مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

لقد كان لكم في رسول اللّه اسوة حسنة... الخطاب للمؤمنين، وفيه تعرّض لبيان حالهم وحثّ لهم على الاقتداء والتأسّي بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بعد الإنتهاء من التنديد بالمنافقين ومرضى القلوب.

ثم ان الجملة مؤكدة بلام القسم و(قد). ويفهم من التعبير بفعل الماضي (كان لكم..) توجيه اللوم الى المؤمنين على عدم التأسي به صلى اللّه عليه وآله وسلّم، حيث يفيد هذا التعبير الإستغراب من تناسي ذلك، فان هذا الامر لا يحتاج الى أمر ينزل من السماء، بل المؤمن بطبعه يميل الى التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم. وهذه الآية من هذه الجهة نظير قوله تعالى (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّه وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) آل عمران:101.

وقوله: في رسول اللّه ــ على ما في الكشاف ــ اما بمعنى أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بنفسه أسوة. والأسوة مصدر بمعنى المفعول، أي هو مقتدى حسن لكم. وهو نظير قول القائل: في البيضة منّ من حديد (وهي ما يجعله المحارب على راسه)، مع أنه هو نفس الحديد، واما بمعنى ان فيه خصلة يجب أن يقتدى به، وهي جهاده وتحمله المشاقّ في سبيل اللّه تعالى. ولكن الأول هوالمتبادر.

لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر وذكر اللّه كثيرا... يظهر من بعض التفاسير أو معظمها أنّ هذه الجملة تقتضي تخصيص التأسّي بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بفرقة خاصة من المخاطبين، وهم الواجدون لهذه الصفات، إما لأن غيرهم لا يتأسى بالرسول، او لأنه لا ينتفع به نظير قوله تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) يس: 11، مع أنه ينذر الجميع وهو الواجب عليه، فالتخصيص ــ كما يقال ــ من جهة أن غيره لا ينتفع بالإنذار. وكذلك التأسي هنا لا ينفع الا من كان يرجو اللّه واليوم الآخر ويذكر اللّه كثيرا.

ولكن الظاهر أن المراد بالآية، ليس تخصيص التأسّي بفريق خاص، بل المراد أنّ الرسول أسوة في طريق حصول هذه الصفات، فمن أراد منكم أن يعمل عملا برجاء التقرّب الى اللّه تعالى، وتحصيل ثواب الآخرة، وان يكون ممن يذكر اللّه تعالى كثيرا، فليتأسّ بالرسول.. فليس فيه تقييد لكونه أسوة بفرقة خاصة. وهو نظير قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه..) آل عمرن: 31.

ولو فرض كونه ظاهرا في التخصيص فلا يبعد أن يقال: إن العنوان يشمل جميع المسلمين المخاطبين، وذلك لوجهين:

الاول: أن المراد ليس كما يقوله بعضهم خصوص من لا يرجو الا اللّه، ولا يعمل الا له، ولا يريد الدنيا بل يريد الآخرة فحسب، ولا الذي لا يفتؤ يذكر اللّه سبحانه، حتى لا ينطبق الا على الأوحدي من الناس، بل المراد هو من يكون من عامة المؤمنين، فيرجو اللّه ورحمته، ويعمل متقربا اليه، ويصلي الفرائض. وهذا المقدار يكفي في صدق كونه يذكر اللّه كثيرا، فقد ورد في الحديث ان تسبيحة الزهراء سلام اللّه عليها بعد الصلاة من الذكر الكثير. 

الثاني: أن التعبير مبني على دعوى أن المخاطبين كلهم من هذا القبيل، اي يرجون اللّه واليوم الآخر ويذكرون اللّه كثيرا، فيقول لهم انتم حيث ترجون اللّه و... اعلموا ان الطريق للوصول الى الهدف هو التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وهذه طريقة غاية في اللطف، أن يعتبر المتكلم مخاطبيه الذين يريد تأديبهم، واجدين لصفة الكمال الذي يدعوهم اليه، بدلا من أن يعتبرهم فاقديه وانه يحاول سوقهم اليه. فهو نظير قوله تعالى نقلا عن شعيب عليه السلام: (إني أراكم بخير) هود: 48.

ومثل ذلك ينبغي أن يلاحظ في البرامج التعليمية، والافلام التي تحاول إصلاح الوضع الاجتماعي، فإن الأفضل هو تمثيل الدور المطلوب، والإيحاء بأن الحالة السائدة للمجتمع هي الصلاح، دون ما نجده في أكثر الافلام من تمثيل الدور الفاشل، والتنديد بالمجتمع بغية اصلاح الوضع الفاسد.

وعلى كل حال، فالآية تدل على أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أسوة في العمل، من اجل التقرب الى اللّه تعالى، والحصول على أعلى درجات الكمال في اليوم الآخر ويوم يقوم الأشهاد، كما هو أسوة أيضا في كونه ذاكرا للّه تعالى كثيرا، بل لم يكن يغيب عنه لحظة حتى في حياته الإعتيادية، وكان ينتهز كل فرصة لسوق المجتمع إلى الإنصهار في حبه تعالى، والتفاني في سبيله، والجهاد لإعلاء كلمته.

هذه هي الجهة التي تركز عليه الآية الكريمة من سيرة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم. ولكن المفسرين يؤكدون على جانب شجاعته في الحرب، وتحمله الشدائد والمشاق في مقابلة الأعداء، وخصوصا ما ظهر منه في غزوة الأحزاب، حيث كان يشارك المسلمين في حفر الخندق بنفسه، بل يعمل أكثر مما يعمله الآخرون، وكان يقوي عزائم المجاهدين.

وقد برز منه صلى اللّه عليه وآله وسلم معجزات في تلك الايام، وورد بهذا الشأن روايات كثيرة. ولكن الآية ــ كما ذكرنا ــ تركز على الجانب الإعتقادي والروحي في سيرة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، فالتأسي به إنما هو من حيث كونه داعيا الى اللّه بإذنه وسراجا منيرا في الطريق الى اللّه تعالى.

ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا اللّه ورسوله... يتعرض هنا لبيان حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، وأنهم لم يتزلزلوا ولم يزعزعهم جيش الكفر عن ايمانهم. والظاهر أن المراد بهم الخواصّ من المؤمنين، لقوله تعالى بشأن عامتهم: "وزلزلوا زلزالا شديدا".

ويمكن أن يكون المراد بالزلزال، الغربلة وهي الحالة التي تحصل للمجتمع، حين بروز الشدائد، حيث تظهر جواهر النفوس كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: (في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال).

وعلى كل حال فهؤلاء هم المؤمنون الصادقون.. ولعل المراد بالوعد المشار اليه، ما بلغهم بالوحي من السماء أنّ اللّه تعالى سيبتليهم كما ابتلى من قبلهم، والآيات في ذلك كثيرة جدا، كقوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبينَ) العنكبوت: 2و3.

وأما ما ذكره بعض المفسرين من الاختلاف بين وعد اللّه ووعد رسوله وتأويل كل منهما بشيء، فبعيد عن ظاهر الآية غاية البعد، بل هو وعد اللّه الذي بلّغه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم. ومن غاية تكريم اللّه رسوله وعبده المخلص أن يعتبر أمره أمره ونهيه نهيه ووعده وعده وطاعته طاعته وعصيانه عصيانه وايذاءه ايذاءه وهكذا...

والحاصل أن المؤمنين الصادقين في ايمانهم، لا ينزعجون برؤية الأحزاب المتحزّبة والمتجمّعة حول المدينة، يريدون استئصال الاسلام والمسلمين، وذلك لانّهم لم يؤمنوا طمعا في الدنيا وحطامها، بل اطمأنّوا بوعد اللّه ورسوله، وعلموا من دون ريب، أنهم سيواجهون المشاكل الجسيمة، فكانوا ينتظرون مثل هذا اليوم العصيب، ليقابلوا الموت بصدور رحيبة، وقلوب ملؤها العزم والإيمان، ولذلك ما زادتهم رؤية الأحزاب إلا إيمانا وتسليما لأمر اللّه وقضائه.

ولا شك في أن بعض من أسلم آنذاك، قد تفرّس أنّ هذا الدين سيكون له شأن، وأنّه سيجمع العرب تحت راية موحّدة، ولم يدخلوا في الدين إلا طمعا في الوصول الى الدنيا، ولذلك لم يشتركوا في حرب من الحروب، بصدق نيّة وقوّة عزيمة، ولم تنلهم الحروب المتتالية بضرب ولا جرح، وهؤلاء هم الذين كانوا يخافون وينزعجون من رؤية الأحزاب، على اختلاف مراتبهم وهممهم.

وأما الذين آمنوا لينالوا ثواب اللّه في الدار الآخرة، فيجدون في تحزّب الأحزاب، قربا لما وعدهم اللّه ورسوله من الوصول الى الكمالات المعنوية وتحصيل ثواب الآخرة، فلا يزيدهم الا إيمانا وتسليما. والايمان عقيدة، والتسليم عمل نفسي، وهو ان يسلم امره الى اللّه تعالى لا يريد لنفسه الا ما اراده اللّه لها، وهو مما يستتبعه الايمان اذا بلغ كماله.

من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه... بيّن اللّه سبحانه في هذه الآية حال المؤمنين الصادقين، ليكون أنموذجا لغيرهم من أهل ذلك الزمان، ومن يأتي بعدهم، ولتتمّ بهم الحجة على غيرهم، ولئلّا يقول أحد: إن التأسّي بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم غير ميسور لعامّة الناس، فضرب اللّه لهم المثل من عامّة المؤمنين. فهؤلاء رجال عاهدوا اللّه كغيرهم ممن ذكرهم سابقا بقوله (ولقد كانوا عاهدوا اللّه من قبل لا يولّون الادبار) الا أنّ أولئك لم يفوا بعهدهم، وهؤلاء صدقوا في عهدهم.. وفي التعبير بالرجال، إشارة الى مروءتهم وشهامتهم.

وفي الكشاف أنّ تعدي الصدق إلى ما عاهدوا عليه، إمّا بحذف الجارّ أي صدقوا في ما عاهدوا، فيكون المفعول محذوفا اي صدقوا اللّه في ما عاهدوه عليه، او أنّه مفعوله الصريح مجازا كأنهم قالوا لعهدهم حين انشائه: (سنفي بك) فصدقوه، يقال: صدقني أخوك وكذبني، اذا قال له الصدق او الكذب.

ولكنّ الظاهر ان هذا لا يستلزم الوفاء، فإنّ التأويل الاوّل يقتضي انّهم حينما عاهدوا اللّه تعالى لم يكذبوا، بمعنى أنّهم لم يقصدوا عدم الوفاء، وليس هذا هو المراد هنا، وكذلك التأويل الثاني، فانّه ايضا بمعنى انّهم لم يكذبوا حينما قالوا لعهدهم (سنفي بك)، وليس معناه انهم وفوا بالفعل.

وفي معجم مقاييس اللغة أنّ الصدق أصل يدل على قوّة، يقال: صدقوهم الحرب، ورمح صَدق (بفتح الصاد) اي الصلب او المستوي، فالصدق في العهد ليس بمعنى الصدق في القول، بل بمعنى نفس الوفاء به.

والمراد بالعهد إما البيعة مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، ويعتبره اللّه عهدا معه، كما قال ــ عز من قائل ــ: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..) الفتح: 10، وإمّا العهود العامة التي أودعها اللّه في فطرة الانسان أو أبلغهم بواسطة الرسل كقوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ...) يس: 60.

وعلى كل تقدير فإنّ هؤلاء المؤمنين صدقوا العهد ودافعوا عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وعن الدين الحنيف، وجاهدوا في سبيل اللّه. ولاشك في أن أبرز مصاديقه هو بطل الاسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر... النحب قيل: انه النذر والعهد، فالمراد بالذي قضى نحبه هو الذي وفى بعهده، وثبت في الحرب الى أن استشهد، إذ لو بقي حيا فالعهد باق بحاله. وقيل: إنّ المراد بالنحب هو الموت، يعبّر به عنه لانّه آت قطعا، فكأنّ الانسان عاهد عليه. والمآل واحد.

وتوصيفهم بالإنتظار، يدل على أنّ الشهادة في سبيل اللّه تعالى كانت غاية لهم، يتطلّعون إليها وينتظرونها.

وما بدّلوا تبديلا... اي لم يغيّروا عهدهم، ولم يجعلوا شيئا موضعه. والاتيان بالمفعول المطلق (تبديلا) يؤكّد ثباتهم او ثبات خصوص المنتظرين منهم بأنّهم لم يبدّلوا أي تبديل. وهذه الصفة لا تنطبق على الذين فرّوا في الحروب، ولا على الذين نكثوا البيعة مع أميرالمؤمنين عليه السلام، إمّا بعد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم مباشرة بالنسبة لبيعة الغدير، وامّا البيعة بالخلافة بعد مقتل عثمان. فمن الغريب محاولة تطبيقه على بعض الناكثين بل إنّ بعضهم فسره به خاصة!!!.

وليعلم أنّ الثبات وعدم التبديل ليس حسنا دائما، بل لا بدّ للإنسان من أن يكون متحوّلا متغيّرا، متقدّما الى الأمام في العلم والعمل، ومواكبا لتطوّر الحضارة البشرية، وقد ورد في الحديث: (من استوى يوماه فهو مغبون) وانّما يحسن به أن لا يغيّر عهد اللّه تعالى فانه ليس مما يعرضه التغيير او التطوّر.

ثم إنّ في الآية تعريضا بمن لم يثبت على صدقه، وإن كان صادقا في بعض الأدوار، وينطبق ذلك على من بقي على صدقه في عهد الرسالة، ولكنّه بدّل الصدق والوفاء غدرا وخيانة بعده. وهكذا الانسان تعرض عليه من أنواع الإبتلاء ما لا يستطيع الثبات لديه..

ومن هؤلاء من بقي على العهد حتى بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم شطرا من الزمان، ولمّا لمسوا عدل أمير المؤمنين عليه السلام، وتسويته بين السابقين واللاحقين، بدّلوا تبديلا، وعدلوا عن الحق، ونكثوا العهد والبيعة، فكان عاقبة أمرهم خسرا.

وهناك روايات وردت في تطبيق الآية:

فقد روى في مجمع البيان عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بالإسناد عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن علي عليه السلام قال: فينا نزلت «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ» فأنا واللّه المنتظر وما بدّلت تبديلا.

وروى الصدوق قدس سره في الخصال عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عن أمير المؤمنين عليهما السلام في حديث طويل يجيب عن أسئلة يهودي يقول فيه: ولقد كنت عاهدت الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفَينا به لله عز وجل ولرسوله، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لمّا أراد الله عز وجل فأنزل الله فينا (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) حمزة وجعفر وعبيدة وأنا والله المنتظر - يا أخا اليهود – وما بدلت تبديلا.. [1]

ولولم ترد رواية في ذلك فالتاريخ يثبت بوضوح أنّه عليه السلام أبرز مصداق للآية الكريمة. ولكنّ القوم رووا عدة روايات في تفسير الآية وتطبيقها ولم يرد في شيء منها ذكره عليه السلام. وذكر في الكشاف جماعة ليس فيهم أمير المؤمنين عليه السلام، نذروا أن يثبتوا عند القتال فنزلت الآية فيهم!!

أقول: وغزوة أحد خير مثال لثبات بعضهم!

ليجزي اللّه الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين ان شاء او يتوب عليهم... الظاهر أنّ هذا تعليل لما يسند الى اللّه سبحانه في هذه الحوادث، حيث إنّه هو الذي ابتلى المجتمع الاسلامي آنذاك بهذه البلايا، وأعدّ كل هذه العدّة من عوامل داخلية وخارجية ليظهر كل إنسان كوامنه، فالهدف في ذلك أن يجزي اللّه الصادقين بصدقهم.

والجزاء وان كان كله تفضلا من اللّه ونعمة ورحمة، وليس لأحد على اللّه حق إلا ما جعله على نفسه، ولكنه في مقام بيان نتيجة الإمتحان، يركّز على أنّ الجزاء يتبع العمل؛ فالصادقون يجزون بصدقهم.. والباء للسببية فالصدق سبب لمجازاتهم بالجنة.

ثم انه لم يعلّق ذلك بالمشيئة كما علق بها العذاب، مع أنّه أيضا معلّق عليها، وذلك لعدم اقتضاء المقام، بخلاف عذاب المنافقين، فإنّ المقام يقتضي تعليقه بها، لحثّهم على التوبة، وبثّ روح الرجاء في النفوس، رحمة منه تعالى بعباده.

وقيل: انّ في التعبير بالتوبة دون المغفرة إشارة الى أنّه يتوب عليهم إن تابوا. ولكن يحتمل أن يكون المراد، الرجوع عليهم بالمغفرة والرحمة وإن لم يستحقّوا ولم يتوبوا، وقد استبعد ذلك بعض المفسرين بأن اللّه جعل العذاب جزاءا قطعيا للكافرين، وجعل موضع المنافقين في النار الدرك الاسفل، فهم أسوأ حالا من الكفار، فكيف يمكن أن يتوب عليهم من دون توبة؟!.

والجواب أنه تعالى يقول: (إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) النساء: 48، ولاشكّ أن هذا من دون توبة، وأمّا معها فيغفر للمشرك أيضا، فلايبعد أن يكون للمنافق أعمال، يغفر اللّه له بها ويتوب عليه، حتى لولم يتب من نفاقه، وليس النفاق كالشرك ان لم يكن المنافق في الباطن مشركا..

وهذا لاينافي ان موضع المنافق في النار أسفل من المشرك. ويؤيد ذلك أنّ التعليل لم يقع بكونه تعالى توّابا، بل بكونه غفورا رحيما، ولوكان المراد قبول التوبة لكان هو الأنسب.

 


[1] الخصال ص 376