يا نساء النبي من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين... تبدّل لحن الخطاب في الآيتين، فبينما كان الخطاب فيما سبق متوجّها الى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم، وجّه الخطاب هنا الى نسائه. والسبب واضح؛ فإنّ التخيير هناك كان شأن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولم يؤمر هنا بتوجيه هذا الخطاب إليهنّ تاكيدا على مضمون الخطاب، حيث كان من قبل اللّه سبحانه إليهنّ رأسا.
والفاحشة كل ما تجاوز الحدّ من الفعل الشنيع. والظاهر أنّه لايطلق على كل معصية، ولذلك عطف عليه المنكر في القرآن في غيرمورد، وان كان لا يبعد ان لا يشمل عنوان المنكر أيضا كل معصية، بل ما ينكره العُرف منها، ولكن الفاحشة والفحشاء ما جاوز الحد.
ثم انّ توصيفها بالمبيّنة إمّا أن يكون بمعنى الواضحة ليخصّ الحكم ما كان قبحه واضحا لدى عامة الناس، اذ ربّما يكون الشيء في حد نفسه معصية كبيرة جدّا عند اللّه، ولكن لا يكون قبحه واضحا لدى العرف، وإمّا أن يكون بمعنى الظاهرة، فلا يشمل الحكم ما أخفاه الإنسان ولم يظهر لعامّة الناس، إذ لا يؤثّـر حينئذ تأثيرا سلبيّـا في المجتمع.
ومن هنا يتبيّـن أنّ مضاعفة العذاب ليس من أجل أنّهنّ لمكان قربهنّ من الوحي، قد تمّت الحجّة عليهنّ، فلا وجه لما قيل من أنّ هذا الحكم من قبيل ما ورد في الحديث أنّ اللّه تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنبا واحدا، إذ لو كان كذلك، لم يكن دخل لكونه فاحشة مبينة. فالذي يفهم من هذه القيود، أنّ السرّ في ذلك هو أنّ الفاحشة منهنّ، تمسّ كرامة النبوة، ويشين بقدسيّـة الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وآله وسلم.
ونستنتج من ذلك تعميم الحكم. فإنّ الحكم ــ بناءا على ما ذكرنا ــ يشمل كل من كانت له قرابة وثيقة بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم. ولذلك ورد في حديث عن الامام زين العابدين عليه السلام أنّ رجلا قال له: إنّـكم اهل بيت مغفور لكم! فغضب سلام اللّه عليه، وقال: (نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى اللّه في أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم من أن نكون كما تقول. إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب. ثم قرأ الآيتين). [1]
وقد وقع الكلام في التفاسير، في المراد بالفاحشة، وأصرّ بعضهم على أنه لا يقصد بها الزنى - والعياذ باللّه ـ لأنّ اللّه تعالى عصم زوجات الأنبياء عن ذلك. فالمراد عصيان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وإيذاؤه ونحو ذلك من الكبائر، مما يناسبهنّ. ولكنّ الظاهر كما ذكره بعض آخر أنّها تشمل كل عمل شنيع. وصون اللّه تعالى لهنّ عن الزنى لا ينافي ذلك.
نعم الحكم لا يخصّه، بل يشمل كل ما تجاوز الحدّ من شنيع الأعمال، وممّا يستقبحه العرف، ولا يختصّ بما يصدر في عهد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، فيشمل مقابلة الإمام ومقاتلته، وإشعال نار الحرب بين المسلمين، وشقّ عصاهم، والتسبّب في قتل الالوف منهم على وجه الباطل، بل هو من أبرز المصاديق.
والمراد بالمضاعفة ليس هو المرّتين على الظاهر ولا الثلاث أو الأربع - كما قاله بعضهم - فإنّ العذاب يوم القيامة ليس مما يكال ويوزن، ولا من قبيل الحدود الشرعية. نعم لو عمم الحكم للحدود أمكن القول بأنّ الحدّ الجاري عليهنّ، ضعف الآخرين، ولكنّ الظاهر من الآية، انها تنظرإلى عذاب الآخرة.
ومضاعفة العذاب ــ كمضاعفة الثواب ــ لا يقصد بها إلا الزيادة. وهو نظير قوله تعالى: (فآتت أكلها ضعفين...) البقرة: 265، إذ قد لا يكون مقدارالزيادة في الثمر مرّتين بل أكثر أو أقل. وهكذا التعبير بالضعف في آيات عديدة بالنسبة للعذاب أو الثواب.
وكان ذلك على اللّه يسيرا... ذكر المفسرون أن الغرض من هذه الجملة التنبيه على أنّ قربكنّ الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، لا يمنعه من ذلك، كما ربّما يتوهم. وهذا لا بأس به.
ويمكن أن يكون تنبيها على أنّ مضاعفة العذاب وإن كان مخالفا لطبيعة الجزاء، حيث إنّ اللّه تعالى صرّح في موارد كثيرة أنّ العذاب بمقدار العمل، او أنّه نفس العمل يتجسّد بصورة العذاب، وأنّ حقيقة هذا العمل هو هذا العذاب، وإن كان الإنسان لايشعر به. قال تعالى: (إِنَّ الَّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعيرا) النساء: 10.
ومن هنا فقد يستبعد أن يكون عذاب زوجات النبي، ضعف عذاب الآخرين، مع أنّ العمل نفس العمل، فيردّ اللّه تعالى على هذا التوهّم بأنّ ذلك اي مضاعفة العذاب على اللّه يسير، فإنّ العمل وإن كان بظاهره مشابها لعمل الآخرين، إلا أنّ استناده إلى من بهذه المكانة من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، يجعله مختلفا عن سائر الأعمال المشابهة.
ومن يقنت منكنّ للّه ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين... بيّن في هذه الآية حكم المحسنات منهنّ. وأتى بالفعل الأول، مذكّرا بلحاظ لفظ (من)، والثاني مؤنثا بلحاظ مصداقه. وعلّق الحكم على أمرين: القنوت للّه ورسوله، والآخر العمل الصالح. والقنوت هو الطاعة ــ كما قيل ــ ولكنّ الظاهر، بحسب الموارد أنه لا يطلق إلا على الطاعة في خضوع.
ويلاحظ أنّ الطاعة للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لم تعتبر بعنوان كونه زوجا لهنّ، بل بعنوان كونه رسول اللّه. فالمراد إطاعة الأوامر الرسالية، وعليه فالقيد الثاني معطوف عطف تفسير، وتأكيد على أنّ الجزاء يتبع العمل، لقطع الآمال والأماني الكاذبة التي تراود الإنسان في هذه الحالات، فيتصوّر أنّ لقربه من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، منزلة عند اللّه تعالى، حتى لو لم يعمل عملا صالحا.
ولم أجد من تعرض لسبب تضاعف الأجر لهنّ. ولعل السبب مقابلة مضاعفة العذاب، فإنّ الذي يعرّض نفسه لمضاعفة العذاب على عمله السيّء وخطائه بقبول منصب أو وظيفة يستحقّ مضاعفة الأجر على عمله الحسن. وهكذا من لم يتعرّض باختياره، ولكنّ اللّه تعالى عرّضه لذلك كذريّة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم على ما دل عليه حديث الإمام السجّاد عليه السلام الذي مر ذكره.
وأعتدنا لها رزقا كريما... لعل البشارة بإعداد الرزق الكريم في الآخرة مقابلة لقبولهنّ حياة التقشّف في بيت النبوّة، وتطييب لخاطرهنّ بعد ترجيحهنّ الحياة مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم على زينة الدنيا. والكريم كل شيء ثمين قيّم.
[1] مجمع البيان في تفسير الآية