتم به الانسان من الطعام والشراب واعتبار كل ذلك كمرعى الدوابّ ومن هذا القبيل قوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)[18] فان الجمع بين البشر والانعام في ذكر ما هو متاع لهم بنفسه نوع من احتقار هذا المتاع.
[1] الاعراف: 206
[2] فصلت: 38
[3] الواقعة: 74
[4] الواقعة: 96
[5] من لا يحضره الفقيه: ج1 ص312 ح931
[6] العنكبوت: 17
[7] المزمل: 20
[8] الفرقان: 2
[9] عبس: 19
[10] طه: 50
[11] المؤمنون: 8 / المعارج: 32
[12] صحيح البخاري ج1 ص211 كتاب الجمعة
[13] الزمر: 21
[14] الكهف: 45
[15] الزخرف: 11
[16] آل عمران: 14
[17] الكهف: 7- 8
[18] النازعات: 30- 33<