وردّ اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا... بعد الإنتهاء من بيان الآثار المعنوية المترتبة على غزوة الاحزاب، وتفكيك الفصائل المختلفة في المجتمع الاسلامي آنذاك، على أساس الايمان والنفاق، والصدق والغدر، تعرّض الكتاب العزيز لبيان النتائج المترتّبة على الصعيدالاجتماعي والعسكري، وركّز في نفس الوقت على أنّ كل ذلك إنّما كان من اللّه سبحانه.. فهو الذي ردّ الذين كفروا بغيظهم، أي مع غيظهم، أو حال كونهم مغتاظين.
والغيظ فُسّر بالغضب الشديد، وبالكرب يلحق بالإنسان. فهم قد رجعوا بحنقهم وغضبهم لم يستطيعوا إفراغه.. وكذلك بكرب عظيم لحق بهم جرّاء عدم وصولهم إلى بغيتهم، بالرغم من أنّهم أعدّوا غاية ما يقدرون عليه، وساعدهم على ذلك كلّ من توقّعوا منه المساعدة، فتألّبت كل قوى الكفر ضد الإسلام ونظامه اليافع، وكلهم يأمل أن تكون هذه هي النهاية، فردهم اللّه صُـفر اليدين. وأيّ كرب اعظم من هذا؟!
وقوله تعالى: (لم ينالوا خيرا) إمّا بيان لما أوجب الغيظ أوحال بعد حال.. والأوّل أقرب. ولبعض المفسرين كلام في تأويل الخير، نظرا الى أنّ ما أرادوه كان محض الشر، وقد عبّر عنه بالخير. وهذا من غريب الكلام، إذ من الواضح أن الخير والشر أمران نسبيان، فما أرادوه كان خيرا لهم وشرا للمسلمين ، فلاحاجة الى تأويل.
وكفى اللّه المؤمنين القتال... أكّد على أنّ الأمر لم يكن بسبب جهودكم، حتى في الظاهر. والقرآن يركّز على أن الأمور كلها بيد اللّه سبحانه، حتى لوكان للإنسان دورٌ في الظاهر، كما قال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمَى..) الانفال: 17. ولكنّه في هذه الآية، ينفي كل دور للناس، حيث يقول: (وكفى اللّه المؤمنين القتال).
والسبب أنّ هذه الغزوة مع أنّها تعدّ من الناحية العسكرية، أهمّ الغزوات، حيث إنّ المشركين واليهود وسائر المتربّصين بالإسلام، انكسرت شوكتهم، ونفدت عزائمهم، وخارت قواهم، وأصبح المسلمون بعدها يهاجمون الأعداء، بعد أن كانوا معرّضين لهجومهم.. كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم ــ على ما روي وقد مرّ ذكره ــ : (الآن نغزوهم ولا يغزوننا)، ولكن كل ذلك إنما حصل بالريح التي أرسلها اللّه تعالى عليهم والملائكة، ولم يقاتل أحدٌ من المسلمين في هذه الغزوة، إلا ما بدر من أمير المؤمنين عليه السلام في قتاله لفارس العرب ــ عمرو بن عبدود ــ وقد دخل الذلّ والإنكسار بقتله في بيوت الكفر وقلوب المشركين.
ولذلك قال الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم على ما في مستدرك الحاكم: (لمبارزة علي بن ابي طالب لعمرو بن عبدودّ يوم الخندق أفضل من أعمال امتي الى يوم القيامة) وفي نقل آخر (لضربة علي أفضل من عبادة الثقلين).
وقال حينما بـرز الإمام إليه: (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه). وقال: (أبشر يا عليّ فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك على عملهم، وذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عزّ بقتل عمرو). ووردت هذه الآية في مصحف ابن مسعود هكذا: (وكفى اللّه المؤمنين القتال بعليّ).
وكان اللّه قويا عزيزا... (كان) لا تدلّ على المضي اذا اُسند الى اللّه تعالى فالمعنى أنّه تعالى قويّ وقادر على كل شيء. وعزيز لايغلب على أمره، ولا يمنع من نفوذ إرادته شيء.
وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم... نزل جمع من اليهود في قديم الزمان أرض يثرب، لِما وجدوا في كتبهم من أنّ آخر الرسل يُبعث في هذه المنطقة، وسيكون مقرّ حكومته ما بين عير وأحد، وكانوا ــ على ما يقال ــ ثلاث فرق، وكانوا اذا وقع بينهم وبين المشركين حرب، يهددونهم بأنه سيظهر في هذه الارض من ينصرنا عليكم، ولا تستطيعون مقاومته.
قال تعالى: (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكافِرينَ) البقرة: 89 .
وكان اليهود يتوقعون أن يكون الرسول المنتظر منهم، لظنّهم أنّ النبوة لا تكون إلا في بني اسرائيل، ولمّا وجدوا أنّ الصفات التي رأوها في كتبهم، مجتمعة في الرسول الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم، أبوا أن يؤمنوا له أنفة من خروج النبوة منهم.
وهكذا فتنة اللّه تعالى لعباده، يبتلي الإنسان بموضع ضعفه، وبنو اسرائيل فيهم داء العنصرية قديما وحديثا. قال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران: 75. والمراد بالأميين، غيرأهل الكتاب، لأنّهم كانوا يجدون أنهم أهل العلم، فغيرهم أميون لا يعلمون من الكتاب شيئا. وهم حتى يومنا هذا يعتقدون أنهم شعب اللّه المختار.
والحاصل أنّ اليهود نزلوا هذه الأرض، وبنوا فيها القلاع والحصون، وقويت شوكتهم وكانوا ثلاث فرق: بنوقينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. ولما هاجر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى المدينة، دعاهم الى الإسلام، فلم يستجيبوا فعاهدهم، ولكن بني قينقاع نقضوا العهد في غزوة بدر، وكانوا أشجع اليهود، فحاصرهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم، ثم نزلوا على حكمه، وأصرّ عبد اللّه بن أبيّ ــ وكانوا حلفاءه ــ على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم، فوهبهم له وقبض أموالهم.
واما بنو النضير فأرادوا أن يغتالوا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم، فأخبره اللّه تعالى بمكيدتهم، وأخرجهم الى خيبر ــ في قصة طويلة ــ ولم يتوقفوا عن كيدهم، فأتى رئيسهم حيي بن أخطب إلى بني قريظة، وحرّضهم على التحزب مع قريش ــ في غزوة الأحزاب ــ وكان بنو قريظة هم الباقون من اليهود حول المدينة، فتحزّبوا مع الأحزاب ونقضوا عهدهم مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم دون مبرّر.
وكان في هذا الغدر أسوأ الأثر في قلوب المسلمين، بحيث إنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لما بعث بعض الصحابة لاستخبار الأمر أمرهم أن لايعلنوا ذلك إذا صحّ الخبر، فعادوا وأخبروا الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بسريّة تامة.
وبطردهم من المدينة، قويت شوكة المسلمين، وهابهم الناس، واستسلموا لسلطانهم، حيث إنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم حاصر بني قريظة في حصونهم خمسة وعشرين يوما، وعرض عليهم الإسلام، وأشار اليهم بالقبول كعب بن أسد وهو زعيمهم، وقال لهم: قدعلمتم أنّه نبي مرسل، فأبوا وقالوا: نموت على دين اليهود!
ولما طال الحصار، طلبوا أن يأتيهم أبولبابة، ليستشيروه في النزول على حكم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، فذهب إليهم وسألوه هل ننزل على حكمه؟ فقال: نعم.. ولكنّه ترحّم على حال الأطفال والنساء، فأشار الى حلقومه، يُفهمهم أنّه القتل لا غير.
ولما خرج من عندهم، لم يذهب الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنّه علم أنّ ذلك كان منه خيانة، فذهب الى المسجد وربط نفسه بالأسطوانة المعروفة باسمه، حتى نزل الوحي بقبول توبته.
ولمّا طال الحصار قبلوا ما يحكم به سعد بن معاذ ــ وكان سيّد الأوس ــ وهم حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وكان سعد رحمه اللّه قد أصيب في غزوة الأحزاب بسهم، فجيء به محمولا، وحثّه قومه أن يحكم بعفوهم، فقال: لقد آن أن لا تأخذني في اللّه لومة لائم. فحكم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وتقسيم أموالهم.. فأيّد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم حكمه وعمل به. وكانوا يستحقّونه، لخلفهم العهد، ورفضهم النزول على حكم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، مع أنّه ورد في التوراة التي لديهم أنّ هذا حكم كل من غلب في الحرب، فأخذوا بما دانوا به، بل أدانوا به الآخرين، وهم اليوم يعملون بهذا القانون مهما أمكن.
فالمراد بالذين ظاهروا المشركين هم يهود بنو قريظة، والمظاهرة المعاونة. وتوصيفهم بمظاهرة المشركين للاشارة الى أنّ سبب المناجزة هو مظاهرتهم لهم. والصياصي: جمع صيصية، وهي الحصن. قال في معجم المقاييس: الصاد والياء كلمة واحدة مُطَابَقة، وهي كلُّ شيءٍ يُتَحَصَّنُ به. من ذلك تسميتُهم الحصونَ صَياصِيَ، ثمَّ شُبِّه بذلك ما يُحارِب ويتَحصَّن به الدِّيك وسُمِّي صيصِيَة، وكذلك قَرن الثور يسمَّى بذلك؛ لأنه يَتحصَّن ويُحارِب به.
وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا... يتبيّن من الآية أنّه تعالى جعلهم يخافون من دون أن يجدوا أمرا يثير الرعب بطبيعته، وإنّما هو قذف غيبيّ من اللّه تعالى في قلوبهم. والمراد بالفريق الذي قتلهم المسلمون رجالهم، وبالذين أسروا النساء والذراري. ولعل وجه تقديم المفعول وتأخيره، التفنّن في التعبير.
وأورثكم أرضهم وديارهم وأرضا لم تطئوها وكان اللّه على كل شيء قديرا... الارث انتقال مال بدون سبب ناقل، ومنه الارث من الميت. وحيث إنّ المسلمين تسلّطوا على أراضي اليهود من دون تمليك، عبّر عنها اللّه تعالى بانه إيراث منه.
واختلف المفسرون في المراد بالأرض الذي لم يطأها المسلمون، فقيل: أرض خيبر، التي استولوا عليها بعد ذلك. وقيل: أرض فارس والروم. وقيل: كل أرض اخذها المسلمون بعد ذلك.
ولكن الظاهر أنّ المراد هو أرض بني قريظة، لأن السياق يقتضي أنّ ما ذكر متفرع على هذا الحادث ومن نتائجه. وإنما كرّر ذكرها للتأكيد على أنها أرض ورثوها من دون أن يطأوا عليها بخيل أو ركاب، أي صارت لهم من دون حرب، بإرادة اللّه التي لا تقهر، حيث ألقى الرعب في قلوبهم، وأنزلهم من حصونهم من دون قتال. ولذلك عقبه بقوله تعالى: (وكان اللّه على كل شيء قديرا).