وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا... الظاهر أنه مبتدأ خبره (اولئك الذين حق عليهم) والاشارة للجمع بلحاظ تعدد المصداق. وهذا هو النموذج الثاني من البشر يضرب الله به المثل والمفروض ان النموذجين تربيا في بيئة اسلامية وبين ابوين مؤمنين صالحين واختلفا في العقيدة والعمل. والآية تصور وقاحة هذا الانسان قبل شركه وكفره فهو يتضجر من دعوة أبويه اياه الى الايمان بالله واليوم الآخر وبكل وقاحة يعلن تضجره وسأمه منهما بقوله أف لكما. و(أفّ) كلمة تقال عند التبرم والتضجر وفيه نوع من التحقير والازدراء بهما بل قيل انها في الاصل بمعنى الاوساخ ويقال تعبيرا عن كراهة الشيء وربما يكون في الاصل اسم صوت للتعبير عن التبرم بالشيء كما هو المتعارف ثم اطلق بالمناسبة على كل ما يتنفر منه الانسان كالاوساخ.
أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي... اي اتخوّفانني من الخروج من القبر والحال ان قرونا من البشر ماتوا قبلي ودفنوا ولم يسمع بأحدهم خرج من القبر يريد بذلك ان ينفي احتمال قيام القيامة وحياة الانسان بعد موته مع ان المدعى ليس هو الحياة في الدنيا بل في مرحلة من التكوين متكاملة غير هذه المرحلة وهذه الحياة وهذا العالم. هكذا ذكره المفسرون في شرح مراده من قوله (وقد خلت القرون من قبلي).
ويمكن ان يراد به استبعاد احياء ملايين الملايين من البشر الذين ماتوا من قبل واصبحوا ترابا ولم يبق لهم عين ولا اثر ولا يمكن معرفة اجزائهم المنتشرة والمتناثرة في الارض والمتبدلة الى عناصر اخرى وقد مرت على الكرة الارضية وحياة الانسان عليها من القرون ما لا يعلم حده وحصره احد من البشر. او استبعاد كون الانسان محاسبا بما عمل في هذه الدنيا ولا يمكن محاسبة اعمال الملايين الذين ماتوا ولا يعلم عن اعمالهم احد.
وعلى هذه الاحتمالات يمكن حمل قول فرعون على ما في سورة طه (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى)[1] ولذلك رد عليه موسى عليه السلام (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)[2] فان الخطأ الكبير الذي يرتكبه الانسان في هذا المجال هو قياس صفات الله تعالى بصفاته وعلمه تعالى بعلمه.
وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ... الوالدان لا يتحملان سماع هذا الكفر والعناد من ولدهما من جهتين فمن جهة يستعظمان صدور ذلك من اي انسان كان حيث يشتمل على الكفر ومن جهة اخرى يشفقان على ولدهما من عذاب يوم القيامة فيستغيثان الله اي يطلبان منه تعالى ان يغيثهما اي ينصرهما ويعينهما في مهمتهما وهي هداية الولد. والغوث هو النصر، ويقولان للولد: ويلك آمن. وكلمة ويل اسم فعل بمعنى قبحا لك فهما يستقبحان منه هذا الكفر والعناد والوقاحة وفي نفس الوقت يطلبان منه باصرار ان يؤمن بالله واليوم الآخر.
والسياق والتعبير يصوران حالة الابوين وتضرعهما وهما يطلبان منه الايمان بالله تعالى شفقة منهما عليه. ويستدلان على قيام القيامة ومحاسبة الانسان باعماله على الوعد الذي تكرر بواسطة الرسل والكتب السماوية (ان وعد الله حق) فلا يمكن رد هذا البيان باي استبعاد فان الله تعالى اذا وعد شيئا فهو كائن لا محالة ولا شيء يتأبّى على قدرته غير المتناهية ولا يمكن ان يخلف الله وعده اذ لا يخلف الوعد الا ضعيف او جاهل.
فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ... ولا يكون من هذا الانسان المعاند الذي نجد من امثاله الكثير الكثير الا الاستمرار في العناد والجهل فيستنكف من قبول الحق ويصف الآيات النازلة من السماء على رسل الله تعالى بانها اساطير الاولين وان ما قيل في هذا الباب لا يدعمه دليل علمي ولم يكتشفه البشر بمجاهره ومناظيره. والاسطورة ما سُجِّل وسُطِّر. واساطير الاولين يطلق على الخرافات القديمة التي لا يقبلها عقل البشر المتحضر.
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ... الموضوع في الآية السابقة وان كان مفردا الا انه عنوان ينطبق على مصاديق كثيرة وكثيرة جدا فاتى باسم الاشارة الخاصة بالجمع فالموضوع عام لا يختص بفرد وانما ذكره بصورة مثال فردي ليكون اكثر تأثيرا. وقوله تعالى (حق عليهم القول) اي ثبت وانطبق عليهم والمراد بالقول ما وعده الله تعالى من العذاب يوم القيامة لكفرهم وعنادهم واتّباعهم ابليس وجنوده في الدعوة الى الكفر والضلال. وقوله تعالى (في امم..) حال اي حال كونهم دخلوا بذلك في امم كثيرة من البشر الكافر طيلة القرون. وقوله (من الجن..) يدل على ان الجن ايضا يموتون وانهم ايضا محاسبون كالانس وانهم مختلفون فمنهم مؤمن ومنهم كافر كما ورد في آيات اخرى.
إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ... وهذه هي الخسارة الكبرى ولذلك ورد في الحديث (المؤمن كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ)[3] فانه يقدّم خير الآخرة على الدنيا والجاهل المغفل يحسبه انسانا بسيطا لا يعرف خيره من شره لانه يشتغل بالعبادة ولا يهتم بجمع الاموال وتشييد العمارات.
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا... المعروف والمتداول بين المفسرين تفسير الآية بان لكل انسان من الفريقين درجته الخاصة به فالنتيجة ان اهل الجنة واهل النار ليسوا في مرتبة واحدة بل يوضع كل انسان موضعه اللائق به ومنشأ اختلاف الدرجات هو الاعمال و(من) في قوله (مما عملوا) لبيان المنشأ. وقالوا ان الدرجات وان كانت خاصة باهل الجنة ويقال في مراتب اهل النار دركات الا ان الاطلاق هنا من باب التغليب.
ولا شك في صحة اصل المعنى وهو اختلاف منازل اهل الجنة والنار اذ لا يمكن ان يكون الصالحون من عامة المؤمنين في درجة الانبياء والائمة المعصومين عليهم جميعا سلام الله كما لا يمكن ان يكون المذنب الخاطئ او الكافر من عامة الناس في نفس الموضع الذي يليق بالمعاندين والطغاة الظلمة في النار.
ولكن سياق الآية يأبى ذلك بل ظاهرها الاختصاص بالامم الخاسرة من الجن والانس حيث جاءت عقيب التعرض لحالهم مع أن الآية لو شملت اهل الجنة لدلت على ان المؤثر في اختلاف درجاتهم هو العمل فقط دون النوايا والصحيح ان درجات الصالحين في الجنة تختلف باختلاف النوايا ايضا وليست كمراتب اهل النار لانهم ليس لهم منازل في القرب لدى الله تعالى وانما تختلف درجات عقابهم.
والدليل على ذلك قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ..)[4] فان الآية تدل بوضوح على ان الانسان محاسب بما يخفيه في نفسه فاذا ضممنا هذه الآية الى ما دل من الروايات على ان الله تعالى لا يؤاخذ الانسان بما نوى ان لم يتلبس بالعمل تحصّل ان ما ينويه الانسان ويركّز عليه ــ لا مجرد الخطور الخارج عن الاختيار ــ يؤثر في منزلته ودرجته عند الله تعالى فان ذلك مقتضى الجمع بين محاسبته على ما يخفيه في نفسه وعدم معاقبته عليه اذ لا يبقى له اثر الا ان يكون دخيلا في تحديد منزلته ورتبته عند الله تعالى.
ولا ينافي ذلك قوله تعالى (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) اذ يمكن ان يختص ذلك بما أبداه واما ما أخفاه فانه يغفر له. هذا مع انه يمكن ان يكون من النوايا ما لا يغفر كالعجب والرياء انما الكلام في التعميم المستفاد من الآية الكريمة.
وممّا يؤيّد هذا الاستنتاج أنّ النوايا والاهداف حتى لو لم تصل الى مرحلة العمل تؤثر في نفسية الانسان وتكوين شخصيته ولنضرب مثلا حيا وهو ان الحسد وهو غيظ الانسان وحقده على غيره لتفوّقه في جهة من الجهات سواء كانت مادية او معنوية ربما يصل بالانسان الى مرحلة العمل على وفقه فيضرّ بالمحسود اما بيده او بلسانه ويحاول إسقاطه من أعين الناس وهذا اثم يعاقب عليه وربما لا يصل الى هذا الحد ولكن باطنه يغلي حقدا وحسدا ويبغض ذلك الانسان اشد البغض ولكنه خوفا من الله او من الناس لا يبدي شيئا فلا يكون معاقبا في الآخرة الا ان هذه الحالة تؤثر في تكوين شخصيته وبالتالي تؤثر ايضا في منزلته عند الله تعالى.
بل يمكن ان تكون الخواطر ايضا مؤثرة لانها وان كانت غير اختيارية الا ان مبادئها اختيارية فالانسان الصالح الذي لا يسرح باختياره في الاهواء الشيطانية والنوايا الفاسدة قلّ ما يقع فريسة للخواطر الشيطانية التي تهجم على الانسان من دون اختيار وبعكسه الانسان الذي يسرح دائما وفي الخلوات وعند الفراغ الفكري في الافكار الشهوانية والشيطانية ويصنع لنفسه من الاوهام والاحلام قصورا واموالا هائلة فان الشيطان يتمكن من نفسه ويسيطر على افكاره وامنياته ولذلك تجد المؤمن الصالح لا يتمنى الا الخير والصلاح والتقرب الى الله تعالى وكل افكاره تحوم حول هذا المحور واما غيره حتى لو لم يكن فاسدا في مرحلة العمل فان امنياته تحوم حول محور المال والجاه وسائر الشهوات الدنيئة.
ونستنتج مما مر ان درجات اهل الجنة تتحدد لا بخصوص الاعمال بل بكل ما يكوّن شخصية الانسان واما درجات اهل النار فلا يحددها الا اعمالهم لان درجاتهم ليست بمعنى منازل القرب او البعد بل ليس لهم درجات بهذا المعنى وانما درجاتهم بمعنى نوعية عقابهم والله تعالى لا يجازيهم الا باعمالهم فانه تعالى وعد ان يجزي المحسنين باضعاف ما عملوا واما السيئة فلا تجازى الا بمثلها كما ورد في آيات عديدة قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ)[5] فالانسان بوجه عام رهين بعمله الا أصحاب اليمين فان جزاءهم ليس مرهونا باعمالهم بل ان الله تعالى يضاعف لهم الجزاء بما لا عين رأت ولا اذن سمعت فتقييد الدرجة بالعمل خاص باهل النار واما المتقون فمن جهة تحديد الدرجة والمنزلة عند الله تعالى لا يختص التحديد بالعمل بل يحاسب عليه كل ما في نفسه حتى لو أخفاه بل لا يبعد ان الذنوب التي تاب منها تؤثر ايضا في ذلك فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له في الثواب والعقاب لا في منزلته وقربه لدى الله تعالى ومن المستحيل ان تتساوى منزلة المعصومين والمذنبين التائبين واما من جهة الجزاء فالمتقون لا يتحدد جزاؤهم بأعمالهم بل يضاعفه الله تعالى اضعافا مضاعفة بخلاف مرتكبي السيئات.
وأما قولهم ان الدرجات خاصة باهل الجنة والدركات باهل النار فغير واضح من حيث المدلول اللغوي فان الدرجة في الاصل مأخوذة من الدرج بمعنى المضي في الشيء ولا اختصاص له بالصعود بل يشمل مراتب الحركة ويفهم الصعود او النزول من القرائن ولا دليل على اختصاصها بالصعود بل الدليل على خلافه وهو القرينة السابقة وما بعدها في الآية الكريمة ومثلها قوله تعالى (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)[6] والدرجات هنا ايضا خاصة باهل النار على ما هو واضح من السياق وان ذهب المفسرون الى التعميم ايضا.
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ... وهذه قرينة اخرى على الاختصاص باهل النار فان المتقين لا يجازون باعمالهم فحسب كما مر. والتوفية ايصال الشيء بكامله دون نقص واللام للتعليل والظاهر انه علة لجعل كل أحد في درجته ومنزلته الخاصة والعطف بالواو يدل على ان هناك عدة أهداف تترتب على ذلك منها توفية الاعمال ومنها بالطبع مجازاة المسيء ومنها الانتقام للمظلومين وشفاء صدورهم ونحو ذلك مما يترتب على عقاب الطغاة والكفرة.
والآية تدل على تجسم الاعمال وأن الانسان يجازى بنفس عمله الا انه بصورته الكاملة فنحن الآن لا نرى مدى تأثير أعمالنا فلكل عمل صداه وتأثيره في المجتمع وفي الكون ولكن الانسان غافل عنه فهناك آثار طبيعية نغفل عنها فكيف بالآثار الغيبية وكم من كلمة اورثت حروبا طاحنة والمتكلم لا يعلم باثرها وكم من عمل يستتبع تقليد الآخرين مما يستوجب فساد امة بل ربما يستمر الفساد قرونا متتالية وها نحن الآن نشهد تمزق الامة الاسلامية وضعف كيانها لجملة واحدة قالها رجل حينما طلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دواة وكتفا ليوصي الامة بما يحفظ وحدتها وعزتها وكرامتها واستمرار سيرها على النهج القويم.
ومن الكلام ما يؤثر في الكون ونحن لا نشعر به قال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)[7] هذا حال الكلام فكيف بسائر الاعمال؟!
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ... تأكيد على أن عقابهم ودرجتهم ليس الا نفس أعمالهم يتلقونها كاملة مع كل ما يترتب عليها من آثار سيئة وليس الجزاء وضعيا حتى يقال ان الجزاء لا يناسب العمل بل هو أعظم منه بكثير فالجزاء الوضعي هو الذي يمكن ان يقال فيه ذلك وأما اذا كان العمل بنفسه جزاءً فلا يمكن ان يكون ظلما الا ان العمل في الدنيا لا يتجلى بصورته الحقيقية فلا يشعر الانسان الا بما يتلذذ به ولو كان الانسان يشعر بحقيقة ما يعمل لتعذّب به في الحياة الدنيا فكان ذلك حافزا على تركه قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).[8] وقد نبه الله سبحانه وتعالى على كيفية تعذّب الانسان بعمله في الدنيا مع انه لا يتجلى بصورته الكاملة حيث شبه يوم القيامة بالضمير الانساني قال تعالى (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ).[9]
ثم ان قوله تعالى (وهم لا يظلمون) يدل ايضا على أنه لو لم يجعل الله تعالى لكل انسان درجة وكان يخلط الظلمة والفساق كما ربما يتوهم كان ذلك ظلما لكثير منهم.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ... الظرف يتعلق بفعل مقدر اي واذكر يوم يعرض.. قيل: بل الفعل المقدر هو القول للجملة التالية اي يوم يعرض.. يقال لهم أذهبتم.. وسيأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى.
والعرض في الاصل ما يقابل الطول والمراد بهذا التعبير إراءة عرض الشيء لأحد كما يقال عرض الجند على الامير. ومن هنا وقع الكلام في معنى العرض في الآية من جهة أن المعروض عليه ليس من ذوي العقول. ففي الكشاف ان المراد به نفس التعذيب بالنار من قبيل ما يقال عرض بنو فلان على السيف حيث تضرب أعناقهم فالمراد يوم يدخلون النار يقال لهم كذا. ولكن هذا لا يناسب – كما في تفسير الميزان - قوله تعالى في آخر السورة (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) حيث فرع الامر بتذوق العذاب على العرض وما يجري هناك من الحديث مما يدل على ان العرض امر يحدث قبل الدخول في النار.
وقال بعضهم ان العرض هنا مقلوب فان المعروض واقعا هو النار تعرض على الذين كفروا كما في قوله تعالى (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا)[10] فان الاشياء تعرض على الانسان ولا يعرض الانسان على الاشياء. وقال آخرون ان جهنم لا تعتبر من غير ذوي العقول لقوله تعالى (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)[11]
ولكن الظاهر أن هذا وأمثاله كقوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا..)[12] تعبير أدبي لا يتوقف على كون المعروض عليه عاقلا واقعا بل يفترض كونه عاقلا ولو في الادعاء فلا موجب لدعوى القلب.
والحاصل ان الظاهر من الآية اراءتهم اياها مقدمة لتعييرهم او تكميل محاسبتهم ببيان سبب العذاب والحرمان عن الطيبات وهو في حد ذاته لا يخلو من تعذيب نفسي. وينبغي ان يعلم ان المراد بالتعذيب في الآخرة ليس هو الانتقام فالله تعالى غني عن عذاب الخلق ومنزه عن التشفي بل هو بمعنى ظهور الحقائق التي توجب عذاب الانسان.
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا... المعروف أن هذه الجملة خطاب من الله تعالى لهم وأن التقدير: (يقال لهم حين العرض: أذهبتم طيباتكم..) ولكن لا يبعد أن يكون المراد تفسير العرض بهذه الجملة بمعنى أن هذا العرض يفهم منه هذا الخطاب وكثيرا مّا يدل الفعل على معنى مقصود بأصرح من اللفظ وأبلغ.
وظاهر قوله (أذهبتم طيباتكم) إفناؤها بانفاقها والانتفاع بها. ولكن السؤال الوارد هنا: ما المراد بالطيبات التي تنفق ويستمتع بها في الدنيا بحيث يكون سببا للحرمان في الآخرة؟
قيل: ان المراد بها النعم الالهية التي يمكن استخدامها في الحلال والحرام كالمال والشباب والقوة والعقل والحواس فاستخدامها في الحرام هو الموجب للحرمان يوم القيامة.
وانما قيل بذلك لان التمتع بالطيبات ليس محرما وممنوعا بذاته ولكن الظاهر ان المراد بها كل تمتع بالنعم حتى لو لم يكن في حد ذاته محرما الا ان استنفادها في التمتع بنعم الدنيا وعدم ادّخار شيء للآخرة هو الموجب لذلك فالمال اذا صرف بعضه على نفسه وأنفق بعضه في سبيل الله تعالى بقي له شيء في الآخرة وهكذا سائر ما اوتي الانسان من نعم فالمبالغة في الاستمتاع يوجب الحرمان والكافر لا يدّخر شيئا نهائيا لانه لو أنفق لا ينفق في سبيل الله تعالى بل ينفق لشأن من شؤون الدنيا حسب معتقده.
ومن هنا يتبين أنّ الانسان كلما ترك الاستمتاع بنعمة طلبا لمرضاة الله تعالى فهو موجب لتنعمه في الآخرة وكلما تنعّم بنعمة زائدة على حاجته فقد خسر ما يعادل الانفاق به في الآخرة وهكذا يتبين وجه ما ورد في الحديث من تزهّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام عن الاطعمة اللذيذة ونحوها من متاع الدنيا فكل ما تأكله وتنفقه على نفسك فقد خسرته وكل ما أنفقته في سبيل الله فقد ربحته.
قال امير المؤمنين سلام الله عليه في كلام طويل في زهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وسائر الانبياء عليهم السلام (وَلَقَدْ كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ يَا فُلَانَةُ ــ لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ ــ غَيِّبِيهِ عَنِّي فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا) وقال عليه السلام عن نفسه (وَاللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَلَا تَنْبِذُهَا عَنْكَ فَقُلْتُ اغْرُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى).[13] والسرى اي السير ليلا فالذي يسير طول الليل يتعب ولكنه اذا اصبح ووجد نفسه قد بلغ المقصد يثني على ما فعل وهكذا من يتحمل الشدائد في هذه الحياة الزائلة تقربا الى الله تعالى فانه سيجد نتيجة عمله يوم القيامة ويفرح بما تحمل.
وفي حديث (أُتي ــ اي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ بخبيص فأبى أن يأكله فقيل: أتحرمه؟ فقال: لا ولكني أكره أن تتوق إليه نفسي ثم تلا الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا).[14] والخبيص نوع من الحلواء. والخبص هو الخلط.
وفي مجمع البيان في ذيل الآية الكريمة (قد روي في الحديث أن عمر بن الخطاب قال: استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم وانه لمضطجع على خصفة وان بعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا فسلمت عليه ثم جلست فقلت: يا رسول الله أنت نبي الله وصفوته وخيرته من خلقه وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أولئك قوم عُجِّلت طيباتُهم وهي وشيكة الانقطاع وإنما أُخّرت لنا طيباتنا) والخصفة: جُلّة التمر التي تنسج من خوص النخل.
وفي حديث عائشة (أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما بقي منها؟ قالت ما بقي منها إلا كتفها. قال بقي كلها غير كتفها).[15]
والاحاديث في هذا الباب كثيرة جدا.
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ... اي حيث استنفدتم كل طيباتكم للتمتع في الدنيا ولم تدّخروا شيئا للآخرة فاليوم تجزون العذاب. والهون: المذلة والخفة. ولا شك أن نتيجة الاستكبار في الارض هو الهوان والذل يوم القيامة حيث تتجسم الاعمال وتبرز الحقائق. والفسق هو الخروج والمراد الخروج عن طاعة الله تعالى. وقوله تعالى (كنتم تفسقون) يدل على الاستمرار والاصرار.
وقيل: ان قوله تعالى (بغير الحق) توضيح وليس تقييدا فان الاستكبار لا يكون بحق. ولكن يمكن ان يكون تقييدا ايضا لان الاستكبار هو طلب الرفعة والعلو وهو في حد ذاته غير مذموم بل هو غريزة بشرية يترتب عليها تقدم الحضارة الانسانية وانما المذموم ان يطلب الانسان رفعة وعلوا على الآخرين بغير حق كمن يطلب السلطة على رقاب الناس من دون ان تكون له ولاية من قبل الله تعالى فلو كان يطلب الرفعة بعلم او بفن او بقوة جسمية وكمال يكتسبه لم يكن استكبارا بغير الحق وأما من يطلب الرفعة على الناس من دون ان تكون له مؤهلات خاصة فهو استكبار بغير حق لا أقول ان من له العلم والقوة يحق له ان يستعلي على الناس ويتوقع من غيره الخضوع له بل أقول ان طلب العلم والقوة ونحو ذلك في حد ذاته طلب للرفعة والعلو حقيقة وهو مطلوب وليس مذموما.
والعلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر الاستكبار في الآية اشارة الى الذنب المتعلق بالاعتقاد وقوله تعالى (وبما كنتم تفسقون) اشارة الى الذنب المتعلق بالعمل. وهذا يتم في ما اذا كان المراد الاستكبار امام الله تعالى لا في قبال الخلق وهناك كثير من البشر يستكبر في مقابل الله تعالى فمنهم من يصرح به وهم الفراعنة الطغاة ومنهم من لا يصرح الا انه يأبى من التسليم لحكم الله تعالى وشرعه ويستنكف من الخضوع والطاعة لامره ونهيه.
ولكن الشأن في انطباق الآية فان ظاهر قوله تعالى يستكبرون في الارض اي في المجتمع البشري وفي مقابل الخلق كقوله تعالى (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)[16] ومثله الكبرياء في الارض كقوله تعالى حكاية عن فرعون (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ)[17] والعلو في الارض كقوله تعالى (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ)[18] ويشهد لذلك قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا)[19] فعبر عن استكبارهم امام الله تعالى باستكبارهم في انفسهم.
[1] طه: 51
[2] طه: 52
[3] بحار الانوار ج64 ص307
[4] البقرة: 284
[5] المدثر: 38- 39
[6] الانعام: 130- 132
[7] مريم: 88- 91
[8] النساء: 10
[9] القيامة: 1-2
[10] الكهف: 100
[11] ق: 30
[12] الاحزاب: 72
[13] نهج البلاغة الخطبة 160
[14] محاسن البرقي ج2 ص409
[15] سنن الترمذي ج4 ص58
[16] القصص: 39
[17] يونس: 78
[18] يونس: 83
[19] الفرقان: 21