واذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللّه ورسوله الا غرورا... الغرور: الخداع، والأخذ على غِرّة اي غفلة. وغرضهم من هذا الكلام التشكيك، وإلقاء الشبهة في أصل الدين، ومواعيد الله تعالى ورسوله حول انتصار الإسلام في النهاية، والغلبة على الكفر والشرك، ليصلوا بذلك الى التشكيك في الوعود الغيبيّة المتعلّقة بالآخرة.
والتعبير بأنّ الوعد من الله ورسوله إمّا من باب الجري على ظاهر حالهم وهو الايمان، او من باب الاستهزاء، اي ما ادُّعي أنّه وعد من الله تعالى، وما قاله المدّعي للرسالة.
ولا غرابة في صدور هذه الجملة الدالّة على الكفر من المنافقين، لأنّهم أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر، فهم كفّار في الواقع.. وإنّما جرت عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، والظروف أجبرتهم على إظهار الإيمان، ولذلك فهم يترصّدون الفرص ليبرزوا ما في ضمائرهم.
وأما الذين في قلوبهم مرض فيحتمل أن يكون المراد بهم المنافقون ايضا، فإنّ النّفاق مرض في قلوبهم، فيكون العطف هنا للتفسير. ويؤيّد ذلك قوله تعالى في ذكر بعض أوصافهم (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا..) البقرة: 10.
ويحتمل أن يراد بهم قوم من المؤمنين ظاهرا وواقعا، وليسوا منافقين، ولكن في قلوبهم مرض يزلزل إيمانهم وهو الشّكّ، فهم ضعفاء في الإيمان، ويتزلزل ايمانهم في مواقع شدّة البلاء. ونحن نجد في المجتمع المسلم كثيرين من هذا القبيل، حيث يصدر منهم الكفر في مواقع الشدّة، وهم في مواقع الرخاء مؤمنون يؤدّون واجباتهم.
وكلّ مؤمن يضعف في مجال خاصّ من الامتحان، فهناك من يفقد إيمانه اذا ابتلي بالمال. وهناك من يحتفظ به في هذا المجال مهما اشتدّ البلاء، ولكنّه يضعف في مجال الشهوة. وهناك من يضعف في مجال الرئاسة والسلطة. وهكذا..
والبلاء المذكور هنا من أشدّ ما ابتلي به المؤمنون في المدينة، فلا غرابة اذا صدر الكفر من بعض ضعفاء الايمان وان لم يكونوا من المنافقين.
ولعل القصد من هذه الآية، تنبيه المؤمنين على أن هناك منهم من في قلبه مرض، وأنّ علامة هذا المرض أنه في مثل هذه الظروف العصيبة، تصدر منه مثل هذه الأقاويل.
وهذا التنبيه ينفع المؤمنين عامة بما فيهم ذوو الأمراض فإنّ عليهم أن يعالجوا أنفسهم، ويزيلوا الشكّ عن قلوبهم قبل أن تتبيّن أمراضهم لسائر الناس، فإنّ هذه الأمراض لا بد من أن تظهر آثارها ولو بعد حين، ولو لم تظهر في هذه الدنيا فستظهر يوم القيامة.
واذ قالت طائفة منهم يا اهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا... هؤلاء قوم من المنافقين لم يكتفوا بإظهار الكفر، بل أخذوا يثبّطون عزائم المؤمنين ويخوّفونهم. ومما قالوه، هذه الجملة: (يا أهل يثرب لا مقام لكم) المقام إمّا اسم مكان اي محل الاقامة وإمّا مصدر ميمي بمعنى الاقامة. والمعنى: لا يمكنكم الإقامة في هذا البلد فاخرجوا منه، أو لا يمكنكم الإقامة على هذا الدين، فارجعوا عنه.
ويثرب إسم قديم لمدينة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم.. هجر هذا الإسم بعد أن هاجر إليها الرسول فقيل لهــا: "مدينة الرسول" ثم اختُصر فقيل لها: "المدينة" وهذا القوم اختاروا الإسم القديم في إشارة إلى الرجوع إلى العهد البائد.. وأنّه لم يبق الرسول ولا مدينته.. وأنّ كل ما وعد به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أصبح لاغيا بهجوم هذا الجيش العرمرم، ومحاصرتهم للمدينة.
ويستأذن فريق منهم النبيّ يقولون إنّ بيوتنا عورة... هؤلاء طائفة أخرى من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، جاءوا إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم واستأذنوه في اعتزال الحرب، واعتذروا عن الحضور بأن بيوتنا عورة. والعورة مصدر بمعنى العيب والخلل، ويُطلق على نفس ما به الخلل مبالغة، أو مخفف من عورة ــ بكسر الواو ــ أي بها عوار وخلل. والمراد أنها غير محصّنة، فيتمكّن منها الأعداء والسّرّاق ولا يمكننا تركها، ولعلّهم كانوا خارج المدينة فأظهروا الخوف على بيوتهم من الكفار.
وماهي بعورة إن يريدون الا فرارا... وهكذا ينزل الوحي يفضحهم ويظهر كذبهم فبيوتهم ليست بذات عورة، وإنما يريدون الفرار من الحرب. وما أقبح الفرار من الحرب والعدوّ قد أحاط بالبلد!!
ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبّثوا بها إلا يسيرا... الضمير في (أقطارها) إمّا أن يعود الى بيوتهم، أي لو دخل الأعداء عليهم من أقطار بيوتهم.. أو يعود الى المدينة، فالمعنى أنه لو دخل الاعداء المدينة حال كونهم فيها.. ثم سئلوا الفتنة اي طلب منهم الأعداء الفتنة؛ والفتنة تطلق على الإرتداد عن الدين، وربما يفسر هنا بالقتال، لآتوها اي لأعطوها. وقرأها بعضهم لأتوها أي عملوا بها. وما تلبّثوا بها إلا يسيرا، أي يسرعون إلى قبول هذا الطلب ولا يصبرون الا قليلا.
وفي المراد بهذه الجملة إختلاف. والذي يقوى في النظر، أن المراد بها بيان جبن القوم وضعف إيمانهم، بحيث لو دخل الأعداء عليهم وطلبوا منهم الإرتداد عن الدين، لاستسلموا لهم من دون تريُّث، فهؤلاء لا يعتمد عليهم في بقاء الإسلام ونصرة الدين. فالغرض هو عدم الإكتراث بمثل هؤلاء، حتى لا يؤثر ضعفهم وتخاذلهم في صفوف المسلمين. وفي الآيات التالية ما يؤيّد هذا المعنى.
ولقد كانوا عاهدوا اللّه من قبل لا يولّون الأدبار... إشارة إلى بيعتهم مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، فإنها تعتبر بيعة ومعاهدة مع اللّه تعالى. ومعنى البيعة هو التضحية بالمال والنفس في سبيل الدين كما قال تعالى: (إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة: 111.
فالبيعة هو البيع، والمؤمن ببيعته مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم يبيع اللّه نفسه وماله في مقابل ان تكون له الجنة.. والبيعة مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم معاهدة مع اللّه تعالى. وتولية الدبر بمعنى الفرار.
وكان عهد اللّه مسؤولا... فالمعاهدة مع اللّه تعالى لا يمكن التسامح فيها ونسيانها، واللّه تعالى يسأل الانسان عما عاهد اللّه عليه يوم القيامة. وهذه الآية مما يؤكّد جبن القوم وفرارهم من الحرب.
قل لن ينفعكم الفرار من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا... يأمر اللّه تعالى رسوله بأن يحذّرهم وينبّههم بأنّ فرارهم من الموت أو القتل لا ينفعهم. وليس المراد أنّ الإنسان لا ينبغي أن يفرّ من عوامل الموت كالمرض، أو عوامل القتل كبطش العدو، إذ لا شكّ أن ذلك يفيد في بقاء الإنسان مدة أطول.. ومن الواضح أنّ الإنسان يجب عليه عقلا وشرعا، أن يحاول الإبقاء على حياته، بل المراد أنّ الفرار من الموت أو القتل لا ينفعكم طويلا.
ولذلك عقّبه بقوله: (واذا لا تمتعون الا قليلا) أي إنّ تمتّعكم بعد ذلك ليس إلا في الحياة الدنيا، وهو مهما طال فإنّه قليل إذا قيس بالحياة الآخرة، فلا ينفع ذلك، بل يضرّ لأنّكم تشترون غضب اللّه وعذابه، حيث تتركون الواجب من الدفاع عن الدين، بأمر تافه وهو التمتّع بالحياة الدنيا عدّة أيام او عدّة سنين.
وبذلك يتبين ضعف ما في بعض التفاسير، من أنّ المراد بيان أنّكم لا يمكنكم المقابلة مع قضاء اللّه وقدره، فالفرار لا ينفعكم، فإن كان اللّه تعالى قضى عليكم بالموت، فتموتون حتى لو تعالجتم عن المرض، وإن قضى عليكم بالقتل، فستقتلون حتى لو فررتم عن المعركة.
وهذا غير صحيح، وقد حكي عن امير المؤمنين عليه السلام أنه كان جالسا بجانب حائط مائل، فلما ُنّبه على ذلك، قام وانتقل إلى موضع آخر. فقيل له: يا امير المؤمنين هل تفرّ من قضاء اللّه؟ قال عليه السلام: أفرّ من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عز وجل.
ومعنى ذلك أنه لا يريد الفرار من قضاء اللّه تعالى الى موضع لا يحكم فيه قضاء اللّه، فإنّ هذا الموضع أيضا تابع لحكمه و قضائه، لكن ربّما لا يكون هناك قضاء حتميّ بالموت في هذه الساعة، فلا مبرّر للبقاء في موضع الخطر.. ولو بقي الانسان، فمات بهذا السبب، فالمقضيّ أنه يموت بسبب فعله، ويؤاخذ على ذلك عرفا وشرعا. فالصحيح في تفسير الآية ما ذكرناه، واللّه العالم.
قل من ذا الذي يعصمكم من اللّه إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة... هذا بيان آخر لعدم الجدوى في الفرار من الموت، وهو أنّكم إذا فررتم من القتال ــ خلافا لأمر اللّه تعالى ــ فإلى من تلجأون إن أراد اللّه تعالى أن يعاقبكم، فأراد بكم سوءا، ومن يمكنه أن يعصمكم من عذابه؟! وكذلك ليس هناك من يمنع اللّه تعالى من إرسال رحمة إليكم إن أرادها.
والظاهر أنّ هنا تقديرا أي ومن يمنعكم من رحمته إن اراد بكم رحمة، فالمقدر يدل عليه الفعل المذكور (يعصمكم) نظير قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) النحل: 81 أي والبرد.
ولا يجدون لهم من دون اللّه وليا ولا نصيرا... (من دون اللّه) أي بدلا عنه، فلا ينافي أن يكون لهم وليّ، عيّنه اللّه تعالى أو أجاز ولايته. والوليّ هو الذي يقوم بالأمر ويغنيك عن التوسل بغيره، والنصير من يعاونك ويساعدك لبلوغ المقصود. فالمعنى أنّ كل من يفرض كونه وليّا لكم او نصيرا، فانما يعمل بارادته تعالى وباذنه، وليس في الكون وليّ او نصير يستقلّ بارادته. <