مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ... (ما) موصولة و(ان) نافية والتمكين جعل الشيء مستقرا في مكان وهو كناية عن جعل أحد قادرا على أمر او مسلطا على شيء فالمعنى أنّا بسطنا لقوم عاد القدرة على امور وسلطناهم على موارد في الطبيعة لم نجعل لكم مثلها. والخطاب لاهل مكة وهو واضح فان اهل مكة ما كانوا يملكون من مستلزمات الحضارة السائدة آنذاك شيئا فلم يكن لديهم انهار ولا غابات ولا صناعة ولا زراعة بينما كان قوم عاد في عهدهم اصحاب حضارة قوية ومتينة وآثارهم الباقية في عهد الرسالة تدل على ذلك. وهذه الآية تكمل التهديد الذي انطوت عليه الجملة السابقة (كذلك نجزي القوم المجرمين).

وقال بعضهم ان المعنى مكناهم في مثل ما مكناكم فيه. وهو غير صحيح والقرآن يؤكد مرارا ان الاقوام السابقة كانوا اكثر من اهل مكة قوة وآثارا في الارض وهو واضح.

وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً... هذا متمم للمعنى السابق فلو مكّن الله تعالى قوما من الموارد الطبيعية ولكن لم يجعل لهم قوة جسمية يتمكنون بها من التصرف في الموارد الطبيعية لم يحصلوا على شيء فالمراد انهم تمكنوا من استخدام الموارد الطبيعية لبناء حضارتهم ولكن كل ذلك لم يمنعهم من عذاب الله تعالى فكيف بكم وانتم محرومون من تلك الموارد وتلك الحضارة والقوة؟! والسمع مصدر يراد به آلة السمع ولذلك يستوي فيه الجمع والمفرد فلا فرق بين السمع والاسماع. والأفئدة بمعنى القلوب ويراد بها آلة التعقل والادراك وليس بمعنى مضخة الدم.

فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ... (من) زائدة وتفيد التأكيد اي لم تغن عنهم شيئا بل جزءا من شيء. والاغناء: الكفاية اي لم تنفعهم هذه الحواس شيئا في دفع العذاب عن انفسهم. وهذا تنبيه وعبرة للمخاطبين فان هؤلاء لم ينقصهم ادراك ولا حواس فماذا كان السبب في عدم إغناء ذلك عنهم شيئا؟ ولماذا لم يتمكنوا بقوتهم وعقولهم ان يمنعوا انفسهم ويحفظوها من البلاء الذي ألمّ بهم وداهمهم؟ الجواب في الجملة التالية.

إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ... (اذ) ظرفية تفيد معنى التعليل فالمعنى انهم لم ينتفعوا بسمعهم وابصارهم وبما مكّنّاهم فيه لانهم كانوا يجحدون بآيات الله تعالى وينكرونها. والجحود ضد الاقرار ــ كما في العين ــ فهو انكار مع علم. وفعل (كانوا) يدل على الاستمرار ومعنى ذلك أن الجحود أصبح عادتهم وهذا ليس الا عنادا مع الحق ومكابرة فلذلك غضب الله عليهم وأنزل عليهم العذاب وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلم تنفعهم اسماعهم وابصارهم وعقولهم وعلومهم وحضارتهم اذ لم يكن ما نزل من البلاء امرا طبيعيا بل كان عذابا من الله تعالى.

و(حاق) اي نزل به عاقبة فعله او مكره قال تعالى (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)[1] ولا يبعد أن يكون أصله حقّ فقلب الى حاق نحو زلّ وزال كما في المفردات. وقيل انه بمعنى أحاط به وعليه فلعله مأخوذ من الحوق وهو بمعنى الاحاطة فقلب ياءا. والمراد بـقوله (ما كانوا به يستهزئون) العذاب الالهي حيث قالوا لرسولهم باستهزاء: فأتنا بما تعدنا.. وهذه الجملة معطوفة على قوله (كانوا يجحدون) وجزء من العلة والظرف اي ان عدم إغناء السمع والابصار تحقق بسبب جحودهم المستمر المستتبع للعذاب الالهي فمجموع السبب والمسبب علة عدم الاغناء ولو لم يستتبع العذاب لم يصدق عدم الاغناء.   

وفي الميزان ان المعنى (لم تغن عنهم ولم تنفعهم هذه المشاعر والأفئدة شيئا عند ما جحدوا آيات الله فما الذي يؤمنكم من عذاب الله وأنتم جاحدون لآيات الله) وحاصله ان قوله (اذ كانوا يجحدون..) بمعنى الظرفية لا التعليل اي ان السمع والابصار لم تنفعهم يوم جحدوا بآيات الله ونزل عليهم العذاب بسبب ذلك بمعنى انهم لم يتمكنوا من تخليص انفسهم من العذاب في ذلك اليوم. ولكنه لا يناسب الاتيان بفعل (كانوا) الدال على استمرار الجحود وانما يصح ما ذكره لو كان الجحود يوم نزول العذاب.

وفي المجمع وغيره أن المراد بالآية انا جعلنا لهم السمع ليسمعوا كلام الله ورسالاته والابصار ليبصروا آياته وعبر الماضين والافئدة ليدركوا عظمة الخالق من خلال التأمل في الآيات ولكنهم حيث جحدوا بآيات ربهم فما أغنت عنهم سمعهم ولا أبصارهم بمعنى أنهم لم يستخدموها في المجال المخصص له. ولكنه لا يناسب عطف الحيق عليه.

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى... الظاهر أن في قوله (حولكم) تقديرا اي حول قريتكم. وهذا خطاب آخر لاهل مكة ينبههم ان القرى والمدن التي كانت حول قريتكم في قديم الزمان وكانت مسكنا لاقوام من البشر أهلكناهم بعذاب الاستئصال ولم يموتوا حتف أنوفهم ولا بعوامل طبيعية بل بمؤثرات طبيعية عليها أمارات العذاب الالهي كما أسلفنا بيانه. أليس في هذا عبرة لكم ولعل المراد بالقرى ــ مضافا الى مدينة عاد المعبر عنها بارم ذات العماد ــ مدينة سدوم التي كان يسكنها قوم لوط عليه السلام والحجر الذي سكنها ثمود قوم صالح عليه السلام ومدين مسكن قوم شعيب عليه السلام فكل هذه المدن كانت في المنطقة العربية يعلم بها وبتاريخها اهل مكة. والقرى جمع قرية بمعنى المكان الذي يجتمع فيه الناس وبمعنى الناس المجتمعين ايضا من قرى الشيء اي جمعه.

وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ... التصريف هو التغيير اي لم نكتف بآية واحدة بل أتتهم آيات كثيرة مختلفة في الاداء وفي المدلول فمنها ما تدل على عظمة الله تعالى وقدرته ومنها ما تدل على رسالة الرسول وأن الله تعالى يريد من البشر متابعته وغير ذلك لعلهم يرجعون عن كفرهم وعنادهم. وهذا ايضا تنبيه لاهل مكة بانكم انما تتبعون سننهم حيث تواجهون الآيات بعناد أشد فانتظروا مصيرا كمصيرهم.

فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً... (لولا) للتوبيخ اي ان آلهتهم حسب معتقدكم يجب ان ينصروهم فلماذا لم يفعلوا؟! وقوله قربانا اما حال اي اتخذوهم آلهة متقربين بهم الى الله تعالى او مفعول لاجله اي للتقرب اليه وقربان مصدر يحتمل الامرين و(آلهة) مفعول ثان والاول هو الضمير العائد الى الموصول اي الذين اتخذوهم آلهة ولا يمكن ان يكون قربانا مفعولا ثانيا اذ لا يستقيم المعنى فانهم لم يتخذوهم قربانا من دون الله اي بدلا عنه بل اتخذوهم آلهة من دونه.

والحاصل أن الاقوام المذكورين كانوا مثلكم يعتمدون على آلهتهم ويظنون أنهم سينصرونهم اذا أراد الله بهم سوءا وأنهم يمنعونهم من الحوادث والبلايا وكانوا يتخذونهم آلهة كما انتم عليه ويرونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم بزعم انهم يقربونهم الى الله تعالى كما قال عن لسانهم (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)[2] ومن الغريب انهم أعرضوا عن عبادة الله تعالى وهي لا تليق الا به وتقربوا بعبادة غيره اليه من دون أن يكون قد أمرهم به أو أجازه لهم أو أنزل به سلطانا وحجة. والآية هنا تؤنّبهم بأن الآلهة الشفعاء لم تنصرهم ولم تشفع لهم أليس في ذلك حجة عليكم وأنتم تتبعون نفس النهج وتتخذون نفس الآلهة قربانا الى الله تعالى؟!

بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ... الضلال بمعنى الضياع وعدم الاهتداء للطريق. و(بل) للاضراب اي انهم لم ينصروهم كما توقعوا بل فوق ذلك ضلوا عنهم كما هو مقتضى طبيعة كونهم جمادات لا عقل لها. والتعبير بالضلال عنهم كناية عن عدم انتباههم لهم. وفي التعبير تهكم فان الاصنام ليست موردا للضلال والهداية ولكن دعوى كونها آلهة تستلزم كونها ذوات عقل وتدبير فعبّر بذلك تهكما واستهزاءً من دعوى الالوهية والشفاعة لما لا يعقل شيئا. وهذا هو الوجه ايضا في التعبير عن الاصنام بالاسم الموصول الخاص بذوي العقول وهكذا الضمائر. وقوله (ذلك) اشارة الى دعوى كونهم آلهة ينصرونهم فهذا افكهم وكذبهم وافتراؤهم الذي يتبين لهم فساده ذلك اليوم. والافك في الاصل بمعنى الصرف والتحويل ومنه قوله تعالى (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)[3] ويعبّر به عن الكذب لانه صرف للكلام عن موافقة الواقع وهو الاصل فيه. والافتراء ــ كما في العين ــ بمعنى اختلاق الكذب لا النطق به مطلقا.

 


[1] فاطر: 43

[2] الزمر: 3

[3] الزخرف: 87