سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى...
قلنا ان الآيات السابقة تدل على أن خلق الكون مبني على الهداية فكل مخلوق مهدي الى غايته ويبدو أن هذا مقدمة للتنبيه على أن هدايات الله تعالى التي نزلت على الرسل عليهم السلام انما هي جزء من النظام الكوني.
ومن هذه الآية يبدأ هذا التنبيه وفي هذا المقطع يمنّ على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بتثبيت الوحي في قلبه وعلى لسانه حينما يتلو القرآن على الناس وبتيسير الامور له ويأمره بتذكير الناس.
والإقراء إفعال من القراءة وهي تلاوة الكلام. والظاهر أن اصله الجمع لان القارئ يجمع الكلمات ويلقيها من فيه. وقيل اصله الالقاء واللفظ ويشهد للاول التعبير بالقرية عن مجتمع الناس.
ومهما كان فالإقراء بمعنى جعل أحد يقرأ شيئا ولذلك يقال لمن يعلّم الناس قراءة القرآن (مُقرئ) ولكن الإقراء هنا ليس بهذا المعنى لان السين في قوله تعالى (سنقرئك) تدل على انه امر سيحدث في المستقبل مع أن الاقراء بهذا المعنى كان متحققا بواسطة الملك قبل ذلك حيث كان يتلو الآيات على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
فالظاهر أن المراد أن الله تعالى يُقرئه حين يتلو على الناس بتأثير غيبي كما هو ظاهر الاسناد اليه تعالى وكما هو مقتضى تفريع عدم النسيان فانه لا يترتب على الاقراء الطبيعي بل يترتب على إقرائه تعالى المستلزم لتثبيته في القلب.
وربما يتوهم من سين الاستقبال أن هذا الاقراء لم يكن قبل ذلك فهو أمر حادث فما هو الموجب للوثوق بعدم النسيان قبل ذلك؟!
والجواب أن الله تعالى لا يوكل أمرا الى أحد الا وهو قادر عليه باذنه ويهيء له اسبابه فلو لم تكن هذه الآية وهذا الوعد من الله تعالى لم يكن هناك ايضا شك في ان الرسول صلى الله عليه واله وسلم ما كان ينسى ما يتلى عليه.
وأما السر في الاتيان بالسين المفيدة للاستقبال فهو أن المراد كما ذكرنا ليس الاقراء حين نزول الوحي بل حين التلاوة على الناس وهي ما كانت متحققة حين نزول هذه الآية كما هو واضح فمعنى الآية سنجعلك تتلو القرآن على الناس فلا تنسى لانه بتثبيت منا ولا ينفي ذلك أن هذا التثبيت كان حاصلا فيما سبق من التلاوة ايضا.
ولكن القوم رووا أحاديث في صحاحهم ومسانيدهم تدل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يكن واثقا من نفسه ويتخوف النسيان بل فسروا به قوله تعالى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)[1] ومن الأحاديث المذكورة ما يلي:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا وَقَالَ سَعِيدٌ أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قَالَ جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قَالَ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ) [2]
وقد ناقشنا الحديث في تفسير سورة القيامة ورددناه بوجوه عديدة لانه مخالف لما هو ظاهر الآيات بل صريحها.
ومن الواضح ان الرواية لا يمكن قبولها من ابن عباس لأنه لم يولد حين نزول الآيات او كان صغيرا جدا فقد ولد قبل الهجرة بثلاث سنين فكيف يروي تحريك الشفتين ويحكيه بتحريك شفتيه مع أنه لا يصح الاخذ به حتى لو رواه عن أحد الا اذا كان معصوما فان حالة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين نزول الوحي لا تعلم الا من قبله.
ومن هنا يتبين أن هذه الآية لا علاقة لها بآيات سورة القيامة لان هذه الآية كما قلنا تدل على تثبيته تعالى لقراءة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين تلاوة القرآن على الناس.
والمراد هناك التأكيد على أن الالفاظ كلها من الله تعالى وليس للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ان يتعجل باللفظ حدسا وتخمينا ولا يعني ذلك انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يفعل ذلك كما يتوهم والنهي لا يدل على وقوع المنهي عنه ومثله كثير في خطابات القرآن كقوله تعالى (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ).[3]
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ...
الاستثناء بالمشيئة لا يعني أن هناك من الوحي ما ينساه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين التلاوة فانه غير ممكن وقوعا لانه يستلزم عدم امكان الاعتماد على نقله.
بل الاستثناء للتنبيه على أمر مهم يجب ان لا يغفل عنه الانسان في جميع شؤون حياته وهو أن الامر بيد الله تعالى وهو غير محكوم بالقوانين والسنن التي اتخذها وان كان لا يبدل سننه كما قال تعالى (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[4] وقال ايضا (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)[5] ولكن ذلك بارادة منه تعالى ولو شاء ان يغير فلا يمكن ان يمنع من تحقق ما اراده شيء.
فالاستثناء نظير قوله تعالى (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)[6] واوضح منه قوله تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)[7] لتصريحه بانه عطاء غير مجذوذ اي غير مقطوع.
وهذا أدب قرآني يعلّمه الناس حتى لا يَعِدوا أنفسهم ولا غيرهم ولا يتعهدوا بشيء ولا يخبروا عن وقوع شيء الا مع اشتراط مشيئة الله تعالى كما قال (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ..).[8]
ولكن بعض المفسرين تمسك بظاهر الاستثناء وقال ان هناك ما نساه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بل انساه الله تعالى بنسخ التلاوة والحكم.
وهذا مبني على عقيدة فاسدة تقرر أن هناك من الآيات ما نسخ الله تلاوته.
وهذا الامر في حد ذاته مستحيل عليه تعالى لان النسخ بمعنى الندم عما قرره سابقا لا يمكن الاسناد اليه تعالى وانما ينسخ الحكم بمعنى انتهاء امده او انتهاء المصلحة والمفسدة التي بني الحكم عليها والا فلا يمكن ان يتبدل الحكم على أساس تبدل رايه تعالى اذ هو امر محال يستلزم نسبة الجهل اليه تعالى الله عن ذلك. وقد قال تعالى (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)[9] ونسخ التلاوة لا مبرر له الا تبدل الراي.
وانما استخف القائلون بهذا التفسير اسناد النسيان الى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم اغترارا ببعض ما رووه في صحاحهم فانهم لا يسعهم انكار ما ورد فيها وان استلزم التشكيك في القرآن الكريم!!!
ننقل هنا ما ورد في التحرير والتنوير لابن عاشور وهو لا يختص به ولكن عبارته اوضح واشمل.
قال (والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا شاء اللّه أن ينساه. وذلك نوعان أحدهما: وهو أظهرهما أن اللّه إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلى اللّه عليه وسلم أمره بأن يترك قراءته فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم المسلمين بأن لا يقرأوه حتى ينساه النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون. وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال: «كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما» قال عمر: لقد قرأناها، وأنه كان فيما أنزل: «لا ترغبوا عن آبائكم فإنّ كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم» النوع الثاني: ما يعرض نسيانه للنبي صلى اللّه عليه وسلم نسيانا موقتا كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض اللّه له ما يذكره به ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت: «سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم رجلا يقرأ من الليل بالمسجد فقال: يرحمه اللّه لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن أو كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا» وفيه «أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله أبيّ بن كعب أنسخت؟ فقال: نسيتها).
لا أظن أن هذا الكلام بحاجة الى تعليق ولكن من المؤسف أن علماء المسلمين هكذا وبكل بساطة يسلبون الاعتماد عن القرآن الكريم ويبررون الشك فيه ويثيرون احتمال سقوط آيات من السور لمجرد رواية او روايات وردت في البخاري وكأن قداسة البخاري والالتزام بصحة كل ما فيه مع انه صنع انسان غير معصوم أهم عندهم من قداسة كتاب الله تعالى.
واما قصة الآيات التي نسبها عمر الى القرآن فهي مضحكة وتعبيرها لا يناسب ان يصدر من عربي عامي فكيف بالكتاب العزيز وهو افصح الكلام. والمسلمون رفضوا ان يقبلوا منه وكُتّاب المصحف الشريف لم يكتبوا هذه الآيات المزعومة وهو لم يدّع فيها نسخ التلاوة كما قالوا بل كان مصرا على انها من القرآن الى آخر ايام حياته.
روى مالك في الموطأ حديثا عن سعيد بن المسيب يقول فيه (لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ مِنًى أَنَاخَ بِالْأَبْطَحِ... (الى ان يقول) ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ سُنَّتْ لَكُمْ السُّنَنُ وَفُرِضَتْ لَكُمْ الْفَرَائِضُ وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَتَبْتُهَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا...قَالَ مَالِك قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَمَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ..).[10]
وهذا من اوثق الادلة على اهتمام المسلمين الاوائل برفض كل ما فيه ادنى ريب للاضافة الى كتاب الله تعالى وان كان الذي يرويه هو صاحب الدَّرّة التي يتقيها الصحابة.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى...
الجهر اعلان الشيء وكشفه وعلوه كما في معجم المقاييس. والجملة تعليل لامر مما سبق ذكره.
وقد اختلف المفسرون في تعيين ذلك وفي وجه التعليل فقال بعضهم انها تعليل لعدم النسيان والاستثناء وأن الجهر ما يقرأه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم على الناس ولا ينساه وأن ما يخفى ما ينساه فيسقطه.
وهذا كلام باطل فان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لا ينسى شيئا من الوحي ابدا كما مر بيانه مضافا الى ان علمه تعالى بذلك لا يمكن ان يكون تعليلا للذكر ولا للنسيان.
وفي روح المعاني (إنه تعالى يعلم ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها حالك وحرصك على حفظ ما يوحى إليك بأسره فيقرئك ما يقرئك ويحفظك عن نسيان ما شاء منه وينسيك ما شاء منه مراعاة لما نيط بكل من المصالح والحكم التشريعية).
وهذا كسابقه من حيث اشتماله على النسيان وهو باطل وانه لا يصحح التعليل.
وفي الظلال (وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقراء والحفظ والاستثناء فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى ويطّلع على الأمر من جوانبه جميعا، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا).
وهذا لا يشتمل على النسيان ولكن التعليل لم يظهر وجهه فليس العلم على هذا القول هو السبب بل الحكمة المستندة الى العلم العام لا خصوص الجهر وما يخفى.
وفي الميزان (سنصلح لك بالك في تلقي الوحي وحفظه لأنا نعلم ظاهر الأشياء وباطنها فنعلم ظاهر حالك وباطنها وما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي والحرص على طاعته فيما أمر به).
ومردّ كلامه قدس سره الى ان السبب في حفظ الوحي هو علمه تعالى بان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حريص على حفظ الوحي فيحفظه له وهو غريب جدا في مقام التعليل.
وفي مجمع البيان (والمعنى أنه سبحانه يحفظ عليك ما جهرت به وما أخفيته مما تريد أن تعيه).
وهو خال عن توجيه التعليل نهائيا مع انه يشتمل على ما لا يمكن قبوله من اخفاء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بعض الوحي ولا معنى لوعيه ما يخفيه.
وقال بعضهم ان التعليل يعود الى كل ما سبق من الآيات من دون بيان الوجه في ذلك. والحاصل ان الارتباك واضح في التفاسير.
والظاهر انه تعليل لترتب عدم النسيان على الاقراء وأنه على الله يسير وقد بيّنّا ان المراد بالإقراء هو جعله يقرأ ويتلو القرآن على الناس لا حين تلقّي الوحي وأنّ هذا الاقراء بتأييد غيبي من الله تعالى فهو لا ينسى شيئا مما اُلقي عليه.
والسر فيه انه تعالى يعلم ما هو في ذاكرة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهو غيب طبعا فيحافظ عليه الله تعالى كما اُلقي عليه حتى لا يتغير ولا ينقص منه شيء ولا يزيد عليه شيء فهو تعليل لإمكان إقرائه تعالى اياه بحيث لا ينسى ولا يزول عن ذاكرته.
ومورد الاهتمام في هذه الجملة قوله (وما يخفى) فان الغرض التنبيه على علمه تعالى بالغيب المستور في نفس الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأما ذكر علمه تعالى بالجهر فالمراد به الاشارة الى ان علمه بهما على وتيرة واحدة ولا يختلف عنده الجهر والسر واما العلم بالجهر فلا يختص به تعالى.
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى...
عطف على قوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى) وهي بشارة ثانية للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم في مطلع رسالته بعد الوعد بالإقراء بأن الامر سيكون سهلا يسيرا عليه والتيسير بمعنى جعل الشيء سهلا متاحا.
واليسرى صفة لمقدر اي الطريقة اليسرى وهي مؤنث الايسر افعل تفضيل من اليسير وهو السهل الميسور.
وقد يقال ان التعبير من باب القلب اي (ونيسر اليسرى لك) كما قال موسى عليه السلام (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي)[11] وقد ورد مثل هذا التعبير في قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى).[12]
ولكن يمكن ان يقال ان السر في اختيار هذا التعبير أن التيسير هنا ليس بتسهيل الامر بل بتغيير في الشخص فيسهل عليه الوصول الى المقصود وكذلك في سورة الليل.
وهناك فرق بين تيسير الامر كما طلب موسى عليه السلام وتيسير الانسان بمعنى تربيته وتغيير نفسيته وخصائصه بحيث يسهل عليه الوصول. ولعل من شؤون ذلك ان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بنفسه وبطبيعته كان متسامحا يتعامل بيسر وليونة.
وأما اليسرى فقد قيل انها صفة للشريعة حيث ان شريعة الاسلام سمحة سهلة.
ولكن الانسب بالمنة على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وتفريع وجوب التذكير ان يكون المراد بها الطريقة التي يؤمر بها في التبليغ والحكم بين الناس فقد كان هاجس الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم هو الخوف من القصور في تبليغ الرسالة ولا يهمّه محتواها مهما كان.
وهكذا كان من قبله من الرسل عليهم السلام فان موسى عليه السلام ايضا لما امر بالدعوة طلب من الله تعالى ان يشدّ أزره باخيه ولما استجيبت دعوته واُرسلا معا أبدَيا تخوفهما (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).[13]
وقصة يونس عليه السلام مشهورة والصحيح فيها كما ذكرناه في تفسير سورة الصافات ان فراره في السفينة انما كان تهربا من ان يرسل الى قومه.
وليس معنى الآية أن طريق الدعوة سهل يسير فمن الواضح انه كان شائكا مليئا بالحروب والفتن. وتحمل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم في سبيله أذى كثيرا من المشركين والمنافقين حتى اشتهر عنه قوله (ما اوذي نبي مثل ما اوذيت)[14] وان لم نجد له مصدرا في كتب الحديث وانما اسنده المؤلفون الى الاشتهار.
بل المعنى انه اسهل طريق يمكن الوصول به الى الهدف فان اليسرى افعل تفضيل من اليسر والافعل اذا كان محلى باللام فمعناه انه اقوى شيء في تلك الصفة فالمعنى انه الايسر من الطرق ولا يلازم ذلك ان يكون في نفسه سهلا لا يحتوي على صعوبات.
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى...
الفاء للتفريع اي حيث انا نقرئك فلا تنسى ونيسرك لليسرى فذكر فان التذكير وظيفة الرسول والواقع أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يؤديها بكل اخلاص وقوة ولكنه لولا التثبيت من الله تعالى كان يعرض عليه الضعف والخوف. والله تعالى بمثل هذه الوعود يقوي عزيمته فالامر بالتذكير بمعنى الاستمرار عليه بنفس القوة من دون خوف وقلق.
ومعنى التذكير ان يجعلهم يذكرون ما نسوه وينتبهون له. والذكرى اسم مصدر من التذكير. ولعل الوجه في اختيار هذا التعبير الاشارة الى ان الايمان بالله وحبه والخوف منه مرتكز في فطرة الانسان الا انه ينساه لتوغّله في زينة الحياة الدنيا فارسل الله رسله ليذكّرهم به.
واشترط في وجوب التذكير ان يكون له نفع والا فلا وجه له وهذا الشرط لا بدّ منه فلو لم يصرح به كان الوجوب مقيدا عقلا بكونه مفيدا.
وهو في الغالب له نفع ولو جزئيا الا ان بعض الناس لا يؤثر فيهم شيئا بل ربما يضر ويثير فيهم التعصب والتشبث بطريقتهم الفاسدة كما قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)[15] وقال ايضا (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)[16] ولكن ذلك لا يمنع من وجوب التذكير ابتداءًا حتى يتبين انه من الظالمين او من المؤمنين.
فتبين أن معنى الآية واضح ولكن في كثير من التفاسير محاولة تأويل الآية تهربا من اشكال موهوم وهو أن الشرط ينافي وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فان التذكير واجب عليه نفع ام لم ينفع.
فقال بعضهم ان هذا من قبيل قوله تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ..)[17] فان التقدير (والبرد) فالتقدير هنا (ان نفعت او لم تنفع).
وبطلان هذا الكلام واضح والقياس على هذه الآية باطل ايضا اذ يستلزم ان لا يكون للقيد اي معنى.
وقال بعضهم ان الشرط ليس على حقيقته بل المراد الاشارة الى ان الذكرى تنفع مهما كان الحال.
وقيل (ان) بمعنى (قد) وقيل ان الشرط بمعنى ان الذكرى لا تنفع في هؤلاء وكل هذه المحاولات الباطلة لدفع اشكال موهوم.
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى...
اي سيتذكر من يخشى. والخشية: الخوف. اي من يخاف الله او يخاف ما توعّد الله به عباده كما قال تعالى (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ).[18]
وهذا الخوف لا يستلزم الايمان حتى يقال ان التذكر لا يختص بالمؤمن فان الكافر يتذكر فيؤمن بل يكفي في تحقق الخوف احتمال الصدق فان العاقل يهتم به لخطره ولكن الشقي من لا يهتم بهذا الاحتمال لقلة عقله كما قال تعالى (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).[19]
والحاصل ان المراد بالآية أن الذي يتأثر بانذار الرسول هو الذي يحمل قلبا خاشعا مستعدا للتذكر.
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى...
التجنب: الابتعاد. والضمير يعود الى الذكرى. والاشقى اي من هو أشقى من الجميع فلا أحد أشقى منه كما مر توضيح ذلك في تفسير كلمة اليسرى.
والشقاء والشقوة خلاف السعادة ولعل الاصل فيها العسر والتعب والمعاناة. ولا شك ان ابعد انسان عن السعادة من يبتعد عما يذكّره بسعادته الابدية فلا يحب ان يسمع ذلك فضلا عن الاعتقاد به ثم العمل فهو بعيد عن السعادة بمراحل فاتصافه بانه الاشقى ينشأ من نفس هذا التجنب لا انه صفة مسبقة نظير ما يقال في قاتل امير المؤمنين عليه السلام انه اشقى الاشقياء فانه لم يكن بهذه الصفة مسبقا وانما اكتسبها بفعلته الشنيعة لعنه الله.
وقيل المراد به الكافر لانه اشقى من الفاسق وقيل الكافر المتوغل في الكفر او المنكر للمعاد وقيل يراد به بعض المشركين خاصة. وهذه التأويلات انما نشأت من توهم أن هذه الصفة لا بد من كونها صفة مسبقة قبل التجنب.
ووصفه بانه يصلى النار الكبرى وهذا ايضا وصف له بسبب التجنب. ويبدو من التوصيف كأنه حين ابتعاده عن الذكرى يصلى النار اي يقاسي حرها وشدتها ويحترق بها والمراد بها جهنّم وهو من باب المبالغة. والغرض بيان ان هذا مصيره المحتوم فكأنه واقع من اول يوم.
والظاهر ان توصيفها بالكبرى بالقياس الى نار الدنيا ولا شك ان تلك النار لا تشبه نار الدنيا وليست من جنسها وتختلفان في الحقيقة والصفات ومن خصائصها ما يذكر هنا من ان من يصلاها لا يموت ولا يحيى.
وقيل المراد بها الطبقة السفلى في جهنم.
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى...
(ثم) للتراخي الرتبي اي مضافا الى احتراقه بالنار لا يموت فيها ولا يحيى. فهو عذاب اشد من نفس النار.
ومعنى ذلك ان الموت ياتيه باستمرار ولكنه لا يموت فلا هو حي كسائر الاحياء ولا هو ميت فيستريح من العذاب كما قال تعالى (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ..)[20] فاذا جاع اعطي الزقوم والضريع ولا تأتي منهما الحياة بل الموت واذا عطش سقي الغسلين والحميم وهكذا.
[1] القيامة: 16- 17
[2] البخاري ج1 ص4 باب بدء الوحي وصحيح مسلم ج2 ص34 باب الاستماع للقراءة
[3] الاحزاب: 1
[4] الاحزاب: 62 الفتح: 23
[5] فاطر: 43
[6] الانعام: 128
[7] هود: 108
[8] الكهف: 23- 24
[9] ق: 29
[10] الموطأ ج5 ص184 على ما في المكتبة الشاملة
[11] طه: 26
[12] الليل: 5- 7
[13] طه: 45- 46
[14] بحار الانوار ج39 ص56 / تفسير الرازي ج 4 ص 176
[15] البقرة: 206
[16] الاسراء: 82
[17] النحل: 81
[18] ق: 45
[19] الزمر: 9
[20] ابراهيم: 17