قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى...
بيان لتأثير التذكير في من يخشى.
واختلف اهل اللغة في معنى الفلاح فقيل انه بمعنى البقاء في الخير كما في العين وحكي عن ابن السكيت انه بمعنى البقاء وفي مجموعة من الكتب انه بمعنى الفوز والبقاء.
والظاهر ان الفلاح في كثير من الآيات – ومنها هذه الآية – بمعنى الفوز بما يبتغيه الانسان من السعادة وهذا الفوز قد يكون دائما وباقيا وقد لا يكون كقوله تعالى نقلا لكلام قوم فرعون (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى)[1] فان التقييد باليوم ينافي الدوام.
ولعل الفلاح بمعنى الفوز مأخوذ من المعنى الآخر وهو الشقّ كما يقال لمن يحرث الارض ويزرع (فلاح) لانه يشق الارض ويخدّها خدّا ويقال (الافلح) لمن كان له شقّ في شفته السفلى كما يقال (الاعلم) لمن له شقّ في الشفة العليا. والذي يفوز ويظفر بما يبتغيه كأنه يشقّ السدّ الذي يمنعه من الوصول الى مبتغاه فيقال أنه افلح في ذلك.
وقيل ان الاتيان بالفعل الماضي مع ان الفلاح هنا متأخر وانما يحدث في الآخرة من جهة تحققه قطعا.
ولكن يمكن ان يكون من جهة ان نفس التزكي والذكر والصلاة فلاح وفوز في الدنيا ايضا فقد تبين انه لا يقيد بالدوام والبقاء فالمتزكّي والذاكر لله مفلح بنفس العمل كما قال تعالى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ..).[2]
وفي المقابل من يعرض عن الذكر فقد قال فيه تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا..).[3] اي يعيش في ضيق.
والتزكي من الزكاة وهي بالنسبة للنفس بمعنى الصلاح والتقوى والطهارة وباب التفعل يدل على التلبس بالشيء فالمعنى التلبس بما يوجب الصلاح والطهارة.
والزكاة بالنسبة للمال بمعنى النماء والبركة والطهارة ايضا ومن هنا تطلق الزكاة على دفع المال في سبيل الله تعالى لانه يوجب نماءه عند الله كما قال تعالى (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).[4]
ويوجب ايضا طهارة المال اي زوال ما تعلق به من حق الله تعالى فانه اذا لم يدفع يعتبر مالا حراما فكأنه رجس مالي.
ويوجب ايضا طهارة النفس كما قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).[5]
ولكن الظاهر من التزكي هنا التلبس بما يزكي النفس ويطهرها من الرذائل وهو التقوى بوجه عام لا خصوص دفع الزكاة وانما ذكر قبل الصلاة لانّ مرحلة تزكية النفس وتطهيرها من الشحّ وسائر الرذائل تسبق مرحلة ذكر الله والصلاة والخشوع فالنفس الرذيلة لا يمكن ان تخشع لله تعالى.
ولكن ورد في بعض الروايات ما يوهم ان المراد به هنا دفع زكاة الفطرة في يوم عيد الفطر وأن المراد بالصلاة في الآية التالية صلاة العيد.
روى الصدوق قدس سره مرسلا قال (وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل "قد افلح من تزكى" قال من اخرج الفطرة فقيل له (وذكر اسم ربه فصلى) قال خرج الى الجَبّانة فصلى).[6]
والجبانة ــ بفتح الجيم وتشديد الباء ــ الصحراء وهو اشارة الى صلاة العيد حيث يستحب التصحر بها.
وروى ايضا بسند صحيح عن ابي بصير وزرارة قالا قال ابو عبدالله عليه السلام (ان من تمام الصوم اعطاء الزكاة ــ يعني الفطرة ــ كما ان الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم من تمام الصلاة لانه من صام ولم يؤدّ الزكاة فلا صوم له اذا تركها متعمدا ولا صلاة له اذا ترك الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ان الله عز وجل قد بدأ بها قبل الصلاة قال (قد افلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى).[7]
وهناك عدة روايات من طرق العامة في هذا الشأن وقد جمعها السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآيتين وهناك منهم من ينسبه الى امير المؤمنين عليه السلام ولم يرد من طرقنا.
وقد اعترض بعضهم على هذه الروايات بان السورة مكية وتشريع الفطرة وصلاة العيد انما كان بالمدينة.
واجاب بعضهم باحتمال كون هذه الآيات نازلة في المدينة.
وهو بعيد جدا فان سياق الآيات لا يناسب التفريق.
ولكن ما يصح من هذه الروايات لا يدل على أنها نزلت بهذا الشأن فالرواية الاولى مرسلة وقد روى الشيخ الطوسي قدس سره القسم الثاني منها في التهذيبين بسند ضعيف وعلى فرض الصحة لا تدل على شأن النزول بل يبدو منها تطبيق الآيتين على الفطرة وصلاة العيد.
وأما الرواية الثانية ففي هذا الذيل منها اشكال واضح من جهة أن المراد بها الاستشهاد بتقديم ذكر الزكاة على الصلاة في الآية لاثبات الحكم الاول وهو ان تمامية الصوم بالزكاة مع ان الصوم لم يذكر في الآية وانما ذكرت الصلاة فلا بد من توجيه الرواية بان الآية تدل على كون الزكاة أهم من الصلاة لتقديم ذكرها وبالتالي فهي أهم من الصوم ايضا لان الصلاة اهم منه قطعا فيثبت ما ورد فيها من عدم قبول الصوم بدونها.
ومع ذلك فان هذا الذيل يوجب عدم الوثوق بالرواية وان صح السند ظاهرا.
ونقل عن بعضهم أن الرواية من قوله (يعني الفطرة) الى آخرها من الصدوق او غيره.
وهو بعيد خصوصا مع تكرر النقل في التهذيب والاستبصار بنفس اللفظ بسند آخر ولكن نفس هذه المحاولة تدل على توقف الفقهاء في قبولها.
هذا مضافا الى ان التزكي كما بيناه ليس بمعنى دفع الزكاة بل بمعنى تطهير النفس وهو المناسب لتلك الاجواء اي بدء الدعوة.
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى...
الذكر بذاته يشمل اللفظي والقلبي. ولكن قيل ان المراد به هنا خصوص اللفظي منه لان الذكر تعلق بالاسم وهو لفظ.
وهذا غير صحيح اذ لا مانع من تعلق الذكر القلبي بالاسم فان ذكر الانسان لربه حتى في القلب يكون في الغالب بتوسط الاسماء والصفات.
بل ان تفريع الصلاة على الذكر كما تفيده الفاء ربما يقتضي الاختصاص بالذكر القلبي لانه هو الذي يستلزم الخشوع سواء كان مع التلفظ او بدونه واما من يذكر اسم ربه مستمرا من دون توجه بالقلب فقد لا يتسبب في خشوعه وصلاته.
ومن هنا يظهر أن المراد بالصلاة هنا مطلق الخشوع وان انطبق على الشعيرة الخاصة اي الصلاة بالمعنى المعروف وأما نفس الشعيرة فترتبها على الذكر بمعنييه غير واضح. ولذلك حاول المفسرون تأويل الذكر..
فقيل هو تكبيرة الاحرام لان الصلاة تقع بعدها.
وضعفه واضح فان التكبير جزء منها.
وقيل المعنى ذكر اسم ربّه بالخوف فعبده وصلّى له.
وليس في الآية ما يدل على الخوف.
وقيل ذكر اسم ربه بلسانه فصلى أي فأقام الصلوات الخمس. وقيل ذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد.
وهذان الوجهان لا يصححان التفريع.
وكلها محاولات فاشلة والصحيح أن المراد بالصلاة هو الخشوع لا الشعيرة الخاصة. ويلاحظ ان زمان نزول السورة كان قبل تشريع الصلوات الخمس وكثير من خصوصيات الصلاة ومن الواضح بهذا اللحاظ ان المراد بالتزكي تطهير النفس كما قلنا وبالصلاة الخشوع لله.
ولعل تخصيص الذكر باسم الرب يفيد أن خشوعه خشوع شكر وحبّ فان الربّ هو المالك المدبّر او هو المربّي ولو اريد منه الخشوع خوفا لقال وذكر العذاب والعقاب فصلى.
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا...
اضراب عن الفلاح بالتزكي والخطاب للبشر بوجه عام. وعلى قراءتها بالياء (بل يؤثرون) يعود الضمير الى الناس عامة والمعنى ان الناس لا يهتمون بالفلاح والتزكي وذكر الله والصلاة لانهم يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة. والايثار: التفضيل.
وهذا التعبير لا يختص بمن يعتقد بالآخرة بل يشمل الكافر لانه وان لم يؤمن بها الا انه لا يمكنه الانكار بحجة وبرهان فهو يحتمل ذلك قطعا وحيث انه احتمال خطير جدا فينبغي للعاقل ان يهتم به وحيث ان الناس لا يهتمون به عموما فهو معنى ترجيح الحياة الدنيا.
وهذا هو الواقع حتى بالنسبة للمؤمنين بالآخرة فانهم لو آثروا الآخرة لكان اكثر عملهم لها ولزهدوا في الحياة الدنيا ولكن المشهود منهم الزهد في الآخرة حتى بعض الصالحين الذين لا يتركون واجبا ولا يرتكبون محرما ولكنهم يرضون باقل درجة من الآخرة ويحاولون البلوغ الى اقصى درجات الرفاهية والراحة واللذة في الدنيا عن طريق الحلال.
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى...
الخير في الاصل بمعنى الميل الى الشيء ومنه الاختيار فما تختاره من بين الامرين او الامور هو ما تميل اليه. والخير بقول مطلق ما يميل اليه اكثر الناس.
وربما يستعمل لبيان ما هو الافضل من الشيئين او الاشياء ومنه هذه الآية فالمعنى أن الآخرة أفضل من الدنيا لكل البشر الا أنهم يجهلون ذلك الى ان يروه بالعيان.
وقوله (أبقى) اي انها أبقى من الدنيا لانها زائلة وهذا التفضيل في البقاء لا ينافي كون الآخرة هي دار البقاء بنحو مطلق كما قال تعالى (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ..)[8] فلا يراد بكونها ابقى انها اطول زمانا لان البقاء خاص بها.
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى...
(هذا) اشارة الى ما مر في اخر الآيات اي من قوله (قد افلح من تزكى). والغرض التأكيد على أن الايمان بالآخرة من اصول رسالة السماء وليس امرا اختص ببيانه الرسول الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم كما توهمه المشركون فهذا المعنى ورد في الصحف السماوية الاولى اي القديمة ولا يقصد انها اول ما نزل من السماء.
والصحف جمع صحيفة وهي في الاصل كل شيء منبسط كالقصعة العريضة والمراد بها هنا الالواح التي كتب عليها آيات الله تعالى التي انزلت على ابراهيم عليه السلام.
والمراد بصحف موسى عليه السلام التوراة ولعل الجمع باعتبار انها نزلت في الواح قال تعالى (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ).[9]
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد واله الطاهرين.
[1] طه: 64
[2] يونس: 62- 64
[3] طه: 124
[4] الروم: 39
[5] التوبة: 103
[6] من لا يحضره الفقيه ج1 ص510
[7] من لا يحضره الفقيه ج2 ص 183
[8] النحل: 96
[9] الاعراف: 145<