مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ... اللام في قوله (للذين آمنوا) للتعليل ومعناه انهم قالوا ذلك في شأنهم وليس الخطاب لهم كما هو واضح وقد مر مثله في قوله تعالى (قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين) اي قالوا ذلك في شأن الحق. والضمير في قولهم (كان خيرا) يعود الى الايمان والمعنى أن الايمان لو كان خيرا لكنا سباقين له كما نحن سباقون في كل خير.

والمراد بالذين كفروا كفار مكة كما هو مصطلح القرآن في هذا التعبير فالقول بان المراد كفار اهل الكتاب غير صحيح وانما قاله من توهم ان المراد بالذين آمنوا عبدالله بن سلام ومن آمن معه من اليهود وهو في حد ذاته مردود لما مر من أن الآية مكية مضافا الى ان عبدالله كان عظيما في قومه فلا يناسبه ما ورد في هذه الآية من تحقير.

فالصحيح أن الآية تشير الى قول كفار مكة حول الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث ان أكثرهم كانوا من الفقراء والضعفاء والعبيد فاعتبر المستكبرون ايمانهم بهذا الدين دليلا على ضعفه وانه ليس شيئا يعتمد عليه وهذا شأن المستكبرين في كل عهد كما قال الكفار من قوم نوح عليه السلام (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ...) فأجابهم نوح عليه السلام في ما أجابهم (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ). [1]

وهذا في الواقع غلو في الاعجاب بالنفس لدى المستكبرين وأصحاب الجاه والثراء فيزعمون أنهم هم أصحاب الرأي الثاقب وأن الفقراء ليس لهم ادراك قوي مع ان الذكاء والغباء لا يرتبط بالجاه والمال بل ربما يكون الغالب في اصحاب الثراء وخصوصا في الجيل المتأخر الذي حصل على الثراء بالارث هو الغباء والحمق بسبب توغلهم في الرفاه والراحة مما يوجب فقدان النشاط الفكري لديهم كما هو مشهود بوضوح.

وأغرب من ذلك أنا نجد عامة الناس يهتمون بآراء أصحاب الجاه والمال أكثر من غيرهم وكأن المقياس في حصافة الرأي هو المال والجاه وكلما تنزلت الثقافة العامة في المجتمع رأيت هذا الداء فيهم أعم وأدوم حتى انهم ينتخبون لمجالسهم النيابية أصحاب الثراء دون التفات الى مدى ثقافتهم.

وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ... (اذ) للتعليل اي حيث انهم لم يهتدوا به لاستكبار في نفوسهم بحثوا عن ذريعة لعنادهم فسيقولون هذا افك قديم ليكون حجة لهم في عدم التسليم للدين كما قالوا في موضع آخر (أساطير الاولين) وهم بذلك يعلنون كفرهم بجميع الديانات السماوية وان كانوا يظهرون أنهم انما يكذبون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته ولا يكفرون بالله تعالى ولكنهم يكذبون في ذلك كما قال تعالى في (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُون).[2] كما أن قولهم (افك قديم) يدل على أنهم يعتبرونه امتدادا للرسالات السابقة ويعتبرونها بأجمعها إفكا ومثله قولهم (أساطير الاولين) بل حكي عنهم في القرآن كفرهم بالتوراة صريحا قال تعالى (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ)[3]

وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً... لعل الجملة في معنى الحال اي انهم يقولون في القرآن ذلك مع ان الذي قبله وهو المشار اليه بقولهم افك قديم كتاب موسى عليه السلام اي التوراة ولعل التعبير عنه بكتاب موسى للتنبيه على دور الرسول في اتيان الكتاب كما أتى لهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالقرآن وقوله (اماما ورحمة) حالان من الكتاب.

والامام هو القدوة. والتعبير عن الكتاب السماوي بالامام باعتبار انه يخطط للمؤمن سبل حياته بحيث يكون عمله مرضيا عند الله تعالى والامام هو المقتدى ولذلك يعبرون عن شاقول البناء بالامام وقال تعالى (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)[4] في اشارة الى صحيفة عمل الانسان التي بموجبها يتحدد مساره وطريقه ويتعين مقامه ومنزلته. والكتاب السماوي رحمة ايضا في نفس الوقت لما يشتمل عليه من الآيات التي تبعث في الانسان الايمان والطمأنينة وتنير له الطريق وتبين له خيره وشره في الدنيا والآخرة وتشفيه من الامراض النفسية كالجهل والكبر والحسد ونحو ذلك.

وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا... تكرر هذا المضمون في القرآن الكريم للتأكيد على أن هذه الرسالة امتداد للرسالات السابقة وأن هذا الكتاب على نفس الصراط والطريق الذي رسمته الكتب السماوية القديمة فالقرآن يصدّق ما نزل في التوراة والانجيل كما أن الانجيل مصدق للتوراة ولا اختلاف بين اصول الشرائع أساسا كما مرّ في تفسير سورة الشورى. وفي التنويه على كونه عربيا امتنان على القوم واتمام للحجة عليهم بان الكتاب نزل بلغتكم فلا عذر لكم. وقوله (لسانا عربيا) حال من الكتاب.

لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ... بيان للهدف من ارسال الكتاب والرسالة وهو انذار الظالمين بعذاب ينتظرهم وبشرى للمحسنين و(بشرى) مفعول لاجله معطوف على محل (لينذر). وقد مر الكلام حول الظلم وأنه لا يتوقف في صدقه على وجود مظلوم بل هو وضع الشيء في غير موضعه فمن لم يتبع الحق وعانده فهو ظالم وان لم يتعدّ على حقّ أحد ولذلك قوبل بالمحسنين. والاحسان: الاتيان بالاعمال الحسنة. ولا يخرج من المجموعتين الا من لم تتم عليه الحجة مطلقا وهو قليل.   

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ... هذه الآية تشير الى مصداق واضح للمحسنين وهم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ففي قولهم ربنا الله حصر للربوبية فيه تعالى حيث لا يعترفون بأي رب غيره ولا يدينون لأحد الا له تعالى واستقاموا على هذه العقيدة في مرحلة العمل وهذه هي المرحلة الصعبة في الايمان فهناك من الناس من يعلن كلمة التوحيد ويتشدق بها ويعلن دفاعه عنها بل ربما يدافع بلسانه ويأتي بالادلة والحجج الدامغة لاثباتها ولكنه في مرحلة العمل وفقا لها ضعيف الايمان فلا يتحمل في سبيل الله المشاق بل ربما لا يتحمل في سبيل اطاعته التنازل عن شيء من المال كما نجده في كثير من الناس وأصعب منه بذل النفس في سبيله وفي سبيل احياء دينه فقلما تجد مؤمنا يستقيم في هذه المرحلة بل يحاول الاكثر لو لم نقل الجميع اختلاق المعاذير للتهرب من المسؤولية بل الغالب ذلك حتى لو لم يتوقف الامر على بذل النفس فيتهرب الانسان عن ادنى مشقة وتعب في سبيل العقيدة. وكثير من الناس ينكر الحكم الشرعي او يستنكره حتى لو كان صريح القرآن في ما اذا عارض مصالحه.

فالاستقامة والثبات على الدين في مرحلة العمل هو الشرط الاساس للفوز ولذلك عطف على اصل الاعتقاد واعتبر شرطا في صفة المؤمن الذي لا يخاف ولا يحزن اي لا يخاف من سوء العاقبة فان عاقبته مضمونة بما وعده ربه من الحسنى ولا يحزن على ما فاته من متاع الدنيا فانه يعلم انه لا قيمة له في قبال ما يحصل عليه من فضل ربه وأهمه رضوان الله تعالى.

والعطف بـ (ثم) لافادة التراخي فان المراد بالاستقامة الثبات في مقام العمل كما قلنا وهو متأخر عن الاعتقاد وهو المراد بقولهم (ربنا الله) اذ لا يراد به التلفظ فحسب فان المنافق ايضا يقوله ولكنه لا يفيده فالمعتبر الاعتقاد الراسخ بربوبيته ووحدانيته تعالى بحيث يستوجب الثبات في مرحلة العمل وهذا التوحيد يستلزم نفي ما عدا رضاه تعالى من الدواعي في العمل. والاستقامة التامة لا تتحقق الا من المعصوم. وقد تقدم بعض الكلام في نظيرة هذه الآية في تفسير سورة فصلت الآية 30.

أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ... تأكيد على أن الانسان مجزي بعمله فالمقربون ايضا لم يقرّبهم الى الله شيء الا أعمالهم. والعبرة ليست بحجم العمل فربما يعيش المؤمن قرنا او أكثر وهو صالح ويعمل الصالحات ولكن لا يقاس عمله بعمل أحد المقربين الذي يترك الدار الدنيا ــ وهي دار العمل ــ في عنفوان شبابه كما اتفق لجمع من الانبياء والأئمة عليهم السلام ولسيدتنا الزهراء سلام الله عليها فالعبرة بالنية والخلوص والاستقامة وهنا يصعب الاختبار ويشتد البلاء بحيث يؤثر أحدنا او كلنا حرمانه من تلك المنازل والمراتب على الابتلاء بما يوصله اليها.

 


[1] هود: 27 و31

[2] الانعام: 33

[3] القصص: 48

[4] يس: 12