وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ... قيل: ان هذه الآيات لتنبيه الكفار بان هذا القرآن أثر في نفوس الجن فضلا عن البشر تأثيرا عميقا فانظروا كم انتم بعيدون عن الحق ومعاندون له؟! ولكنه بعيد فان التأثير في الجن وايمانهم به ليس امرا محسوسا حتى يحتج به عليهم فالارجح أن يكون بيانا لحقيقة تفيد المؤمنين. ولعل تلك الحقيقة التنديد بالبشر المشرك والكافر في معاندتهم للحق مع أن الجنّ آمنوا به بل اخذوا يدعون اليه.
و(اذ) متعلق بمقدر اي (واذكر اذ صرفنا..). والصرف ــ كما في المفردات ــ ردّ الشيء من حالة الى حالة. فالمعنى أنّهم أتوا الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتأثير غيبي من الله تعالى حيث أوجد في نفوسهم الداعي الى ذلك ولا ينافيه أنهم أتوه بداع طبيعي فقد ورد في الحديث أنهم كانوا يبحثون عن سبب منعهم من السماء او أي داع آخر كما هو الحال في سائر الموارد فالله تعالى ينسب هجوم الملك الآشوري نبوخذ نصر ــ وهو كافر ــ على بني اسرائيل وسحقهم ــ وهم مؤمنون ــ الى نفسه قال تعالى (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ..)[1] مع أنه انما قام بذلك بداعي الطغيان والعدوان فالقلوب كسائر الاشياء كلها بيده تعالى يقلبها كيفما شاء.
والنفر يطلق على مجموعة من الناس وإطلاقه على الجن من التوسع ولا يختص بما بين الثلاثة والعشرة كما قيل. والجن ــ على ما يبدو من الآيات ــ موجود ذو شعور وادراك غائب عن الابصار قال تعالى (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)[2] ومن هنا سموا بالجن وهو بمعنى الشيء المستور عن الحواس. وقد ورد ذكر بعض خصائص الجن في القرآن وفي الروايات ومر بعض الكلام حوله في تفسير سورة سبأ وسيأتي بعضه في تفسير سورة الجن ان شاء الله تعالى. والروايات مليئة بامور خرافية هي من صنع الوضاعين.
وقوله (يستمعون) حال من النفر او صفة لهم وفي المعنى تعليل اي صرفناهم ليستمعوا. والآية هنا تذكر حادثة ورود جمع منهم الى مكان حيث كانوا يسمعون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ القرآن. ومنه يعلم انهم كانوا يفهمون الكلام ويدركون معانيه فلعلهم كانوا يفهمون لغة العرب لقربهم منهم.
فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا... اي حضروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهو يقرأ القرآن او حضروا القرآن اي قراءته. ويتبين من هذه الجملة تأثرهم العميق بالتلاوة الكريمة وبمفاهيم الآيات ولحنها وصوت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال بعضهم لبعض: انصتوا. والانصات ــ كما في العين ــ السكوت لاستماع شيء.
فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ... (قضي) اي انتهى والضمير يعود الى القرآن بالمعنى المصدري كما مر. و(ولّوا) اي أدبروا ورجعوا الى قومهم والقوم الجماعة من الرجال وانما اطلق على الجنّ توسّعا كما مر في التعبير بالنفر. و(منذرين) حال.
ويبدو من هذه الجملة أنهم بمجرد سماع الآيات ودرك المفاهيم آمنوا بالرسالة وعلموا أن ما سمعوه انما هو من آيات الله سبحانه فلم ينتظروا لحظة بعد انتهاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من التلاوة بل ولّوا مسرعين الى قومهم لينذروهم بعذاب الله ان لم يؤمنوا بالرسالة الجديدة.
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى... بهذه الكلمات او ما يفيد معناها بدأوا بانذار قومهم. ويتبين من بيانهم انهم كانوا يؤمنون بالرسالات السابقة فلم يكن خبر الدين الجديد غريبا عليهم ولكن حيث أخذ الله ميثاق النبيين أن يؤمن أتباعهم بكل رسالة متأخرة علموا أن من واجبهم الايمان بالكتاب الجديد قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).[3]
وربما يستغرب من ذكرهم موسى عليه السلام مع ان الانجيل نزل بعد التوراة فيمكن ان لا يكونوا عالمين بذلك او انهم لم يذكروه لان الانجيل لا يشتمل على شريعة جديدة بل يأمر بمتابعة التوراة وانما نزل بتغييرات طفيفة وكان الغالب فيها هو رفع العقوبات عن بني اسرائيل حيث انهم لكفرهم وبغيهم وعنادهم المستمر ابتلاهم الله تعالى باحكام شاقّة جزاءً لهم فلما بعث عيسى عليه السلام رفع عنهم العذاب. قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ...)[4] وقال (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِالْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)[5] وقال ايضا (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)[6]
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ... (مصدّقا) حال للكتاب. و(ما بين يديه) اي ما تقدمه من الكتب السماوية. وهذه ميزة تدل على كون الكتاب من عند الله تعالى ومعنى كونه مصدقا انه بخطوطه العريضة يدعو الى نفس المنهج ونفس الدعوة. وأصل الدين في جميع الشرائع أمر واحد قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..).[7]
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ... يبدو أنّهم كانوا أهل علم ومعرفة بالدين الحق وبالطريق المستقيم حيث وجدوا في مضامين هذا الكتاب انه يهدي اليهما. والحق هو الامر الثابت ويقابله الباطل. والطريق المستقيم اي الطريق الذي يهدي الى الكمال المطلوب الذي أراد الله تعالى لخليفته في الارض ان يحاول الوصول اليه وتقابله الطرق المنحرفة التي لا توصل بل كلما ازددت فيها توغلا ازددت بعدا عن الكمال المطلوب.
ولا يصح ما قيل من ان سائر الطرق ايضا توصل الى نفس الهدف ولكنها ملتوية وتسير بخطوط منحنية فيطول الطريق ويبعد الهدف ويتعب الانسان قال تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ..)[8] ولو كانت كلها تنتهي الى نفس الهدف لكانت تصل في النهاية الى سبيله. وتوغّل في الضلال من قال ان كل الطرق مستقيمة. وقد مرّ بعض الكلام حول هذا الموضوع في تفسير الآية 52 من سورة الشورى.
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ... الظاهر أن المراد بالداعي هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأضيف الى الله تعالى لانه يدعو اليه او لان الله تعالى هو الذي بعثه ليدعو الناس. ومن ذلك يعلم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث للانس والجن وأنه يجب على الجميع أن يؤمنوا به وبرسالته ولا يكفي ايمانهم بالله وبالرسالات السابقة ولذلك لم يكتفوا بالامر باجابة الداعي بما أنه داع الى الله تعالى بل يجب الايمان به كرسول تجب اطاعته ومتابعته وهذا بناءً على عود الضمير في(وآمنوا به) الى الداعي لبعد احتمال رجوعه الى الله لان الظاهر انهم كانوا مؤمنين بالله تعالى وبرسالة موسى عليه السلام.
ولا منافاة بين عود هذا الضمير الى الداعي وعود ضمير الفاعل في قوله (يغفر لكم) الى الله تعالى. ومعنى ذلك أنه يترتب على اجابة الدعوة والايمان بالداعي ان الله تعالى يغفر ذنوبكم ويجيركم من عذاب اليم والمراد به عذاب يوم القيامة والاجارة الاعاذة مأخوذة من الجوار اي يجعلكم في جواره فإن الجار يحتمي بجاره.
وهل ان (من) زائدة فيغفر الله تعالى كل ذنوبهم اذا آمنوا كما هو مقتضى ان الاسلام يجبّ ما قبله أم هي تبعيضية كما هو ظاهر اللفظ فيغفر بعض ذنوبهم؟
فيه كلام في التفاسير ولكن لو فرضت تبعيضية فليس معناها انه لا يغفر بعض الذنوب اذ ليس له مفهوم فيصدق مع غفران الكل ايضا فيمكن ان يكون التعبير بلحاظ احتمال عدم الغفران في ما اذا تعلق بحقوق الآخرين او لاي جهة اخرى فان غفران الذنوب ليس امرا حتميا والعبد يجب ان يكون بين الخوف والرجاء. وسيأتي تفصيل الكلام فيه ان شاء الله تعالى في تفسير سورة نوح في قوله تعالى (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ..).[9]
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ... اي انه لا يعجز الله تعالى من محاسبته ومعاقبته في الدنيا والآخرة. وقوله (في الارض) تأكيد على عدم وجود المهرب اي ان الارض على رحبها ليس فيها مهرب له فاين ما ذهب فهو تحت السيطرة وليس معناه التحديد بالكرة الارضية بل لا مهرب له في الكون كله وانما هو تعبير عن ضيق الخناق عليه اين ما كان.
وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ... اي لا يمكنه الفرار بنفسه وليس هناك من ينصره من دون الله والولي هنا بمعنى الناصر ومعنى الجملة انه لا ناصر له الا الله وهو لا ينصره فان معنى (من دونه) اي غيره وبدلا عنه فلو كان له ناصر فهو الله تعالى وهو لا ينصره وذلك لان النصرة في مواجهة عقاب الله تعالى وارادته غير ممكن لاي شيء اذ كل ما في الوجود مخلوق له وتحت ارادته وسلطانه فلا يقاوم ارادته شيء ولا يمكن لأيّ شيء ولأيّ احد ان يسير في اتجاه غير ما أراده الله تعالى وأذن به اذنا تكوينيا.
أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ... المراد بالمشار اليه من لا يجيب داعي الله تعالى من الجن والانس وهو يتوهم ان هناك في الكون مفرا ومهربا من عذاب الله تعالى ومحاسبته والاتيان باسم الاشارة للجمع باعتبار المصاديق وان كان التعبير مفردا قبل ذلك وانما كانوا في ضلال واضح لانهم يتوهمون ان بامكانهم مقاومة ارادة الله تعالى ولم يعلموا ان كل ما يفعلونه من خطأ وصواب ليس الا تحت السيطرة ولا يمكنهم فعل شيء الا باذنه.
ويبدو من البيان ان من الجن ايضا من هو بهذه الدرجة من الغباء ويخفى عليه هذا الامر الواضح فمن الخطأ الفادح ما يتوهمه بعض المغفلين من أن الجن لا يخفى عليهم شيء ويحسبون ان لهم قدرة خارقة في معرفة الاشياء والتصرف فيها ولذلك عمدوا الى التوسل بهم لحلّ مشاكلهم قال تعالى (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)[10] وقال ايضا (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ).[11]
[1] الاسراء: 5
[2] الاعراف: 27
[3] آل عمران: 81
[4] النساء: 160
[5] الانعام: 146
[6] آل عمران: 50
[7] الشورى: 13
[8] الانعام: 153
[9] نوح: 4
[10] الجن: 6
[11] سبأ: 14