يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكنّ وأسرّحكنّ سراحا جميلا... مجموعة من الآيات تتعرض لأحكام خاصة بنساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. ويبدو من هاتين الآيتين أنّ بعض نسائه طلبن منه أشياء من زخارف الدنيا.
ووروده في سياق الآيات السابقة ربّما يدلّ على أن ذلك كان بعد استيلاء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم على أموال اليهود، ومن الطبيعي أن تتوقّع نساؤه أن يكون لهنّ حظّ من الغنائم، لأنّهنّ أزواج زعيم الجيش القاهر، وكان ذلك يبدو طبيعيا حسب الفكر الاجتماعي آنذاك.
وقد ورد في الروايات ذكر بعض نساء النبي الّلاتي طلبن منه ذلك.. ونحن لا نعتمد على هذه الأخبار، إذ ربّما يتعمد ذكر بعض أو حذف بعض، تبعا للأهواء والميول، ونتبع النص القرآني الذي يشير الى الموضوع بصورة عامة، حيث إنّ الهدف تكريم بيت النبوّة، وتقديسه من دنس الحياة الدنيا، والتنبيه على الفرق الكبير بين اغتنام الرسل واغتنام الملوك وزعماء القبائل.
ومع أنّه لا شك في أنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم - بطبيعته ونفسه الأبيّة عن الميل الى هذه الزخارف، وترفّعه عن دنس حب الدنيا كما هو واضح - رفض هذا الإقتراح واستاء منه، ولكنّ نزول الآية يؤكّد على أنّ هذا الأمر ليس مجرّد ردّ فعل من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ناشئ من طبيعته الميّالة الى الزهد في الحياة الدنيا، بل هو قانون إلهي لا يجوز التخطّي عنه، ولعله لا يختص بالبيت النبويّ الكريم، بل يشمل كحكم شرعيّ كل بيت ينتمي إلى من يجلس هذا المجلس، ويتولّى أمور المسلمين، فهذا هو حكمة نزول الآيات، مضافا الى إقناع نسائه صلى اللّه عليه وآله وسلم لئلّا يكون في قلوبهنّ حرج مما صنعه الرسول، ويعلمن أنّ ذلك أمر من السماء.
ومن غاية اللطف أنّ اللّه تعالى أمر نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بتخيير النساء بين الأمرين، ولم يرغمهنّ على اختيار حياة التقشّف مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، وهذا تأديب لرجال المجتمع، فإذا وجد أحدهم من زوجته كرها للحياة معه، ينبغي له أن لا يرغمها لقبول ظروفه الخاصة والتسليم للقدر. بل فوق ذلك، أمر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أن لا يطلقهنّ إلا بعد أن يدفع لهن شيئا من متاع الدنيا إذا اخترنه. وأين هذا من غالب الرجال الذين يطالبون ببذل مال من المرأة حتى تحظى بالطلاق؟!
بل وفوق ذلك، أمره أن لا يبدي أيّ امتعاض من تطليقهنّ، بل يسرّحهنّ سراحا جميلا، لا يشتمل على أيّ كراهية وحقد حتى لا يحملن معهنّ بعد الفراق ذكريات مرّة من العيش معه صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
والازواج جمع زوج ويطلق على كل من الزوجين، بل الزوج أفصح من الزوجة، والقرآن الكريم لم يعبّر بالزوجة مطلقا.
و(تعال) أصله بمعنى طلب العلو، وذلك في ما اذا كان القائل في علوّ فيطلب من المخاطب أن يصعد اليه. ولكن العرب تستعمله في طلب المجيء مطلقا، ولعلّ الوجه فيه اقتضاء الامر كونه في علوّ معنويّ.
وقوله (اُمتعكنّ) مجزوم، لانّه جواب الامر، اي إن أقبلتنّ اُمتعكنّ، أي أمنحكنّ ما ينفعكنّ لمدة طويلة. والمتاع كل ما ينتفع به لمدة طويلة. والتسريح اخلاء السبيل والإرسال، ولذلك كنّي به عن الطلاق. والسراح الجميل ما لا يكون عن عداء، ولا يستتبع حنقا وكيدا.
وإن كنتنّ تردن اللّه ورسوله والدار الآخرة فإن اللّه أعدّ للمحسنات منكنّ أجرا عظيما... ركّز النص القرآني على الجانب التربوي والإيماني، وأراد أن يعلمهنّ أنّ اختيار الحياة الدنيا ليس في مقابله الحياة مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كرجل وزوج، وإن كان ذلك عظيما، حتى بالنظر الى الجهات المادية في الحياة الدنيا، لما كان يتمتّع به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من مكانة إجتماعية، وخصوصا بعد هذه الغلبة الساحقة على الأعداء، وبعد استسلام كثير من ذوي النفوذ من زعماء العرب، بل يقابله إختيار اللّه ورسوله والدار الآخرة.
وهكذا يصنّـف اللّه سبحانه الناس بين مريد للدنيا ومريد للآخرة، فلا يجتمع حبّ الدنيا وترجيحها على الآخرة، مع حبّ اللّه ورسوله وتحصيل السعادة في الآخرة. ولا يختصّ ذلك بنساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، بل ورد هذا الفصل والتفريق في آيات عديدة. قال تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الْآخِرَةَ) آل عمران: 152. وقال تعالى في حكم حاسم: (مَنْ كانَ يُريدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فيها وَهُمْ فيها لا يُبْخَسُونَ * أُولئِكَ الَّذينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) هود: 15-16.
وقال ايضا: (مَنْ كانَ يُريدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُريدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) الاسراء: 18- 19. وفي موضع آخر: (مَنْ كانَ يُريدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُريدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصيب) الشورى: 20.
والجمع بين هذه الآيات وآيات أخرى يقتضي أن يقال: إنّ المراد من يرجح الدنيا على الآخرة في موارد التعارض، وليست هذه الموارد بعزيزة، وليس المراد من يقتصر في الدنيا على الموارد المحللة وإن كانت من زينتها، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللّه الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ..) الاعراف: 32. وقال أيضا: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) البقرة: 200 - 201.
ومن موارد تعارض السبيلين، مورد ابتلاء نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث كان الأمر دائرا بين اختيار الدنيا وزينتها، واختيار خدمة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فإذا كانت إحداهنّ ترجّح الحياة الدنيا، كان معناه أنّها لا تريد رضا اللّه ورسوله والسعادة الاُخرويّة، وترجّح على ذلك نعيم الدنيا الزائل.
هذا واتّفقت كلمة نسائه صلى اللّه عليه وآله وسلم على اختيار اللّه ورسوله. ومع ذلك فانّ الآية الكريمة لم تنزل بالوعد القاطع على الثواب، بل قيّد ذلك للمحسنات منهن، إيذانا بأنّ هذا القبول ربما لا تكون حسنة، وهو واضح، إذ من الممكن أن لا يكون القصد منه ثواب اللّه تعالى، واللّه لا يُخدع في جنته، وقد حذّرنا بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما في أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ..) البقرة: 235، ولكنه وعدهن بأنه أعدّ للمحسنات منهن أجرا عظيما.. ثم أكّد ذلك في آية تالية بمضاعفة أجرهنّ، لتحملهنّ التقشّف الذي تقتضيه الحياة في بيت النبوّة.<