مجموعة آيات تتعلق بقصة تزويج الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي اللّه عنهما، وهي بنت عمته اُمَيمة بنت عبدالمطلب، ثم طلاقها من قبل زيد وتزوّجه صلى اللّه عليه وآله وسلم بها، مع أنّه كان قد تبنّى زيدا، فيكون بذلك خالف السنن الجاهلية مرّتين.
وقد ورد في شأن نزول الآيات روايات كثيرة متضاربة، ولكن المشهور منها أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خطب زينب لزيد فأبت وأبى أخوها عبداللّه، لأنّها أشرف حسبا ونسبا، فنزلت الآية، فرضيت زينب ورضي أخوها، فزوّجها الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم زيدا، ودفع المهر عنه.
وبذلك كسر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم حاجزا اجتماعيا عظيما في زواج المؤمنين والمؤمنات، بأن لا يعيروا اهتماما بالشرف القبلي، فها هي زينب بنت عمة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن أشرف بيوت العرب، تتزوج عبدا محررا.
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى اللّه ورسوله امرا أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم... القضاء هو الحكم. والخِيَرة: الاختيار. و(من أمرهم) يشمل كل أمر يتعلق بشأن من شؤون الانسان. والمعنى أنّه لا يحقّ للمؤمن أن يختار لنفسه أمرا بخلاف ما حكم به اللّه تعالى، او حكم به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
وقوله تعالى (وما كان) يدلّ على أنّ هذا مما لا ينبغي أن يصدر من المؤمن والمؤمنة من أول ما آمن، فليس هذا حكما جديدا، بل هو مقتضى الإيمان باللّه تعالى وبالرسول بما أنّه رسول، فإنّ معارضة حكم اللّه تعالى يعني عدم الإيمان به، إذ المؤمن به لا يسعه إلا أن يسلّم أمره اليه ويطيعه، فكيف يمكن أن يرى لنفسه الخيرة في مقابل حكمه؟! فإنّ هذا لا يجتمع مع الإيمان باللّه ورسوله، وإن اجتمع الإيمان مع المعصية الناشئة عن طغيان الشهوة أو الغضب أو الطمع وحبّ الدنيا وحبّ الذات.
ولذلك قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء: 65، وقال أيضا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) النور: 51.
ومن هنا يتبيّن أنّ المراد بقضاء الرسول في هذه الآية ليس ما يبلّغه عن اللّه تعالى، بل ما يقضيه من أحكام في باب القضاء كمورد آية النساء، أو أيّ أمر يصدره لأحد في شأن من شؤونه كما ورد في شأن نزول الآية، أو ما يشرّعه من أحكام حسب ما فوّضه اللّه تعالى إليه، وهي التي تدعى بالسنة الواجبة. وتفصيل القول فيه لا يسعه المقام.
ومع أنّ هذا قضاء من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم إبتداءا، وربما لا يكون بأمر أو وحي من اللّه، إلا أنّه تعالى نسب قضاءه إليه أيضا، لما مر سابقا من أنّ هذا غاية التشريف أنّ اللّه سبحانه يعتبر أمر الرسول أمره، وبيعته بيعته، وإيذاءه إيذاءه، ومعاداته معاداته، وهكذا...
ومن لطيف التعبير ما في آية سورة النور الآنفة الذكر حيث اعتبر الدعوة الى اللّه والرسول، ثم عبّر بقوله ليحكم بينهم أي الرسول، فالدعوة إلى الرسول، والحكم من الرسول، ولكنّ اللّه تعالى يعتبره دعوة إليه ايضا.
وأمّا قضاء اللّه فالمراد به القضاء التشريعي وإنشاء الأحكام، ومن الواضح أنّ الهدف من أكثرها هو امتحان الإنسان ليتبين المطيع من العاصي. والفوز في هذا الامتحان لا يناط إلا بدرجة العبودية والانقياد. وأمّا القضاء التكويني فلا تمكن مخالفته ولا يتعلق بها النهي.
ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينا... تأكيد على ما تضمّنه صدر الآية من حكم، وأنّ عصيان اللّه ورسوله ضلال واضح عن الطريق الحق. ومرّة أخرى يؤكّد على أنّ عصيان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم عصيان للّه تعالى.
وإذ تقول للذي أنعم اللّه عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتّق اللّه... هذه الآية أيضا ترتبط بزيد بن حارثة، وقد صرح باسمه، وهو الذي أنعم اللّه عليه بالهداية إلى الإسلام، وإلى خدمة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وهي نعمة عظيمة حقا، وأنعم عليه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بكل ما أنعم به على غيره من المؤمنين، مضافا إلى العتق، والحبّ الذي أبداه له، ولعل المقصود خصوص تزويجه بزينب مع الفارق الكبير بين الأسرتين.
وقد ورد في الروايات أنّ زيدا شكا زينب إلى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأبدى له رغبته في طلاقها، وقيل: إنّها كانت تتكبر عليه لشرفها ونسبها، وأنّها كانت فيها حدّة. واللّه أعلم بصحة ما قيل، فهناك دواع للوضع في هذا المجال.
ومهما كان فيظهر من الآية أنّه أراد أن يطلقها لسبب مّا، فأظهر ذلك للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال له: أمسك عليك زوجك واتّق اللّه فيها. ويظهر من هذا البيان أنّ في الطّلاق من دون مبرر مخالفة لتقوى اللّه سبحانه. والإمساك القبض على الشيء، وهو كناية عن الحبس والحفظ. ولعلّ التعدية بـ (على) لتضمين الامساك ما يفيد كون الزوجة ثقلا على الرجل، لوجوب النفقة وحسن المعاشرة. ولعله يفيد أنّ ابقاء زيد لها كان تكلّفا.
وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه... وقع الكلام بين المفسّرين في ما أخفاه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم في نفسه، فرووا في ذلك أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم دخل على زينب لأمر مّا، فرآها بدون حجاب حاسرة عن رأسها، فأعجب بها، وقال: سبحان اللّه تبارك اللّه أحسن الخالقين، فلما رجع زيد أخبرته بذلك، فذهب الى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم، وأظهر إرادته للطّلاق فنهاه النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهو في قلبه يحبّ أن يطلّقها ليتزوّجها، فهذا هو الذي أخفاه في نفسه.
وهذا كذب واضح وبهتان عظيم. والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم معصوم بفضل اللّه تعالى، وهو في ذاته أجلّ من أن ينظر الى امرأة متزوّجة نظرة سوء، بل يتمنّى أن يطلقها الرجل ليتزوجها. فهذا مما يأنف منه أيّ انسان كريم، فكيف بالرسول المعصوم؟! وقد تشبّث أعداء الإسلام بهذه الروايات للتنديد بالدين والرسالة.
ولعمري إنّ استهجان ذلك واضح في كل القيم الاخلاقية، ولكن واضعي الأحاديث لمصلحة السلطات الآثمة لا يتورّعون عن إتّهام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بما يشينه ويزري به، تبريرا لما يسود قصور الخلفاء من فسق وفجور.
ومن الغريب جدا تلقي كثير من المحدّثين ذلك بالقبول، وسراية ذلك حتى لبعض كتبنا، مع أنه مرفوض على أصولنا قطعا. ومن الكتب التي وردت فيها هذه الرواية التفسير المنسوب إلى علي بن ابراهيم، ووجود مثل هذا الحديث في الكتاب يعزّز نفي انتسابه الى علي بن ابراهيم.
والذي يفهم من نفس الآية والروايات، أنّ الذي أخفاه هو أنه مأمور بالزواج معها بعد طلاق زيد، وأنّه يعلم أن زيدا سيطلقها لا محالة، ويفهم من ذلك ومن إصرار الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم في بادئ الامر أن يتزوجها زيد، هو أنّ الأمر كله كانت خطّة مقصودة، أراد اللّه سبحانه بها القضاء على السنن الجاهلية. فأصل هذا الزواج كان مخالفا لسننهم لعدم تناسب الزوجين ــ حسب العرف القبلي السائد ــ ثم زواج الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بها وهي زوجة متبناه بعد طلاقه، كان غريبا جدا على عاداتهم وعرفهم وسننهم.
ولم يخف الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم زواجه كعادة الناس في مثل هذه الأمور، بل أعلنه وأولم لزواجه منها ما لم يولم لسائر أزواجه كما روي، بل الأغرب أنه جعل زيدا رسوله إليها ليخطبها له. يقول زيد حسب ما روي: فلما رأيتها عظمت في صدري.. فقلت لها: يا زينب أبشري، أرسلني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يذكرك... الحديث.
كل هذا مما ترفضه السنن الموروثة من الجاهلية، وليس الهدف محاربة نفس هذه السنن حتى يقال بأنها ليست من الأهمية بمكان يضحّي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بمكانته في القلوب، ويفتح ألسنة القالة عليه من أجل محاربتها، بل الهدف محاربة كل السنن الجاهلية، والتأكيد على أنّ الدين هو الذي يجب أن يُتّبع، دون السنن الموروثة.
وهذا من أهمّ الأمور في الدين، ومن دعائم الرسالة. والشاهد عليه التأكيد في آخر الآية بأنّ ذلك أمر من اللّه ويجب أن يتحقّق، "وكان أمر اللّه مفعولا" ثمّ التأكيد على أنّ ذلك سنة اللّه تعالى مع الأنبياء جميعا، ثمّ العود مرة أخرى إلى أمر اللّه "وكان أمر اللّه قدرا مقدورا". فكل هذا يدل على أنّ الأمر كانت خطّة إلهية لهدف عظيم، وأنّه من سنن اللّه تعالى في جميع الشرائع.
وربما يتوهم أن ما ذكرناه ينافي قوله تعالى: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) الأعراف: 199، بناء على أن المراد بالعرف ما تعارف عليه الناس. ولكن الصحيح أن المراد بالعرف في هذه الآية ما هو مستحسن في العرف البشري بوجه عام، بمعنى أنّ العقل الإجتماعي لدى كل المجتمعات البشرية يستحسنه. وهذا ما يقال له الحسن والقبح العقليان فإنّ الحاكم في هذا الباب ليس هو العقل، بل العقلاء بمختلف أعرافهم.
وهذه الأمور هي التي ربما يدعى فيها أنّها من الفطريات، وأنّ اللّه تعالى أودعها في فطرة الإنسان، وإن كان هذا غير ثابت بدليل علمي. وأمّا ما نجده من إرجاع الفقهاء بعض الأمور إلى العرف، فإنّما هو في تحديد الموضوعات، والمفاهيم الملقاة من قبل الشارع، حيث إنّ المخاطب بخطابات الشارع هو العرف العام، فلا بدّ من مراجعة العرف لمعرفة حدود تلك المفاهيم. والمعتبر في ذلك عرف المجتمع الذي تلقّى الخطاب.
ثم إنّ الدليل من نفس الآية الكريمة على أنّ الذي أخفاه هو ما ذكرناه دون ما يقوله المتقولون، هو قوله تعالى: "وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه" فانّ الذي أبداه اللّه تعالى هو ما أعلنه بقوله: "فلما قضى زيد منها وطرا زوّجناكها".
وتخشى الناس واللّه أحقّ أن تخشاه... الخشية: الخوف. والجملة حالية، اي إنّك تخفي في نفسك أمرا خوفا من الناس، ولا ينبغي أن تخافهم، وانما الخشية من اللّه تعالى. وهذا عتاب منه تعالى لرسوله على شدة محافظته صلى اللّه عليه وآله وسلم على استقرار المجتمع وعدم إثارته، فهذا هو المراد بخشية الناس، وهي خشية منهم وعليهم لا على نفسه، نظير خيفة موسى عليه السلام من سحر السحرة، حيث قال تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) طه: 67، فإنه إنما خاف تأثير ذلك في إضلال الناس. ولذلك جاءه الخطاب الالهي: (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) طه: 68.
وهكذا الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم خاف من تأثير هذه الحادثة في ضلال الناس، فخوطب بقوله تعالى: (واللّه أحق أن تخشاه) وذلك لطمأنته بأنّ اللّه تعالى اذا أمر بشيء فإنّه يخطّط له كل مستلزماته.
ونظير ذلك خوفه صلى اللّه عليه وآله وسلم من إعلان إمامة امير المؤمنين عليه السلام، لئلا تثور ثائرة الحاقدين، ويتّهموه بالإنحياز إلى ابن عمه وصهره، فطمأنه اللّه سبحانه بقوله: (وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) بعد أن عاتبه بقوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ..) المائدة: 67. وحتى في هذا المورد أيضا لايبعد أن يكون الخوف في النهاية على الناس من وقوعهم في الضلالة.
ومجمل القول في هذه المعاتبات وما يتبعها من بثّ الطمأنينة وتسكين الروع أنّ الهدف منه يمكن أن يكون أمرين:
1- تعديل الحالة النفسية للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، فانّ هذا القرآن هو الذي أدّب اللّه به رسوله وكوّن شخصيته الممتازة، واللّه تعالى قد أودع فيه إلى حدّ كبير الرحمة والشفقة بالناس، كما قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ..) آل عمران: 159. والتنكير للتعظيم أي رحمة عظيمة. وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) حيث عبّر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالرحمة فكأنّه رحمة متجسدة، وقال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) التوبة: 128. فهذا غاية الرأفة والرحمة قد منّ اللّه تعالى بهما على المؤمنين.
ولكن لابد من تعديل ذلك لئلّا يسبّب الإفراط فيه، تسويفا في تبليغ ما يخاف منه عليهم، كما في خطّة الغدير، أو تأخيرا في ما أمر اللّه به من كسر السنن الذي لا يقلّ أهمية من كسر الأصنام، بل هو هو بوجه، كما في خطّة زواجه صلى اللّه عليه وآله وسلم بزينب بعد زيد. ومثل ذلك ما حدث في قضية إذنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لمن تقاعس عن الحرب، فعاتبه اللّه تعالى بقوله: (عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) التوبة: 43.
2- التمهيد وتهيئة الحالة الاجتماعية، ليتمكّن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم من القيام بواجبه، فكلّ هذه المعاتبات، تهيّء الوضع الاجتماعي لتقبّل ما أراد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، من إعلان أمر الإمامة، وكسر السنن الجاهلية، والامتناع عن الإذن للمتقاعسين عن الجهاد في المستقبل.
ولا شكّ أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يتوان في تنفيذ ما أمره اللّه تعالى به، ولكن حيث لم يكن المأمور به مؤقّتا، كان صلى اللّه عليه وآله وسلّم يؤخّر التنفيذ رحمة بالناس، سواء في قصّة زيد أو إعلام الإمامة، فكان هذا العتاب مبيّنا له أنّ الوقت قد حان، وأنّه لا ينبغي أن تخشى الناس، واللّه أحق أن تخشاه، فلا تؤخّر التنفيذ فإنّه تعالى إذا أمر بشي، هيّأ له أسبابه، وقلوب الناس بيده، فالمراد بخشية اللّه هنا عدم تأخير العمل بأوامره، والحدّ من الشفقة بالناس.
ومما يثير التساؤل التعبير عن زيد في الآية الكريمة بالذي أنعم اللّه عليه وأنعمت عليه، بدلا عن التصريح باسمه، كما صرح به بعد ذلك، فلعلّ السر فيه التنبيه على أنّه لم يقصد بهذه الخطّة إضرارا بزيد، ولم يكن للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم طمع في امرأته (حاشاه!!) فهو محفوف بنعم اللّه ورسوله. وهذا تعبير يشعر بغاية الإرفاق واللطف به.
فلمّا قضى زيد منها وطرا زوّجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم اذا قضوا منهنّ وطرا... الوطر هو الحاجة المهمة. ومعنى قضائها انتهاؤها. فيكون معنى الجملة أنّ التزويج لم يتحقق إلا بعد أن عافت نفس زيد عنها، ولم يبق له اليها حاجة. ولعلّه من جهة كراهته لها لأيّ سبب كان.
وربما تفسّر الحاجة بالمقاربة، وأنّ المراد بقضائها تحققها، وذلك للتأكيد على محاربة السنّة الجاهلية من جهة أنّ المرأة لم تكن مجرد حليلة لزيد، بل قضى منها حاجته الجنسية، فيكون آكد في المنع، حسب سننهم.
ويمكن أن يؤيد هذا الوجه بقوله تعالى في التعليل: "إذا قضوا منهنّ وطرا" إذ لو حمل على الكراهة، كان معناه أنه لا حرج على المؤمنين في التزوّج بأزواج أدعيائهم إذا كرهوهنّ وعافتهنّ أنفسهم، مع أنّ جواز النكاح لا يشترط فيه ذلك.
و لكنّ هذا لا يوجب وهنا في الوجه الأول، إذ لا يبعد أن يكون القصد التنبيه على أنّه لا ينبغي للرجل أن يتزوّج حليلة متبنّاه أو غيره، إلا بعد أن تعافها نفسه ويكره إبقاءها على ذمّته، فلا يحاول أن يحرّض صديقه أو أيّ أحد آخر أن ينزل له عن امرأته، كما كانوا يفعلونه في العصر الأول.
والحاصل أنّ الاوفق بالسياق وبظاهر اللفظ أن يكون المراد من قضاء الوطر كراهة زيد لها لايّ سبب كان، وعزمه على عدم إبقائها على ذمته.
وتبيّن من قوله تعالى: لكي لا يكون على المؤمنين حرج... أنّ الهدف من كل هذا الزواج ثم الطلاق ثم زواج الرسول بها، لم يكن إلا رفع الحرج عن المؤمنين، ليتحرّروا عن القيود الجاهلية في الزواج وغيره، ولا يتّبعوا إلا أوامر اللّه تعالى.
وكان أمر اللّه مفعولا... يحتمل فيه بدوا أن يكون المراد الأمر التكويني، فيكون المعنى أنه يتحقّق لا محالة، ولكن تناسب المقام يقتضي أن يكون المراد، الأمر التشريعي، إذ الكلام حول الأوامر الصادرة بزواج زيد من زينب، ثم تطليقها، ثم زواج النبي منها، فالمراد أنه يجب أن يعمل به ولا يجوز التواني فيه.
ما كان على النبيّ من حرج فيما فرض اللّه له... (ما كان) اي لا يمكن ان يكون. و(من) في (من حرج) زائدة تفيد التأكيد على عدم وجود أقل شيء من الحرج عليه. والمراد بما فرض له هو ما قدر له، والفرض هو التقدير. وقد قدّر له ان يكسر السنن الجاهلية عمليا بالزواج من حليلة متبنّاه، فلا حرج عليه في ذلك.
وفي بعض التفاسير أنّ المراد به ما أباح اللّه له من أزواج، وأنّ هذه سنة اللّه في الأنبياء السابقين، وعدّوا لهم أزواجا كثيرة، استنادا الى روايات أشبه بالاساطير. ولكن توصيف الأنبياء بعد ذلك بأنهم يخشون اللّه في سبيل التبليغ ولا يخشون غيره، لا يبقي مجالا للشكّ في أنّ المراد بالذي فرض للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم هو ما قدّر له من مجال العمل وابلاغ الرسالة، ومواجهة الثقافات البائدة، والسنن الجاهلية، لا ما أبيح له من أزواج او غيرها. والفرض هو التقدير، لا الاسهام كما قالوا.
سنّة اللّه في الذين خلوا من قبل... (السنّة) اسم مصدر وقع موقع المصدر، وهو مفعول مطلق، اي سنّ اللّه تعالى ذلك سنتّه في الذين خلوا من قبل، والمراد بهم الانبياء السابقون بدليل التوصيف الآتي. و(خلوا) بمعنى مضوا كأنّ الزمان خلا عنهم، فاسند الخلو اليهم مجازا. وليست السنّة، الزواج بحليلة المتبنّى، ولا كثرة الزواج ــ كما قيل ــ بل كسر السنن الجاهليّة، وترسيخ دعائم الشريعة، واستبدال العادات بها.
وكان أمر اللّه قدرا مقدورا... المراد بالامر، الامر التشريعي، ومنه ما تعلق بزواجه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بزينب. والقدر مصدر بمعنى المحاسبة، وهو بمعنى اسم المفعول، اي مقدورا، وهو والمقدّر واحد، فالمقدور بعده تأكيد، كقوله تعالى (نسيا منسيا). والمراد أنّ أمره تعالى ليس جزافا كأحكام البشر، ينتظرون النتائج ليتحقّقوا من صحة تشريعهم، فإذا أمر اللّه بشيء، فقد قدّر كل ما يستلزمه ويستتبعه، وكل شيء بيده، وهو علّام الغيوب.
الذين يبلغون رسالات اللّه... صفة للذين خلوا من قبل، ليتبيّن أن المراد بهم الرسل سلام اللّه عليهم، ولعله أتى بالرسالات جمعا باعتبار اختلاف الشرائع في بعض الجزئيات، ويمكن أن يكون ذلك باعتبار أنّ كل واحد منهم يبلّغ رسالات اللّه، فالتعدد بلحاظ تعدّد الاحكام والمعارف الالهية. ولعل الاتيان بالمضارع للتنبيه على استمرار الرسالات، فيشمل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
ويخشونه ولا يخشون أحدا الا اللّه... الخشية الخوف. وانما كانوا يخشون اللّه تعالى في أي توان وتقاعس عن تبليغ الرسالات، ولا يخشون غيره، فلا يهمّهم ما يترتب على أعمالهم، مادام الأمر من اللّه تعالى.
وربما يقال: إنّ في هذا تعريضا بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث إنّه خشي الناس بدلا من أن يخشى اللّه، بخلاف الانبياء السابقين. وهذا غريب جدا ممن يعترف بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أفضل الخلق!
والصحيح ــ كما مرّ ــ أنّ الآية تشمل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإلا لم يكن وجه للإتيان بالفعل المضارع الدالّ على الإستمرار، خصوصا مع كونه وصفا للذين خلوا من قبل. وقد بينا المراد بقوله تعالى: وتخشى الناس... بما لا يوجب أدنى مسّ لكرامة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، بل الصحيح أنّه لم يرتكب ترك الأولى أيضا، وانّما أخّر قبول اقتراح زيد، رفقا بالناس، فأنبئ من قبل اللّه سبحانه، بأن لا يكرّر ذلك ، فقد آن الأوان لإنجاز الخطّة. وقوله تعالى: "واللّه أحقّ أن تخشاه" لا يفيد أنّه لم يخش اللّه كما هو واضح.
وكفى باللّه حسيبا... الباء زائدة اي كفى اللّه حسيبا. والحسيب فعيل بمعنى الفاعل، من الحساب اي العدّ، كقوله تعالى: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) الاسراء: 14. ومثل هذه الآية قوله تعالى: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) الانبياء: 47. ويأتي الحسيب بمعنى الكافي، ولا يناسب هذا المقام. والظاهر أن الجملة تعليل لخشيتهم من اللّه تعالى وعدم خشيتهم من غيره. وذلك لأنه هو الذي يخاف من حسابه فحسب.
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم... الغرض من هذه الجملة التأكيد على أن المتبنى لا يترتب عليه حكم الإبن. وللتأكيد على ذلك، نفى أبوة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لكل الرجال الموجودين في ذلك العهد، ولذلك أضاف الرجال اليهم.
والمراد بالضمير في (رجالكم) المجتمع الحاضر آنذاك، فلا ينافي كونه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أبا للقاسم والطيب والطاهر وإبراهيم. وقيل ان الطيب والطاهر لقبان للقاسم. ومهما كان فهؤلاء كلهم ماتوا قبل البلوغ.. فلم يكونوا من الرجال. والحسن والحسين عليهما السلام لم يبلغا حين نزول الآية.
ولا يصح ما يقال من أن الأب لا يشمل الجد لان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أكد غير مرة انهما ولداه، ولأن الحكم المتوهم في المقام، وهو حرمة التزوج بحليلة الولد يشمل الحفيد.
ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين... اي ولكن كان رسول اللّه.. والغرض حصر علاقته صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالمجتمع في الرسالة والنبوة، بعد نفي علاقة الابوّة بوجه مطلق. والرسول من يحمل رسالة من اللّه تعالى الى قوم، وهو فعول بمعنى المرسل، او اسم مصدر بمعنى الرسالة، ويكون حمل المصدر على الذات اما للمبالغة، او بتقدير ذا الرسالة. والنبي من ينبئه اللّه بوحيه، فعيل من النبأ بمعنى الخبر، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا.
والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كان خاتم الرسل وخاتم النبيين أيضا، فانقطع بعده الوحي التشريعي، وانتهت الشريعة، فقوله تعالى: خاتم النبيين، ينفي وجود رسول بعده أيضا، إذ لا رسالة إلا بنبوة، والخاتم ــ بفتح الميم ــ ما يختم به، كالقالب ما يقلب به، و بكسره اسم فاعل، اي الذي ختم النبيين، و يفيد نفس المعنى.
وكان اللّه بكل شيء عليما... لعله إشارة الى أنّ اللّه تعالى بعلمه لما يصلح شأن البشرية، ختم النبوّة بمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.. فشريعته أكمل الشرائع، والبشرية في عهده وما بعده من العهود تصل إلى مرحلة من الكمال، بفضل متاعب الأنبياء عليهم السلام، طيلة التاريخ البشري، بحيث يكفيه ما لديه من آثار وما يستنتجه بعقله، حجّة عليه ومنارا يسترشد به في ظلمات الجهل.