مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا... لعل المناسبة بين هذه الآية وما سبقها انه بعد ان بين ان القرآن ينذر الذين ظلموا ويبشر المحسنين ثم بيّن صفة الموحدين الذين استقاموا على التوحيد في كل أعمالهم بيّن هنا صفة اصحاب اليمين واصحاب الشمال ولكنه جعله في اطار الوصية بالوالدين للاشارة الى ان العامل الاساس في نشأة المجتمع الصالح هو التربية الصالحة تحت ظل الوالدين الصالحين. ولكن الآية تنبه على ان التربية الصالحة وصلوح الوالدين لا يكفيان لنشأة الجيل الصالح فيذكر هنا نموذجين من البشر تربى كل منهما في بيئة مؤمنة صالحة ولكن أحدهما تبع طريق الوالدين والآخر خالفهما. 

والوصية بمعنى العهد والاصل فيها الوصل كأنّ من يوصي بشيء يوصل الكلام الى الموصى اليه والمراد بما أوصاه الله تعالى ما فرضه على البشر. وقوله احسانا لا يبعد ان يكون بتقدير (ان يحسن اليهما احسانا). وقد مر الكلام حول الوصية بالوالدين في سورتي العنكبوت ولقمان وقلنا ان الآية الكريمة تخبر ان الله تعالى قد اوصى الانسان بصورة عامة بالاحسان الى الوالدين والاهتمام بشأنهما ولم يقل (نوصيه) فيكون انشاءا فالظاهر انه اخبار عن وصية سابقة وقد خوطب بها جنس الانسان لا قوم خاص ولا صنف خاص فلعل المراد بهذه الوصية هو ما اودع في الانسان من نداء الفطرة او المراد انه تعالى اوصى بذلك في جميع شرائع السماء.

وهنا يبدو سؤال واستغراب من جهة أن الله تعالى أكد على حق الابوين على الاولاد ولم ينبه على ما للاولاد من حق عليهما مع أنه ايضا مذكور في الشرع ووردت الاشارة الى بعضه في القرآن ولكن لم يرد هذا التأكيد عليه ويلاحظ ان هناك من الابوين من لا يراعي حقوق اولاده بل يظلمهم ويتجنى عليهم بل منهم من يستحق الاعدام لجرائمه بالنسبة الى اولاده ولكن هذا نادر جدا والحالة العامة هو ان الآباء والامهات يعطفون ويحنون على اولادهم بدافع ذاتي وهو حنان اودعه الله تعالى في فطرة الانسان والحيوان عامة مضافا الى بعض الدوافع المادية التي يتوقعها الانسان من اولاده في المستقبل وان كان ذلك في الغالب مغفولا عنه ولكنه ربما يكون من الدواعي الارتكازية في اللاشعور.

واما احترام الاولاد للابوين وحبهما والعطف عليهما فيختلف ذاتيا حسب مراحل حياة الانسان ويمكن تقسيمها الى ثلاث مراحل:

المرحلة الاولى مرحلة حاجته اليهما في ايام صغره وضعفه فحبه وحنانه اليهما في هذه المرحلة امر طبيعي حيث انه لا يجد مأوى أدفأ من حضنهما بدون منة عليه وتوقع امر يثقل على كاهله فلا شك انه يحترمهما ويحبهما.

والمرحلة الثانية مرحلة استغنائه عنهما مع عدم احتياجهما اليه وتبادل الحب والحنان في هذه المرحلة امر طبيعي ايضا ويؤكده حاجات الطرفين وشعور كل منهما بالراحة والاطمئنان باللجوء الى الآخر.

والمرحلة الثالثة مرحلة حرجة جدا وهي مرحلة احتياجهما اليه بعد بلوغهما الكبر وعدم تمكنهما من تامين الحوائج الا بمساعدة من يحنّ عليهما فهما بحاجة الى قوة الشباب بل ربما الى المال ايضا واحوج ما يحتاجان اليه الحب والحنان والكلمة الطيبة والشكر لما اسدياه من جميل للاولاد طيلة الحياة وهنا تبدأ المشكلة فالولد ليس له في الغالب دافع ذاتي للاحسان اليهما وتحمل المتاعب في سبيل إسعادهما خصوصا ان الانسان في الكبر بحاجة الى عناية مركزة ومساعدة في جميع الحالات وهو اكثر حاجة من الطفل واضعف والعناية به أشقّ على الانسان واصعب والدوافع الذاتية بالنسبة اليه تكاد تكون معدومة ومن هنا فان الوضع بحاجة الى حثّ وتحريض شديد من الله سبحانه لايجاد دافع عرضي يعتمد على وعد من الله تعالى بالجزاء في الدنيا والآخرة.

ومن هنا اوصى الله الانسان بابويه وأكّد على احترامهما في زمان الكبر والحاجة حتى منع من التضجر منهما وقال (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ)[1] ولم يرد مثل هذا التأكيد في التوصية بالاولاد وان كان لهم ايضا حقوق على الابوين كحق النفقة والحضانة والتربية وغير ذلك ولكن ليست بهذه المثابة من الاهمية.

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا... خصّ الام بالذكر بعد الايصاء بهما معا وفيه اشارة الى ان حقها اكبر وشأنها اعظم وان كانت الولاية في الصغر للاب وليس للام ولكن الاحسان اليها وارضاءها اهم واذا تعارض رضاهما فرضا الام مقدم على رضا الاب كما دلت عليه الروايات الواردة في كتب الفريقين منها صحيحة هشام بن سالم عن ابي عبد الله عليه السلام قال (جاء رجل الى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقال يا رسول الله من أبرّ؟ قال امك قال ثم من؟ قال امك قال ثم من؟ قال امك قال ثم من؟ قال أباك).[2]

والمراد بحمله كرها ليس الكره حين العلوق بالطبع بل اثناء الحمل والمراد بكونه كرها تحقق امور تكرهها وان كانت راضية بل فرحة مسرورة بأصل الحمل فهي طيلة هذه المدة تلقى مصاعب كثيرة فان الجنين لا ينمو في بطن امه الا باستنزاف قواها وذلك بالطبع يؤدي الى تضررها وتدهور صحتها وضعفها كما قال تعالى في سورة لقمان (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)[3] والوهن هو الضعف والمراد انها تزداد ضعفا على ضعف كلما تكامل الولد وتطور في مراحله الجنينية وهذا امر طبيعي وتضعه ايضا على كره لأنها تتحمل ألما شديدا وتخاطر بنفسها حين الوضع وكم من والدة لم تر ولدها بعد الوضع او لم تشبع من رؤيته.

وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا... وهكذا تستمر الام في اسداء الخدمة لولدها فترضعه الى الفصال وهو القطع والمراد بيان مدة الحمل والرضاع وانما عبر بالفصال لانه آخر الرضاع والغالب فيه هو الاكمال عامين ويستحسن ان تفطمه حينئذ ويجوز قبل ذلك. قال تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)[4] ويظهر من الآية أنه لا تنبغي الزيادة عليهما.

قيل وفي ذلك اشارة الى ان مجموع الحمل والرضاع ينبغي أن لا يزيد على ثلاثين شهرا وأنه اذا كان الحمل تسعة أشهر فالرضاع التام واحد وعشرون شهرا. وهذا بعيد جدا بل غير صحيح لانه يستلزم ان يحمل قوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) على خصوص ما اذا كان الحمل ستة أشهر وهو فرض نادر.     

والآية وردت في مورد الطلاق مع وجود الولد وحاجته الى الرضاع فتدل على أن الامر في مدة الرضاع بيد الوالد وهو المراد بقوله (لمن أراد أن يتم الرضاعة) وانه اذا أراد الاتمام فمدته الكاملة حولان. واذا طرحنا الحولين من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر ولذلك ورد في أحاديثنا أن أقل الحمل ستة أشهر وهو المفتى به في الفقه ويظهر الأثر الشرعي في ما اذا ولدت المرأة بعد ستة أشهر من أول لقاء مع زوجها فان الولد يلحق به شرعا ولا يلحق به اذا كانت المدة أقل من ذلك.

ولكن الداعي الى التنبيه على هذا الامر هنا ليس هو الحكم الشرعي بل الاشارة الى المدة الطويلة التي تسهر فيها الام وتضحّي بعصارة جسمها لكي يبقى هذا الطفل الوليد وينمو فتمده بما يحتاج اليه من العناصر لتكوّن الجسم ايام الحمل عن طريق الدم مباشرة وبعد الولادة عن طريق اللبن. هذا مع سائر ما تستلزمه الرعاية والحضانة من تنظيف وتداوٍ وتدفئة وتعليم وتربية وغير ذلك، فأقل ما تستلزمه هذه العناية من زمان ثلاثون شهرا وان كان الغالب أكثر من ذلك لان مدة الحمل غالبا تسعة أشهر وربما يزيد. وأما ما يقال من أنّ أكثره أربع سنين بل اكثر منه كما في كتب العامة فهو كلام باطل ومضحك وانما قصد بذلك تنزيه ساحة بعض من ولدوا بعد آبائهم بهذه المدة من الاتهام بعدم شرعية النسب.

ننقل هنا كلام احدهم وهو الشيخ ابن عثيمين قال في شرح زاد المستقنع: (وقوله: «أو دون أربع سنين» بناء على المشهور من المذهب أن أكثر مدة الحمل أربع سنين، وسيأتينا ـ إن شاء الله ـ في كتاب العِدد، ولا دليل على أكثر الحمل، لكن قالوا: لأن هذا أكثر ما وجد، فنقول: تقييد الحكم بالوجود يحتاج إلى دليل؛ لأنه قد تأتي حالات نادرة غير ما حكمنا به، وهذا هو الواقع، فقد وجد من لم يولد إلا بعد سبع سنين! ولد وقد نبتت أسنانه، ووجد أكثر من هذا، إلى عشر سنين، وهو في بطن أمه حياً، لكن الله ـ عزّ وجل ـ منع نموه، فالصحيح أنه لا حَدَّ لأكثره وأنه خاضع للواقع، فما دمنا علمنا أن الولد الذي في بطنها من زوجها وما جامعها أحد غيره وبقي في بطنها أربع سنين، أو خمس سنين أو عشر سنين فهو لزوجها)[5]

ورووا في ذلك روايات فمن ذلك ما رواه البيهقى بسنده عن داود بن رشيد (قال سمعت الوليد بن مسلم يقول قلت لمالك بن انس اني حدثت عن عائشة رضي الله عنها انها قالت لا تزيد المرأة على حملها على سنتين قدر ظل المغزل فقال سبحان الله من يقول هذا؟! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة ابطن في اثنتي عشرة سنة تحمل كل بطن اربع سنين)[6] وروى في نفس الصفحة عن محمد بن عمر بن واقد في ذكر مالك بن انس ان امه حملت به في البطن ثلاث سنين!!!

حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً... اي استمرّ في النموّ والرشد جسما وروحا الى أن بلغ الاشدّ. واختلفوا في معنى الأشد بل اختلفوا في كونه جمعا مفرده الشدة او انه جمع لا مفرد له او مفرد لا جمع له وقال بعضهم ان المراد به بلوغ ثمانية عشر سنة وبعض آخر اعتبره بلوغ الثلاثين وقيل ان بلوغ الاربعين في الآية عطف تفسيري وقيل غير ذلك.

ويظهر بمراجعة الاستعمالات القرآنية أن معناه يختلف حسب الموارد فقد ورد هذا التعبير كشرط في دفع أموال اليتيم اليه كما في سورة الأنعام والإسراء وهما مكيّـتان (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ..)[7] وقد فسر ذلك في سورة النساء وهي مدنية بقوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ..)[8] فيتبين من بلوغ النكاح في هذه الآية أن المراد ببلوغ الأشد في تلك الآيتين البلوغ الجنسي مضافا الى الرشد في الامور المالية. وانما أخر التفسير الى السورة المدنية لعدم الحاجة بالفعل الى هذه الاحكام في مكة قبل الهجرة فاكتفي بالاشارة المبهمة الاجمالية. والظاهر أنّ المراد بالبلوغ الجنسي هو سنّ التكليف الشرعي.

وورد التعبير ببلوغ الاشد ايضا في مورد بعث الرسل او إيتائهم الحكم والعلم قال تعالى في شأن سيدنا يوسف عليه السلام (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا..)[9] وفي شأن سيدنا موسى عليه السلام (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا..)[10] ولعل المراد به هنا تكامل قواه العقلية والجسمية ولعل هناك امورا اخرى دخيلة في هذا الشأن. ومهما كان فلا شك أن العبارة هنا لا يمكن حمله على ما اريد في المورد السابق .

وعلى ضوء ما مر وهو اختلاف المعنى حسب الموارد يمكن ان يقال ان المراد به هنا هو الكمال العقلي فانه هو الشرط لمعرفته بالحقائق التي يبتني عليها صدور الكلام التالي منه. وانما اشترط ذلك لعدم كفاية بلوغ الاربعين اذ لعله يكون فاقد العقل والبصيرة فاذا كمل عقله وبلغ اربعين سنة حيث تكمل قواه الجسمية ويكتسب في هذه السنين خبرة وتجربة ويحصل على رصيد وافر من العلوم والمعارف المختلفة من هنا وهناك لو لم يكن طالب علم ومن جهة اخرى تدعوه فطرته الى التوحيد والتوجه الى الرب مضافا الى تربيته في بيئة صالحة فحينئذ ينتبه الى ربه ويدعوه:

قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ... قيل: ان معنى أوزعني: ألهمني وقيل: أولعني. والغالب في استعمال الوزع هو الكف والمنع وله استعمالات اخرى منها التوزيع بمعنى التقسيم ويمكن ان يكون ذلك ايضا من هذا الباب باعتبار منع اعتداء كل من الموزع عليهم على نصيب الآخر. ومنها الجمع كما في قوله تعالى (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)[11] اي يجمعون على احد الاحتمالين، ولعله باعتبار منعهم من التفرق. وأما هنا فلعله من جهة أن الالهام او الحثّ من الله تعالى يمنع الانسان من ترك الشكر. ومهما كان فالمعنى هنا كما في اكثر التفاسير: ألهمني أن أشكر نعمتك او ابعثني وأولعني على ذلك فالمراد الاستعانة بالله تعالى على شكره.

والشكر ليس بمعنى التحدث بالنعم وحمده تعالى على ما أنعم وان كان ذلك نوعا من الشكر ولكن ما وصفه الله تعالى بقوله (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)[12] هو العمل بمقتضى ما أمر الله تعالى به بالنسبة الى كل من هذه النعم فلا يستخدم العين واليد وغيرهما من الاعضاء الا في ما أمر به ويعمل بهداياته ووصاياه التي انزلها في كتبه وعلى لسان رسله فانها ايضا من نعمه تعالى. وارسال الانبياء ونصب أئمة الهدى عليهم جميعا سلام الله تعالى من أكبر نعمه وألطافه. وشكره على ذلك بمتابعتهم واظهار الحب والولاء لهم وعدم تقديم غيرهم عليهم.

ثم انه كما يهتمّ بما أنعم الله عليه ويشكره عليها يهتمّ ايضا بما أنعم على والديه ويشكره عليها اما لان تلك النعم تسري بوجه من الوجوه اليه خصوصا اذا لاحظنا ان الاهتمام منصبّ على نعمة الدين والايمان بالله وكتبه ورسله ولا شك ان ايمان الابوين يؤثر تأثيرا عميقا في ايمان الاولاد واما لانه يريد ان يتحمل شطرا من مسؤولية الوالدين تجاه النعم الالهية فالانسان مهما عمل وأخلص العبادة فانه لا يبلغ شكر جزء يسير من النعم الالهية المعلومة لدينا وما خفي اعظم وينبغي للمؤمن البار بوالديه ان يشركهما في عباداته وطاعاته ويطلب من الله تعالى ان يبعث ثواب عباداته اليهما خصوصا بعد وفاتهما فهما أحوج الى البر والاحسان حينئذ. والحاصل ان الآية لا يبعد ان تكون اشارة الى اشراك الابوين في ثواب العبادات والطاعات نظرا الى ان الشكر لا يقصد به الشكر اللفظي فحسب.

وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ... قوله (صالحا) صفة للمفعول المقدر اي اعمل عملا صالحا و(ترضاه) جملة وصفية للعمل ايضا. وهذه حاجة اخرى يطلبها من ربه وهي أن يبعثه على أن يعمل عملا صالحا يرضاه الله تعالى فرضاه هو غاية المقصود. والصلوح كما قلنا مرارا يختلف باختلاف الموارد وقوله (ترضاه) يحدد الصلوح هنا فالمراد العمل الذي يصلح لكسب مرضاته تعالى.

وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي... اي واجعل الصلاح في ذريتي. يطلب بذلك استمرار الصلاح في ذريته ليتصل الايمان والصلاح جيلا بعد جيل والتعبير بكون صلاح الذرية له يدل على مدى تأثر الآباء بصلاح أولادهم وهذا النموذج الصالح كما عمل الصالحات لابويه يطلب من الله تعالى ان يستمر ذريته على العمل الصالح بعده ليثاب هو عليه فان التربية الصالحة هي التي تؤثر في متابعة الاولاد لآبائهم في سلوك طريق الحق ومنهج الصلاح وهذا خير عمل للآباء وهذا كما ورد في الحديث (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة من غير أن ينقص من اجورهم شيء).[13]

إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ... سياق الآية يفيد أن هذه الجملة تعليل لما سبق فالذنوب هي العوائق من انتشار الصلاح في المجتمع وانتقاله الى الاجيال التالية وهذا النموذج الصالح يتخلّى ويتبرأ من ذنوبه ويتوب الى الله تعالى ليصلح ان يكون همزة وصل بين الجيل الصالح السابق (الوالدين) والجيل التالي المرجو صلاحه. والانسان غير المعصوم لا يخلو من ذنوب فلا بد من التوبة باستمرار.

ثم انه يعلن انه من المسلمين ولا شك انه لا يريد به الاسلام الظاهري الذي يتحقق بالشهادتين ويتفرع عليه احكام الاسلام فان المنافق ايضا مسلم بهذا المعنى بل يريد بهذا القول انه اسلم امره الى الله تعالى فحق له ان يتوقع من ربه ان يصلح له في ذريته ويوفقهم لهذا الاسلام والتسليم لامر الله تعالى. ولم يقل (اني مسلم) بل اعتبر نفسه جزءا من مجموعة المسلمين لئلا يعجب بنفسه كأنّ له ميزة على الناس وهذا نظير قوله تعالى (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ).[14]

وهذا يذكّرنا بوصية ابراهيم ويعقوب قال تعالى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون).[15] فقوله تعالى (ووصّى بها) يعود الضمير فيه الى اسلامه الذي أعلنه لربه وهو الاسلام الواقعي اي التسليم المطلق لما يريده الله تعالى والرضا به وهذا هو الدين الحق الذي اصطفاه الله تعالى لانبيائه وهو الذي نطلبه من الله تعالى في الادعية المأثورة كما في دعاء كميل: (وتجعلني بقسمك راضيا قانعا).

ويتبين من سياق الآيات وما تليها ان الغرض ــ كما اشرنا اليه ــ بيان نموذجين من البشر صالح وطالح مع انهما معا تربيا في بيئة مؤمنة وليست الآيات واردة في مورد خاص بعينه ولكن جهاز وضع الاحاديث راق له أن يصنع حديثا في أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر بدليل أنه لم يكن في الصحابة غيره من أسلم هو وأبواه وأولاده جميعا. وهذا ــ مع أنه كذب محض وهناك كثير من الصحابة بهذا الوصف ــ لا يدل على هذا الاختصاص مضافا الى أن اباقحافة انما أسلم يوم الفتح والآيات نزلت بمكة.

أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا... (اولئك) إشارة الى الانسان المذكور في أول الآية السابقة والاشارة باسم الجمع باعتبار أن المراد به جنس الانسان مع هذه الصفات. قيل: ان التقبل يدل على قبول مع جزاء. وقيل: انه ابلغ من القبول. ولكن الظاهر عدم الفرق لقوله تعالى (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ).[16] و(عن) هنا بمعنى (من) وليست للمجاوزة بدليل قوله تعالى (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[17] وغيرها فلا وجه لما حاول بعضهم فيها من التأويل. ولعل الاتيان باسم الموصول يفيد الحصر ولكن ليس معناه ان هذا الجزاء خاص بمن يقول هذه الكلمات بل المراد من يكون من الايمان بهذه المنزلة.

ويقع السؤال في وجه اختصاص القبول في هذه الآية ونظائرها باحسن الاعمال دون كل ما هو حسن من الاعمال واجيب بأن المراد بأحسن ما عملوا اعمالهم الواجبة والمستحبة واما الاعمال المباحة فهي قد تكون حسنة ولكنها لا تتقبل لعدم كونها مقرّبة الى الله تعالى فمفاد الآية أن المؤمن قد تنقسم أعماله الى ثلاثة أنحاء عمل سيئ فيتجاوز الله تعالى عنه وعمل حسن في مقابل السيئ ولكنه ليس من الواجبات والمستحبات بل هو مباح فلا معنى لقبوله من الله تعالى وعمل أحسن وهو الواجب والمستحب وهو ما يتقبله الله.

وهذا الجواب وان تلقوه بالقبول الا انه خلاف الظاهر فان الاحسن من الاعمال ظاهر في كونه أحسن من جميعها حتى الواجبات والمستحبات مضافا الى ان مناط الحسن عند الله تعالى ليس الا قصد التقرب اليه فالاحسن من الاعمال مايكون القصد فيه أقرب الى الاخلاص الكامل والمباحات ليس لها شيء من الحسن اذ لا تشتمل على التقرب.

وقد مر مثل هذا السؤال في سورة الزمر في تفسير قوله تعالى (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)[18] وقلنا انهم ذكروا وجوها في ذلك منها ان الله تعالى يجزي كل اعمالهم بجزاء احسنها فيجعل ذلك مقياسا لثواب كل عمل، ومنها ان يكون من باب الاضافة الى غير الجنس اي بجزاء احسن مما كانوا يعملون كما قال تعالى (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)[19] ولكن الوجهين لا يأتيان هنا لأن المذكور هنا قبول العمل لا الجزاء.

وذكرنا هناك انه يمكن ان يكون الجزاء مبينا لدرجة قربهم وهو الجزاء الاوفى اي انه تعالى يجعل درجة قربهم لديه على اساس احسن ما كانوا يعملون فهو مقياس تعيين درجة كل واحد منهم وان كانوا يجزون على كل اعمالهم وهذا يمكن القول به في هذا المقام ايضا بل هذه الآية أولى بهذا الوجه لان المذكور هنا هو القبول وهو أمر آخر غير الجزاء فلا مانع من أن يجزى الانسان بكل عمل أتى به بقصد القربة ولكن القبول يختص ببعضه ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث من أن الله تعالى لا يقبل من الصلاة الا ما كان العبد مقبلا فيه على ربه.

روى الكليني قدس سره بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّ عمار الساباطي روى عنك رواية قال: وما هي؟ قلت: روى أنّ السنة فريضة، فقال: أين يذهب؟! أين يذهب؟! ليس هكذا حدثته، إنّما قلت له: من صلى فأقبل على صلاته لم يحدّث نفسه فيها أو لم يسه فيها أقبل الله عليه ما أقبل عليها، فربما رفع نصفها أو ربعها أو ثلثها أو خمسها، وإنما اُمرنا بالسنة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة). [20] ولعل المراد بالتقبل في الآية المباركة هو ما عبر عنه بالاقبال في هذه الصحيحة.

وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ... التجاوز عن الذنب تركه وعدم المؤاخذة به والسيئات كل ما لا ينبغي فعله وتشمل المعاصي الصغيرة والكبيرة الا أن قوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..)[21] يقتضي أن يكون هؤلاء ممن يجتنب الكبائر وأن السيئات التي تجاوز عنها الله تعالى هي الصغائر فحسب.

فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ... حال من الضمير في قوله (نتقبل عنهم) اي حال كونهم في اصحاب الجنة والظرفية مجازية اي يدخلون في سلكهم.

وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ... الظاهر انه منصوب بفعل مقدر اي نوفي لهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به عن طريق الرسل والكتب السماوية. والصدق مصدر بمعنى اسم الفاعل والاضافة من قبيل اضافة الموصوف الى الصفة اي الوعد الصادق وهو الوعد الذي يتحقق في الخارج فيصدق وينطبق.

 


[1] الاسراء: 23

[2] الكافي ج2 ص127

[3] لقمان: 14

[4] البقرة: 233

[5] الشرح الممتع ج13 ص311 على ما في المكتبة الشاملة

[6] السنن الكبرى ج7 ص 443 على ما في المكتبة الشاملة

[7] الانعام: 152/ الاسراء: 34

[8] النساء: 6

[9] يوسف: 22

[10] القصص: 14

[11] النمل: 17

[12] سبأ: 13

[13] الكافي ج5 ص9 باب وجوه الجهاد

[14] التحريم: 12

[15] البقرة: 130- 132

[16] آل عمران: 37

[17] آل عمران: 35

[18] الزمر: 35

[19] النمل: 89

[20]  الكافي ج3 ص363

[21] النساء: 31